حوار مع المفكر والكاتب المغربي عبد الإله بلقزيز
فئة : حوارات
حوار مع المفكر والكاتب المغربي عبد الإله بلقزيز[1]
حاوره الدكتور صابر مولاي أحمد
"نحن في حاجة لإعادة قراءة الفكر الإصلاحي العربي الإسلامي في القرن 19م"
الدكتور عبد الإله بلقزيز:
كاتب ومفكر مغربي من مواليد 1959م. حاصل على دكتوراه الدولة في الفلسفة من جامعة محمد الخامس بالرباط، أستاذ الفلسفة في جامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء. صدر له عدة مؤلفات من بينها: "نهاية الداعية" و"الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر" و"الديني والدنيوي: نقد الوساطة والكهنتة".
صابر مولاي أحمد: الدكتور عبد الإله بلقزيز مرحباً بك؛ يسعدنا أن نجري معك هذا الحوار، وشكراً لك على قبول الدعوة واستضافتنا في بيتك. هناك إقبال على فهم الإسلام في بعده السياسي بمعزل عن أبعاده الحضارية الكبرى... كيف تفسر لنا هذا الإقبال الذي يختزل الإسلام في السياسي والإسلام أكبر من أن يختزل في السياسي لوحده؟
الدكتور عبد الإله بلقزيز: شكراً لكم؛ دعني أقول لك بكل صراحة؛ إنه كان من قبيل الصدفة السيئة؛ أن الفكر الإصلاحي الإسلامي الذي انطلق في النصف الثاني من القرن 19م، وقد طرح على نفسه أسئلة كبرى واجتهد رجالاته بأن يلتمسوا أجوبة متفاعلة مع معطيات وثقافة العصر؛ مكيفين المنظومة الكلاسيكية كي تتأقلم مع المتغيرات التي كانت عاصفة في ذلك الحين؛ يعني في اللحظة التي حصل فيها الاصطدام بين المدنية العربية الإسلامية المتهالكة المتراجعة، وبين المدنية العربية الحديثة، هذا الفكر الإصلاحي [المتمثل في الطهطاوي والأفغاني والكواكبي ومحمد عبده... وغيرهم]. الذي حصل؛ هو أنه في عشرينيات القرن العشرين؛ ومع انهيار الإمبراطورية العثمانية حصل انحراف شديد في مسار الفكر الإصلاحي؛ وقد قلت هذا الكلام وكتبته من قبل؛ كان لمحمد رشيد ريضا دور سلبي للغاية في تحريف مسار الفكر الإصلاحي؛ عن الجادة التي كان يسير فيها منذ كتابة كتابه الخلافة والإمامة العظمى، والذي تراجع فيه عن كل الأطروحات التي اجتهد الاصلاحيون في تأصيلها للدولة الوطنية الحديثة، حيث انكفأ محمد رشيد رضا عن هذا التراث كله (أي التراث الإصلاحي)؛ لائذًا بنفسه وعائدا إلى مدونة فقه السياسة الشرعية كما وضعت نصوصها الكبرى في القرن الخامس للهجرة، القرن 11 للميلاد؛ فقد أحياها من جديد.
صابر مولاي أحمد: بمعنى؛ أن رشيد رضا يشكل حالة ردة عن الفكر النهضوي الإصلاحي؟
عبد الإله بلقزيز: نعم، انحراف صارخ عن نهج الإصلاحية الإسلامية، لماذا أنا أحمله المسؤولية؛ لأن هذا الفكر الذي قطع مع التقاليد الاجتماعية لهذه الإصلاحية الإسلامية هو الذي فتح الطريق أمام ميلاد ما سمي بالإحيائية الإسلامية، هنا أريد أن أذكرك وأنت تعرف هذا جيدا، أن حسن البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين؛ كان لا يفاخر بأنه تلميذ لمحمد رشيد رضا، وأنه لم يتتلمذ عليه مباشرة، ولكن وجد فيه ضالته؛ وهكذا بدأت الإحيائية الإسلامية من لحظة القطيعة مع تراث الإصلاحية الإسلامية؛ فالإحيائية الإسلامية تشكل انكفاء وخروجا عن الإصلاحية الإسلامية، ومنذ ذلك الحين بدأ العد العكسي فيما سمي بالفكر الإسلامي؛ وسبق لي القول في كتابي الدولة في الفكر الإسلامي، المسار تراجعي.
صابر مولاي أحمد: لكن هل هناك ملابسات ودواعي ومبررات للسيد رشيد رضا وراء تشكل هذا التراجع وهذا الانحراف؟
عبد الإله بلقزيز: محمد رشيد رضا قد نتفهم انكفاءه إن أخذنا بالحسبان في ذلك الحين؛ كان يعيش حالة صدمة من إلغاء منصب الخلافة الإسلامية بعد انهيار السلطة العثمانية.
صابر مولاي أحمد: ربما هي مشكلة نفسية حلت بالعالم الإسلامي؟
عبد الإله بلقزيز: نعم، ولكن هناك آخرون لم يعيشوا هذه الصدمة مثل علي عبد الرازق، وقد كتب "الإسلام وأصول الحكم" وغيره من الذين كتبوا في هذا الاتجاه... نحن لا نبرر له هذا الخط المنحرف عن الإصلاحية، لكن قد نلتمس له عذرا، لكن حسن البنا لا عذر له؛ لأن حسن البنا منذ البداية وتلاميذه كان خيارهم واضحا، فلا شأن لهم بالإسلام كحضارة، فهم فهموا الإسلام كسلاح سياسي؛ يعني استثماره لأغراض سياسية دنيوية وهذا التقليد الذي استحدثه حسن البنا واستكمله ممن جاء بعده، استمر صاعدا في تاريخنا الحديث، وشكل صعود ما سميته بالإسلام الحزبي طيلة الفترة الممتدة ما بين ثلاثينيات القرن 20 حتى اليوم. مع تراجع المؤسسة العلمية التقليدية؛ مؤسسة العلماء إن على صعيد مؤسساتها (الأزهر أو القرويين أو الزيتونة) أو على الصعيد الفردي كعلماء، لم تعد هذه المؤسسة تنتج علماء قادرين على مواجهة هذه الموجة الطاغية التي مثلها الإسلام الحزبي. إذن باختصار شديد هذا الميل الجارف نحو الإسلام في بعده السياسي، فقط هو ميل حركي أيديولوجي حزبي سياسي سياسوي بامتياز، بينما كان في وسعنا أن نتحدث مثلا عن التراث السياسي الإسلامي ... لا أحد بحث في هذا الموضوع من الإسلاميين لا في فقه السياسة الشرعية ولا في الآداب السلطانية ولا في الفلسفة السياسية ولا في أي شيء.
صابر مولاي أحمد: طيب دكتور، كيف ممكن أن نهتم اليوم بذلك التراث الأصيل؛ تراث رجالات النهضة يعني قبل رشيد رضا؛ بإحيائه وتخليصه نوعا ما من الأدلجة التي لحقت به، فعندما نقول جمال الدين الأفغاني أو الطهطاوي أو الكواكبي... هؤلاء وغيرهم؛ تهمهم رسالة الإصلاح بغض النظر عن أي مطلب أيديولوجي أو مدرسي أو مذهبي أو غير ذلك؛ كيف بالإمكان أدبيا ومنهجيا وعلميا أن نحيي بدرة الإصلاح التي زرعها هؤلاء؟
عبد الإله بلقزيز: يعني كلما أعدنا ترشيد إشكاليتنا وتصويبها؛ كلما أمكننا أن نلتقي مع هؤلاء في منتصف الطريق؛ كلما مِلنا عن هذا الخط؛ كلما قطعنا الصلة بهم. مدارسنا لا تعرف الناشئة بهذا التراث؛ جامعاتنا لا تعرف الطلبة بهذا التراث؛ كتابنا ومثقفونا وباحثون يتجاهلونه، إلا من رحم ربك؛ فكيف يمكننا أن نعيد إحياءه؟ فكل هؤلاء مسؤولون؛ المؤسسة التعليمية والجامعية مسؤولة؛ والتأليف نفسه؛ يعني النخبة المثقفة مسؤولة، النشر مسؤول؛ فجزء من هذا التراث مفقود للقراء؛ لماذا؟ لأن النشر اليوم وازعه التجاري في المقام الأول؛ إذا كان سوف ينشر كتابا لجرجي زيدان مثلا أو لمحمد رشيد في كتاباته الأولى أو للطهطاوي... وينتظر عشر سنوات حتى تنفذ الطبعة الأولى؛ لديه نصوص تافهة جدا، ولكنها تشترى كسندويتشات ويمكنه أن يطبع الكتاب طبعتين أو ثلاث في العام، فينساق وراء هذا الاختيار لماذا؟ لأن النشر اليوم مؤسسة تجارية؛ وقد مر الزمن الذي كان المؤلفون يؤسسون دور نشر، ويكرسون للنشر مهمات نهضوية وإصلاحية؛ اليوم النشر خارج هذه المعادلة.
صابر مولاي أحمد: يعني الكتابة والتأليف والنشر ينبغي أن تحكمه غاية علمية تنويرية وتجديدية.
عبد الإله بلقزيز: إذن فكل هذه المؤسسات مسؤولة عن تغييب هذا التراث؛ وحتى الباحثون الذين من المفترض أن ينتبهوا لذلك؛ قد يستهويهم أن يفكروا مثلا في أن يكتبوا عن الحركات الجهادية، حتى وهم ينتقدونها، ينسون أنهم يعرفون بها.
صابر مولاي أحمد: طيب الدكتور عبد الإله لكن هناك وجهة نظر أخرى لأحد الباحثين والدارسين تقول: إنه في الوقت الذي نمت فيه التيارات الإحيائية كما تفضلت بعد رشيد رضا؛ الدولة الوطنية فرطت بشكل كبير في المؤسسات الدينية ولم تولِها الاهتمام اللازم من حيث العناية ومن حيث بناء إسلام يتوافق مع الزمن الذي نعيشه اليوم، ومن جهة أخرى جزء كبير من المثقفين التنويريين لم يولوا الاهتمام لجمهور عامة الناس، ويخاطبوهم بلغتهم ويلتحموا بقضاياهم وإشكالاتهم المعرفية، مما جعل الإحيائية الإسلامية تربح في آخر المطاف.
عبد الإله بلقزيز: ما تقوله وما تفضلت بقوله؛ جزء منه صحيح ولا أخالفك الرأي فيه. صحيح أن "الدولة الوطنية" تتقلد قسطا كبيرا من المسؤولية في المآلات التي انتهت إليها المؤسسات الدينية الرسمية "المؤسسات العلمية" مثل الأزهر وسواها؛ هذا أمر لا شك فيه؛ ولكن في المقابل بعض هذه الدول شجع النزعات المحافظة المعادية للاجتهاد المتحجرة، ظنا منه بأن هذا الفكر يمكن أن يكون من مسوغات شرعيته السياسية، وأنه يحتاج إلى هذه النخبة التقليدية دون أن ينتبه إلى أن ترسيخ التقليد وتشجيع التقليد (التقليد هنا بمفهومه السلبي)؛ سوف يولد ظواهر في غاية السوء من داخله، ولكن أيضا لا ينبغي أن نغفل المسؤولية التي تقع على عاتق أولئك الذين نسميهم بالعلماء؛ هؤلاء لم يبذلوا جهدا حقيقيا كما بذله إصلاحيو القرن 19م، لتطوير منظومتهم المعرفية وللانفتاح على المكتسبات العلمية الجديدة التي انفتح عليها الإصلاحيون؛ يعني شخص مثل خير الدين التونسي أو جمال الدين الافغاني أو محمد عبده؛ قرأوا مارتن لوتر وعادوا إلى منتسكيو وتفاعلوا مع أفكار جان جاك روسوا دون عقد واستثمروا كل ذلك المخزون لإعادة تجديد خطاب إسلامي قادر على مجابهة تحديات العصر.
صابر مولاي أحمد: في الحقيقة مفهوم العالِم هذا ومفهوم العلماء في حاجة لمراجعة اليوم؛ لأن مفهوم العالِم انصرف إلى ذلك الذي يلم ويحيط بالعلوم الشرعية فقط، بينما الأمر ليس كذلك؛ حتى من داخل النص القرآني يتحدث عن العلماء ويربط ذلك بالعلوم الكونية وبالخلق وبالنشء وغير ذلك؟
عبد الإله بلقزيز: لا، نتحدث نحن حصرا في العلوم الدينية، أقصد العلوم التي مدارها على مسائل التفسير والحديث والفقه وأصول الفقه....
صابر مولاي أحمد: ولكن الأقدمون بعلمهم في هذا المجال، لا يعفيهم أن يكون لهم باع واسع من العلوم العقلية وبالإحاطة بقضايا الفلسفة وعلم الكلام؟
عبد الإله بلقزيز: طبعا هذا ما أريد أن أقوله؛ إن هذه العلوم الدينية وحدها لا تستطيع أن تؤمن لك علما مطابقا لشروط زمنك؛ هذا ما فهمه الإصلاحيون الإسلاميون في تالقرن19م؛ هناك موجة سميتها في أحد كتبي بالإصلاحية المستأنفة؛ بمعنى في اللحظة التي سيطرت فيها النزعات الإحيائية الإسلامية؛ بين نهاية العشرينيات من القرن 20م وحتى الستينيات منه، ثم أعقبتها موجة أسوأ، وهي موجة الصحوة الإسلامية؛ التي كانت شديدة الحزبية والانغلاق والتطرف، ظهرت بعض اللحظات الإصلاحية في الفكر الإسلامي ولكن كومضات، وكأنها إن شئت واحات في ميدان عربي. في المغرب العربي محمد الطاهر ابن عاشور وعبد الحميد بن باديس وعلال الفاسي، وفي مصر محمد شلتوت وغيره؛ وفي لبنان حسن خالد... ولكنها كانت لحظات لم تتحول إلى مدارس وبالتالي الى تيار فكري، فذابت في هذه البيداء الإحيائية والصحوية، هؤلاء الذين تحدثت عنهم كانت لديهم تقريبا وليس تماما الملكة عينها التي كانت للإصلاحيين في القرن 19 م؛ من حيث الإلمام بالعلم الديني، ولكن أيضا كانت لديهم إرادة المعرفة التي كانت لدى هؤلاء فانفتحوا على ثقافة أخرى؛ فأدخلوا مكتسباتها ومعطياتها في نسيج الفكر الإسلامي، وقدموا مقالة اجتهادية تجديدية متطورة لم يبن عليها للأسف؛ في مقابل هؤلاء هذه اللحظات التي ذكرت السواد الأعظم بما نسميهم المفكرين الإسلاميين أو بعلماء الإسلام ...السواد الأعظم من هؤلاء ظل يجتر منظومته التقليدية وكأنها تكفيه، وهو في غنى عن غيرها، ومازال الامر مستمرا حتى اليوم. لذلك ما إن ظهرت الصحوية وقويت واشتد عودها، وفشت فشوا كبيرا في النسيج الاجتماعي، حتى عجز هذا الجسم العلمي التقليدي الإسلامي عن الوقوف في وجه مد الحركة الإسلامية، واختطف الإسلام الذين استطاعوا أن يختطفوه ويتقدموا بصفتهم الناطقين الرسميين باسمه؛ هم هؤلاء الذين نسميهم بالإسلام الحزبي ليس التقليديون.
صابر مولاي أحمد: طيب وقع ما وقع؛ الدكتور عبد الإله أنت تعلم جيدا أن الإسلام جاء يدعو إلى الجماعة وشرع آليات قيمة من بينها الحفاظ على الحوار والدعوة الى الحكمة والعقل والعقلانية (الإسلام ليس شيئا آخر غير العقل والعقلانية) وأسس لآليات تدبير الاختلاف والاهتمام بالرأي والرأي الآخر؛ أنت تعلم اليوم؛ أن شرعية تبرير العنف؛ تأخذ من الإسلام؛ كيف لنا أن نعود لتلك القيم الأصيلة التي أسس لها الإسلام حفاظا على وحدة الجماعة وعناية بالحوار في تدبير الخلاف والاختلاف بين الناس؟
عبد الإله بلقزيز: أولا الإسلام شأنه شأن أي دين آخر هو تراث، أنا حين أقول الإسلام لا أقصد النص القرآني.
صابر مولاي أحمد: أنا في هذا السؤال أقصد النص المؤسس بالذات؛ أي القرآن.
عبد الإله بلقزيز: النص إن كنت تقصد التراث فيه غث وسمين؛ لأن المشكلة الأساس أن هؤلاء لا يستخرجون أفكار العنف فقط، من النص القرآني والحديث، وإنما يستخرجونه من تأويلات فقهاء بعينهم؛ ابن تيمية؛ أو ابن القيم الجوزية... أو محمد بن عبد الوهاب... يعني يتوسلون وسائط أخرى لتأويل النص أو لحمل النص على معنى دون آخر؛ لذلك نحن لا نستطيع أن نغيب هذا التراث، وهذا هو الخطير؛ لأن التراث أصبح شبكة محيطة بالنص لا تستطيع أن تمر إلى النص إلا من خلاله.
صابر مولاي أحمد: والمرور هنا متعدد ومتنوع ولا متناهي؟
عبد الإله بلقزيز: قد تمر من هذه القناة أو من تلك؛ من قناة عقلانية أو من قناة خرافية.
صابر مولاي أحمد: وهنا يتم استثمار النص لغايات ربما تتعارض مع جوهره؟
عبد الإله بلقزيز: النص كما قال الإمام علي بن أبي طالب القرآن حمال أوجه؛ أنت تستطيع أن تحمله على الوجه الذي تشاء؛ أنت كقارئ كمؤول للنص إذا أردت أن تدافع عن حقوق المرأة مثلا؛ تستطيع أن تقدم تأويلا للنص القرآني يحيط المرأة بكل الحقوق التي تستحقها كإنسان، ولكن إذا أردت أن تتخذ موقفا سلبيا من المرأة أو شخص آخر، أراد أن يأخذ منحى آخر للمرأة؛ له أيضا أن يتناول النص على النحو الذي يحتقر المرأة ويطعن في حقوقها ... ليس هناك من نص ناطق بذاته.
النص كما تعلمنا المناهج التأويلية الحديثة "الهرمونتيك"؛ مناهج التأويلية المعاصرة؛ أن المعنى شراكة بين النص وقارئه/ متأوله؛ النص ليس مستودعا للمعاني ما عليك إلا أن تفلقه ثم تستخرج المعنى؛ لا. أنت تبذل الجهد لكي تفهم، ولكن في اللحظة التي أنت تبدل فيها جهدك لك مطالب من النص؛ أي دوافع وحاجات؛ محكوم أنت بظرفية سياسية أو نفسية أو اجتماعية؛ تؤثر على قراءتك للنص [سياق الزمن والمكان]؛ إذن القراءة متغيرة ومتعددة ومتنوعة بتنوع كل هذه الشروط. حينما بعث الإمام علي ابن عمه عبد الله ابن عباس، لكي يفاوض الخوارج عسى أن يستطيع استردادهم إلى صفوفه، سأله: بماذا ستحاججهم قال بكلام الله؛ قال كتاب الله القرآن حمال أوجه وأضاف إن القرآن كتاب بين دفتين لا ينطق؛ الرجال ينطقونه.
صابر مولاي أحمد: طيب في هذه النقطة كيف يمكن لرجالات هذا الزمن الذي نعيشه أن يستنطقوا هذا الكتاب بتوظيف كل العلوم الإنسانية بغية سحب الشرعية من أولئك المتنطعين أو أولئك المنحبسين في القراءة الماضوية؟
عبد الإله بلقزيز: هنا تكمن المشكلة الكبيرة يا سيدي، المشكلة أن التحولات التي طرأت على الفكرين الديني اليهودي والمسيحي خلال 400 عام الأخيرة، وجعلت هذين الفكرين ومن يمثلونهما من رجال الدين، يتأقلمون مع التغيرات التي حصلت في هذه القرون ويتأقلمون مع الحداثة وضغوطها، هذه الحركية هذه الثورة المعرفية الكبيرة التي حصلت في الفكرين اليهودي والمسيحي، بصفة خاصة، لم نعش نحن المسلمين شكلا من أشكالها.
صابر مولاي أحمد: أليست هناك بوادر لهذا التحول؟
عبد الإله بلقزيز: ذكرت لك الإصلاحيين في القرن 19م، وأستطيع أن أذكر لك أمثلة أخرى لمجتهدين آخرين، لكن ليسوا محسوبين ضمن علماء الدين، هم باحثون في الفكر الإسلامي والإسلاميات مثل؛ محمد أركون ونصر حامد أبو زيد... متفتحون ومنفتحون على الثقافة المعاصرة، متوسلون أدواتها ومناهجها؛ وبالتالي هذا مكنهم أن يضخوا حيوية في قراءة النص الديني أو قراءة التراث الإسلامي. أتمنى أنه لو كان ضمن علماء الدين أشخاصا مثل نصر حامد أبو زيد أو مثل محمد أركون، لكن ليسوا موجودين؛ بمعنى أن التجديد يحصل من خارج نطاق العلم الديني وليس من داخله، أنا أتحدث عن حالة حصلت في أوروبا، وهي أن رجال الدين المسيحيين هم أنفسهم من قاموا بهذه الثورة المعرفية الداخلية. هم رجالات التنوير والتجديد والأسنة، وهذا لم يحصل عندنا بكل أسف؛ لأن مناهجنا تقليدية ولأن السلطة في بلا دنا [لا تولي أولوية للعقل] في الوطن العربي.
صابر مولاي أحمد: تبعا لهذا المحور الذي نحن نتداول فيه، والمتعلق بالإسلام كمطلب سياسي على حساب المطلب الثقافي والمعرفي والحضاري؛ في تقديرك هذه العلاقة علاقة الديني والسياسي من داخل المنظومة الإسلامية؛ كيف ننظم هذا الجدل؟ هل ينبغي أن تكون علاقة قطيعة وفصل كامل ما بين الديني والسياسي أم هي علاقة ترتيب منهجي معين تبعا لسياقنا الثقافي والحضاري؟
عبد الإله بلقزيز: فيما اتصل بموضوع العلاقة بين الديني والسياسي، بالنسبة إلى الذين يدافعون عن العلمانية ولهم الحق في ذلك؛ ليست هناك وصفة واحدة جاهزة طبقت في التاريخ؛ لا وجود لشيء اسمه العلمانية، بل هناك علمانيات، وليس هناك شيء اسمه ديمقراطية، بل هناك ديمقراطيات؛ هناك أنماط من العلاقة التي نسجت بين الديني والسياسي في المجتمعات التي طبقت هذا النموذج الذي اسمه العلمانية؛ يعني مثلا العلمانية الفرنسية من النمط اليعقوبي أو العلمانية البلشفية الروسية؛ أو العلمانية الكمالية الأتاتوركية في تركيا؛ هذه علمانيات كانت متطرفة حيال الدين، وكانت وجهتها هي إقصاء الدين من كل مظهر من مظاهر الحضور العام؛ بما في ذلك المدرسة؛ كما هو في فرنسا مطبق منذ 1905م؛ إذا كنت تريد أن تتعلم الدين أو تعلم ابنك الدين فما عليك إلا بالمدارس التابعة للكنيسة أو غيرها؛ وهذا أنجب أجيالا من المتعلمين يجهلون التراث الديني جهلا مطبقا، إن ذهبنا إلى المانيا أو بريطانيا أو الولايات المتحدة نجد الأمر مختلفا؛ في بريطانيا هناك علمانية هناك تمايز حقيقي بين المجال الديني والمجال السياسي، ولكن دون إخراج الدين من الحياة العامة، يدرس الدين في المدارس، والأمر نفسه في أمريكا وألمانيا. إذن نحن لسنا أمام نموذج وحيد للعلمانية في مجتمعاتنا، هذا الفصل مشروع ولكن بطريقة أخرى. وحتى أكون صادقا معك، أنا بت أميل شخصيا في السنوات الأخيرة، إلى أطروحة "سبينوزا" في كتابه "اللاهوت والسياسية" كانت أطروحته الأساس هي أن الدين مجال يتعلق بالإيمان؛ فهو مجال المؤمنين وليس مجال المواطنين؛ في مجال المواطنين القانون هو الحاكم وليس الشريعة؛ والدولة هي التي تدير الشأن العام؛ ولكن ماذا لو أن الخلاف حول الدين بين الناس انعكس سياسيا؛ هنا يقول على الدولة أن تحتكر الدين؛ الدولة وليس النظام السياسي، ما معنى أن تحتكر الدين؟ معناه أن الدين ملكية جماعية للشعب مثل الثروة؛ وأنا اعتبر أن تاريخ الفكر الحديث تاريخ الدفاع عن فكرة الاحتكار؛ احتكار الدين عند "سبينوزا" احتكار الثروة عند "كارل ماركس" احتكار العنف عند "ماكس فيبر" لماذا؟ لأن الثروة حين لا تحتكرها الدولة تصبح موضوع منازعة، وهذا يخلق فجوات طبقية بين من يملكون ومن لا يملكون، العنف إن لم تحتكره الدولة؛ بمعنى أن كل جماعة سوف تحمل سلاحها؛ نفس الشيء بالنسبة إلى الدين إذا لم تبسط الدولة سلطانها على المجال الديني؛ كل سيفتح دكانا في المجال الديني، وسنصبح أمام خوصصة الدين، ما معنى خوصصة الدين؟ معناه نشوء مؤسسات خاصة لكل جماعة تصورها ولها مؤسساتها وربما ميليشياتها... إذن إذا كان المنطلق عند "سبينوزا" هو كون الدين ملكية جماعية وليس لفريق بعينه يمنع منعا باتا لكل فريق أن يحتكر الدين كما نقول؛ الآن لا يجوز لك أن تتكلم باسمك ناطقا رسميا باسم الإسلام؛ إذن من يحتكره الدولة وليس النظام السياسي؛ لأن النظام السياسي أي النخبة الحاكمة؛ فريق سياسي إذا احتكر الدين معناه أنه سيستغله في وجه خصومه، وهذا ما حدث في العالم العربي.
صابر مولاي أحمد: كيف تحتكر الدولة المجال الديني؟
عبد الإله بلقزيز: مثلا؛ فيما اتصل بسلطة القضاء الشرعي، الإفتاء، ما يتعلق بالتعليم الديني، إذا كان هناك برنامج وطني في التعليم الديني حينها ستقطع دابر كل واحد سيعمل برنامجه، إذن السيطرة على المجال الديني ليس بمعنى استغلاله ضد فريق آخر، وإنما السيطرة من أجل منع استغلاله من أطراف أخرى.
صابر مولاي أحمد: ولكن نحن في العالم الإسلامي أمام مجموعة دول متعددة وأمام مشترك ديني واحد هو الإسلام؟
عبد الإله بلقزيز: لا حينما نقول الدولة لا نقول النظام السياسي الدولة أولا: بمعنى الأمة من الناحية النظرية، ثانيا: حينما يكون الأمر يتعلق بالدولة ينبغي أن يكون محط توافق عام مثلا؛ في مجال الإعلام لم تعد هناك وزارات للإعلام تابعة للحكومة، أصبحت هنالك مجالس يمثل فيها جميع الأطراف؛ كذلك فيما يتعلق بالمسألة الدينية؛ ينبغي أن تكون السياسة الرسمية اتجاه الدين سياسة مبناها على الإجماع على التوافق بين الأطراف كافة، حتى لا يشعر أحد بأنه أقصى رأيه أو أنه غير ممثل. ماذا يقول "سبينوزا" لا تستطيع الدولة أن تتدخل في الإيمان هذه مسألة شخصية؛ كيف أومن؛ كيف أصلي؛ كيفية أؤدي الشعائر... حينما يتحول الدين إلى عامل اجتماعي حينها الدولة تبسط سلطانها عليه. أما باعتباره حقا فرديا يتعلق بالإيمان، فلا حق للدولة التدخل فيه؛ فهناك تمييز ما بين الدين كجزء من المجال العام وكجزء من المجال الخاص. بسط السلطان بهدف حماية الحرية الدينية والحق فيها، ربما النموذج المغربي أو التونسي استثنائي لكن معظم المجتمعات الإسلامية فسيفسائية؛ فيها مسلمون ومسيحيون ويهود وسنة وشيعة ودروز ... إذن ما يسمى عند الأصولية تطبيق الشريعة الإسلامية؛ السؤال تبعا لأي مذهب؟ ليس هناك إسلام واحد هناك إسلامات بعدد المذاهب والنحل داخل الإسلام؛ إذن فهم الإسلام متعدد ومتنوع، ولا تستطيع القول إنه واحد؛ الدين واحد كاسم ولكن في الواقع التاريخي ليس واحدا؛ ما أفهمه أنا من نصوص الدين لا تفهمه أنت ... إذن لا بد أن يحصل توافق وأن تكون الدولة هي أداته من أجل تحييد الدين من المنازعات الاجتماعية والسياسية، وعندما يتحول الدين للمنازعة الاجتماعية والمذهبية قد يكون سببا في انهيار الدولة؛ فالدولة تحمي نفسها بحماية الدين وتحمي الوطن والوحدة الوطنية والاستقرار الاجتماعي.
صابر مولاي أحمد: ما هو دور المثقف اليوم؟
عبد الإله بلقزيز: لدي رأي في هذا الموضوع كتبته في كتابي "نهاية الداعية" ودعوت فيه إلى أن يتوقف المثقفون عن أزعوماتهم وأساطيرهم وأوهامهم التي ينتدبون أنفسهم للدفاع عنها بزعم أنهم يحملون أدورا رسولية، ليس للمثقف دور رسولي؛ دور المثقف أن ينتج المعرفة. (ما سمي بالتزام المثقفين) ما معنى التزام المثقف؟ بمعنى أن ينتمي إلى حزب سياسي؛ أن يدافع عن قضية... إذا فعلت ذلك لا تفعله بكونك مثقفا، بل باعتبارك مواطنا؛ هذا حق من حقوقك كمواطن؛ مثلا "إنشتاين" حينما ينزل إلى المظاهرة لا تنزل معه الفيزياء؛ ينزل "إنشتاين" المواطن يناضل من أجل قضية ما. دعونا من عبارة الثقافة الملتزمة أكبر ما يمكن أن يلتزم به المثقف هو المعرفة؛ لأن هناك من لا يرغب بأن تكون المعرفة ملكا مشاعا للمجتمع؛ لأنه يتاجر بالجهل. دورك أنت أن تحاصر هذه الاستراتيجية بإنتاج المعرفة وقول الحقيقية أيا تكون نتائج قولك.
صابر مولاي أحمد: ماهي الثقافة التي ينبغي نشرها اليوم؟
عبد الإله بلقزيز: الثقافة النقدية بالدرجة الأولى؛ نحن راكمنا ما يفيض عن حاجتنا من اليقينيات والأوهام؛ التي لم نضعها يوما موضع فحص نقدي، آن الأوان أن نعيد النظر فيها.
كلمة أخيرة:
شكرا لكم
[1] الأصل في مادة هذا الحوار؛ هو حوار مصور مع الدكتور عبد الإله بلقزيز؛ سلسلة "حوارات في الفكر والرأي" الحلقة 13، وهي موجودة على الإنترنت؛ إنتاج مؤسسة مؤمنون بلا حدود.