حوار مع المستشار عبد الجواد ياسين: الدين أم التدين؟ التفكر من خارج الإطار
فئة : حوارات
حوار مع المستشار عبد الجواد ياسين*
الدين أم التدين؟
التفكر من خارج الإطار
حاوره: محمد الخراط
الكاتب عبد الجواد ياسين هو مفكر مصري وقاض سابق، متخرج من كلية الحقوق - جامعة القاهرة عام 1976م، وقد شغل مناصب مختلفة، تدرج خلالها من النيابة العامة إلى القضاء. من مؤلفاته "السلطة في الإسلام"، و"العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ"، و"الدين والتدين: التشريع والنص والاجتماع".
يشرفنا أن نلتقي المفكر عبد الجواد ياسين في هذه المصافحة الحوارية لنقترب من فكره أكثر.
محمد الخراط: بداية كيف يقدم السيد عبد الجواد ياسين نفسه للقراء بصفة مستشار في مجال القانون، أم بصفة مفكر في موضوع الدين، أم بالصفتين معا اللتين تؤسسان لذاتك المعرفية والوجودية؟
عبد الجواد ياسين: قاضي يفكر في موضوع الدين.
محمد الخراط: هناك أطروحتان تتحكمان في ما يكتبه السيد عبد الجواد ياسين ولاسيما في كتابيه "الدين والتدين" و"السلطة في الإسلام" الأولى تقول بتحكم الصراع السياسي والرهان المادي في السيرورة التاريخية للإسلام، والثانية تبرهن على غلبة التدين على الدين، وتوسع الاجتماعي على حساب المفارق، بل واختلاط الأمر بينهما إلى درجة تحول النسبي إلى المطلق. ما تجليات ذلك وما طبيعة الجدلية القائمة بين الزمني واللازمني؟
عبد الجواد ياسين: وفقاً لمصادرات العقل التوحيدي على الأقل، الدين كلي مطلق قادم من خارج الاجتماع. ولأنه لا يعمل في الفراغ بل من داخل الاجتماع فإن حضوره يؤدي بالضرورة إلى حدوث التدين (ممارسات البشر للدين في الواقع). التدين - إذن - طبيعي من حيث هو ضروري.
المشكل ليس هنا، ليس في حدوث التدين، بل في تحوله إلى دين، أي اكتسابه صلاحيات السلطة المقدسة (المؤبدة) للمطلق. وهو ما يعني تثبيت كتلة من الثقافة التاريخية، هي بطبيعتها غير قابلة للتثبيت داخل نطاق المطلق المقدس أي الثابت الملزم، الأمر الذي يفضي في لحظة ما إلى صدام ضروري مع حركة الاجتماع الخام بما أنها بطبيعتها متغيرة لا تقبل الثبات. إن ذلك يفسر لماذا يظل التدين سبباً لموجات مزمنة من التوتر في الفضاء الاجتماعي، رغم الحضور العميق للدين على مستوى الذات الانسانية.
جميع منظومات التدين، إذن، من صنع التاريخ الاجتماعي، خصوصاً تاريخ الحقبة الممتدة بين عصر التأسيس وعصر التدوين. المعطيات السياسية، بما هي اجتماع مكثف، تلخص التاريخ الاجتماعي. وبشكل مباشر وغير مباشر، لعبت هذه العوامل دوراً فاعلاً في تشكيل وتطوير بنيات التدين في السياقات التوحيدية الثلاثة؛ اليهودية والمسيحية والإسلام.
في الحالة الإسلامية - كنموذج - نستطيع رصد علامات التطور التي طرأت على منطوق البنية الدينية المعروفة عند إغلاق النص التأسيسي كنتيجة لتطورات الاجتماع السياسي؛ تبلور الدولة، حركة الفتوح العسكرية، وبوجه خاص تفجر الصراع السياسي. كان على النص التأسيسي بعد إغلاقه بفترة قصيرة، أن يواجه محيطاً اجتماعياً أوسع، بمؤثرات بيئية أكثر تنوعاً وأسرع إيقاعاً. بدا النص القرآني المتاح أضيق مساحة من حجم التطورات اللاهوتية التي أسفر عنها التمذهب، ومن حجم الحاجات التشريعية التي أسفر عنها التوسع من جهة ثانية. كان ثمة حاجة إلى "نصوص" إضافية لتستوعب فائض الحركة المتوترة للاجتماع وهو في حالة التدين القصوى. وهي حالة متكررة في التراث الاجتماعي الديني تصاحب عادة المرحلة التالية على التأسيس.
في هذه الحالة الإسلامية - حيث تحول الصراع السياسي إلى مذهبية دينية - عبر التدين الاجتماعي عن ذاته باستحداث نصين جديدين، كل منهما أكبر حجماً من القرآن ومكافئ له في الحجية؛ الأول: مجموعة الروايات الآحادية التي ستعرف سنياً بالأحاديث، والثاني: مجموعة الروايات الآحادية التي أسندها الشيعة إلى أئمة أهل البيت، والتي جعلت زمن النص ممتداً لفترة طويلة تالية على وفاة الرسول. عبر هذين النصين انفتح الباب واسعاً أمام كتلة مباشرة من التاريخ الاجتماعي (الثقافة الإقليمية) لتدخل إلى صميم الدين الملزم. ولذلك فعلى مستوى الديانات التوحيدية الثلاث يمكن الحديث دائماً عن حقبتين تأسيسيتين لا عن حقبة تأسيس واحدة.
محمد الخراط: في كتاباتك إشارات كثيرة إلى الأديان الأخرى: (اليهودية والمسيحية أساسا)، فبأي معنى تفهم أن الإسلام هو خاتم الرسالات وأن محمداً خاتم الأنبياء؟
عبد الجواد ياسين: حين نفهم الدين في ذاته على أنه المطلق الإلهي المفارق للاجتماع ينحصر معنى"الدين" في الإيمان بالله والأخلاق الكلية، وهو معنى لا يتعدد. الذي يتعدد هو "التدين" الناجم عن ممارسات البشر للدين في ظروف زمانية ومكانية مختلفة. نلاحظ أن فكرة الإيمان بالله والأخلاق الكلية هي المشترك الوحيد بين الديانات التوحيدية رغم اختلاف الزمان والمكان، وهو ما يشهد للقول بأن هذا المشترك مطلق (عصي على التغير سواء بالتعدد أو التطور). الإسلام هو هذا المطلق المشترك. تعدد الديانات هو في الواقع تعدد تدينات (أنماط تدين). حقيقة الدين ترتبط أساساً بالذات الفردية حيث ينغرس الدين عميقاً كالغريزة. وإلى هذا المستوى الفردي للذات الإنسانية ترجع ضمانة استمرار الدين، وليس إلى عملية التنميط الجماعي التي كرستها المؤسسة الدينية عبر التاريخ.
محمد الخراط: ماذا تقول في ما تقدمه الكتابات المعاصرة في مجال المقدس والديني وخاصة الأنثروبولوجيا الدينية وعلم الأديان المقارن، لاسيما وهي تنظر إلى الظاهرة الدينية في عمومها قبل خصوصها، وتحرص على المشترك أكثر من حرصها على المتفرد؟
عبد الجواد ياسين:دراسات الاجتماع والأنثروبولوجيا المعاصرة كسرت احتكار اللاهوت والميتافزقيا لمبحث الدين. في كلا المنهجين - كما لاحظت الحداثة الغربية - تغييب واضح للبعد الإنساني، إما لحساب الموضوع الإلهي الذي يستغرق الدرس اللاهوتي، وإما لحساب المعاني المجردة التي تتجاهل الحضور الحي للكائن البشري في منهج الفلسفة. كان فيورباخ قد أبدى تململاً من منهج المقاربة الفلسفية للدين، وأشار صراحة إلى التاريخ الاجتماعي وهو يفسر نشأته كاختراع بشري صنعه الإنسان ثم نسبه إلى قوة عليا سماوية. إلا أنه لم ينقل المسألة بشكل نهائي خارج حدود الميتافيزيقيا. ومع ذلك فقد مهد الطريق للقيام بهذه النقلة التي حولت "فيبر" و"دوركايم" أمام ماركس والدين إلى مبحث اجتماعي أنثربولوجي (إنساني) وقد نجحت في إنجاز قراءات أكثر عمقاً لظاهرة التدين. ولكنها لم تتمكن من ملامسة الجوهر المطلق للدين كشيء في ذاته. فهي تنصب على مظاهر البنية الخارجية للظاهرة الدينية(أي على التدين)، وتمتنع (أيضا تعجز) بسبب منهجها عن الدخول إلى قلب الظاهرة حيث يكمن موضوعها الغيبي العصي على التوصيف، ومن هنا، ففي مقابل العقل اللاهوتي الذي ألحق التدين بالدين، ألحقت هي الدين بالتدين فأنكرت ما هو مطلق في الدين واعتبرته في مجمله ظاهرة اجتماعية من صنع الاجتماع.
ونتيجة لذلك إذا كان سيتعين على العقل اللاهوتي مواجهة سؤال التطور، فسوف يتعين على العقل التجريبي مواجهة سؤال الإيمان، وهو سؤال لا تملك منهجية الأنثروبولوجيا الوصفية أدوات التعامل معه.
محمد الخراط: ماذا تقول لمن يدعو إلى تطبيق الشريعة اليوم؟
عبد الجواد ياسين: الشريعة قانون، والقانون متغير بطبيعة الاجتماع، والمتغير ليس من جوهر الدين المطلق، أي ليس من الدين في ذاته بل من إنتاج التدين، أعني نمط التدين الذي ساد تاريخياً في الوعي البشري بسبب الاقتداء بالتجربة العبرية. يفكر العقل اللاهوتي عموماً من داخل هذا النمط، ولذلك فهو يعتبر الأحكام التفصيلية الفرعية التي ألحقها التدين بالدين جزءاً من المطلق الإلهي الثابت الذي لا يجوز تغييره. المشكل هنا أن هذا الجزء يتغير بالفعل بقانون الواقع الاجتماعي، وهو بدوره قانون طبيعي أي إلهي، يقضي بالتحول المتكرر للتشريع ليعكس التحول في حاجات وعلاقات البشر الذي ينجم عن تغير الظروف الطبيعية (الجغرافية) والاقتصادية والسياسية والعقلية، مما يفسر تعددية النظم القانونية كواقعة مادية متكررة عبر الزمن. إذن السؤال ليس: هل يجوز تغيير التشريع؟ بل هو: هل تغيرت الظروف في الواقع إلى الحد الذي يستدعي التغيير؟ نحن بصدد إمكان مادي لا بصدد جواز تكليفي نظري.
عملية التشريع الفقهي الواسعة في الإسلام - وهي شبيهة بعملية التشريع المرتبطة بالدولة في التجربة اليهودية- نشأت وتطورت استجابة لتطورات الواقع الاجتماعي بعد مرحلة التأسيس الأولي. وفي سبيل ذلك اصطنعت آلياتها وتقنياتها المعروفة في علم الأصول، فضلاً عن استحداثها لأدوات نصوصية جديدة. بالطبع ظل الفقه يتطور طوال عصر التدوين لكن ببطء ومن داخل آليات النظرية الأصولية، حيث بقيت هياكل الاجتماع الكلية التي صدر عنها النص على ما هي عليه بوجه عام( لم تبدأ هذه الهياكل في التغير قبل العصور الحديثة مع تبلور الرأسمالية الصناعية ومنهج التفكير التجريبي) ففي بيئة إنتاج الفقه المباشرة ظلت البنى الاقتصادية رعوية وريعية، والبنى الاجتماعية قبلية وعشائرية، والبنى العقلية أسيرة لمثالية التفكير اليوناني السابق على التجربة.
ولذلك يمكن القول بأن التحدي الذي واجهته النظرية الفقهية من قبل التطور الاجتماعي في عصر التدوين كان جزئياً، ولذلك أمكن لها تجاوزه من داخل مصادراتها التقليدية من دون مشاكل منهجية كبيرة. ولكن التحدي الحقيقي سيأتي مع التطور الجذري في الهياكيل الكلية الذي سيفتح آفاق الاجتماع على حاجات وعلاقات ومصالح غير قابلة للحصر أو الانضواء تحت منطوق النصوص أو عللها القياسية. الأمر الذي يضع المسألة بكليتها خارج إمكانات النظرية وآلياتها التقليدية.
على ضوء ذلك يمكن قراءة الاجتهاد الأصولي الذي قدمه الشاطبي (من خارج النظرية الأصولية التقليدية ولكن من داخل نمط التدين). كان الشاطبي يصدر في القرن الثامن وفي الأندلس عن مناخ عقلي واجتماعي متطور ومختلف نسبياً عن مناخ القرنين الثالث والرابع الذي صدرت عنه النظرية في المشرق. وبالفعل خطا الشاطبي بالعقل الأصولي خطوة خارج الشافعي، مكنته من الحديث عن روح الشريعة وأهدافها الكلية، ورفعت سقف الضوابط التشريعية من حرفية النص الجزئي إلى فحوى المبادئ العامة، وهو سقف يستدعي نوعاً من الاجتهاد العقلي الاجتماعي الصريح. ولكن الشاطبي ظل محتفظاً بلازمة العقل الديني التقليدية التي تؤمن نمطياً بأزلية التشريعات الجزئية وأبديتها بسبب حضورها في "النص". ولذلك فإن توسيع دائرة الاجتهاد على أساس المصلحة كما قدمه الشاطبي ظل نسبياً. فهو يوفر حلاً لمشكل التشريع عند عدم وجود نص، ولا يوفر حلاً لمشكل التشريع بما يخالف النص. وهذا المشكل الأخير مفروض بحكم التطور، بل هو المشكل الحقيقي الذي يقابل نمط التدين السائد، فسؤال التطور لا يطرح ذاته في مواجهة الأحكام المستنبطة بالاجتهاد الفقهي فحسب، بل أيضا في مواجهة الأحكام المنصوصة لأن كليهما يصدر عن ظرفه الزمني الاجتماعي.
محمد الخراط: هل من معنى لدعوة أولئك الذين ينادون بالجهاد في هذا العصر؟ وبأي معنى يمثل الجهاد جزءاً من الاعتقاد؟
عبد الجواد ياسين: في الفقه الجهاد قتال على الدين، وهو معنى يتناقض مع الطبيعة الاختيارية للإيمان ومضمونه الأخلاقي. ليس للقتال أن يتعلق بالدين. وفيما عدا الحق الغريزي في الدفاع عن النفس، يتعلق القتال حين يقع بظواهر وأسباب في الاجتماع البشري مقطوعة الصلة بالله. وفيما ينسبها الناس إلى الدين ترجع أصولها إلى غرائز البشر البدائية.
الجهاد مفهوم فقهي أي اجتماعي، وهو نموذج متكرر للعقل الديني وهو يلحق التاريخ الاجتماعي لحقبة التأسيس بالمبادئ المطلقة للدين. نقرأ في سفر التثنية (20/10/13) "حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح، فإن أجابتك وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون للتسخير ويستعبد لك. وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف".
في الإسلام عكس الفقه اجتماعيات الغزو القبلية في الجزيرة العربية بمفرداتها التفصيلية، وحولها إلى أحكام دينية، بسبب ورودها في النص، دون أن يفرق داخل النص بين المطلق الثابت والاجتماعي المتغير. لقد سجل النص الوقائع بما فيها الحوادث القتالية، ولكنه لم يقصد إلى تحويل الوقائع إلي قيم مؤبدة، كما فعل العقل الديني طوال تاريخه، مما أدى به في كثير من الأحوال إلى نتائج معاكسة لجوهر الدين وأهدافه الأخلاقية المطلقة. لقد توقف الفقه أمام هذه اللحظة المحلية العابرة وهي لحظة حرب، ليستخلص منها حكماً "نصياً"، يربط صراحة بين الكفر( عدم الانتماء للإسلام) وبين حل الدم، وهو حكم في غاية الخطورة من حيث مخالفته لجوهر الأخلاق، ولفداحة الآثار التي ترتبت عليه، وأعني بذلك التوجه العنيف الذي اتخذه مسار التدين الإسلامي وتاريخه، سواء على المستوى الخارجي تحت عنوان الفتوح، أو في الاقتتال الداخلي بين الفرق، وانعكس على مستوى الذات الإسلامية المعاصرة، التي صارت عرضة للتناقض بين مفاهيمها "الملزمة" فقهياً وبين ثقافتها الحداثية التي كشفت عن التهافت الأخلاقي والمنطقي في هذه المفاهيم، وعدم قابليتها للاستمرار، كما كشفت عن جذورها التاريخية ذات الأصل الاجتماعي الصريح.
محمد الخراط: ما هي الاختلافات بين نظرة أهل السنة للقرآن ونظرة أهل الشيعة له، خاصة وأنه بعد ترشيح مصحف عثمان لم يعد هناك جدل حول مكونات المصحف وإنما حول تأويلاته؟
عبد الجواد ياسين: لم يتوقف التنظير الشيعي طويلاً أمام المشكل الذي أثارته عملية جمع القرآن في المصحف، وهو مشكل تم إغلاقه تقريباً قبل تبلور التشيع كمذهب مستقل. وبوجه عام ينتمي العقلان السني والشيعي إلى نمط التدين المؤسسي، وكلاهما يتبنى حيال النص ذات الرؤية المفهومية كوثيقة شمولية منغلقة على أحكام نهائية دون تفريق بين مطلق ثابت واجتماعي قابل للتطور.
ومع ذلك سنلمح اختلافاً نسبياً بين المذهبين في منهج التعاطي مع النص القرآني، يتمثل في الاستخدام المفرط الواسع للتأويل طلباً لإسناد نصي لمقولات الإمامة التي تمثل عصب التشيع والتي لم يكن ظاهر النص القرآني يقدم تغطية صريحة لها (بحسب التأويل الشيعي ربع القرآن على الأقل نزل في علي).
لكن النص القرآني لم يلعب الدور الرئيسي في عملية التأسيس النظري للتشيع، الذي لعب هذا الدور هو "النص الجديد"، الذي استحدثه التدين الشيعي والمتمثل في مجموعة الروايات المسندة إلى أئمة أهل البيت، وهي تشكل في جملتها مدونة حديثية واسعة قد يزيد حجمها عن حجم النص القرآني تعادله في الحجية. في المقابل كان التنظير السني قد استحدث بدوره، نصه الجديد (مدونة الأحاديث المسندة إلى الرسول والتي أسس الشافعي لحجيتها تحت عنوان السنة). ولكن المدونة الشيعية توفرت على سلطة احتجاجية أكبر من المدونة السنية، من حيث القدرة على محاورة النص القرآني وتطويعه من خلال التأويل.
محمد الخراط: هل من أمل لإعادة طرح قضية الاختلاف المذهبي السني الشيعي اليوم، وتفكيك تينك المنظومتين الأورثوذكسيتين؟
عبد الجواد ياسين: نشأت المذهبية في الإسلام كإفراز مباشر للصراع السياسي الذي شهده الاجتماع الإسلامي المبكر، فقد انكشف هذا الصراع عن فرق رئيسية ثلاث هي بعينها ما سيصير المذاهب الدينية الرئيسية الثلاثة: السنة ممثلة الدولة المتغلبة، والشيعة ممثلة المعارضة العلوية، والإباضية وريثة معارضة الخوارج. لقد تم نحت مفاهيم لاهوتية جديدة كي تعبر عما هو أصلا توجهات سياسية ذات بعد اجتماعي، وتم إلحاقها بمنطوق الإيمان الديني حسب كل فرقة، أي تم إلحاق قطعة من التاريخ الاجتماعي بالدين. هذا فعل التدين بالدين.
لا أمل لإعادة طرح قضية الاختلاف المذهبي إلا من خلال إعادة النظر في نمط التدين من أصله. أعني فك الاشتباك بين الإلهي المطلق والاجتماعي التاريخي. أي بين الدين والتدين.
الاختلاف في فهم الدين فعل تدين اعتيادي، يرجع إلى التنوع الطبيعي في الاجتماع وعلى مستوى الذوات الفردية، وبالتالي رفع الاختلاف ليس ممكنا وليس مطلوباً. المشكل ليس الاختلاف في ذاته بل التوتر الذي يلازمه والذي يحوله غالبا إلى صراع ودم، بسبب نمط التدين الذي ساد، والذي يتضمن بحكم تشكله التاريخي فكرة الصراع.
محمد الخراط: تاريخياً كان ظهور الفقه أمراً لا مرد له، فما هو دور الفقه اليوم؟
عبد الجواد ياسين: الفقه مدونة تشريعية تاريخية تتمتع بسلطة معنوية داخل العقل الديني بسبب تداخلها مع سلطة النص. في الوقت الحاضر صار العقل الديني أسهل تقبلاً لفكرة الفصل بين سلطة الفقه كاجتهاد بشري تاريخي وسلطة النص كوحي إلهي ملزم. ولكنه ليس جاهزاً بعد للتعاطي مع فكرة التفريق داخل النص ذاته بين الإلهي المطلق كثابت لا يتغير( الله والأخلاق الكلية) وبين الاجتماعي التاريخي كمتغير يجوز تجاوزه.
محمد الخراط: تتحدث في مؤلفاتك عن العقل الفقهي. هل من المشروع الحديث عن عقول مختلفة داخل ميادين المعرفة في فضاء واحد فتقول عقل فقهي وعقل كلامي وعقل صوفي...؟ أليس الأجدر أن نتحدث عن عقل عربي إسلامي؟
عبد الجواد ياسين: يمكن بالطبع أن نتحدث عن عقل عربي إسلامي، بل ويمكن الحديث عن عقل فحسب، أو عن عقل واحد، أو عن "العقل" مطلقاً. ولكن ليس ثمة ما يمنع من الحديث عن عقل فقهي وعقل كلامي وعقل صوفي، عندما نريد الإشارة إلى مستويات مختلفة من التفكير بسبب المنهج أو الموضوع، هذه المستويات المختلفة موجودة بالفعل بسبب تعقد الظاهرة العقلية وتداخلها بالإجتماع.
محمد الخراط: كيف يمكن للإسلام أن يضطلع بدوره في عصر العقل التكنولوجي؟ وما هي الرهانات المطروحة عليه في زمن الحداثة والعولمة؟
عبد الجواد ياسين: التحدي العام يكمن في سؤال التطور، وهو تحدي موجه بالأساس إلى الشق الاجتماعي التاريخي المخبوء في جوف الدين. المسيحية الغربية سبقت الإسلام في مواجهة هذا التحدي بسبب الظروف الجيوتاريخية التي أفرزت تطور الهياكل الكلية(الاقتصادية - الاجتماعية - العقلية) في أوروبا بعد العصور الوسطى. ونتيجة لهذه المواجهة تخففت المسيحية الغربية من جزء كبير من حمولتها الدينية ينتمي إجمالاً للشق الاجتماعي، فتخلت الكنيسة عن دورها السياسي والاقتصادي والتشريعي. ولكن الشق المطلق من الدين (الله والأخلاق) ظل صامداً بفعل رسوخه في عمق الذات الفردية.
في السياق الإسلامي - حيث يلعب الفقه ككيان معنوي دور المؤسسة الدينية، ويتوفر على صلاحيات تشريعية أوسع من صلاحيات الكنيسة في العصور الوسطى - ستفرض حقائق التطور ذاتها على الشق الاجتماعي من بنية الدين، ولكن ذلك سيرتبط بمدى التطور الذي تحرزه الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والعقلية في المنطقة الإسلامية، وهي تسير بوتيرة أبطأ من مثيلاتها في التجربة الغربية.
في جميع الأحوال يمكن للإسلام أن يضطلع بدوره فيما تسميه عصر العقل التكنولوجي عبر استعادة المعنى المطلق للدين كإيمان دافئ مدعوم بالأخلاق، مخلياً الطريق أمام العقل كي يطور الواقع بالعلم، ومتخففاً من حمولاته الثقيلة في السياسة والاجتماع.
*-مجلة يتفكرون، العدد الثاني، خريف 2013