حوار مع د. أحمد زهاء الدين عبيدات: النجماتُ الستّ هي قمة الإبداع والوصول لغايته...
فئة : حوارات
في متن هذا الحوار أطروحة حول الشرق والغرب والعلاقة الجدلية بينهما، لا سيما تلك المتعلقة بالإنتاج المعرفي، وضمن هذي وذاك انبثقت (النجمات)، وفي مدى ضوئها صنَّفَّ الدكتور "أحمد زهاء الدين عبيدات" (أستاذ الفكر في جامعة فرجينيا في الولايات المتحدة الأميركية)، المُنتج المعرفي شرقيًا كان أم غربيًا، بناء على ابتكاريته أو تابعيته، ومدى قدرة الفكر العربي من عدمه على الوصول إلى (النجمة السادسة)، بصفتها - بحسب تصنيفات عبيدات - ذروة النشاط الفكري البشري، والقدرة المتموضعة داخل النص المعرفي الحاصل على علامة هذه النجمة، لناحية تقديم خدمة جليلة للبشرية، بما يتجاوز الإطار الزمكاني الذي يتموضع به مُبدع هذا العمل الفكري.
*- معاذ بني عامر: أريدُ أن أبدأ معك من الخاص إلى العام، لكي نصل في هذا الحوار إلى خلاصات مفيدة، لنا أولًا وللقراء ثانيًا. أنتَ ابنٌ للشرق، لكنك تعمل في الغرب؛ هل أنت خاضع لهذه الثنائية، وهل تعيش هذه الثنائية على مستوى العقل أو القلب، أم إنك تعتبر نفسك جزءًا من إنسان مُتعدّد الحيوات، سواء أعاش في الشرق أم في الغرب؟ هل تُردّد بينك وبين نفسك تهويدة الحنين إلى الشرق، وأنت تضع رأسك على مخدة غربية، أم إنك معني بوجودك هناك، لناحية تطوير إمكاناتك المعرفية أكثر مما لو تواجدت هنا؟
**- د. أحمد زهاء الدين عبيدات:
1- هل هناك شرق وغرب؟ وما هو المختلف والمؤتلف في العالم الأكبر؟
لا شك أنه يمكن تقسيم العالم لأقاليم مناخية وحضارية وثقافية متباينة ومتضادة؛ فالعيش في كندا على درجة الخمسين تحت الصفر، في عزِّ الشتاء، ليس كالعيش في جزيرة العرب على درجة الخمسين فوق الصفر، في عزِّ الصيف؛ وهو أمر خَبرتُهُ في كلا الحالين! لكن يمكن النظر للعالم العربي والغرب بصيغة متحدة أيضا؛ فإذا عرفنا أن أوَّلَ انتقال للإنسان الصائد اللاقط قد تمَّ أولا في منطقة الهلال الخصيب، قُبَيْل عشرة آلاف سنة (والذي بدوره ولَّدَ أول حضارة مدينية، هي الحضارة السومرية قبيل خمسة الآلاف سنة)، عرفنا أن أرومةَ الحضارة في المتوسط، وجلَّ تفاريعها العالمية، منشؤها شرقي؛ فالكتابة سومرية، والفلك بابلي، والألف باء فينيقية، والفلاسفة الطبيعيون الذريون ما قبل سقراط هم مِن غرب الأناضول شمال الهلال الخصيب، والديانات التوحيدية سامية، والعربية هي توحيد لسامية الشمال الآراميةِ وسامية الجنوب الحميرية، والحضارة الإسلامية من بعدُ هي استمرار لكل ذلك، وتطويرٌ لديانات الساميين (يهودية ومسيحية)، من خلال قيم العرب وشعرهم. كل هذا بعد التوسع الإسلامي، أخذ يُدْغَم بتراث الثقافات الفارسية واليونانية-الرومانية (وما فيها من منطق أرسطي، ورياضيات أقليدية، وطب جالونيسي، وفلك بطلمي)، مع التوكيد أن هذه الأمهات الهيلينية ترجع في كثير من جذورها لمصادر بابلية – سورية – مصرية أصلا. هذه الحضارة العربية الإسلامية قامت بالهيمنة على شرق وجنوب المتوسط، فتسلل لعالم الظلمات في شمالِ المتوسط الأوروبي، المنطقُ والطبُ والفلك، لا بل وشِعرُ الغَزَل والرأسمالية والحمامات أيضا، عن طريق الأندلس وإيطاليا. هذا الغرب الذي كان بدوره ذو أصول شرقية هيلينية-مسيحية، التحم مرة ثانية بثقافة المتوسط العربية ليبزغ عصر النهضة الإيطالي؛ إذا، فمن خلال هذا التأصيل الحضاري للغرب والشرق في أرومة واحدة، هي أرومة الهلال الخصيب وشرق المتوسط، أرى أن ثنائية الشرق والغرب تنهار لدى التعمق التاريخي؛ فالغرب جلُّه شرقٌ، ولا يُستثنى من هذا إلا ظهور الثورة الديمقراطية والصناعية، وظهور الاستعمار الكوكبي. في هذه الأمور المعيَّنة، تُظهِر فرادة التجربة على طرفي الأطلسي عن أصولها في شرق المتوسط. لكن، وبما أن العرب واقعون تحت الاستعمار منذ فترة غير قصيرة، وبما أن أصول المعاش أصبحت متحدة بالكهرباء والنفط والأنترنت والتقنيات اليومية والطب ونظام المدينة العام، وبما أن اللغة الإنجليزية هي لغة الشبكية ولغة العلوم والتجارة، فيبدو أننا نعيش في نظام متقارب لحد كبير.
ومع إثباتي لبعض الفوارق، وتشديدي على كثير من الجوامع في الأصول القديمة والنتائج المستجدة شرقاً وغرباً، فإن الفارق الحقيقي في تقديري ليس بين الشرق والغرب أو الشمال والجنوب، بل بين الناس ذوي الأوضاع المالية الحسنة، وأولئك الذين يعيشون الكفاف؛ فالميسورونُ تتاحُ لهم فرصة السفر سنويا، والانبهار بالجبال والأنهار والغابات والزهور، وتذوق أطعمة العالم المختلفة، ولبس ملابسها، والتنعم بتقنياتها وسياراتها، والتشافي بدوائها. أما أهل الكفافِ ممن لا يملكون أيا من هذا، فهم الذين يعيشون عالم الحرمان والانحصار؛ فلا يفترق معاشُ الميسور البرازيلي عن التركي، عن العُماني، عن الأمريكي، إلا في تفاصيل بسيطة أو خصوصيات ثقافية، من جنس "إلا ما حرم إسرائيل على نفسه". العالم بالفعل صار قرية واحدة يتنعم بها الميسورون (من أولي المهن العليا أو الرساميل أو المناصب أو العصابات أو السلالات). ويشقى في هذه القرية -في غير دول الرفاهية- مَنْ هم دونهم في صحراء ينصلون بنارها، أو أدغال يذوقون لسع بعوضها، أو مخيمات ينحبسون في أسياجها، أو أرض صقيعية لا مجال لهم لمغادرتها، أو مناطق حروب تمتنع الدول عن قبول أهليها!
وهكذا يصير الحنين عندي، لا إلى بقعة في شرق أو غرب، بل نجاة من أوضاع تعيسة تكون في أي شرق أو أي غرب. والحق أني لا أحِنُّ لماضٍ بقدر ما أني أحن لمستقبل يكون فيه العالم العربي أعدل وأجمل وأنظف وأكثر تثقفا وتقدما، ولعولمة أكثر عدلاً واحتراماً للبيئة ولحقوق الإنسان وحق العربي في الوجود، لا بل وحق العالم الثالث في النمو.
*- معاذ بني عامر: وعليه، بناء على معطيات السؤال الأول: هل تعتبر البيئة العربية بيئة طاردة للإبداع والإنتاج المعرفي، لذا يتم الهروب إلى الحاضنة الغربية بصفتها أُسًّا جمعيًا يستلهم إبداعات الأفراد، ويصب في نهر كبير، أم إن الأمر غير ذلك بالمرة؟ والحال هكذا، هل وجدت في أمريكا تلك الحاضنة التي تستوعب ما تصبو إلى تحقيقه على المستوى المعرفي، وهل كان من الممكن أن يتغير ما تصبو إليه معرفيًا، في حال بقيت جزءًا من البيئة العربية؟
وهل مشروعك (خرائط المعرفة البشرية)، هو نتاج لمقدّمات وفّرتها الحاضنة الغيرية، ذاتيًا وموضوعيًا، أم إنه مشروع محض ذاتي، وكان يمكن لك أن تشتغل عليه في حال تواجدت هناك أو هنا أو حتى في كوكبٍ ثانٍ؟ وبالتقادم –ولكي تكتمل الصورة- هَلَّا حدثتنا عن إرهاصات هذا المشروع، والإمكان المعرفي الذي تنطوي عليه بنيته الأساسية؟
**- د. أحمد زهاء الدين عبيدات:
ما دُمتَ قد تفضلتَ بطرح سؤال بيئة الإبداع، فعليَّ أن أعرِّفَ هذا التركيب من خلال مفهوم "الإبداع" المعرفي أولاً، ثم طبيعة "بيئة الإبداع" ثانياً، وبعد ذلك يمكن أن أتحدث عن مشروع "خرائط المعرفة" كابتهال في محراب الإبداع المعرفي ثالثاً.
2- كيف نقوِّمُ الإبداع المعرفي ونقيِّمُه بشروط ثلاثة ومقياس سداسي؟
اسمح لي أن أعرض مِقياسًا ابتكرته، لعله يسهم في تأطير مسألة الإبداع في الكتابة المعرفية أو البحثية؛ وهذا المقياس أشبه بمقاييس نُقَّاد الأفلام، مُكوَّنٍ من ستِّ مراتبَ تبدأ بنجمة وتنتهي بستِّ نجوم، وهي غاية الإبداع ومنتهى كماله. لكن قبل أن أخوض في الإبداع في الكتابة المعرفية، فيجب أن أخوض في الكتابة التي هي دون الإبداع المعرفي، والتي لا تحوز أية نجمة؛ فمن المعلوم أن الكتابة العلمية أو الأكاديمية كتابة تتقيَّدُ بثلاثة مبادئ، هي الوضوح والمنطقية والواقعية أو قل البيان والعقلانية والحقائقية. وشرط الوضوح أولا هو بالنسبة لجمهور الحقل المخصوص بالطبع، حيث يُلِمُّون باصطلاحاته وموضوعاته ومنهجياته. ومن ثم، لا مكان في الإبداع للكتابات الإغماضية والتخليطية، ككتابات مذهب التفكيكية مثلاً. وكلما زاد وضوح النص لغير المختصين، كلما زادت القدرة التوصيلية للكاتب واتساع جمهوره. والوضوح ليس مسألة أسلوبية وحسب، لكنها برهان على أن الكاتب يعرف معاني الألفاظ التي يستخدمها، ويعرف مرجع المفاهيم ونطاقها وتداخلها مع مجموعات مفهومية أخرى، وصفا أو قيمة؛ فقد يتكلم المرء عن "الإصلاح الديني البروتستنتي"، ولا يدري معنى اللفظ الذي يستخدمه، ولا هو يتفكر في القيمة التي أودعها فيه المتحيزون له؛ فكالفن أحد رموز هذه الحركة مثلا، حكم في جنيف على الطريقة الوهابية، وكان من لا يصلي ويأتي للكنيسة يُطرد من العيش فيها، وللمخالفين السجن أو الإعدام. كما أن الحركة البروتستانتية سنة 1572، بالتعاون مع قوى أخرى، قامت بغزو روما ونهبها، وذبحت ألوفاً من الناس، وليطَ بالرهبان، واغتُصبت الراهبات والإناث من كل الأعمار، واستخرجت عظام القديسين من قبورهم حتى امتلأت روما بالجثث، كما يروي مؤرخ الأفكار بيتر واتسون في كتابه:
Ideas: A History of Thought and Invention, from Fire to Freud
ولا أدري أي "إصلاح" هذا، المقصود من استخدام لفظة "الإصلاح" من هذه الناحية على التحديد؟ ولماذا لا يُسمى "بالتمرد الديني على السلطة المركزية" مثلا؟ هذا التمرد البروتستنتي، هو الذي عزز القمع الكاثوليكي فيما بعد على كل أنواع التمرد، بما فيه محاكمة غاليليو. الوضوح إذاً، هو أن تكون الألفاظ والأوصاف والجمل دالة على مرجعها دلالة مضمونية وقيمِيَّةً صحيحة. ولذلك اختصت الكتابةُ العربية الجيدة بلفظ "البيان"، واللغة التي لا عِيَانَ فيها عَيِيَّةٌ عن البيان.
وشرط المنطقية ثانيا، هو أن تراعي الكتاباتُ عدم التناقض في خطابها. وهكذا، فلا مجال لكتابات أهل القصص الخرافية التي يناقض بعضها بعضا، أو كتابات السياسيين الذين يُقدِّمون الوعود، ومن ثم يُقْدِمون على الإتيان بنقيضها، دون حسيب أو رقيب. ولا مجال أيضا لأهل الفهوم الحرفية الذين تستوي عندهم العبارة المنزِّهَةُ "ليس كمثله شيء" مع العبارة المجسِّمَة في الحديث: "قَامَتِ الرَّحِمُ، فَأَخَذَتْ بِحِقْوَيِ الرَّحْمَنِ".ولذلك اختصت الكتابة العربية الجيدة بلفظ المنطق، كأنما اللغة التي لا منطق فيها ليست بِنُطْقٍ أصلا؛ أي أن العربيةَ ترى أن النطق الذي لا منطق فيه كأنه والخرس سيان، ذلك أن التصورات تتضح لدى المستمع إذا كانت متسقة لا تتناقض. أما المفاهيم المشوَّهة الحدود فلا تُعقل، كقول القائل: "لقد حصلنا الضرائب على أرباح الديون المعدومة للعام الفائت، كنوع من استثمار الفائض من العجز السنوي من مداخيل العام القادم". وجلي أنَّ ألفاظ هذه العبارة واضحة في ذاتها، ونحوها سليم التركيب، لكن مرجع هذه العبارة صعب التصور، إن لم يكن مستحيلا. فكيف يكون للديون الحكومية المعدومة أرباح عائدةٌ للحكومة؟ وكيف للعجز أن يكون له فائض؟ وكيف حصَّلنا في الماضي ما سيكون مدخولا في العام القادم؟
هذا مثال للكلام غير المنطقي، ومثله نصوصٌ في العربية، قديمها وحديثها الكثير!
والواقعية ثالثاً، هي شرط التزام شروط الواقع، واعتبار ظروفه، واجتناب الحيدة عنه؛ فمعالجة أمور في هذا العالم بالتحقق بأي مستوى من مستويات الوجود، هي التزام بالواقع الموجود. وبالتالي، فاجتناب الحيدةِ عن الوقع يُرهِّبُ من العلوم الزائفة؛ فلا مجال لكتابة السحر والشعوذة التي لا أثر لها في الواقع، سوى الإيهام والتشويش. والواقعية ليست سلبية بالابتعاد عن الوهم، بل وإيجابية أيضا ومثمرة، لأنها تبحث عن أسباب فاعلة كانت مستترة عن الناس، كاكتشاف البكتيريا والفيروسات، وقد كان الناس يظنونها أرواحا شريرة، أو اكتشاف أسرار تنمية الثروة أو استدامة المصادر البيئية أو أفضل التمارين لجسد قوي العضلات أو أحسن طرائق تربية التلاميذ؛ وكل هذه أمور تشنف الآذان. واعتبار ظروف الواقع، هو نزول عند شروط فن الممكن؛ فإذا كان مجتمعٌ ما لا يدرِّسُ إلا الذكور حصرا، فلا يتعصبنَّ مصلحٌ فيقول لن ندرِّسَ إلا الإناث مجتمعين مع الذكور. بمثل هذا التعصب نخسر تعليم النصف الأول على الأقل، والذي يمكن أن يمهد لتعليم النصف الثاني. وإلا خسرنا تعليم النصفين وهو أشد وبالا. والواقع، فوق أنه يُبعِدُ عن السراب ويقرِّب من الاكتشافات والممكنات، فإنه مثير وممتع للقراء بمشكلاته المعاصرة في الفنون البصرية، وشبكات التواصل الحاسوبية، والإحماء الكوكبي، وأمراض السمنة، والهِوَايات المستجدة من الغوص في البحار وتسلق الجبال وما شابه.
وجلي هنا، أني لا أخوض في شرائط الإبداع في الكتابة الأدبية، شعراً وقصصا، فتلك لها مَنْ يخبُر صناعتَها واستثناءاتِها ودخولها في العجائبيات والغرائبيات؛ فإذا حققتْ كتابةٌ معرفية ٌما الالتزامَ بشروط الوضوح والمنطقية والواقعية معا، جاز أن تبدأ بمراتب الإبداع، وإلا فلا. ولا يلزم بالطبع أن تتحقق هذه الشرائط على التمام، فمن ذا الذي يكتب كتاباً: 1- لا يشوبُه ضعفٌ في الاتساق الظاهر أو الخفي، 2- أو غموضٌ أَشكَلَ على القارئ العامي، وهو للمختصين جلي 3- أو استرسالٌ لا فائدة لها في الواقع أو مصادمة لفن الممكن. هذه آفات وهِنَاتٌ يعسُر الإفلات منها، وإلا صار الكاتب صنوا للإله في الكمال. لكن المقصود من اشتراط هذه الشرائط، هو تغيِّي الوضوح والمنطقية والواقعية كغاية صريحة للكاتب المعرفي، دون التقصد قصدا لإتيان: 1- الغموض العبثي المانع من التواصل اللغوي 2- والتخليط العقلي المانع للتصور والفهم 3- والمبالغة في الخيال أو الخرافة أو طرق مواضيع وهمية لا أثر أو نفع أو إمكان لها في الواقع. ومَنْ أتمَّ تغيِّي هذه الغايات على قدر الوُسْعِ، جاز له أن يرتقي في سلم الإبداع في نطاقين (الموضوع الجزئي أو الحقل المعرفي) بطبقاتٍ ثلاثةٍ هي (العرض أو التجديد أو التخليق) كالآتي:
فأما النجمة، فهي للإبداع على مستوى عرض الموضوع الجزئي. ومثال هذا طرق مقالة موضوع زواج القاصرات أو تخصيص كتاب للتعريف بماكس فيبر أو أغلوطة "اللجوء للسلطة" في الحجاج أو موضوع "الألفاظ الأعجمية" في القرآن. وهذه كتابات جزئيةٌ مفيدةٌ ولا شك، لأن من تظافرها وتكاثرها يمكن الكتابة عن حقول علمية أوسع وأكثر شمولا. ومع أن مجرد عرض هذه الموضوعات الجزئية عرضاً جيداً (أي واضحا ومنطقيا وواقعياً)، إلا أنه قد لا يكون في كتابتها أيةُ إضافةٍ للأقران من المختصين أولا، ولا حل فيه لإشكالات مزمنة في الموضوع المطروق. ومن ثم لا يرقى هذا النوع من الإبداع للحصول على أكثر من نجمة. وقد يُقال كيف للعرض أن يسمى إبداعا؟ أقول: لأن الكاتب فيها بذل الوسع في الوضوح والمنطقية والواقعية، وليست هذه الغايات بالأمر الهين! فكم من كتاب في النحو لا يكاد المرءُ يكمله لسوء عرضه؟ وكم من كتاب فلسفة تخرج منه بغير حكمة ولا منطق؟ وكم من كتاب في علم الاجتماع لا يُفهم أوَّلُه من آخِره؛ إذن، فالعرض الجيد محمود وله نجمة.
أما النجمتان، فالإبداع على مستوى عرض الحقل المعرفي؛ والإبداع هنا على خلاف الموضوع الجزئي في زواج القاصرات أعلاه، لموضوع "الزواج" بالمجمل، لا بل "الجنس" نفسه بكل -أو جل- تجلياته لكل الأعمار والطبقات والأعراق وأنواع التعاقدات، وما يجري لها من طلاق أو انحرافات أو تجليات عبر التاريخ، ومقارنته بين الشعوب، وما قيل فيه من شعر وأدب وقصص. وبالمثل، فكتابة كتاب يعرض "الأغاليط المنطقية" بجميع أنواعها وأسبابها وحلولها أو كتابة كتاب عن "علوم القرآن" (حقيقة ومجازا، مكيا ومدنيا، ناسخا ومنسوخا، ومحكما ومتشابها، وقصا ووعظا وتشريعا، قراءات وتجويدا، تفسيرا وتأويلا وترجمة)، هي من باب الكتابة الشاملة في الحقل المعرفي لعلوم القرآن. وهذه كتابات مفيدة ولا شك، وهي تصلح كمدخل للطالب الجامعي أو غير المختص الذي يروم تفهم علم من العلوم كمدخل للكتابة التاريخية أو مدخل لفن الإدارة أو علم الإحصاء. وجليٌّ أن كثيراً من الكتب الجامعية المملة والمقرفة في تناقضها، والمتقادمة في موضوعاتها العملية، خارجة عن الإبداع بالمرة. أما الكتابات التي تجاوزت هذه الآفات، فمجرد عرض الحقل الواسع عرضا جيدا (أي واضحا ومنطقيا وواقعيا)، لا إضافة فيه لجديد للأقران من المختصين، ولا حل في فيه لإشكالات معينة، لا يرقى للحصول على أكثر من نجمتين. وهكذا، فالكتاب الجيد للأستاذ ثاولس "التفكير المستقيم والتفكير الأعوج" مثلا، أو كتاب محمد أبو زهرة "القرآن المعجزة الكبرى"، لا يغادران مستوى النجمتين، على ما فيهما من نفع تعليمي كبير.
أما النجمات الثلاث، فهي للإبداع لا بصيغة العرض، بل بصيغة تجديد الموضوع الجزئي. ومن الجلي، أن الكتابة عن زيارة باريس مثلا، هي موضوع جزئي لا يشمل تاريخها عبر العصور، ولا طبيعتها الجيولوجية في فرنسا وأوروبا عموما، ولا معمارها ومناخها وتضاريسها. لكن "تخليص الإبريز في تلخيص باريس" للطهطاوي، معالجة مبتكرة في سياقها ولا ريب. وإنها، وإن كانت جزئية لا شمول فيها، إلا أن هذه المعالجةَ أسلوبٌ مبتكر في تناول الموضوع، يزيد على أسلوب الرحالة القدماء ليكون بحثاً أنثروبولوجياً وسياسيا وثقافيا رائقاً، لم يَسبِق الطهطاويَ فيه مجايلُوهُ وأهلُ عصره؛ ولذا يحقُّ له أنْ يأخذ نجوما ثلاثة على مثل هذا الكتاب، وكذا كتاب "طبائع الاستبداد" للكواكبي الذي طرق مشكلة ظلم السلطة والنفاق الاجتماعي، بغير شمول لكامل أركان الظلم وتاريخه أو مقارنته مع الظلم في شعوب أخرى، وطرح تصور فلسفي للعدالة، إلا أن الكواكبي أبدع في تجديد تناول هذه المسألة الجزئية في أواخر الحكم العثماني، ويستحق نجمات ثلاث بحسب هذا المقياس.
أما النجمات الأربع، فهي للإبداع على مستوى تجديد الحقل المعرفي. وهكذا، فكتاب "نقد العقل العربي" لمحمد عابد الجابري، بمجلداته الأربعة، وفي شموله لأبعاد فلسفية ومنطقية وفقهية وصوفية وسياسية وأخلاقية، في إطار تاريخي، هو عمل جبار ولا شك. وبما أنه جاوز بشموله هذا تناول الإشكالات الجزئية، ودمج عدد من الحقول المعرفية، وقيامه بالتجديد من ناحية التقسيم. والغاية من تناول كل هذا، لهو أمر يحوز فيه الجابري على أربعة نجوم في الإبداع. وقلما تجد كُتَّابا في العالم العربي المعاصر، ممَّن بلغوا هذه الرتبة، مع كل ما ناله الجابري من نقد من معاصريه، كطرابيشي وطه عبد الرحمن. لكن الإبداع شيءٌ، وتمام الصواب شيءٌ آخر؛ فالمبدع يجددُ في الحقل، ويأتي من بعده المجايلون أو التلاميذ يجوِّدون البناء تصحيحا وتصويبا، ذلك أن المبدعَ هو من سبق لتعمير البناء أولا، ووضع أساساتِه. وأما من يطلب العصمة للإبداع فهو واهمٌ؛ فمن ذا الذي قدم فرضية أو نظرية لا تجد لها نقداً أو تعديلا أو نسخا عبر التاريخ، منذ السومريين إلى يومنا هذا؟
أما النجمات الخمس، فهي بحسب هذا المقياس للإبداع، لا على مستوى التجديد، بل تخليق الموضوع المعرفي. وهنا، وإن كان الموضوع المعرفي جزئيا لا يشتمل على الحقل المعرفي كاملاً، إلا أن تجاوز مستويي العرض أو التجديد صعوداً إلى مستوى التخليق الذي لا سابق له، هو أمر أشدُّ إبداعاً. ومثال هذا عندي، كتاب "الرسالة" للشافعي، حيث قام بتخليق أصول الفقه من لا شيء، وهذا عمل ذهني جبار. ومثال آخر، هو ابتداع عِلم العروض للخليل بن أحمد الفراهيدي، أو كتاب "الجينة الأنانية" لرتشارد دوكنز، حيث نبه لفكرة عجيبة هي فكرة "الميمات" المصاحبة للجينات عند الإنسان؛ وهي استعارة تشبِّهُ الأفكارَ الثقافيةَ بالجيناتِ التي تنتقل بين الأجيال بالتعليم، كأنها وراثة لجينات غير مادية لها حياتها الخاصة، صراعا واصطفاءً وبقاءً!
وأخيرا، فالنجماتُ الستّ هي قمة الإبداع والوصول لغايته، وهذا يكون على مستوى تخليق الحقل المعرفي الشامل، بتخليق جُملة من الموضوعات الكبيرة في منظومة شاملة مترابطة ومتسقة؛ ومثال هذا، كتاب "المنطق" أو "الأورغانون" لأرسطو، حيث سبق لتأسيس حقلٍ معرفيٍ شاملٍ، فوضع أصوله، ورتب أبوابه، وتبعته البشرية في هذا، لا تغير أو تزيد كثيرا مدة أربعة وعشرين قرنا، حتى بزغ المنطق الرياضي والمنطق متعدد القيم، وكلاهما من مختَرعات القرن العشرين. وهنا لم يخترع أرسطو موضوعا واحدا في المنطق، كالتناقض أو الاستنتاج أو الاستقراء، بل ما هو أوسع من هذا بكثير، بل شبكة متفاعلة ومتراتبة ومتسقة من الموضوعات، أو قل خلَّق أرسطو حقلا معرفيا متكاملاً. وفي النجمة السادسة أيضا، "ديوان العِبَر" أو "مقدمة ابن خلدون" في شموله لعلم الاجتماع الجغرافي والبيئي والاقتصادي والسياسي والديني والثقافي في حدود عصره، في سابقة لا مثيل لها في التاريخ العربي أو الغربي، لا من قبله ولا من بعده، ربما حتى نهاية القرن التاسع عشر، ببزوغ ماركس وماكس فيبر! وفي الفترة المعاصرة يكون "أصل الأنواع" لداروين أو تراث بيرتراند رسل في تحليله (للعقل والطبيعة واللغة والأخلاق والدين والسلطة)، في جملة كتبه في المرحلة المتأخرة ممن بلغوا هذا التخليق الحقلي العظيم. ولذلك وحدَهم مُخَلِّقو الحقول مَنْ يصيرونَ عَلَما على المذاهب الكبرى، فنقول العالمُ فلان أرسطي المذهب أو شافعي، ماركسي التصور أو دارويني، تحليلي المنهج أو براغماتي، لأن هؤلاء العباقرة يشغَلون من بعدَهُم من الأتباع في الإبداع على موضوعاتهم وحقولهم، عرضاً وتجديدا، حتى يحين دورُ نسخ حقلهم بحقل آخر جديد. وهذا أمر قد يطول زمانه؛ فابتلاع منطق أرسطو بأصول جديدة وآليات مختلفة لم يتم إلا بعد مرور ثلاثة أو أربعة وعشرين قرنا! وما زلنا نحيا بركاناً من الحدوس الداروينية لما تنقطع بعدُ. ولقد انبنت على حقل دراوين تفاصيلُ علمِ الجيناتِ من بعد، لتزيد داروين توكيداً، لا بل وتفرعت عن الداروينية علومٌ وموضوعاتٌ متكاثرة كعلم الأخلاق التطوري، وعلم النفس التطوري، وعلم الجمال التطوري، وعلم اللغة التطوري، ونكات عجيبة في لطفها وقوة استدلالها، لم يترجم إلى العربية منها إلا النزير.
وبالطبع هذا لا يعني أن الإبداع في مرحلة تخليق الحقل لا يُسائل نفسَهُ، فيحتفل بالعصمة الخرقاء! بلى، فالتخليق الحقلي كما يظهر من تاريخ المعرفة يراجع شروطَهُ ذاتَها (وضوحا ومنطقية وواقعية)؛ فالوضوح أولا بدأ: 1- بالجُمَلِ الواضحة والفقرات المتسلسلة، فتتطور ليصير. 2- وضوحا من خلال البُنيات الواضحة للكتاب بأكمله، جُملاً وفقراتٍ وفصولا، حتى لتجد قضايا الكتاب الواحد مرقمة من أولها لآخرها، في طريقة تشجيرية محكمة البنيان على ما يصنع طه عبد الرحمن ومحمد مفتاح، مقتدين بفتغنشتيان والرياضيين عموما، لتنتهي طريقة الوضوح اليوم. 3- لإيراد الرسومات التوضيحية، والشبكات الفكرية، والجداول الاحصائية، والمنحنيات البيانية، على ما يصنع نبيل علي صاحب "العقل العربي ومجتمع المعرفة". وشرط المنطقية ثانيا، حصلت فيها المراجعة أيضا؛ فقد بدأ هذا الشرط بمنطق أرسطو الصوري، لندخل اليوم إما: 1- تجوُّزا وعَمَلانية في الاستخدام الطبيعي للغة، جدلاً وسردا، حسب مقامات البلاغة والتأثير، أو 2- للاستخدام الصوري غير المألوف من ناحية المنطق الغائم، والمنطق متعدد القيم. وفي تلك التداولية أو هذه الصورية المعقدة، ليس هذا ولا تلك خروجا عن المنطق، بل توسيعاً له بظواهر إدراكية أو طبيعية أو تداولية أكثر تعقيداً، لكنها لا تخلو من جنس من العقلانية التي تضبطها. والواقعية ثالثا، مع تطور نظريات الاحتمال، لا تطالب دوما بتحديد سببية حاسمة وحتمية قاطعة، بل باحتمالية ذات نسبة معينة تصاحبها نسبةٌ أخرى، تقع فيها الاحتمالية المعاكسة. وهذا ليس خروجاً عن الواقع، بل هو مجاراة لطبيعة الواقع كمونا وظهورا وتعقدا في اعتماده على جملة من السببيات المتكاثرة.
والحاصل مما سبق، أن خالق الحقل المعرفي هو خالق شجرة، وخالق الموضوع هو خالق فرع في هذه الشجرة؛ ففازا بالمرتبتين السادسة والخامسة على الترتيب. أما مجدد الحقل أو مجدد الموضوع، فهما لا يقتويان على التخليق، لكنهما يقومان بأخذ فروع أو جذوع، فيعيدان استزراعها في تربة جيل جديد من القراء والدارسين، في سياق مستجد من النوازل والحادثات، فكان لهما المرتبتين الرابعة والثالثة على التعاقب. أما عارض الحقل، فهو من يعتني بالجذع بعد ذوبان الخريف وتجدد الفصول. وعارض الموضوع يرعى ويقلِّمُ الفرع الجزئي كل ربيع، فنالا المرتبتين الثانية والأولى على التوالي. وهكذا، فهما لا يخلقان فريدا ولا يزرعان جديدا، بل يرعيان المزروعات الموجودة. وهذا عمل شريف ولا مراء.
هذا المقياس يحلُّ إشكالاً عربياً معاصرا، وهو دعوى "غياب الفيلسوف العربي". والمتأمل في المقياس السداسي يرى هذه الدعوى فاسدة جدا، ذلك من خلال تطبيق المراتب الستة على الدعوى: 1- فهل هو غياب للفيلسوف العارِض للموضوعات أو الحقول؟ وهذا مردودٌ لوجود عارِضِين (واضحين ومنطقيين وواقعيين) كُثُرٌ للموضوعات، من أمثال توفيق الطويل في كتابه عن جون ستيورت مل، وعارضين للحقول من مثل محمود فهمي زيدان في فلسفة اللغة. 2- فهل هو غياب للفيلسوف المجدد للموضوعات أو الحقول؟ وهذا مدحوض أيضا لوجود مجددين في الموضوعات ككتاب ناصيف نصار "منطق السلطة"، ومجددين في الحقول ككتاب "الفلسفة والترجمة" لطه عبد الرحمن. 2- فهل هو غياب للفيلسوف المخلِّق للموضوعات أو الحقول؟ ولا شك عندي أن روح الحداثة لطه عبد الرحمن، هو تخليق لموضوع ثقافي فكري عجيب، مع كل ما يرد عليه من انتقادات. لكن لعل العرب المعاصرين عجزوا عن إنجاب الفيلسوف المخلِّق للحقول من رتبة الألماني كانت في الفلسفة النقدية، أو الإنجليزي برتراند رسل في الفلسفة التحليلية، أو الأمريكي وليم جيمس في تأسيس علم النفس. لكن السؤال المهم، هل مثل هؤلاء مَنْ يتكرر مرارا في الغرب نفسه؟ هل نيتشه ينال أكثر من ثلاث نجمات للتجديد في موضوعة الأسلوب الشذري؟ وهل فوكو ينال أكثر من ثلاث نجمات مقارنة بأقرانه من المؤرخين العظام، للتجديد في موضوعة التاريخيات (مع كل النكات السوداء التي ترد عليه غموضا ولا منطقية ولا واقعية)؟ لا شك أن كثيراً من الأسماء الفلسفية المتداولة لا تُعتبَرُ مُخلِّقَةً لحقولٍ البتة، ولذلك لا يُحكَمُ على مبدعي الغرب بغير ما يُحكَمُ به على مبدعي العرب.
وأما من لا يهتم بالواقع أولا، فلا شأن له بالزارعة وإنتاج الثمر العملي، ومن كان لا يرقُبُ المنطق ثانياً، فلا شأن له بتناسق الأغصان، وقيام أعلى الشجرة على أسفلها، وتدرجها في الحجم، حتى تستقيم في مقاومة الرياح. وأما من كان لا دراية له بالوضوح ثالثا، فهو كمن ينثر الأشواك وأكياس القمامة على شجرته، ولا يقلِّم أغصانها لتتشابك، فينحجب جمالها وماهيتها، فتعدم ثمار معناها، ولا تصلها أشعة ذهن القارئ. وهكذا، فالإغماضي واللامنطقي واللاواقعي، مجتمعين، لا شأن لهم بالزراعة والإنتاج المعرفي أصلا، وحريٌّ بهم أن يأخذوا نِكاتا سوداء، كلٌّ على قَدْرِ الشَّناعة التي يأتيها أحدهم. وهكذا، يجوز لنا أن نضع ترتيبا سداسيا أيضا، يرتِّبُ الكُتاب في تسافلهم وانحطاطهم في منع الناس من التعلم، وتخليط عقولهم، وتشبيعها بالمعدومات والخرافات. وهكذا، فلمُشوِّهٍ في عرض الموضوع الجزئي أو الحقل اجتزاءً وسآمةً وإغماضا النكتتانِ الأولَيِتانِ سواداً؛ ولنافِث الأغاليط أو الأكاذيب في الموضوع الجزئي أو الحقل، النكتتان التاليتان سوادا؛ ولهادم الموضوع الجزئي أو الحقل بغير وجه حق، النكتتان الأخيرتان سوادًا! وكتابة ككتابة فرويد مثلا، في العقدة الأوديبية على التحديد، هي معارضة صريحة للواقع كما يدرُسُه علم النفس التجريبي (هذا مع التسليم لفرويد بالإبداع في موضوع اللاوعي والكبت والسعي لاستنطاقهما). ومثل فرويد في العقدة الأوديبية كتبُ معجزات الأولياء وآل البيت، وهي أكاذيب صريحة للواقع. وكتابةٌ ككتابة هايدغر في كتابه "الكينونة والزمان" أو "طلاسم السحرة"، هي مثال في غاية الغموض والكمادة. وأما فتاوى الشيوخ المكثرين ورؤساء الأحزاب، فحدث عن تناقضها وتناقض ما يلزم عنها!
3- ما هي عوائق الإبداع المعرفي؟ وما هي الأمية؟
عطفاً على سؤالك حول البيئة الإبداعية الجاذبة أو الطاردة من الإبداع، فهذا له عندي رؤية تفصيلية أخرى؛ فإذا سلمنا بالمقياس السداسي للإبداع الذي قدمتُ أعلاه، فلا يَبْعُدُ أن العالم العربي في تراثه الطويل، قد قدم منجزات حازت جميع المراتب من الرسائل الصغيرة ذات النجمة الواحدة لمقدمة ابن خلدون ذات النجوم الستة. أما العالم العربي المعاصر، فلا أظن أنه عجز عن بلوغ الرتبة الرابعة، فكتاب الجابري بالفعل، أو كتاب فقه الفلسفة لطه عبد الرحمن (والذي إذا ما اكتمل سينزل في هذه المرتبة). ولعله قد غاب عن علمي وجود عرب كُثر يخلقون موضوعا معرفيا ليحوزوا النجمة الخامسة، لكني أستبعد وجود عربي معاصر قد حاز نجمة سادسة، لأنه لو حدث هذا، لكان هذا المبدع على علم كبير بالواقع المعاصر، والذي يهيمن عليه العِلم الغربي عموماً؛ فإن فعل عربي هذا، فسيدخل في نقاش مع النصوص الغربية مباشرة، مؤسِّسًا لعلم اقتصاد أو سياسة أو علم نفس أو كيمياء جديد، وهو ما لا أظن أن أحدا من العرب المعاصرين قد أقدم عليه. طبعا هذا لا يقدحُ في العالم العربي كبيئة من هذه الناحية؛ فمن ذا الذي زاد حقلا مستجدا فوق علم الفيزياء منذ آينشتاين؟ أو من ذا الذي أحدث ثورة في علم النفس التجريبي منذ وليم جيمس وهومبلت؟ الحاصل أن مستوى النجوم الستة عزيز ونادر حتى في البلاد الغربية نفسها، لأن صاحبه يصير بمنزلة الأنبياء الذين انكشف لهم ما لم ينكشف لأحد من العالمين؛ وهذا الانكشاف هو ثورة معرفية لا تحدث إلا بين حقبة وأخرى ذات أمد طويل.
لكن آفة العالم العربي الكبرى، في تقديري، أن الإبداع يحارَب من ثلاثة وحوش هي: 1- السلطة 2- الجماهير 3- المعاش اليومي للمبدع. وليس هناك من مكانٍ في الأرض، فيما أعلم، يتاح فيه الإبداع بكل تسهيل، دون أي من هذه العقبات. لكن زوال واحد منها وحسب، يفتحُ كوّةً كافية للهروب من سجن الاجترار والظلامية؛ فمعلوم أن بريطانيا مثلا، دولة رأسمالية، تقاوِمُ فيها السلطة الحاكمةُ فكرةَ الاقتصادِ الشيوعي؛ وهكذا فالمعارضةُ في أمريكا للشيوعية لا تقتصر على الحكومة، بل وعلى الجماهير التي تشبعت بكراهية الشيوعية، نظراً للخصومة التي وقعت أيام الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي. لكن وإن تحققت المعارضة من جهتين، سلطوية وجماهيرية في أمريكا، فإنك تجد دور نشر تطبع للكاتب الشيوعي، أو تأخذ له مقالات أسبوعية، أو تُصدر له فيلما في سياق شيوعي ما، مما يوفر للمبدع في هذا السياق معاشا يؤمِّن فيه قوته وقوت أهله؛ فإن كان هذا حال الشيوعيين أو الفوضويين، فما بالك بمن كان لهم معاداةٌ أخفُّ من قِبَل الحكومة والجماهير، شأن حُماة البيئة والاشتراكيين، ودعاة حماية حقوق العمال أو شعوب العالم الثالث. أولئك لهم قبول وفُسحة معاشية أفضل ولا شك. أما إذا امتنعت أبواب المعاش، فقد صار الإبداعُ شجرا محروما من الماء، فلا تلبث شمس الضرورات تحرقها حرقا، فتذروها الرياح.
العالم العربي منذ الاستقلال، استبداديٌ في الجملة في أنظمته الملكية، وأقرب للفاشية في أنظمته الجمهورية؛ فأي إبداع سينتج في إدارة الثروة أو المشاركة في إدارة السلطة، عندما تكون أية كلمة تطلبُ الحقَّ يتبعها جلدٌ وحبسٌ واغتصاب للمحارم؟ أما جماهير أمة العرب (على ما يُستثنى منها من شباب واعد وطاقات هادرة وعقول كهلة هادئة رزينة)، فهي أقرب للأمية في الغالب. والأمية -ما أقبحها- عندي على مراتب: فالقارئ لعلامات الطرق، والمكونات الغذائية لقطعة الشكولاتة، والمستكفي بذلك طرّا، هو أميٌّ في عالم المقالات فما فوق. وأما العاكف على المقالات الصحفية، غير المجاوز لها، فهو أميٌّ في البحوث العلمية. وأما العاكف على البحوث، غير المجاوز لها، فهو أميٌّ في عالم الكتب. ومع أنه يمكن لقارئ البحوث، من ناحية المقدرة، أن يقرأ كتابا، لكن إذا لم يكن عنده دربة وكفاية وخبرة في إنهاء كتاب للدخول في غيره؛ فهو عاجز فعلا، وإن كان قادراً على القراءة بالقوة! والقارئ للكتب، غير العاكف على كتابةِ مقالاتٍ أو فصولٍ أو كُتبٍ، هو عاجزٌ في الإنتاج الكتابي، وإن بلغ الغاية في الاكتساب المعرفي.
وهكذا؛ فكثيرٌ من الجامعيين العرب لم يكتبوا بحثاً واحدا في حياتهم، لا بل إن بعضهم لا يحسن كتابة المقال القصير! وكثير من الجامعيين العرب لم يقرؤوا كتابا واحدا خارج المنهاج. وإذا نظرنا للتراتبية في الذكاء والتحصيل العلمي، حيث يتربع أهل الطب والهندسة والتجارة في أعلى سُلَّم القبول الجامعي العربي، وإذا عرفت أنهم يقرؤون ملخصات مستنسخة من محاضريهم، أو فصولاً مصوَّرة مجتزأة من الكتب لا يُتمُّونها أصلا، أصابتك صعقة في كون أعلى السلم الجامعي يعاني من أمية الكتاب! ولذا تنفرُ الجماهير العربية عموما من الكتاب، على قدر زيادته في الإبداع؛ ذلك أنه كلما زاد الإبداع، زاد طولُ الكتاب وسعةُ معلوماتِه، وتعقَّدت استنتاجاته ومقدارُ الجهد المطلوب في مدارَسَتِه وتفهمه. ولذلك لن تجد الكثير من الجامعيين العرب قد قرؤوا "ديون العبر" لابن خلدون، وربما ستجد أقل من هؤلاء ممَّن قرؤوا "أصل الأنواع" لداروين؛ ومن ثم، فكل نجوم الإبداع وشموسه ومجراته وأكوانه، هي عالم خفي محجوب لا قيمة له. أما الجماهير دون مستوى الجامعات، فأمرهم أنكى وأمرُّ. ولذا، فلو أثرتَ الحديث عن تحسين في علاقة الرجل بالمرأة أو حظر لسموم التدخين أو التخفيف من السكر والدهنيات في الطعام اليومي، فستواجَهُ بمقاومة جماهيرية ماحقة.
لكن وللحق، فإن وحش السلطة وجلافة الجماهير أمام الإبداع تهون أمام توحش المعيش. وهنا مربط الفرس؛ فالثقافة في العالم العربي ليست جزءًا من عجلة الإنتاج المعاشي، كما هي في الغرب فنا وأدبا وتقنية وجدالا لإدارة المجتمع؛ فالمؤرخ العربي يعسُر عليه أن يعيش من كتابه، لأنه يعلم أن بيع 3000 نسخة في عشرة أعوام من كتبه لأمة تفوق 330 مليون لن يوفر له ما يكفي من الطعام؛ فما بالك بالأستاذ الجامعي الذي ينهمك في تدريس أربعة صفوف في الفصل الدراسي، بما فيها من تصليح لمئة أو مئتين من امتحانات الطلبة أكثر من مرة، فلن يجد في الكتب أو البحوث التي ينتجها شيء يعوِّلُ فيها على معاشه، بل ولن يجد الوقت للبحث العلمي. وكذا المهندس العربي في الغالب، لا يجد مستثمرّاً يموِّلُ مخترعاتِه، فيقيم له مصنعا يسوقها، حتى تندغم فائدة الرأسمالي بمنفعة المهندس المطوِّر للتقنيات. وهذا الاندغام التقني-التجاري بالمناسبة، هو سر ظهور الثورة الصناعية للتحالف الحاصل بين البرجوازية والمتعلمين.
ولا شك أن تقدماً قد حصل في المطبوع العربي والإنتاج الصحفي والفيلمي منذ العولمة، إلا أن أيَّ تفجر للإبداع العربي وإخراجه من جدران سجنه الثلاثية (سلطة وجماهيرا ومعاشا)، في تقديري، مرهون في توفير المعاش المحترم للمبدعين أولا. فإذا توفر المعاش للمؤرخ العربي، ولخبير التنمية، وللعالِمة النفسية أو المخترع الميكانيكي، لانت الجماهير مع طول توعية ونقاش. وإذا وعت الجماهيرُ، جاز لها أن تُغير السلطة سلميا وتدريجا، أو بجدع أنوف المتسلطين. وإذا لانت الجماهيرُ وغيَّرتْ السلطةَ، انهارتْ سدودٌ تحاصر الإبداع، فبزغ طوفان معرفي هادر كالذي حدث مع الألمان بُعيد أيام بسمارك، أو مع الأمريكيين بُعيد الحرب الأهلية. وهذا الطوفان بعيدٌ عن العرب في القريب العاجل.
لكن الأقرب والأسرع من بلوغ الطوفان الإبداعي (من خلال تليين الجماهير وتغيير السلطة)، هو تأمينُ المعاش للمبدع أولا، ولهذا عندي طرق؛ فإما أن تتبرع ثلة من الشباب الواعي باشتراكات شهرية صغيرة، تُودَعُ لصالح الباحثين الذين يجيبونهم على أسئلة تؤرق أرواحهم أو عقولهم أو مجتمعاتهم. وهذا ليس ببعيد إذا ما نظرت إلى حجم وعدد المساجد أو الكنائس التي أنشأها الناسُ من تبرعاتهم، وهم على ما فيه من فقر. فلا بأس أن ينتقل العربُ اليوم لتأسيس مساجد العلم والمعرفة، من خلال دور النشر ومنتديات المطالعة. والطريق الثاني لدعم معاش المبدع، هو أن توقَفَ وقفياتٌ بعيدة عن عسس السلطة، ولغط الجماهير، لمن يطرقون الإبداع بكل مستوياته. وهكذا تدعم هذه الوقفياتُ السنوية أوائل التخصصات، وإرسال المبتعثين للخارج، وجوائز سنوية لمخترعات مناسبة للمناطق المحلية، كتحلية المياه، أو تكرير المخلفات، أو علاج المدخنين. ولابد من طرق أخرى، يمكن للمبدعين من فوقي، الزيادةُ فيها على ما اقترحتُ، لكن الاقتراحين المذكورين قد يكون فيهما أول الطريق لتوفير معاش لخلق بيئة إبداعية تُدخِلُ المبدعَ عجلةَ الإنتاج المعاشي، فتسقي غضاضة شجره.
ولأجل هذا التشخيص لعلاقة الإبداع باقتصاديات المعرفة والسلطة، تراني غادرتُ سجناً وجدتني فيه، لا غير قادر على الإبداع لضعف التعليم البحثي المعمق في جامعات الأردن، بل غير قادر أصلا على شراء الكتب! وأية شجرة هذه التي ستنمو إذا انعدم الماء!
4- ما هو مشروع خرائط المعرفة؟
السؤال عن خرائط المعرفة هو فرع عن إرادة بلوغ عالم أفضل، والاقتراب من الإبداع في سؤاليك السابقين. ولطالما تغنى الإسلاميون والحداثيون في أيامنا هذه بسؤال الواقع؛ فعند الإسلاميين جلُّ مشكلات التراث لا تقبع في تراث الفقه والعقيدة والتصوف، ذلك أنها صحيحة في أصولها، لكنها لا تتناسب لغة وتطبيقات مع تكييف مناسب "للواقع". وبالمثل، فإن الحداثيين العرب (قوميين وليبراليين وشيوعيين وفوضويين)، وإن تباينت أهدافُهم، يرومون ذات الهدف؛ وهو الانغماس في شروط "الواقع" المعاصر والتنعم بمنجزاته. وبما أني ابن للصراع الإسلامي الحداثي صباح مساء، فقد رُمْتُ بكل ما أوتيت من إخلاص وعزيمة، أن أعرف هذا الذي يسمونه "الواقع"، وهنا بيت القصيد.
"الواقع" كما هو عند الإخوان المسلمين، لعله يقف عند حدود الاطلاع على الأخبار، من خلال الوسائط الإعلامية المألوفة، على ما فيها من كذب وتدليس! ولذلك تتعجب من كتاب محمد قطب "واقعنا المعاصر"، والذي لا يقف عند حقيقة بسيطة، أن العالم العربي من محيطه إلى محيطه، إبان الهجمة النابليونية، لم يكن يجاوز الملايين العشرة، بينما كانت بريطانيا لوحدها تحوي 11 مليونا، وفرنسا تحوي 29 مليونا. إذن؛ فالقوى الغربية مجتمعة كانت تحوي من العساكر أضعافاً مضاعفة عما في العالم العربي ومَنْ فيه من بدو وفلاحين، وبعض المتمدنين. وإذا عرفنا أن دولتي الإنجليز والفرنسيين (وهما أصغر مساحة من جزيرة العرب) تفوقان عدد العرب أربعة أضعاف من المحيط إلى المحيط سنة 1800م، عرفنا أن العالم العربي يعيش أزمةً عظمى؟ وانكشف لنا سر حصول الاستعمار وسرعة نجاحه!
وليست هذه الأزمة العظمى سوى أزمة التصحر، وضعف الإنتاج النباتي والحيواني المفضي لنقص القدرة على إطعام السكان؛ هذا النقص السكاني جاء سابقا أو لاحقا أو متزامنا مع تدهور في هندسة الريِّ، ومستوى الإنتاج في الحرف النسيجية والتعدينية والخشبية والعسكرية والدوائية والغذائية، بعد الغزو المغولي والصليبي والأندلسي؛ هذه الغزوات التي أدت أو تزامنت مع انهيار الشبكة الإدارية والمراكز الحضرية من بغداد لقرطبة. ولا عجب إذْ أنه بتناقص السكان والثروات تضمحل صناعة الورق والكتب والتعليم والجامعات والمستشفيات والثقافة عموماً، أو قل يضمحل العُمران. ولا غرابة أن أول طباعة لمقدمة ابن خلدون من عالم المخطوط كانت في تسعينيات القرن التاسع عشر، على ما يروي ماجد فخري، لا بل إن تدريس الفلسفة في مصر قد جاء مع بواكير القرن العشرين. كيف لا، وجل السكان العرب هم من أهل البادية والريف؛ فماذا يصنع الأميون بالكتب والمكتبات؟ أما عن الأميات، فهذا حديث أدهى وأمرّ!
ومادام محمد قطب وأتباعه الكثيرون يجهلون هذه الأزمة العظمى في استكشافهم "للواقع"، فأين هذا الواقع من تعليلهم لضعف الأمة بضعف التدين و"جاهلية القرن العشرين"؟ لا شك أن هذا تعليل لا صلة له بما حدث تاريخيا؛ فهل كشف لنا عن هذا "الواقع" بعض الحداثيين العرب؟ والحق أن: 1- المؤرخ عبد العزيز الدوري أو 2- الاجتماعي حليم بركات أو 3- الاقتصادي سمير أمين أو 4- مؤرخ الأفكار أحمد أمين أو 5- الفيلسوف عبد الرحمن بدوي أو 6- المنطقي زكي نجيب محمود أو 7- الناقد الأدبي إحسان عباس، قد قاموا بنقل الثقافة العربية نقلةً هائلة لواقع أكبر سِعَةً وثراء، لكن للأسف ذَوتْ زهرة علومهم من بعدهم بغير مضاعفة أعدادهم، والاستمرار في طريقهم البحثي المنتِج! ولهذا أسباب كثيرة، أولها تدهور التعليم المدرسي والجامعي بعد انسحاب الدولة من الوظيفة الرعائية، ودخول الخصخصة والمحسوبية الحكومية درجة عظيمة من الفساد منذ العولمة. اليوم يظهر علينا بعض الحداثيين العرب بالبنيوية والتفكيك والفينومينولوجيا والعبثولوجيا ليرموا الواقع في غياهب اللغة الغامضة، والاستدلال السقيم، والموضوعات التي يكذبها الواقع العلمي؛ فكيف يكون هناك "واقع" يمكننا دراستُه واستكشافُه وإصلاحُه، وفي زعمهم، وقد تحطم العقل، وانمحت الموضوعية، وصار العلم اختلاقا أو أيديولوجيا للبرجوازية المتأخرة، وانمحى كل أساس للفضيلة، وسقطت المرويات الكبرى! كيف لمن يدعي عبثية النهضة أن يقوم بنهضة؟ الحاصل أن كثيرا من الحداثيين العرب في هذه الأيام ليسوا بأقل ظلامية من الإسلاميين. لا بل إن بعض الإسلاميين يتغيرون ويتطورون، والحداثي عاكف على نصوص الخرافة من الوجودية السارترية والتفكيك والفينومينولوجيا.
هذا الظلام المطبق إسلاميا وحداثيا هو الذي أوقعني في عماوة كبرى قبيل تخرجي من درجة البكالوريوس. فالواقع وراءه سدود وسدود أمام الإسلاميين، والواقع أيضا محجوب أمام الموجة الكاسحة لما بعد الحداثيين العرب. لكن مع هذا -ويا للعَجَبِ- فالواقع هو المطلب لكليهما! فقلت في نفسي إذ ذاك "اليوم عماءْ وغدا ضياءْ". لذا صار لزاما عليَّ الرحلة في طلب العلم، وأن أعرف ما الواقع على الأقل في التخطيط المجمل، وضرورة تخطيط الواقع، هي شرط من شروط الإبداع المعرفي؛ فكما بيَّنت في السلم السداسي للإبداع أعلاه، يجب تعين الموضوعات الجزئية، وتعين الحقول المعرفية التي تشملها لغايات العرض أو التجديد أو التخليق. ولا يمكن الدخول في معمعة الإبداع، إلا بدارسة شجرة العلوم كلها، حيث نعرف علاقة كل العلوم ببعضها. وتحديد العلوم الصلبة من الناعمة، والعلوم المنتجة من العلوم الزائفة الموهومة. أو قل، لا إبداع بغير إدراك شموليٍّ لواقع المعرفة في العلوم الطبيعية والعقلانية والاجتماعية والإنسانية. هذا التخطيط، هو جملة من الأسئلة يحاول مشروع خرائط المعرفة التمهيد لها كالآتي:
1-ما هي المادة وكيف تتنوع؟ وهو ما وجدت الفيزياء والكيمياء لِتجيبان عنه باسترسال.
2-ما هي الحياة وكيف تتنوع؟ وهو ما يجيب عنه علم الأحياء ونظرية الانتخاب الطبيعي.
3-ما هو الإنسان وكيف يعيش؟ وهو ما يتصدى لتشريحه علم الدماغ وعلم النفس والعلوم الاجتماعية (اقتصادا وسياسة وقانونا واجتماعا).
4-كيف يتفاوت البشر؟ وهو ما يجيب عنه تاريخ العالَم، وأثر الجغرافيا والبيئة في تطور الأعراق والأديان، والثقافات والمخترعات، والمؤسسات الإدارية، والحروب والمصالحات.
5-ما هو الفكر؟ وهو سؤال يختص المنطق والرياضيات وفلسفة المعرفة واللغة والميتافيزيقيا وعلم القيم بدراسته.
إذن، الواقع هو سلسلة تطور الوجود بأسره، مادة وفكرا وقيمة، منذ الانفجار العظيم إلى يومنا هذا، كما يتجلى في العلوم الطبيعية والعقلانية والاجتماعية والإنسانية. والإبداع هو الاشتغال على عرض وتجديد وتخليق سلسلة تطور الوجود. وموقع خرائط المعرفة في الفيس بوك، كما أعانني عليه المتفضل الكريم أحمد الحمدي، يُفصِّلُ بإسهابٍ ماهية المشروع وكيفية الاستفادة منه، فأحيل القارئ عليه.
*- معاذ بني عامر: ما سلف يقودني إلى سؤال حول طبيعة المعرفة المُنتجة في الغرب، وتلك المُنتجة في العالَم العربي؛ هل الأولى معرفة (فاعلة)، والثانية معرفة (مُنفعلة)؟ إذا كان الأمر كذلك، ما هي الأسباب التي جعلت من طبيعة (تلك) و(هذه) على ما هما عليه من فعالية وانفعالية؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فهل استطاعت المعرفة العربية خلق فاعليتها، سواء هُنا (في عالمنا العربي) أو هناك (في العالَم الغربي)، وهل ثمة إمكان في تمثّل المعرفة ضم شرطها الثقافي العربي لبديل حضاري للبشرية جمعاء، أم إن الأمر محض حلم استيعاضي ليس إلا؟
**- د. أحمد زهاء الدين عبيدات:
5- واقع التبعية المعرفية للعالم العربي
بعضٌ من الإجابة على هذا السؤال متضمنٌ في الإجابات السابقة، حول طبيعة الإبداع والشروط السياسية الثقافية والاقتصادية لإبداع المعرفة. لكن ذرني أشدد على أن العلم العربي المسكين أُخِذَ على حين غرة. فلا 1- هو تمكن من بناء إمبراطورية، شأن الفرس والترك والروس، فقام بتعزيز هوية قومية موحدة قُبَيْل دخول الاستعمار، 2- ولا هو تمكن من البعد عن يدِ الإمبريالية العالمية، شأن اليابان في القرن التاسع عشر، لبناء نهضة بهدوء، بعيداً عن التدخل الأجنبي، 3- ولا هو وقع في إطار حلفٍ تحتاجُهُ فيها القوى العالمية، شأن كوريا الجنوبية، فتسمح له بالنماء. وهكذا وقع العالمُ العربي في حالة مناطحة وعداء مباشر مع الإمبريالية العالمية، دون أن يكون موحّدَ الهمِّ القومي كتركيا، ولا ناهضاً علمياً ومؤسساتياً أيضا كاليابان، ولا حليفا حميما ككوريا الجنوبية، فحاقت به الهزائم والكوارث. ولا ننسى أن الإنسان العربي في المشرق لم يحكم نفسه منذ قرابة ألف عام؛ فبعد الحكم العباسي المتهالك، جاء السلاجقة، فالأيوبيون، فالمغول، فالمماليك، فالعثمانيون؛ وكل هؤلاء كانوا قوى عسكرية غاصبة غير منتَخَبَة، ولا شأن لها بالعدالة والشرعية الشعبية، وغايتهم الكبرى الضرائب والإقطاع والجاه والهيلمان والتوسع والنهب والسبايا. ولا تغرَّنك بعض الأوقاف من المساجد والمدارس هنا وهناك، يضحكون بها على العامة من المتدينين، كما هي الحكومات العربية اليوم. وهكذا، جاءت تلك القوى الغاصبة بغير عناية بالآداب العربية والعلوم العقلية، فانحطَّ الشعرُ العربي، وتدهور الاجتهاد والفلسفة، علاوة على تدهور المعاش، فخرج الإنسان العربي أميا مطلقا في الغالب. والأدهى، أن العربي لم يتعلم كيف يحكم نفسه؛ فالفلسطيني مثلا، شهد عساكر المماليك، فالعثمانيين، فالإنجليز، فالإسرائيليين على التتابع، وكل واحد منهم يهش عليه بالعصا، ولا يملك الفلسطيني أن يغير من الأمر. هكذا نفهم لماذا يعسُرُ على العربي، حتى وإن ثار، التعاون على شأن الثروة والسلطة لانعدام التجربة والدربة في حكم الذات تاريخياً، لنحو من ألف عام في المشرق العربي. ومن ثم، نفهم لماذا لا ينتج العالم العربي المعرفة، ذلك أن الذي لا يملك ثروته في الغالب، ولا السلطة على إدارتها، فكيف به ينتقل للعرض الواضح والنقد المنطقي والتخليق الواقعي في بناء النماذج المعرفية؟ هذه مراحل لاحقة وبعيدة في الإبداع، لا ينالها إلا من نال معاشه وسلطته أولا. لكن، ومع طوفان الكتب العربية على الشبكة، من كل الأجناس المعرفية، في السنوات الأخيرة، فإن الأمل معقود: 1- على التعلُّم الذاتي، كما يطرحه موقع خرائط المعرفة وغيره. 2- على من يحاربون أميَّتَهُم. 3- على من يُعينونَ على معاش المبدعين، بشرط أن تكون غايتهم الإبداعيةُ اشتغالاً (واضحا منطقيا واقعياً) في (عرض وتجديد وتخليق) سلسلة تطور الوجود (في العلوم الطبيعية والعقلانية والاجتماعية والإنسانية).