حوار مع الكاتب والمفكر الدكتور محمد حبش
فئة : حوارات
حوار مع الكاتب والمفكر الدكتور محمد حبش
"لم أقصد بإخاء الأديان بناء جبهة من المؤمنين ضد الملحدين،
لقد قصدت إلى بناء إخاء إنساني؛ فالغاية الإنسان وليس الأديان"
الدكتور محمد حبش مفكر سوري من مواليد 1962م، في عام 2010م أعلنت جامعة كرايوفا، أعرق الجامعات الرومانية أن رتبة دكتوراه الشرف التي تمنحها الجامعة كل عامين مرة واحدة قد خصصت للدكتور محمد حبش تقديراً لبحوثه ونشاطه في حوار الأديان وبشكل خاص كتابه سيرة الرسول محمد، وقد قامت الجامعة بترجمته للرومانية، واعتبر مقرراً على طلبة كليات اللاهوت في الجامعة. يعد محمد حبش من أبرز الوجوه والأقلام الجادة في العالم الإسلامي، في التعاطي مع موضوع التجديد الديني والتغيير الثقافي في العالم الإسلام، بهدف تعزيز قيمة الرحمة والتعارف والتواصل الثقافي عبر العالم، صدرت له قائمة طويلة من المؤلفات من بينها: إخاء الأديان، إقبال فيلسوف التجديد الإسلامي، إسلام بلا عنف، المرأة بين الشريعة والحياة، الإسلام والدبلوماسية.
صابر مولاي أحمد: الدكتور محمد حبش بصفتكم مختصا في مجال المعرفة الدينية بالأخص مجال الدراسات الإسلامية، كيف ترى اليوم مسألة التجديد في حقل دراسة وفهم الإسلام؟ سواء كان ذلك من لدن أهله من المثقفين والمختصين والعلماء، أو من جهة المختصين في هذا المجال في الغرب.
محمد حبش: لقد بت مقتنعاً أننا نمتلك منهاجاً حقيقياً لتطوير الإسلام، يفترض أنه حظي تاريخياً ولا يزال يحظى بتأييد تيار عريض من الخلفاء والفقهاء والفلاسفة؛ فالإسلام يحمل بذور شريعة متجددة ومتطورة كل يوم. ولكن هذا التوجه يرفضه بشدة معظم رجال الدين ومعهم بالطبع جمهور آخر كبير يلتزم منطق ما وجدنا عليه آباؤنا، ويرى في رجال الدين ورثة للأنبياء، ويعتبر ما اختاره الفقهاء والفلاسفة من تطوير الإسلام ليس إلا تجاوزاً للثوابت، وأن المطلوب منهم ليس بيان برهانهم وحججهم، بل التوبة والعودة إلى ما كان عليه السلف من رجال الدين، وتحديد مصادر الشريعة بمصدرين اثنين فقط هما الكتاب والسنة، والتشكيك بالمصادر الأخرى، باعتبارها عبثاً بالثوابت، وأن الأفق العقلي المأذون به هو فقط تفسير النص الديني والاجتهاد فيه؛ وذلك وفق قواعد وشروط معقدة تمنع التفكير خارج الصندوق وتوجب على المجتهد اتباع منهاجية صارمة تمنع الاحتهاد في مورد النص وتلزمه التفكير والاجتهاد وفق ما أنجزه الأولون، ويحصر مقاصد الشريعة والاستنباط منها بالقدر الذي أنجزه الأولون والرواية عنهم لا غير، وتكاد تنحصر فرصة الاجتهاد عند هؤلاء على المسائل المستجدة والقياس على ما سبق من مسائل.
وبعيداً عن العبادات والغيب التي يلتزم فيها المؤمن نص الكتاب والسنة، فإنني أعتقد أن الفقه الإسلامي في المعاملات يتطور باستمرار، وإن الفقهاء والخبراء سواء كانوا من أئمـة الشريعــة أو أهل الاختصاص من القانونيين وعلماء الاجتماع الذين تختارهم الدولة لتنظيم القطاعات الحيوية في المجتمع والتجارة والصناعة والسياحة والنقل والدفاع يقومون بدور كبير وحقيقي في تطوير الفقه الإسلامي، والاستجابة لتحديات العصر الجديد، وتقديم البدائل الحقيقية للتشريع السعيد، ويمكن القول إن الدساتير الحالية في 53 دولة إسلامية من أصل 57 دولة هي دساتير متطورة وتحكم بالعقل والمنطق والبرهان، وهي التطور المثالي للفقه الإسلامي في إطار المعاملات، وأن ما يلزمنـا هو إقناع الجيـل بتكامـل الشرع والقانون وليس بإعلان الصراع المستمر بين الشرع والقانون كما يطالب كثير من رجال الدين.
ويجب القول إن ما نطالب به من رؤية متجددة للفقه الإسلامي قد بات اليوم أيضاً واضحاً وظاهراً في معظم التوجهات السياسية للقادة العرب والمسلمين، ولن تواجه هذه الأفكار صداماً ذا بال مع معظم الحكومات العربية والإسلامية، التي باتت تقدم في الجملة خطابا ًإسلامياً متسامحاً واقعياً، وتتجنب فتاوى التشدد والاستعلاء، وتفسح المجال للخطاب التنويري بقدر ما يتناسب مع مصالحها، وبات من الواقعي أن نعول على الخطاب الرسمي للحكومات العربية والإسلامية في كل قضايا التنوير مع التحفظ الشديد بالطبع على ما تمارسه تلك الأنطمة من سلوكيات باطشة لخدمة الاستبداد يتناقض بالكلية مع شعاراتها وبرامجها.
صابر مولاي أحمد: تبعا للسؤال السالف الذكر، في تقديرك ما هي المعضلات الفكرية والثقافية والاجتماعية التي جعلت موضوع تجديد الإسلام لا يؤتي ثماره؟ واقعنا اليوم واقع مأزوم يغلب عليه ما هو طائفي ومذهبي في فهم المسألة الدينية، وقد اتسعت فيه دائرة التطرف والتشدد بشكل غير مسبوق.
محمد حبش: يواجه العقل المسلم في هذه الأيام الصاخبة صرخات متناقضة، تدور بين تقديس كل شيء ورفض كل شيء، بين الانتماء للتاريخ الإسلامي واعتبار هدي السلف خير هدي القرون، ودعوة البشرية إلى العودة لهدي السلف، وبين تيارات أخرى ترى أن التراث الإسلامي برمته صار عبئاً على الحياة والتطور وسبباً للقطيعة مع العالم، وأنه لا خلاص لهذه الأمة إلا بنبذ الماضي كله، واعتباره كذبة ضارة حالت بين هذه الأمة وبين لحاقها بالأمم. ولا شك في أن هذه الصورة غاية في الوضوح لكل متابع، ولن تنفعنا المجاملة في شيء، فقد فضَحَنا عالم التواصل الاجتماعي وكشفت لنا المنابر المفتوحة على مواقع التواصل كلاً من التيارين الساخطين وقد توفر لكل منهما جماهير مليونية غاضبة لا سبيل لإنكارها إلا بقدر كبير من التعسف والمكابرة، وقد بات من المؤكد أن الأصوات الأكثر صراخاً وتعصباً في الجانبين هي من يحصد الجماهير الهادرة فيما يتخافت صوت الاعتدال والمنطق، حتى يكون نادياً نخبوياً يكتب بحذر ومداراة على حروف المعاني، ثم ينصرف مذعوراً من ضعف الحيلة وقلة النصير.
وفي السنوات الأخيرة تفجر الصراع الدموي المؤلم في بلاد الشام والعراق ومصر وليبيا واليمن، وكان من تداعياته ما تكرس من انقسام مجتمعي خطير، بين الرؤية الإسلامية والرؤية العلمانية، وبات الانقسام بين الجانبين مريراً وقاسياً، تتناوله الريب الصارمة، وتحولت الخصومة إلى عداء والاختلاف إلى صراع والاتهام إلى اغتيال، ولا زال المشهد يشي بمزيد من الرعب والتشاؤم، وبدا أن البلاد العربية تشهد تماماً العصر الأوروبي في انتقاله من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، وبات المشاركون في معمعة الخصام لا يبالون أن يأخذوا بلادهم إلى مواجهات فاصلة على مستوى بارتلميو وحرب الثلاثين عامأً في سبيل انتصار ما يراه كل فريق الحق الذي لا مرية فيه.
ومع أن الأسباب الجوهرية لاشتعال المنطقة، إنما هي الاستبداد في المقام الأول، والظلم الذي مارسه جيل من الحكام لا يؤمنون بالحرية ولا حقوق الإنسان، ولكن هذا الاستبداد الضاري استفاد لأقصى غاية من التناقض الثقافي في المجتمع، واستخدم الشعارات المتناقضة من الإسلام والعلمانية والسلفية والليبرالية وأجاد توظيفها خصماً وحكماً، ووجد في كل مرة ثائرين غاضبين يقاتلون تحت رايات عمية وفي النهاية يخدمون الاستبداد من حيث يريدون أو لا يريدون. ومع ذلك ومع أن السبب الأول لسقوطنا وتخلفنا هو الجانب السياسي ولكنني أعتقد ان معركة المثقف لا تقل عن معركة المحارب، وقد صار السيف والقلم في ساحة اختبار عنيف، ولكل منهما أداة انتصاره وانكساره، فلا القلم قادر أن يمحق السيف ولا السيف قادر أن يسحق القلم.
صابر مولاي أحمد: وفق هذا السياق العام نقف عند موضوع الخطابة (نقصد هنا خطب رجال المؤسسة الدينية أيام الجمعة وغيرها) وقد مارست هذه المهمة سابقا في مساجد متعددة، وهي مهمة لها حضورها في أنفس المتلقين من المؤمنين وغيرهم، سلبا أو إيجابا، مع العلم أن الكثير من القنوات التلفزية قد تحولت الى منابر للخطابة، في تقديرك ألسنا اليوم في حاجة لتجديد هذه المهمة بما يتلاءم مع مقتضيات العصر شكلا ومضمونا؟ بمعنى آخر كيف يمكن للخطيب أن يكون رسول سلام بين الناس وإلى العالم؟
محمد حبش: الواعظ والفقيه؛ لقد كتبت مراراً في الفرق بين الفقيه والواعظ وأرجو أن أبدو واضحاً فهناك فارق كبير بين الواعظ وبين الفقيه، الواعظ الذي تتركز مهمته في رواية التاريخ ونقل كلام الأولين إلى مسامع الآخرين، وبين الفقيه الذي يهتم بإنتاج الأحكام الجديدة والإجابة عن أسئلة العصر. رجال الدين أو الواعظون أو الخطباء أو الأئمة هم طبقة كريمة من المجتمع تقوم برعاية الأخلاق والفضيلة، وهم يقومون بالفعل بمواجهة التغيير باستمرار، ويعتقدون أن أفضل طريقة للتوجه إلى الأمام هي الذهاب إلى الخلف، ففي عصر السلف كمال مطلق يصلح لكل الأزمنة والأمكنة والأحوال.
أما الفقيه، فهو لا يقبل بدور كهذا، والمقصود بالفقيه هنا هو عالم الشريعة والقانون، وهو الذي درس الشريعة الإسلامية والقانون الفرنسي والإنجليزي والدولي، ودرس مصادر الشريعة المعتبرة خارج النص، وهو ينتج أحكاماً جديدة كل يوم، رجل الدين أداته الرواية، ومصادره الكتاب والسنة. أما الفقيه فأداته الاجتهاد، يستنير بالكتاب والسنة، ولكنه يشرع بالإجماع والاستحسان والاستصلاح والعرف والذرائع، رجل الدين يشدنا إلى السلف والفقيه يشدنا إلى الأمام إلى المصالح الحقيقية للأمة. ولو سألتني أين هم هؤلاء الفقهاء، فمن الطبيعي أنك لن تجدهم في المحاريب ولا المنابر، ولكنهم موجودون في اللجان التشريعية للدولة الحديثة، ولا زالوا كذلك منذ تولي القاضي أبو يوسف مهمة قاضي القضاة وصولاً إلى اللجان التشريعية في البرلمانات الحديث ومجالس الشورى في البلاد الإسلامية، وهي اللجان التي أنتجت الدساتير والقوانين الحديثة وفق اجتهاد فقهي مستنير بصير.
إن الدساتير الحديثة التي تنظم المواطنة والقانون والحقوق في 53 دولة إسلامية من أصل 57 دولة هي دساتير حديثة تماماً، لن تجدها في الكتاب والسنة، ولكنها تعمل بروحها، وكذلك قانون المعاملات المدنية مثلاُ الذي تحتكم إليه كل الدول العربية وينظم كل علاقات البيع والشراء والرهن والكفالة والشركات، وتبنى به المدن الحديثة الكبرى هو في الواقع قانون حديث لم تجده في الكتاب والسنة ولكن ستجده في الاستحسان والاستصلاح والعرف والذرائع، وهي مصادر يعرفها الفقيه ولا يعرفها رجل الدين الذي يطالب فقط بالكتاب والسنة.
صابر مولاي أحمد: كيف ننتصر اليوم لفكرة السلام بدل فكرة الحرب على مستوى المبدأ والتصور؟
محمد حبش: الدين رسالة أشواق وأذواق، ويجب أن لا يخرج عن إطاره الروحي والتربوي، وهذه بالفعل سير سائر الأنبياء في القرآن باستثناء النبي موسى ومحمد اللذين قاما بتشكيل كيان سياسي، وقد نجح الفقهاء بجدارة بالتمييز بين تصرفات النبي الكريم بالإمامة وتصرفاته بالنبوة، ومن أفضل ما كتب في ذلك ما كتبه بالعنوان نفسه الصديق العزيز سعد الدين العثماني رئيس وزراء المغرب الأسبق، حيث بسط القول بوضوح في الفارق بين التصرفين، ومن المنطقي أن نقسم آيات الكتاب العزيز إلى قسمين قسم يطالب به الفرد، وقسم تطالب به الدولة، وإذا كان ذلك واحداً في شخص الرسول الكريم، فهو ليس كذلك في التابعين له بإحسان، وفي هذا السياق فإن كل آيات الحرب والجهاد والغزو هي مسؤولية الدولة، ومن واجبها أن تقوم بدراسة قرار الحرب والسلم بحسب مصالح الدولة العليا، وليس بحسب فتاوى المشايخ وآراء الفقهاء.
من وجهة نظري، فإن القرآن الكريم والسنة النبوية فيها نصوص كثيرة تتعلق بالحرب، وهي نصوص محكومة بمصالح الأمة والعلاقات الدولية، وحيث أقامت الدولة سفاراتها فقد وجب فيها قول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود، وهذا في الواقع هو ما تطبقه كل دول الأرض بلا استثناء، وهو ما يجب أن تطبقه الدولة المسلمة. أما المنطق الذي طالب به القرآن المؤمنين بأن يمارسوه مع المختلف دينياً ومذهبياً سواء كان كتابياً أو وثنياً أو ملحداً، فهو واضح في صريح القرآن: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وما أرسلناك عليهم وكيلاً، وما أرسلناك عليهم حفيظاً فذكر إنما أنت مذكر، ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين. ويقولون: الدين مصحف وسيف! وأقول: بل الدين هو الرحمة والحب، ورسالة الإيمان هي الأخلاق والإشراق.. وهو لا يحتاج سلطة السيف ولا سطوة الدولة......السيف شأن القضاء... ومكانه المحكمة لا المسجد، ويأمر به القاضي وليس الفقيه... وينظمه القانون وليس الشريعة...ويُعاقَبُ به المجرمون لا المُشركون...
صابر مولاي أحمد: تحدثت في أكثر من مناسبة وفي مختلف كتبك عن موضوع تجديد الخطاب الديني، في تقديرك كيف نجعل من القرآن مدخلا لهذا الموضوع؟ مع العلم أن المجال التداولي في الثقافة الإسلامية المعاصرة غني بالكثير من المشاريع الفكرية التي اشتغلت على موضوع سؤال المنهج في التعامل مع القرآن الكريم.
محمد حبش: لا يوجد دين مؤهل أن يتجدد ويتطور أكثر من الإسلام، لقد تم تطوير الإسلام في حياة الرسول نفسه 21 مرة بالإجماع، حيث نسخت آيات قرآنية أساسية لا زلنا نرتلها في المصحف خلال عشر سنوات، ومن الفقهاء من قال إن المنسوخ مئات من الآيات وليس عشرات. لا تحتاج هذه المسألة إلى أسرار، والتجديد يقتضي تعديل القديم وتطويره وأحياناً استبداله، وكل هذه الممارسات يبجب أن تتاج للمجتهد إذا كنا نريد أن يبقى هذا الدجين حياًّ ويشارك في التطور الحضاري. إنه ليس مجداً لأي فكر أو قانون أو دستور أن يتصلب، حيث يستعصي على التجديد، وإنه ليس مجداً لأي نص بما فيه النص الإلهي أن نقول إنه فوق النقد أو فوق التطوير والتحديث، وأن نعتصم بالعبارة الانفعالية الإطلاقية التي لا معنى لها وهي صالح لكل زمان ومكان.
إن هذ العبارات الإطلاقيات تعكس لوناً من جحود الزمن، والنظرة البارميندوسية للحياة على أنها سكون مطبق لا يتقدم إلى اي مكان. لقد واجه الفلاسفة منذ فجر التاريخ هذا التفكير بقوة ومنذ عهد هرقليطس أعلن الفلاسفة أن الجمود موت والحياة حركة، والعالم ليس حقيقة قارَة بل جدل متلاطم، ولذلك احتار هرقليطس التعبير عن الهيولى الأولى بأنها النار، تلك التي لا تثبت على حالة، وتبدي وتعيد، وتخلق وتعدم، وحين قال إنك لا تستحم بماء النهر مرتين، فإن الناس فهموا أن ماء النهر يتغير باستمرار، ولكن هرقليطس أراد أن الإنسان يتغير أيضاً، فيما أضاف هيغل بعداً جديداً لهذه المقولة، وقال إن قانون الدهر بيتغير أيضاً باستمرار.
بعيداً عن الفلسفة، فإن الدين الذي يأمر بنسخ نصه الأسمى وهو القرآن الكريم بناء على مصالح الناس، وقد بينت ذلك في كتابي النبي الديمقراطي في أكثر من ثمانية وأربعين مسألة، وبذلك فإن الإسلام دين حيوي ومتجدد باستمرار، وللأسف فإن مع التجديديين لم يعودوا يؤمنون بالنسخ باعتباره قصوراً في الخالق ولكنني أراه جوهر التطور في الشريعة؛ فحيث أذن الله بتطوير القرآن نفسه عشرين مرة على الأقل في عصر النبوة فهو سيأذن بذلك كلما جد تطور حيوي. إن الأمة في كفاحها التشريعي خلال التاريخ حين نصبت لرجال التشريع مسؤولياتهم في الإجابة عن الحلول المستجدة، كانت تدفعهم باستمرار للاجتهاد في مورد النص وفي غير مورده وفي وفاقه وفي شقاقه، فالغاية الإنسان والنص نفسه في خدمة الإنسان وليس العكس.
ويتعين القول إن معظم الفقهاء اختاروا مصطلحات لطيفة كتخصيص العام وتقييد المطلق، ولكن يجب القول إن عدداً غير قليل من الفقهاء تمسكوا بمصطلح نسخ النص بالإجماع، ومن الجلي أنهم يرون أن بإمكاننا وقف النص القرآني إذا كانت مصلحة الأمة الحقيقية في وقف العمل به، وهذا ما جرى بالفعل في وقف العمل بنصوص السبي وملك اليمين وكذلك في نصوص قتال المشركين وفرض الجزية على غير المسلمين.
وقد يكون من الواجب هنا بسط القول بالأدلة، فأقول:
أما نسخ القرآن بالقرآن، فهو مذهب أهل السنة كافة، ولم ينكره من السلف إلا أبو مسلم الأصفهاني
وأما نسخ القرآن بالسنة، فهو مذهب جمهور الفقهاء الحنفية والماليكة والحنابلة وقد أنكره الإمام الشافعي رضي الله عنهم أجمعين.
وأما نسخ القرآن بالإجماع، فهو رأي غير مشهور منقول عن جماعة من السلف نعد منهم:
الحافظ ابن عادل الحنبلي في كتابه اللباب في علوم الكتاب ج 3 ص 242 وقد علل ذلك بأنهم علموا وجود دليل تقديراً.
كما أورده ابن حزم في كتابه الإحكام في أصول الأحكام ج 4 ص 120
وأورده السرخسي في أصوله وانتصر له ج2 ص 66
وأورده الآمدي في أصول الأحكام في معرض نسخ الثلث للأم بالأخوين ج3 ص163
وانتصر له البزدوي في كشف الأسرار ج3 ص 175
ونقله الزركشي في البحر المحيط عن الحنابلة ج5 ص 287
ونقله عن السرخسي أيضا ابن الموقت الحنفي في التقرير والتحبير ج3 ص69
ونقله علاء الدين الصالحي في التحبير وعلله بأنه على تقدير وجود ناسخ لم يظهر لنا ج6 ص 363
ونقله أمير بادشاه الحنفي عن أئمة الحنفية في تيسير التحرير ج3 ص209
ونقله الشوكاني في إرشاد الفحول عن أئمة الحنابلة على تقدير الناسخ ج 2 ص75
ونقله بدر الدين العيني عن أئمة الحنفية في كتابه البناية شرح الهداية ج 3 ص 445
صابر مولاي أحمد: لكم مقولة مفادها "داعش أفول التنظيم لا يعني أفول الفكرة" هل يمكن أن تفصل لنا القول في هذه المقولة، على المستوى الثقافي والاجتماعي والنفسي والعلمي.
محمد حبش: ماتت داعش ولكن أفكارها لم تمت أبداً، وقبل أيام نشرت على صفحتي ردّاً مباشراً على الشيخ عثمان خميس، وهو شيخ سلفي مشهور لديه ملايين المتابعين، وله مجموعة محاضرات ينشرها بنفسه على وسائل الإعلام الاجتماعي، وفيها يقرر بوضوح أن واجبنا الشرعي هو أن ندعو الناس إلى الإسلام فمن أجاب فأهلا، ومن لم يستجب فإن واجبنا الشرعي أن نفرض عليه الجزية صاغراً، فإن أبى فإن علينا أن نقاتله!! فإن قتلناه فهو إلى النار، وإن أسرناه فهو عبد حقير للمسلمين؛ لأنه لم يرض أن يكون عبداً لله فليكن عبداً للمسلمين!!
في الواقع ليس في هذا النقل أي مبالغة، والعبارات موجودة بالصوت والصورة، ولم يعد في عالم الميديا شيء مستور، وقد نشر هذا الريط بالذات تحت عنوان لا تخجلوا من دينكم وبوسع كل من يشاء أن يشاهده فهو منشور على عشرات المواقع، والأسوأ أنه منشور بكثرة على مواقع معادية للإسلام كموقع ميمري الذي يديره فريق صهيوني برئاسة إيهود باراك كما ينص الموقع بصراحة وهناك ستجد كل هذه الأشرطة البائسة.
لا تحتاج داعش لفتوى أوضح من هذه، وهي تمارسها كل يوم. إننا نروي هذه الأحكام لطلابنا ونشرحها لهم ببراعة الشيخ خميس نفسه، ولكن حين يقوم المتشددون الذين تلقوا هذا التعليم بارتكاب الفظائع نقول إنهم صنيعة أمريكا وهم مؤامرة على الإسلام!!
قناعتي أننا ننتج في كل يوم مبررات جديدة لقيام منظمات لا تقل خطراً واثراً عن داعش، ونحن نظن أننا نحسن صنعاً.
صابر مولاي أحمد: لكم مؤلف حول إخاء الأديان وهو مفهوم فيه إبداع مميز، هل هذا الاصطلاح فيه تجاوز لحوار الأديان؟ وعلى ماذا يقوم هذا الاصطلاح وهذه الدعوة؟
محمد حبش: لقد اخترت بالفعل مصطلح إخاء الأديان؛ لأنني أراه تعبيراً دقيقاً فلا معنى لإضاعة الوقت في حوار الأديان ومقارنة الأديان، فلا أحد في الأديان يستطيع تغيير جوهر دينه، وكذلك فإن مصطلح وحدة الأديان أو توحيد الأديان عبث لن يقبله أحد، ولكنني اخترت إخاء الأديان، وهو سلوك اجتماعي محض في مواجهة ثقافة الكراهية، حيث أقوم باحترام المخالفين وتقدير اجتهاداتهم من دون أن أكون قد عبرت عن موقف كراهية؛ وذلك على قاعدة لكم دينكم ولي دين. لقد اخترت الكتابة في إخاء الأديان وأنا أعلم بوضوح أنه حلم غير موجود؛ فالأديان على الأقل في نمطها السائد اليوم وبالتحديد في الإسلام والمسيحية واليهودية لا يسمح كهنتها ببناء هذا الإخاء، فالآخر كافر شرير يمكننا أن نجامله أو نتعايش معه، ولكنه ذاهب إلى النار يوم الدينونة، ولن يتغير شيء كثير إذا مارسنا المجاملات والصداقات لبناء عيش مشترك، طالما أن المخزون في الصدور ثقافة التكفير الرهيبة التي تجعلك تفقد بجارك كل احترام، وتتربص به الدوائر، وسرعان ما ترتد هذه الاصطفافات بشكل مرعب لدى أول امتحان، وبإمكاني القول إن تيار الإخاء بين الأديان على الرغم من حضور النخب فيه وخاصة من أهل القانون والتشريع والفلسفة والحكمة وكذلك التيارات الصوفية إلا أن السواد الأعظم من الناس لا زال خاضعاً لفكرة الآخر الكافر، والحجيم الذي ينتظره ووجوب بغضه في الله الذي تعبدنا ببغض الكافرين.
صابر مولاي أحمد: وفقا لطرحك إخاء الأديان، هل ذلك يعني الارتقاء لمستوى دين كوني ذي طبيعة إنسانية عالية، يخرج فيه الجميع من مختلف السياجات المغلقة باسم الدين؟
محمد حبش: نعم، لم أقصد بإخاء الأديان بناء جبهة من المؤمنين ضد الملحدين، لقد قصدت إلى بناء إخاء إنساني؛ فالغاية الإنسان وليس الأديان، ولا أريد أن أخرج من الاصطفاف المذهبي إلى الاصطفاف الديني فكلاهما مشروع كراهية، لقد قصدت إلى الفضاء الأرحب، حيث يكون الإنسان أخا للإنسان، يحبه ويحسن إليه على الرغم من موقفه الاعتقادي، وفي القرآن الكريم من هذا المعنى: قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله، وفيه ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. لقد بسطت في كتابي الأدلة الكافية على إمكانية بناء المحبة بين أتباع الأديان من دون أن نشترط تحولهم إلى ديننا، والفصل الأول من هذا الكتاب فيه أكثر من أربعين دليلاً شرعياً من الكتاب والسنة والمصادر الأخرى على وجوب الإخاء بين الناس مؤمنهم ومشركهم، وأن العداوة لا تكون إلا للعدو المحارب.
إخاء الأديان غير موجود إلا على مستوى النخب، ولكنه رسالة نبيلة وكبيرة، ولا أعتقد أن أي مشروع سلام ومحبة وإخاء إنساني يملك فرص النجاح إلا إذا عالح بشجاعة وقوة مسألة التناحر الديني الذي يؤسس للكراهية في جذور عميقة لا تقبل الحلول.
الكلمة الأخيرة لكم
محمد حبش: لقد اخترت هذا الطريق، وهو طريق شائك عسير، وربما لو أدركت تماماً عواقب خياري هذا لترددت عنه، فليس سهلاً أن تخسر مكانك بين الناس كمصدر روحي مأمون يبشرهم برغاب السماء وحظى منهم بتقديس الأرض، لقد وجدت نفسي فجأة في مكان آخر لقد بنيت حياتي على واقع صفر عداوات، ولكنني فوجئت حين صارحت الناس برسالتي في التنوير بغضب ماحق ماحق وبيانات تترى من مراجع الدين والسياسة الكبار في بلادي، ووجدت نفسي مهدداً في أكثر من سياق ولكن لا ضير فهذه هي سنة الحياة، وما أسهل أن تعيش صالحاً ولكن ما أصعب أن تعيش مصلحاً.
دعني أختتم بهذه الكلمات من الرباعيات، وهي آهات جارحة بثتها في محراب عشقي للرسول الكريم، فقد كنت أجد أنسي وسلوتي في مناجاة الرسول، لقد شعرت تماماً أنه واجه هذه الأهوال حين قرر أن يواجه هموم الناس وأوهامهم، لقد تبدل اسمه فوراً من الصادق الأمين إلى الساحر المحنون الكذاب،!! ولكنه استمر ومضى. لقد بدأت كتابة هذه الأبيات عند قبره الشريف منذ عشرين عاماً، ولكنني مستمر في كتابتها إلى اليوم وقد صارت أكثر من ألفي رباعية، وعلى نسق إقبال في شكوى وجواب شكوى خاطبته بحديث الروح للأرواح تسري فتسمعه القلوب بلا عناء:
يا رسول الله يا من وجهه *** أشرقت منه الليالي مصبحات
هل لدى كفيك برء مثله *** يمنح الحائر أسرار الحياة
أيها الصادق كم من وقفة *** قمت فيها ناسخا حكم السماء
وشجاعا كنت في تغييرها *** يا لنـــــــــا أتباع شوم جبناء
أيها الصادق كم من نكبة *** قد نكبناها بنص مسند
لم تكن تعلم لما قلتها *** أنها دستورهم للأبـــــــــــــــــد
أيها الصادق أشواقك في *** غارك العالي شفاء للقلوب
كنت تلقيها على جنح الدجى *** وتُلقَّاها على جنح الغيوب
أيها الشاهد ما للمستقى *** صار سقيا من دم مر وسم
إن ماء المزن ترياق الحياة *** ربما يقتل حبطاً أو يلمّ
ما النبوات التي كانت لكم *** غير أشواق وأذواق ونور
أشرقت شوقاً على أسماعكم *** فجرت أنغامها فوق السطور
فلماذا ختمت أنوارها *** رغم ما يشهده العالم هذا
ولماذا طويت أسرارها *** ولماذا ولماذا ولماذا لماذا
لقد ألقيت كلماتي حرى حزينة واجمة... وكنت أرقب من ندى يديه ولحظ عينيه جواباً لهذه المشاعر العاصفة، لقد وجدتني بين يديه، وهو يرتل علي رسالة نصحه، وهي رسالة من سجاف الغيب تكشف هول المواجهة مع الجاهلية الثانية، ورسالة الحب في طوفان من الكراهية.
لا تلمني يا صديقي إنني *** خدمة للعقل أوقفت النبوة
لم أشأ أرضى لكم أوهامكم *** فخذوا أقداركم عني بقوة
مجدكم في الأرض لا ترسمه *** جثث تسكن في جوف المقابر
فخذوا أقداركم وانتبهــــــــوا **** واصعدوا أنتم على تلك المنابر
ثورتي البيضاء في أرض الحجاز *** بيد قل لي أين منها ثورتك
أنا ماضيك الذي تذخـــــره *** بيد قل لي أينه مستقبلك
إن مصباحي الذي أسرجته *** نورك الباقي على مر العصور
إنما زيتك من يسرجه *** ليس زيتي وأنا ابن القبور
أنا كالمرآة في سيارتك *** إن تراني تبصر الماضي وراءك
بيد لا يكفيك ماضٍ آفلٌ *** إنمـــــا دربك أبصره أمامك
هي كلماتي أيها العزيز، ولن يطول بنا المقام حتى نصبح قبراً، ولعل الآتين من الأجيال يذكرون أننا نصحنا بما يمليه الواجب وأدينا حق الله في هذه الأمة، والموعد الله.