حوار مع د. أشرف منصور بعنوان: سرعة تلقي الإنتاج الأكاديمي الغربي في الفكر الإسلامي
فئة : حوارات
اللقاء الحواري الثالث:
حول كتاب: "دليل كيمبردج في تاريخ الفلسفة العربية"
حوار مع د. أشرف منصور بعنوان:
سرعة تلقي الإنتاج الأكاديمي الغربي في الفكر الإسلامي
حاوره د. حسام الدين درويش
تقديم دة. ميادة كيالي
كلمة دة ميادة كيالي:
أهلاً وسهلاً بكم في هذا اللّقاء الحواري الثالث ضمن سلسلة لقاءات وندوات ننظمها على منصة زوم للتعريف بأهم الإصدارات والمشاريع الفكرية التي أصدرتها مؤسسة "مؤمنون بلا حدود". يشرفني أن أكون معكم اليوم في هذا الحوار الذي يجمع ما بين الفلسفة والترجمة، حيث نقدم لكم واحدًا من الأعمال المهمة التي تفخر مؤسسة مؤمنون بلا حدود بإصدارها، وهو عبارة عن ترجمة لكتاب "دليل كيمبردج في تاريخ الفلسفة العربية" الذي حرّره بيتر آدامسون ريشارد تايلور، وقام بترجمته الدكتور أشرف منصور. هذا الكتاب، الذي وصل إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب لعام 2024، يُعد مرجعًا مهمًّا في الفلسفة العربية؛ فهو يجمع دراسات غربية معمقة حول أشهر الفلاسفة العرب والمسلمين، ويقدم رؤى جديدة وموسعة حول الفلسفة العربية التي امتدت لتسعة قرون، بدءًا من القرن الثاني وحتى القرن الحادي عشر الهجريين. ويُضيء على إسهامات الفلاسفة العرب والمسلمين في مجالات متعددة مثل الميتافيزيقا، وعلم الفلك، والطب، والرياضيات، والأخلاق، وغيرها من المجالات التي شكلت الحضارة الإسلامية.
تنبع أهمية هذا الكتاب من كونه يُعدّ "دليلًا" أكاديميًا شاملًا للباحثين المبتدئين والمتخصصين في مجال الفلسفة على حد سواء، وهو ينتمي إلى سلسلة الكتب المرموقة التي تصدرها دار جامعة كيمبردج، حيث يتميز بالجمع بين الشمولية والتخصص الدقيق؛ فكل فصل منه كتب بواسطة أكاديميين غربيين متخصصين في موضوع الفصل الذي كتبوه. وهنا تكمن الأهمية الجوهرية لهذا الكتاب؛ إذ من الضروري لنا كعرب التعرف على طرائق الكتابة والبحث في الفلسفة العربية الإسلامية من وجهة نظر الباحثين الغربيين، مما يقدم لنا صورة عن ذواتنا من خلال مرآة الآخر.
كان لنا الشرف بالتعاون مع الدكتور أشرف منصور في مؤسسة مؤمنون بلا حدود من خلال إصدارين؛ الأول هو "ابن رشد في مرايا الفلسفة الغربية الحديثة" الذي صدر عام 2018، والثاني هو ترجمة "دليل كيمبردج في تاريخ الفلسفة العربية" الذي نحن بصدد الحوار حوله الآن. الدكتور أشرف منصور الحاصل على الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة الإسكندرية، ورئيس قسم الفلسفة فيها منذ 2021، تحفل مسيرته العلمية بالعديد من الإصدارات باللغة العربية، والترجمة، والعديد من الأبحاث والمقالات والندوات والمحاضرات والحوارات والإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه والدورات التدريبية، مما لا يمكن حصره في هذا التقديم الموجز.
وقبل الانتقال للدكتور حسام الدين درويش لاستلام دفة الحوار، لابد من التنويه على أهمية ما تقوم به مؤسسة مؤمنون بلا حدود في تقديم الأعمال المتميزة في مجالات الترجمة والفلسفة، وما تسعى إليه من خلال هذه الندوات الحوارية في تسليط الضوء على تلك الأعمال المهمة التي أصدرتها. نحن نسعى دائماً إلى نشر المعرفة وتعزيز الحوار الفكري، وهذه الندوة تأتي كجزء من جهودنا المستمرة لتحقيق هذا الهدف.
أشكر الجميع على الحضور والمشاركة، وأتطلع إلى مناقشة مثمرة تُثري معرفتنا وتعمق فهمنا لهذا العمل المهم. ولتكن فرصة لإعادة اكتشاف التراث الفلسفي العربي الإسلامي، أترك الكلمة للدكتور حسام الدين درويش، وأتمنى لكم جلسة مثمرة ومليئة بالنقاشات الغنية.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا لك الدكتورة ميادة على التقديم، سواء تقديم سلسلة الندوات، أو تقديم الكتاب. سأعطي الكلمة للدكتور أشرف، ليتكلم لنا عن قصة الكتاب وترجمته ووضعه في سياقه التاريخي. الدكتور أشرف شكرًا لك على حضورك وعلى تلبية الدعوة، والكلمة لك، تفضل.
د. أشرف منصور:
مساء الخير على حضراتكم جميعًا، خالص الشكر والتقدير للدكتورة ميادة والدكتور حسام، على استضافتهما لي للحديث عن ترجمة "دليل كيمبردج في تاريخ الفلسفة العربية"، كما أشكرهما على هذه الفكرة الرائعة في التعريف بإصدارات المؤسسة، وإطلاع القُرَّاء على الجهد المبذول في مختلف الأعمال سواء كانت مؤلفة أو مترجمة، عبر منصات التواصل الاجتماعي. وهذا مهمّ للغاية، فالكتاب لا يجب أن يبقى على الأرفف في المعارض، وإنما يجب التعريف به بواسطة هذه الآلية المبتكرة. والشكر موصول لكل الحضور والمتابعين، وهناك أصدقاء أعزاء أراهم، سواء من مصر أو من خارج مصر، وهم معنا الآن على منصة زوم؛ فتحياتي لهم جميعا.
كتاب "دليل كيمبردج في تاريخ الفلسفة العربية" هو كتاب معروف للغاية لدى المشتغلين بحقل الفلسفة الإسلامية، سواء في العالم العربي أو في الغرب؛ فمعظم الباحثين الذين يشتغلون في هذا الحقل يعرفون الكتاب جيّدًا، ومنهم الذين اشتغلوا عليه في أبحاثهم مثل أبحاثي أنا، منذ كتاب "العقل والوحي" سنة 2014، و"ابن رشد في مرايا الفلسفة الحديثة" سنة 2018، فكنت دائما أستعين به في عملي وأبحاثي أو في كتبي، وهو معروف ومشهور لدى الباحثين والمتخصصين في الفلسفة الإسلامية في العالم العربي، ووجدته مستشهدًا به في هوامش العديد من الأبحاث العربية. بقيت المهمة الأصعب، وهي تقديمه إلى جمهور القرّاء والمتابعين للأعمال الفكرية والفلسفة الإسلامية بالتحديد. والشكر موصول لمؤسسة مؤمنون بلا حدود التي تولّت مهمة نشر هذا العمل المهم للغاية.
حقيقة الكتاب صدر سنة 2005، في نسخته الأصلية باللغة الإنجليزية، بينما صدرت ترجمته سنة 2023؛ يعني ليست هناك فترة زمنية طويلة تفصل بين الأصل الإنجليزي والترجمة العربية؛ ففي الفترة ما بين 2005 و2024 صدر العديد من المؤلفات في الفلسفة الإسلامية في الغرب، غير أن كتاب كيمبردج حافظ على مكانته وسط كل المؤلفات التالية له، وربما قد يكون بداية سلسلة مؤلفات غربية كثيرة اهتمت بالفلسفة الإسلامية في هذه الفترة الأخيرة. والمدهش والمثير – من باب الفخر- أن لوحة الغلاف كانت أجمل وأزهى في نسخة الترجمة العربية، إذا ما قورنت بالنسخة الأصلية للكتاب.
لماذا نهتم بترجمة أعمال غربية في الفلسفة الإسلامية؟ من المهم التعرف على الإنتاج الغربي في حقل دراسات الفكر الإسلامي بمختلف فروعه؛ الفلسفة، علم الكلام، التصوف، تاريخ الفرق الإسلامية. ويهمنا أيضا التعرف على كيفية تعامل الباحثين الغربيين مع الفلسفة الإسلامية، والتعرف على القضايا التي يهتمون بها في أبحاثهم، وكيفية تعاملهم مع نصوص فلاسفة الإسلام، وهذا هو ما ظهر واضحًا في دراسات هذا الكتاب الذي يتميز بالشمول والعمق في الوقت نفسه؛ فهو ليس مجرد تاريخ للفلسفة الإسلامية، ولكنه تاريخ في العمق؛ إذ يتناول القضايا الأساسية التي اهتم بها مختلف فلاسفة الإسلام.
إن ما يتميز به المجال الفكري العربي اليوم، هو سرعة تلقي الإنتاج الأكاديمي الغربي في الفكر الإسلامي؛ فأي كتاب يصدر في الغرب، وليس هذا الكتاب فقط، وبعد سنوات قليلة، تتم ترجمته إلى العربية، وهذا عكس الحال في الفترة السابقة على الثلاثين سنة الأخيرة؛ فعلى سبيل المثال، كتاب إرنست رينان "ابن رشد والرشدية" الذي صدر باللغة الفرنسية سنة 1852، وصدرت ترجمته العربية على يد الأستاذ عادل زعيتر سنة 1957؛ أي بعد حوالي 100عام من صدور النسخة الأصلية، كتاب دي بور كذلك، "تاريخ الفلسفة في الإسلام" صدر في أوائل القرن العشرين سنة 1900أو 1901 تقريبا، وترجمه محمد عبد الهادي أبو ريدة سنة 1958، كتاب كارا دي فو عن ابن سينا، وهو ليس عن ابن سينا فقط، ولكنه عن مجمل الفلسفة الإسلامية قبل ابن سينا وحتى ابن سينا، صدر سنة 1900أي بداية القرن العشرين، وترجمه عادل زعيتر سنة 1970، كتاب هنري كوربان "تاريخ الفلسفة الإسلامية"، صدر باللغة الفرنسية سنة 1964، وتمت ترجمته تقريبا في السبعينيات. لقد كانت هناك فترة زمنية طويلة فاصلة بين صدور الكتاب بلغته الأوروبية الأصلية، ثم ترجمته إلى اللغة العربية، لكن حاليا يحدث العكس؛ أي ليست هناك فترة زمنية، ونحن حريصون على سرعة ترجمة الأعمال الغربية في الفكر الإسلامي، ترجمة لا تتأخر كثيرًا عن تاريخ صدور طبعتها الأصلية..
إن ترجمة كتاب في الفلسفة الإسلامية إلى اللغة العربية هي نوع من رؤية الذات في منظور الآخر، ورؤية الآخر وهو ينظر إلينا، فهي اختبار معاصر للتلقي الغربي للفلسفة الإسلامية، وهو في النهاية نوع من المثاقفة والتلاقح الثقافي. إن ترجمة هذا الكتاب بوجه عام وكل المؤلفات الغربية في التراث الفكر الإسلامي تسهم في رفع شأن الدراسات الأكاديمية العربية والوصول بالباحث العربي إلى المستوى الأكاديمي والبحثي العالمي، وتسهم أيضا في تعريف القراء العرب بالإنتاج الغربي في الفلسفة الإسلامية.
نحن في مجال الفلسفة الإسلامية بالذات، وفي مجال الفكر الإسلامي عامة، كنا نعاني من الانغلاق على الذات، والانشغال بالقضايا المحلية أو التراثية التي تحبسنا داخل إطار إيديولوجي معين، غير أن التعرف على الإنتاج الغربي بمختلف فروعه يسهم في الانفتاح على الاتجاهات العالمية في دراسة هذا الكتاب. اعتمد الكثير من مؤلفي دراسات هذا الكتاب على ترجمات لاتينية قديمة للأعمال الفلسفية العربية، مثل الترجمات اللاتينية لأعمال ابن سينا والفارابي وابن رشد، والتي تمت في القرون الحادي عشر والثاني عشر وحتى السادس عشر الميلادي، وهم يعتمدون على تراثهم الغربي في نقل التراث الإسلامي إلى اللاتينية، ليس كلهم طبعا، ولكن الكثير منهم يعتمد على هذه الترجمات القديمة التي صارت جزءًا من التراث الغربي في الفلسفة، والتي نقلت الفلسفة الإسلامية إلى الغرب اللاتيني في أواخر العصور الوسطى وعصر النهضة. كلهم يتقن اللغة العربية، ولكن بعضهم يلجأ إلى هذه الترجمات اللاتينية، والتي لم يكن يفصلها فاصل زمني كبير عن تواريخ تأليف الأعمال الفلسفية العربية؛ فأعمال ابن رشد المترجمة إلى اللاتينية، يرجع بعضها إلى القرن الثالث عشر، وهو القرن التالي مباشرة على ابن رشد، وبدأت حركة ترجمة أعمال ابن سينا والفارابي في القرن الثاني عشر في شمال إسبانيا، في الوقت الذي كان لا يزال فيه ابن رشد على قيد الحياة، ويضع مؤلفاته الخاصة؛ أي كان الغرب اللاتيني يترجم للفارابي وابن سينا في الوقت الذي كان فيه ابن رشد لا يزال على قيد الحياة. ومن ثمة، صارت هذه الترجمات اللاتينية القديمة والمبكرة، جزءًا من التعليم الفلسفي الغربي، وجزءًا من تكوين العقل الفلسفي الأوروبي، والمثال على ذلك توماس الأكويني الذي قرأ أعمال ابن سينا وابن رشد باللاتينية؛ أي في ترجماتها اللاتينية، وهضمها جيدا، وصارت جزءا من تكوينه الفكري، وأدمجها في مؤلفاته الخاصة، وصارت فلسفة الأكويني أساسًا للأعمال الفلسفية الغربية في ما بعد، سواء التي اتفقت معه أو التي خالفته.
كل مؤلفي دراسات هذا الكتاب متخصصون في موضوع الفصول التي كتبوها، ولكلّ واحد منهم مدرسة فكرية واتجاه ومواقف في دراسة الفلسفة الإسلامية، وكل واحد منهم له تلاميذ وطلاب في كل مراحل التعليم، المرحلة الجامعية الأولى، ومرحلة الدراسات العليا. والآن صار تلاميذهم أساتذة في الجامعات الغربية.
تشهد الساحة الأكاديمية الغربية ازدهارًا غير مسبوق في الدراسات الإسلامية، يتمثل في دوريات أكاديمية متخصصة في كل فرع من فروع الفكر الإسلامي، وبالأخص الفلسفة الإسلامية والعلم العربي والدراسات القرآنية. ويتمثل الازدهار أيضا في استمرار حركة الترجمة، ترجمة النصوص الفلسفية الإسلامية إلى اللغات الأوروبية. وقد يترجم الكتاب الواحد أكثر من مرة، مثل ترجمات "فصل المقال" لابن رشد، ومن ثم فالوضع الحالي اليوم، هو أننا نترجم لهم، وهم أيضا يترجمون لنا، ولا تقتصر ترجماتهم الحالية على كلاسيكيات الفلسفة الإسلامية، بل تشمل الأعمال العربية الحالية كذلك، في الفكر الإسلامي، مثل أعمال محمد عابد الجابري ونصر أبو زيد وطه عبد الرحمن، ناهيك عن أساتذة عرب يقيمون في الغرب، ويؤلفون في الفكر الإسلامي باللغات الأوروبية، والمثال على ذلك صادق جلال العظم، مرورًا بمحسن مهدي، وعبد الرحمن بدوي. واليوم لدينا، علي بن مخلوف، وفؤاد بن أحمد، وأيمن شهادة، ومروان راشد.
وبصفتي مترجمًا، كان عليّ تزويد الترجمة بهوامش تُعرّف ببعض المصطلحات الفلسفية، وأخرى تحيل القارئ العربي إلى دراسات عربية في الموضوع الذي يتناوله كل فصل. إن المؤلف الغربي غالبًا ما يحيل قارئه الغربي إلى أعمال ودراسات غربية في الفلسفة الإسلامية، ما غيّب أعمالنا الأكاديمية من هوامش وإحالات الكتاب، فقمت على قدر استطاعتي بذكر أبرز الأعمال الأكاديمية العربية في كل موضوع تناولته فصول الكتاب، كما قمت بإحالات إلى أعمال غربية صدرت بعد صدور كتابنا هذا؛ أي بعد سنة 2005، لهذا الكتاب سنة 2005، بل إن بعض مؤلفي الكتاب أصدر دراسات بعد 2005، وأثبتها مثل دراسات مروان راشد وريتشارد تايلور.
إن هذا الكتاب هو أكثر من مجرد تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية، إنه دليل لتاريخ الفلسفة العربية الإسلامية. لو كان تاريخا للفلسفة الإسلامية، لكان شبيها بكل كتب الفلسفة الإسلامية من هذا النوع، مثل كتاب دي بور القديم، وكتاب ماجد فخري الأحدث، لكنه دليل لتاريخ هذه الفلسفة؛ بمعنى أنه يحوي دراسات معمقة ومفصلة في أعلام فلاسفة الإسلام، وفي مناحي هذه الفلسفة مثل الميتافيزيقا والأخلاق والسياسة والمنطق والعلم الطبيعي. والكتاب مليء بهوامش زاخرة بالدراسات الأكاديمية الغربية في الفلسفة الإسلامية. وبهذا المعنى، فهو دليل فعلا، مما يفتح المجال للباحث العربي للعثور على هذه الدراسات لقراءتها والاستعانة بها.
حقيقة، لقد عانى الحقل الأكاديمي العربي في دراسة الفلسفة الإسلامية في كثير من البلدان العربية، من فقدان صلته بالإنتاج البحثي الغربي في الدراسات الإسلامية بوجه عام. والكتاب يعالج هذه الحالة، ويجعل الباحث العربي على صلة وثيقة بذلك الإنتاج الغربي، ويعرفه بأبرز الأعمال في هذا الحقل في الغرب. إن كل باحث عربي يدرس في الغرب، ويحصل على درجته العلمية هناك، وأنا أقصد الدكتوراه، يكتب أطروحته بلغة البلد الذي يدرس فيه، والآن زادت حركة نشر رسائل الدكتوراه التي أعدها باحثون عرب في الجامعات الغربية، مما زاد من الإنتاج العربي في الدراسات الإسلامية، والمنشور بلغات أجنبية من قبل عرب حصلوا على درجة الدكتوراه من الجامعات الغربية. وبهذا، ثمة حركة نهضة غير مسبوقة، سواء في الجامعات الغربية أو في جامعاتنا، تهتم بالفلسفة الإسلامية، وهي ظاهرة من التلاقح الثقافي، ومن التفاعل بين الأساتذة العرب والأساتذة الأجانب الأوروبيين أو الغربيين. طبعًا، لدينا قاعدة لا بأس بها من الأساتذة العرب الذين يدرسون الفلسفة الإسلامية في الجامعات الغربية، أو الذين حصلوا على شهاداتهم من هناك ويؤلفون باللغات الأوروبية في الفلسفة الإسلامية. وعليه، فهذا الكتاب هو جزء من هذه الحالة المستجدة من الازدهار والتفاعل غير المسبوق بين الأكاديميين العرب والأكاديميين في الغرب على كل المستويات.
حقيقة، لا أريد أن أطيل عليكم، وأعرف أن الأسئلة ستكون كثيرة وأنا أرحّب بها، وأعلم جيّدًا أن الدكتور حسام صديقي العزيز لديه الكثير من الأسئلة والمداخلات التي أودّ الاستماع إليها. أشكركم جزيل الشكر، ونكمل الحديث من خلال الأسئلة والمداخلات.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا دكتور أشرف، حقيقة مداخلتك كانت بالفعل شاملة، وأجبت مسبقًا عن بعض الأسئلة التي كانت لديّ على الأقل، وربّما لدى آخرين أسئلة أخرى. لديّ، بدايةً، نقطتان، أودّ الإشارة إليهما. من جانبٍ أول، أودّ الإشارة إلى أنه على الرغم من مضي حوالي عشرين عامًا على تاريخ صدور الكتاب باللغة الإنكليزية، (فقد صدر عام 2005)، فإنه ما زال يحظى بكامل القيمة، ليس فقط في العالم العربي أو باللغة العربية، وإنما حتى في العالم الأكاديمي الناطق باللغة الإنجليزية. من جانبٍ آخر، من الشائع، عمومًا وعادةً، في كثير من بقاع العالم العربي (والغربي) الأكاديمي، الحديث عن فلسفةٍ إسلاميةٍ، أو فلسفة عربية إسلامية، في حين أن هذا الكتاب يتحدث عن فلسفة عربية. وهذا يطرح سؤال هوية هذه الفلسفة: فإلى أيّ حد يمكن الحديث عن هوية ما للفلسفة على أنها عربية و/ أو إسلامية؟ وما معنى أن تكون الهوية، هنا، إثنية و/ أو لغوية و/ أو دينية/ إسلامية؟ أم يتعلق الحال بالأمرين معا؟ أنت تتفق مع أطروحة معدّي الكتاب القائلة بعربية تلك الفلسفة؛ فهل يمكنك تقديم مزيدٍ من التوضيح لهذه المسألة التي تمسّ صلب الكتاب، من عنوانه إلى مضامينه؟
د. أشرف منصور:
هذه نقطة في غاية الأهمية وفي صلب موضوع الكتاب، لماذا يسمى هذا الكتاب دليل كيمبردج في تاريخ الفلسفة العربية، وليس تاريخ الفلسفة الإسلامية، وليس تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية. إن محرّري هذا الكتاب، عندما بدأوا في الإعداد له مع المؤلفين طبعًا، انطلقوا من قناعة لديهم مفادها أن الفلسفة في العصر الإسلامي، ساهم فيها الكثير من الفلاسفة غير المسلمين من مسيحيين ويهود، فهي ليست قاصرة على فلاسفة الإسلام من حيث الهوية والديانة. لذا، استقر الرأي لديهم على تسميتها بالفلسفة العربية؛ لأنها مكتوبة باللغة العربية؛ فموسى بن ميمون فيلسوف يهودي شهير، ولكنه كتب باللغة العربية، وكذلك يحيى بن عدي فيلسوف مسيحي، وقسطا بن لوقا وهكذا...الفلاسفة المسيحيون واليهود الذين ساهموا في التراث الفلسفي في الحضارة الإسلامية أو في العصر الإسلامي كتبوا باللغة العربية، وهي فلسفة عربية لأنها مكتوبة باللغة العربية من وجهة أخرى أيضا؛ والفلاسفة في العصر الإسلامي لم يكونوا كلهم عربا، بل كان منهم الفرس، ومنهم الأتراك أيضا، ومنهم الأمازيغ، والذي يجمعهم هو لغة الكتابة، وليست العربية كعرق أو كجنس، وهم لديهم حساسية من كلمة الفلسفة الإسلامية؛ هذه الكلمة سوف تربط الفلسفة بالدين الإسلامي؛ فهي ليست فلسفة الدين الإسلامي، وليست فلسفة الإسلام كدين، بل هي المنتج الفلسفي الذي ظهر أثناء العصر الإسلامي، ومن ثم فتسميتها بالفلسفة الإسلامية قد تؤدي إلى سوء فهم أو خلط؛ أي إنها فلسفة تعبر عن الإسلام أو تعبر عن الدين الإسلامي. ومن وجهة نظري، الفلسفة الإسلامية هي علم الكلام؛ فلسفة المعتزلة والأشاعرة والفرق الإسلامية، فهذه هي فلسفة الدين الإسلامي، فلسفة الإسلام، لكنهم فضّلوا أن يطلقوا على المنتج الفلسفي للفلاسفة الذين انتموا إلى التراثين الأفلاطوني والأرسطي في العالم الإسلامي اسم "الفلسفة العربية"؛ لأنهم استقبلوها في أوروبا باللغة العربية وترجموها من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية. لذلك استقرّ رأيهم على كلمة الفلسفة العربية، وكلمة فلسفة عربية كتعبير لسنا معتادين عليه، ولسنا معتادين على أن يكون عنوانا لكتاب في الفلسفة الإسلامية. ونحن في أحاديثنا اليومية، ومع الطلبة، وفي المقررات الدراسية التي ندرّسها للطلبة في الجامعة، نقول الفلسفة الإسلامية، ونقصد بها نفس هذه الموضوعات ونفس هؤلاء الفلاسفة. ولكن آثرت أن أترجم عنوان هذا الكتاب كما هو باللغة الإنجليزية، وأشرح مبرر المؤلفين والمحررين في استخدام هذا التعبير، وإن كان البعض من هؤلاء أنفسهم في أعماله الخاصة خارج هذا الكتاب، لا يزال متمسكا بتعبير الفلسفة الإسلامية؛ لأنه صار تعبيرًا اصطلاحيًا.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا لك على الإجابة، دعني أقول إن مسألة هوية الفلسفة في علاقتها مع الدين أو الإسلام هي مسألة إشكالية، وأنت تعلم أن هودجسون نحت مصطلح Islamicate، والذي ترجمناه إلى إسلاماتي، ليقول إن النسبة ليست إلى الدين الإسلامي، وإنما إلى الفضاء الثقافي أو الحضاري المرتبط بهذا الدين، وبالتالي لا ضير في القول إنها فلسفة عربية إسلاماتية. من ناحية أخرى، حسب رأيي، إن ربط هوية الفلسفة باللغة يمكن أن يرتبط بالتشديد الفلسفي على أهمية اللغة، واتخاذها موضوعًا أساسيًّا، منذ بدايات القرن العشرين.
د. أشرف منصور:
بالنسبة إلى الباحث الغربي الذي يتتبع النصوص الفلسفية، والذي يركز على دراسة النصوص، حين يدرس الفلسفة في المحطة الإسلامية أو في هذه القرون التسعة التي سادت فيها الفلسفة في الديار الإسلامية، يجدها مكتوبة باللغة العربية، وقد كانت مكتوبة باللغة اليونانية قبل العصر الإسلامي، وصارت مكتوبة باللغة اللاتينية في أوروبا بعد العصر الإسلامي؛ فالباحث الغربي من وجهة نظره، ومن موقعه التاريخي في أوروبا، يرى أن الفلسفة كانت مكتوبة باليونانية في العصر اليوناني والهلينستي، وصارت مكتوبة بالعربية في العصر الإسلامي، ثم تحولت لتكون مكتوبة باللاتينية في العصر الأوروبي الوسيط والنهضوي وحتى العصر الحديث؛ فهو لديه ثلاث لغات أساسية انتقلت عبرها النصوص الفلسفية اليونانية والعربية واللاتينية، وهو في الغرب يطلق على فلسفة العصور الوسطى الفلسفة اللاتينية، ويطلق على الغرب في العصور الوسطى الغرب اللاتيني، والذي يمتد إلى مشارف العصر الحديث، كما يطلق على الرشدية في أوروبا الرشدية اللاتينية؛ لأنها مكتوبة باللغة اللاتينية، وظهرت في أعمال فلاسفة إيطاليين وفرنسيين، ولكنهم كتبوا باللاتينية.
د. حسام الدين درويش:
أشرت، في التقديم، إلى أن الفلسفة عابرة للغات، وتحدثت عن انتقال الفلسفة من اليونانية إلى السريانية فالعربية ومن ثم إلى اللاتينية ولغات أخرى لاحقًا. من ناحية أولى، أتفق معك أنه إذا كانت الفلسفة تتعلق بالمفاهيم، كما رأى جيل دولوز – والمفاهيم هي معان أكثر من كونها كلمات – فالفلسفة كونية وتهتم بالكوني أو بالعالمي، منذ تعريف أرسطو الفلسفة بأنها هي علم الوجود بما هو موجود، وهذه مسألة تتسق مع ما تقدم حتى الآن، لكن من ناحية أخرى، وفقًا لك وللكتاب الذي نتحدث عنه، تُعرَّف الفلسفة باللغة التي تكتب بها؛ أي إن دور اللغة مهمّ جدًّا؛ فالفلسفة العربية محددة لغويًا، وليست مجرد نسخة عربية لفلسفة عالمية، وإنما لها خصوصيتها. انطلاقًا من هذه الأهمية المعطاة للغة، سؤالي هو: ما الخصوصية اللغوية للفلسفة العربية؟ وما اختلافها عن الفلسفة المكتوبة باللاتينية أو الإنجليزية، على سبيل المثال؟
د. أشرف منصور:
هذه نقطة في غاية الأهمية، النص الفلسفي عابر للغات؛ أي إن النص الفلسفي واحد، تجده حاضرًا في اليونانية أو في السوريانية وفي العربية وفي اللاتينية ثم في اللغات الحديثة في أوروبا. سوف أعطي أمثلة؛ أعمال ابن رشد مكتوبة باللغة العربية، وأغلبها شروح لكتب أرسطو المترجمة إلى العربية، وهناك بعض الفلاسفة الإيطاليين في عصر النهضة لاموا ابن رشد؛ لأنه لم يكن يعرف اليونانية؛ فالفلاسفة المعادون والكارهون لابن رشد، انتقدوه لجهله اليونانية، وأنه كان يشرح مؤلفات أرسطو المترجمة إلى العربية وهي ترجمة سيئة، وهذا صحيح. فترجمات أرسطو العربية هي ترجمات سيئة للغاية، ورغم ذلك قام ابن رشد بمجهود جبار في شرحها. المفارقة هنا، أن شروح ابن رشد لأرسطو، كتبها ابن رشد باللغة العربية، وهي شروح لنصوص أرسطو المترجمة من اليونانية إلى العربية، ثم ترجمت شروح ابن رشد إلى اللاتينية في أواخر العصور الوسطى وعصر النهضة، وأجري على شروح ابن رشد شروح أخرى باللاتينية على طريقة شرح الشرح، والكثير من شروح ابن رشد بالعربية مفقود، ولم يصلنا منها إلا ترجمات لاتينية وعبرية. وهناك حركة عالمية الآن تسعى لاستعادة الشروح المفقودة إلى أصلها العربي؛ أي ترجمة شروح ابن رشد إلى العربية والموجودة في ترجمات لاتينية، ترجمتها مرة أخرى إلى العربية، أو من العبرية إلى العربية. وهذا ما كنت أقصده، أن النص الفلسفي عابر للغات.
د. حسام الدين درويش:
أنت تعلم أنه في المناظرة التي جرت بين أبي سعيد السيرافي ومتى بن يونس حول مسألة المنطق والنحو، قيل حينها، بما معناه: "المنطق نحو يوناني، والنحو منطق عربي". ويبدو، لوهلةٍ أو أكثر، أن هذا يتعارض مع ما تقوله، في خصوص عالمية الفلسفة التي عد المنطق آلتها أو المدخل لها. هذا الجدل بين العمومية والخصوصية، أسحبه على مسألة أخرى هي جمع الكتاب بين كونه موجها للمتخصصين من ناحية، وكونه يستهدف كل من يريد أن يفهم أو يقرأ في هذا المجال من المبتدئين، من ناحيةٍ أخرى. وكما تعلم، الفلسفة متهمة، من حيث المبدأ، أنها عاجية وغير مفهومة؛ فكيف يكون حال فلسفة عربية تخصصية عن العصور الوسطى. وسؤالي هو: إلى أي حد نجح الكتاب في الجمع بين التوجه إلى المختصين، والتوجه إلى المبتدئين أو عامة القراء، في الوقت نفسه؟
د. أشرف منصور:
التوجه إلى المتخصصين وإلى عامة القراء في وقت واحد هو من مقاصد هذا الكتاب، ومن نوايا المؤلفين والمحرّرين، ومن الأشياء التي شجعتني على ترجمة هذا الكتاب؛ لأنه كما ترى وكما يظهر من العنوان دليل في تاريخ الفلسفة العربية؛ أي يشمل الفلسفة العربية عبر تسعة قرون، وهي فترة طويلة للغاية، ويشمل كل فلاسفة الإسلام الذين نسمع عنهم. ليس من السهل على المؤلف مهما كان متخصصًا وأكاديميًا أن يضع الكندي في فصل واحد، أو يضع الفارابي في فصل، أو يضع ابن رشد أو ابن سينا في فصل، وكأنك تحاول إدخال العفريت في قمقم، مصباح علاء الدين يخرج منه العفريت، ولكنك تريد أن تدخل الجن أو العفريت مرة أخرى إلى المصباح؛ فهذه عملية صعبة للغاية على المتخصص، وتحتاج إلى متخصص محترف كي يضم كل جوانب الفيلسوف الواحد في فصل واحد. وهذا يعني ما أفهمه على أنه موجه للمتخصص وغير المتخصص في الوقت نفسه. عندما يقرأ غير المتخصص فصل الكندي أو فصل الفارابي أو فصل الإسماعيليين، يستطيع أن يضع يده على مجمل فلسفة هؤلاء، وفي نفس الوقت يتعرف على القضايا والإشكاليات والمسائل التي تهم الأكاديميين في وقت واحد، ويستطيع أن يتعرف على تاريخ البحث في هذه الشخصيات لدى الغرب؛ لأن بعض المؤلفين لا يكتفي بعرض أفكار الفيلسوف أو المذهب أو المسألة الفلسفية، ولكنه يعطي فكرة عن تاريخ البحث في هذه الشخصية لديهم هم في الغرب، ويدخل في جدل مع غيره من المتخصصين الغربيين الذين يختلف معهم وهكذا. هذه هي المسألة أو هذا هو الجانب الأكاديمي من الكتاب، وهو ممتع حقيقة للقارئ العام أو غير المتخصص؛ لأنه يزيل الفاصل بين المتخصص وغير المتخصص من حيث المبدأ.
د. حسام الدين درويش:
هناك ثنائية أخرى، أودّ أن أسألك عنها، وأعني ثنائية التخصص والشمول. فالتخصص يعني عادةً التعمق، وبالتالي فهو مضادّ للتوسع والشمول، وغير منسجم مع الأفقية. ومع ذلك، يصرّ الكتاب على الجمع بين هذين المجدين التعمق والتخصص من جهةٍ، والتوسع والشمول من جهةٍ ثانيةٍ. فما الشمول الذي يتسم به الكتاب أو سعى إلى الاتسام به؟ هل هو شمول مجمل الرؤية النظرية الفكرية المنهجية لفيلسوفٍ ما عند تناوله؟ أم هو شمول مجمل الفلسفة العربية في العصر الوسيط؟ للإحاطة بهذا الشمول ينبغي العودة هنا إلى فصول هذا الكتاب. فكيف ترى هذا الجدل بين الشمول، شمول كل الفلسفة العربية، من ناحية، والتخصص، من ناحيةٍ أخرى؟
د. أشرف منصور:
يشمل الكتاب الجانبين معا، ويجعل غير المخصص متخصصًا؛ لأن غير المتخصص عندما يتعرف على القضايا التي كانت تشغل الأكاديميين الغربيين في البحث في الفلسفة الإسلامية، فهو يصبح متخصّصًا. بالنسبة إلى العمق الذي ذكرته، موجود في هذا الكتاب أيضا، فعلى سبيل المثال، أكثر من مؤلف لفصول هذا الكتاب يهتمون بالتأثير الطاغي الذي مارسه كتاب "أثولوجيا أرسطوطاليس" على كل فلاسفة الإسلام من الكندي إلى صدر الدين الشيرازي، طوال هذه القرون التسعة، كتاب واحد فقط شغل الفلسفة الإسلامية كلها، وهو كتاب "أثولوجيا أرسطوطاليس" وهو ليس لأرسطو أصلا، بل منحول وهو أجزاء من تاسوعات أفلوطين، التي جمعها تلميذه فورفوريوس، وترجمها عبد المسيح بن ناعمة الحمصي بإشراف الكندي وهكذا. شيء غريب أن يكون كتاب واحد منحولًا على أرسطو، أن يمارس هذا التأثير الطاغي حتى إن صدر الدين الشيرازي يستشهد بنصوصه في الأسفار الأربعة، وقد توفى سنة 1640؛ أي عندما كان ديكارت حيًّا يرزق. هذا من الإشكاليات التي يتناولها الكتاب بأسلوب مبسط ورائع؛ لأنها مكتوبة من طرف محترفين. من الإشكاليات؛ العقل في الفلسفة الإسلامية وأنواع العقل، العلاقة بين نظرية المعرفة والكوزمولوجيا، نظرية العقول العشرة، العقل الفعال، العقل الهيولاني، العقل المكتسب، وكل هذه مشاكل معقدة للغاية، تعرضها فصول الكتاب بمنتهى السلاسة.
د. حسام الدين درويش:
هناك من يرى أنه، على العكس من الحال في الفلسفة الغربية، حيث تنبني الفلسفات، أحيانًا على الأقل، على بعض ما جاءت به الفلسفات السابقة، لم يكن هناك تراكمٌ مماثلٌ في مسيرة الفلاسفة العرب المتتابعين؛ بمعنى أن كلًّا منهم انطلق، من دون أن يأخذ في الحسبان النتاج الفلسفي لمن سبقه من الفلاسفة العرب. في المقابل، هناك من يرد على مثل تلك الرؤية بالقول، لقد استفاد كل فيلسوف عربي آنذاك من أعمال سابقيه. ويمكن الإشارة إلى قصة ابن سينا مع ميتافيزيقا أرسطو، على سبيل المثال، حيث ذكر رغم أنّ عددًا كبيرًا من المرّات قرأه، لكنه لم يفهم إلا بعد أن حظي بشرح الفارابي له. ما رأيك في هذه المسألة؟
قد توحي نصوص فلاسفة الإسلام أن كلّ فيلسوفٍ منهم يبدأ من الصفر أو يبدأ من جديدٍ، وعدم الأخذ في الحسبان للفلاسفة الآخرين. لكن عندما ندرس نصوص، ابن رشد، على سبيل المثال، نجد أنه يقف على أكتاف الفارابي وابن باجة وابن طفيل ...إلخ.
د. حسام الدين درويش:
ما رأيك، د. أشرف أن نستعرض بتكثيف شديد العناوين أو المضامين الرئيسة للكتاب؛ لنبين للقارئ ولمن يريد أن يطلع عليه، المسائل الرئيسة التي يتضمنها كل فصل. فالكتاب يتضمن تسعة عشر فصلًا، بالإضافة إلى مسرد تاريخي، وملحقات ومقدمة المترجم الغنية جدًّا، وبيبليوغرافيا، وفهرست. فالكتاب يقع في أكثر من خمسمائة صفحة. إذن نريد استعراض عناوين الفصول، وإذا كان لديك قول خاصٌّ في خصوص كل منها.
د. أشرف منصور:
سأحاول أن أعطي فكرة سريعة عن كل فصل، الفصل الثاني بعنوان: من اليونانية إلى العربية تراث الأفلاطونية المحدثة المترجم إلى العربية، كريستينا دانكونا هي متخصصة في هذا المجال، وسبق لها أن كتبت كتابًا ليس كبيرًا، وترجم إلى العربية منذ سنوات في دار توبقال حسبما أعتقد؛ فالمحرّران انتقيا المتخصصين في كل فرع أو في كل موضوع ليكتبوا فيه. إن ما يشغل كريستينا دانكونا في هذا الكتاب، هو كيفية انتقال النصوص الفلسفية من اليونانية إلى العربية، والمؤثرات وسياق هذا الانتقال، ليس من حيث الترجمة فقط، وإنما من حيث الموضوعات والأفكار. والمؤثر الأكبر والأساسي في عملية الانتقال هذه هو الأفلاطونية المحدثة، هو مشروع الجمع بين رأيي الحكيمين: أفلاطون وأرسطو. فالطريقة التي دخل بها أرسطو إلى العالم الإسلامي، هي تلبّسه بأفلاطون وبتأويل أفلاطوني؛ لأن التأويل الأفلاطوني المحدث لأرسطو، يضع كل فلسفة أرسطو في سياق التراتب الهرمي للكون الذي نجده في مذهب الصدور عند الأفلاطونية المحدثة. ومن ثم، فالفكر العربي الإسلامي كان في حاجة إلى أن يضع أرسطو في سياق فلسفة أعم وأشمل، تحوي رؤية شاملة للوجود وللإنسان ولموقع الإنسان فيه، وكان هذا من أسباب الجمع بين رأيي الحكيمين، ومن أسباب الطابع الأفلاطوني المحدث لمعظم فلاسفة الإسلام من الكندي إلى صدر الدين الشيرازي باستثناء ابن رشد وبعض المشائين.
د. حسام الدين درويش:
مع الإشارة إلى وجود خطأ في نسبة كتاب "أثولوجيا أو الربوبية" لأرسطو – وهو جزء من تاسوعات أفلوطين – والذي أسهم في الخلط بين أرسطو وأفلاطون وأفلوطين.
د. أشرف منصور:
بالضبط طبعًا، فالفلاسفة العرب المسلمون استقبلوا هذا الكتاب على أنه لأرسطو، ولكن هو لأفلوطين، ولم تكن لهم معرفة بأفلوطين أصلًا، ولما عرفه البعض منهم أطلق عليه الشيخ اليوناني، كما قال عنه عبد الرحمن بدوي في أحد كتبه.
د. حسام الدين درويش:
لن ندخل في مضامين كل نقطة؛ ماذا عن الفصل الثالث؟
د. أشرف منصور:
الفصل الثالث في الكتاب هو، الكندي واستقبال الفلسفة اليونانية، لبيتر آدمسون، وهو أحد محرّري هذا الكتاب، ومتخصص في الكندي وسبق له أن ترجم بعض أعمال ورسائل الكندي إلى اللغة الإنجليزية في مجلدين كبيرين. لقد كان يحاول أن يربط الكندي مرة أخرى بتراث الأفلاطونية المحدثة في العصر الهلينستي المتأخر. والملاحظ أننا كثيرًا ما نمر على الكندي مرورًا سريعًا ولا نهتم به، فيما كان الاهتمام بالفارابي وابن سينا وابن رشد، غير أن بيتر آدمسون في الحقيقة، أعاد الاعتبار إلى الكندي، بوصفه فيلسوفًا عربيًا إسلاميًا رصينًا، وأول الفلاسفة العرب.
د. حسام الدين درويش:
عادةً أو دائمًا تقريبًا، يعترف للكندي بالريادة، لكن هناك من يشكك بقيمة الفلسفة التي يقدمها. لا يعترف له بهذه القيمة، وربما كان التشديد على هذه القيمة أو إعادة الاعتبار للكندي هو ما يمثل الإضافة أو الميزة في هذا الفصل.
د. أشرف منصور:
في الفصل الرابع، الفارابي والتعليم الفلسفي، من تأليف ديفيد رايزمان، والذي لفت نظري في هذا الفصل هو أنه وضع الفارابي في سياق مدرسة بغداد، وفي سياق أساتذة الفارابي وتلاميذه؛ أي عالج الفارابي بوصفه ظاهرة، فيلسوفًا معتبرًا، ولكنه ظاهرة وسط حلقة، نسميها الحلقة الفلسفية في بغداد؛ فقد عالج هذا الفصل الفارابي على أنه نتاج لهذا العصر ولهذه الحلقة الفلسفية، وعلى أنه الثمرة الأولى لحركة ترجمة التراث الفلسفي اليوناني إلى اللغة العربية.
عنوان الفصل الخامس هو الإسماعيلية ألفه بول وكر، وهو فصل ظريف جدًّا ومفيد، وفيه كثير من الحساسية. ومع هذا الفصل بالذات، لديّ تجربة، للغزالي كتاب بعنوان "فضائح الباطنية"، وقد قرأ بعضنا كتاب الغزالي، ولكن لم يقرأ للإسماعيليين أنفسهم، ولم يتعرف على فلسفة الإسماعيليين. وهذا الفصل يمد القارئ العربي بنظرة شاملة وعميقة، لأبرز أفكار فلاسفة الإسماعيلية، ويفتح شهية القارئ للمزيد من القراءة عن هؤلاء وللبحث عنهم. في رمضان الماضي، عرضت القنوات التليفزيونية مسلسلًا يسمى "الحشاشين" لكريم عبد العزيز، وهو النجم الأول في مصر. والحشاشون طائفة إسماعيلية، والشباب لدينا في مصر، شاهدوا المسلسل وأعجبوا به، فبدأوا يبحثون عن الحشاشين ويقرؤون عنهم، فوجدوا هذا الفصل، وبدأوا يقرؤون عن الإسماعيلية، ولم يجدوا شيئًا عن الحشاشين طبعًا، ولا عن حسن الصباح. لقد توقعوا أن يكون هذا الفصل مليئًا بالحركة "الأكشن" والإثارة مثل المسلسل، وهذا يكشف عن التداخل بين الإعلام والفلسفة. إنه فصل لذيذ ومثير للتفكير، وهو في غاية الجرأة في عرض بول وكر الأفكار الإسماعيلية.
عنوان الفصل السادس، ابن سينا والتراث السينوي، ألفه روبرت وزنوفسكي، متخصص في ابن سينا، وترجم لابن سينا بعض النصوص إلى اللغة الإنجليزية. إن هذا الفصل ليس مقتصرًا على ابن سينا وحده، ولكنه يعرض للمدرسة السينوية بعد ابن سينا. وأودّ أن ألفت نظر الزملاء الأعزاء إلى شيء لاحظته في هذا الكتاب، وهو التحيز لابن سينا على حساب ابن رشد؛ فإذا قسمنا الباحثين في الفلسفة الإسلامية مثل فرق كرة القدم، كالأهلي والزمالك عندنا مثلا، سيكون فريق مؤيد لابن سينا وفريق مؤيد لابن رشد، وبينهم صراع خفي وعداء مكتوم، وهناك فريق ثالث مؤيد للغزالي، والذي يعمل على الإعلاء من شأنه كفيلسوف، بينما ابن سينا والتراث السينوي مستفزّ للرشديين؛ على اعتبار أن ابن سينا هو فيلسوف الإسلام الأساسي الذي يقسم الفلسفة الإسلامية إلى ما قبل ابن سينا وما بعده، وفي المقابل كان ابن رشد يكره ابن سينا، ويقول عنه "هذا الرجل".
د. حسام الدين درويش:
أنت في حواشي الكتاب اعترضت على ذلك قليلًا، ومن دون أن تبدي صراحةً تفضيلك؛ يعني أنت أشرت إلى أن مؤلفي فصول الكتاب عمومًا وبيتر آدمسون خصوصًا متحيزون لابن سينا، وعقبت بأن "لكلّ منا فيلسوفه المفضَّل". ومن الواضح أنك رشديٌّ، وأن فيلسوفك المفضل هنا هو ابن رشد؟
د. أشرف منصور:
نعم، وأنا كتبت كتابًا عن ابن رشد. هذا المديح لابن سينا، على حساب ابن رشد، يثير القليل من القلق.
الفصل السابع، الغزالي، وهو من تأليف ميشيل مرموره، والذي قام بترجمة كتاب "تهافت الفلاسفة" إلى اللغة الإنجليزية، وهي ترجمة رائعة ودقيقة للغاية، وأعجبت بها حين قرأتها، والترجمة منشور بها النص العربي مع الترجمة الإنجليزية في صفحتين متقابلتين.
كانت مهمة ميشيل مرمورة في هذا الكتاب، هي تصحيح بعض وجهات النظر الخاطئة والعالقة بالغزالي، بوصفه معاديًا للعقلانية وللفلسفة وفلاسفة الإسلام، وتحميله مسؤولية انهيار التراث الفلسفي أو الإساءة لسمعة الفلاسفة في الإسلام. ولهذا نرى في هذا الفصل لميشيل مرمورة ملمحًا آخر من ملامح الغزالي؛ عقلانية خاصة بالغزالي ترفض سلطة أرسطو التي تتحرك بسهولة بين الفلسفة والتصوف وعلم الكلام.
د. حسام الدين درويش:
ربما هذه المسألة بالذات، أصبحت مثيرة أو مثار أبحاث كثيرة في العالم الأكاديمي المعاصر؛ وأقصد تلك الصورة النمطية عن الغزالي بوصفه قاتل الفلاسفة أو صاحب الطعنة النجلاء للفلسفة التي أصابتها في مقتلٍ، ولم تقم لها، بعد ذلك، قائمةٌ، في العالم العربي/ الإسلامي. لكن، هناك الآن نظرة مضادة، تزداد انتشارًا وحضورًا وقوة، وتعده أحد (أهم) الفلاسفة العرب والمسلمين.
د. أشرف منصور:
حقيقة هناك رأي في الغزالي لدى بعض الأكاديميين الغربيين، وهو أن الغزالي كان يتخفى؛ بمعنى أن الطريقة الوحيدة لإدخال الفلسفة في الإسلام هي إدانة الفلسفة؛ فالمجتمعات الإسلامية تكره الفلسفة والفيلسوف، والطريقة الوحيدة كي نقدم لهم الفلسفة هي إدانة الفلسفة باسم تهافت الفلاسفة، والغرض الحقيقي لهذا الكتاب هو تعريف المسلمين بالفلسفة وبطريقة التفكير الفلسفي، وهذا هو أسلوب التخفي لتسريب الفلسفة إلى مجتمع معاد للفلسفة. وأعتقد أن الغزالي مارس هذا الأسلوب في علم الكلام، فقد كتب كتابًا بعنوان: "إلجام العوام عن علم الكلام"، ليفتح شهية القارئ للمزيد من علم الكلام، كما كتب كتابًا بعنوان: "فضائح الباطنية"، ينتهي بك إلى الإعجاب بالباطنية إعجابًا خفيًّا.
كتب الفصل الثامن، الفلسفة في الأندلس ابن باجة وابن طفيل، جوزيف بويج مونتادا، وهو أحد المتخصصين الأساسيين في العالم حاليًا، في فلسفة الأندلس. كنت أتمنى أن يُخصّص لابن باجة فصلٌ، ولابن طفيل فصلٌ آخر، ولكنه عالجهما على أنهما من المدرسة المشائية الأندلسية، ولا توجد أي مشكلة في هذا الموضوع. وقد لاحظت في هذا الفصل، أنه يرمي على ابن رشد؛ أي إنه يحاول أن يجد أصول فلسفة ابن رشد في فلسفة ابن باجة وابن طفيل، إلا أن الأمر الأساسي الذي يفصلهما عن ابن رشد هو الانعزال بالفلسفة عن المجتمع؛ ابن باجة تدبير المتوحد، وابن طفيل حي بن يقظان، المنعزل في جزيرته، بينما كان ابن رشد أكثر انخراطا في المجتمع.
ألف الفصل التاسع، المعنون بـ: ابن رشد الجدل الكلامي والفلسفة الأرسطية، ريتشارد تايلور، تخصصه الدقيق الذي قدم فيه العديد من الأبحاث الأكاديمية على مدى ثلاثين سنة، هو نظرية ابن رشد في الميتافيزيقا وفي العقل وفي نظرية المعرفة، وهذا هو ما قرأته له، كما تخصص في الأبعاد الفلسفية لكتاب "فصل المقال" بالذات، وللعلاقة بين الخطاب الجدلي والخطاب البرهاني في فلسفة ابن رشد وما بعده. لقد ركز في هذا الفصل على موقف ابن رشد من علم الكلام، ومن الخطاب الجدلي بوجه خاص. ونحن على صلة وثيقة مع هذه المسألة من مؤلفات عربية كثيرة، ابتداءً من أعمال محمود قاسم في مصر، وعاطف العراقي، ومحمد عابد الجابري، ومحمد المصباحي في المغرب. فهو ينتمي إلى هذه المدرسة التي تريد توضيح التمييز الرشدي بين الكلام والفلسفة أو الخطاب الجدلي والخطاب البرهاني، والمشكلة التقليدية الأزلية؛ العلاقة بين الدين والفلسفة في الخطاب الرشدي.
الفصل العاشر، السهروردي وفلسفة الإشراق، من تأليف جون والبريدج، يعالجه على أنه متصوف إشراقي، وبسهولة يمكن أن نعالج السهروردي على أنه فيلسوف في تراث الأفلاطونية المحدثة العربية، ونربطه بسهولة بإخوان الصّفا، ويمكن أن نربطه أيضا بسهولة بابن سينا، غير أن المؤلف آثر أن يربطه بالتصوف أكثر.
تناول الفصل الحادي عشر التصوف والفلسفة؛ ابن عربي وصدر الدين الشيرازي، وهو من تأليف باحث إيراني هو سجّاد رضوي. طبعا، ابن عربي أندلسي، وصدر الدين الشيرازي عاش في أصفهان، في أقصى شرق العالم الإسلامي، وابن عربي أندلسي في أقصى غرب العالم الإسلامي، ويفصلهما عدد من القرون، وقد يعتقد القارئ أنهما ينتميان إلى عصر واحد أو إلى قرن واحد، إلا أن هذا غير صحيح. ويبدو أن الفلسفة في هذا العصر، قد تحولت إلى فلسفة صوفية أو اتجهت إلى التصوف. وهذا ما يقصد سجاد رضوي إبرازه. والشيرازي بالنسبة إلى الباحثين الإيرانيين حاليا، يشهد ازدهارًا كبيرًا في الأبحاث والدراسات وفي المؤتمرات أيضا.
ابتداءً من الفصل الثاني عشر، ينتهي تناول الفلاسفة بوصفهم شخصيات مستقلة، ويبدأ تناول الموضوعات والمسائل؛ فالفصل الثاني عشر، كان عن المنطق لتوني ستريت، مهمّ للغاية، فهو صغير، وكل من يريد أن يعرف شيئًا عن تطور المنطق في العالم الإسلامي وكيفية تدريس المنطق في مدارس الفلسفة الإسلامية، فعليه بهذا الفصل المهم.
كتب الفصل الثالث عشر، الفلسفة الأخلاقية والسياسية، تشارلز بتروورث، وهو تلميذ محسن مهدي الذي بدوره هو تلميذ ليو شتراوس، فأنا أشعر في هذا الفصل بليو شتراوس وبمحسن مهدي؛ أي بمنهج ليو شتراوس الذي ورثه محسن مهدي في التعامل مع النصوص الفلسفية الإسلامية على أنها نصوص مستورة، والتي تحاول أن تخفي أكثر مما تظهر؛ يعني تناصر الفلسفة بطرائق أخرى غير معروفة إلا للمتخصصين. وقد ركز تشارلز بتروورث في هذا الفصل على طائفة كثيرة من الفلاسفة، ولكنه ركز على الفارابي وابن رشد، ويعد هذا الفصل تلخيصًا لدراسات سابقة لديه. إنه فصل في غاية الإبداع لمن يريد معرفة موقف الفارابي الحقيقي وموقف ابن رشد الحقيقي من العلاقة بين الفلسفة والدين.
تناول الفصل الرابع عشر الفلسفة الطبيعية، كتبه مروان راشد. لقد سبق أن ذكرت في المقدمة أن هناك باحثين عرب يقيمون في أوروبا ويدرّسون في الجامعات الأوروبية، ويكتبون عن الفلسفة العربية باللغات الأوروبية، وكنت أقصد مروان راشد. لقد ركز في الفلسفة الطبيعية على النظرية الذرية بوجه عام، وعلى بعض القضايا في الرياضيات العربية، وهذا فصل في غاية الإبداع والأهمية؛ لأنه لا يركز فقط على مجال الفلسفة الطبيعية أو على الفلسفة الطبيعية الأرسطية، إنما ركز على الفلسفة الطبيعية اللا أرسطية.
ألّف الفصل الخامس عشر، السيكولوجيا النفس والعقل، ديبورا ل. بلاك. يهتم الفصل بالقضايا المتعلقة بالعلاقة بين النفس والعقل من وجهة نظر إبستمولوجية وأخرى كوزمولوجية، كوزمولوجيا العقل في الإسلام، وفق نظرية الفيض، نظرية العقول العشرة، العقل الفعال، إسهام العقل الفعال في المعرفة، العقل الهيولاني الذي هو إمكانية معرفية عامة مشتركة لدى البشر، ثم العلاقة بين هذه العقول والمعرفة الإنسانية، ثم يتناول دور المخيلة في المعرفة، وهو أحد الإضافات المهمة لفلاسفة الإسلام على فلاسفة اليونان.
يتناول الفصل السادس عشر، الميتافيزيقا، تأليف تيريز – آن دروآرت، الميتافيزيقا كقضية وكمبحث في الفلسفة عند الكندي وأبي بكر الرازي، وما يشغل هذا الفصل هو تبرير فلاسفة الإسلام لمشروعية التفكير الميتافيزيقي، هل من المشروع البحث في الميتافيزيقا، ليست مشروعية دينية، ولكنها مشروعية إبستمولوجية معرفية، هل من المشروع التفكير في قضايا الميتافيزيقا، وكيف فكر فلاسفة الإسلام في الميتافيزيقا، خاصة أبو بكر الرازي والفارابي، وهي تركز على الفارابي كثيرًا، ثم تركز على ابن سينا، وأخيرًا الغزالي.
ويعد الفصل السابع عشر، الفلسفة الإسلامية والفلسفة اليهودية، لستيفن هارفي، من أهم فصول الكتاب، وهو فصل تاريخي يبين كيفية تأثير فلاسفة الإسلام في الفلسفة اليهودية، وخاصة موسى بن ميمون، ويدرس ظاهرة التوازي بين المذاهب الفلسفية الإسلامية والمذاهب الفلسفية اليهودية أو العبرية؛ فهم لديهم تراث مشائي خالص أيضا، وتراث أفلاطوني محدث، بالإضافة إلى تراث القبالة الصوفي الذي يوازي بعض الاتجاهات لدينا في الفلسفة وفي التصوف الإسلامي. والحقيقة أن هذا الفصل، يمكن أن يكون بداية بحث لدينا في أثر فلاسفة الإسلام في الفلسفة اليهودية.
ويمثل الفصل الثامن عشر، من العربية إلى اللاتينية استقبال الفلسفة العربية في أوروبا الغربية، ل تشارلز بورْنِت، دراسة بيبليوغرافية تتبع انتقال أعمال فلسفية بعينها إلى أوروبا الغربية عن طريق الترجمة التي حدثت في أواخر العصور الوسطى وفي عصر النهضة. وتبين هذه الدراسة البيبليوغرافية حجم التأثير الذي مارسته الفلسفة الإسلامية في أوروبا، ومدى انتشار المؤلفات العربية في الفلسفة وفي الطب أيضا، وفي العلوم الطبيعية في أوروبا. وهناك ملحق لهذا الفصل يسمى الأعمال العربية المترجمة إلى اللاتينية قبل سنة 1600؛ فالتأثير الفلسفي العربي في أوروبا في العصور الوسطى وعصر النهضة واسع ومنتشر ومتعدد وعميق حتى سنة 1600 التي ذكرها المؤلف، ولكن بعد هذا التاريخ أصيبت الفلسفة العربية في أوروبا بالسكتة القلبية وتكاد تكون ماتت، لماذا؟ حسب الطبعات الحديثة لأعمال الفلاسفة العرب، حتى سنة 1600 كان كتاب القانون لابن سينا يطبع في مطابع وبلدان كثيرة في أوروبا، وكانت أعمال ابن رشد تطبع، وآخر طبعة لأعمال هي التي طبعت في جونتا في النصف الثاني من القرن السادس عشر، وهي أعمال أرسطو الكاملة بشرح ابن رشد.
د. حسام الدين درويش:
هذه النقطة بالذات دكتور تستحقّ الإشارة والانتباه إليها، فأنت تحدثت عن خصوصية الفلسفة العربية من عدة نواحي. فمن ناحيةٍ أولى، إن فترة الفلسفة العربية هي الأطول مقارنة بالفترات الأخرى للفلسفة. ومن ناحيةٍ ثانية، كانت الفلسفة العربية متأثرةً بالفلسفة اليونانية إلى درجةٍ سمحت لبعض الباحثين أو المفكرين إلى التجرؤ على القول إنها مجرد فلسفة يونانية كتبت بحروف عربية. ومن ناحيةٍ ثالثةٍ، يبدو واضحًا أن الفلسفة العربية أثرت بشدة في محيطها الثقافي الأقرب والمحيط الأوروبي. وأنت تقول، في هذا الصدد، إن أوروبا تعلمت الفلسفة من فلاسفة الإسلام والترجمات الفلسفية العربية. فهي الأكثر تأثرًا من ناحية، والأكثر تأثيرًا من ناحية أخرى. وقلما تجد فلسفة تأثرت بهذه القوة، وأثرت أيضا بهذه القوة، لكن هناك من يريد أن ينكر أحد هذين الأمرين.
د. أشرف منصور:
الذي نريد أن نبحث فيه بوصفنا باحثين متخصصين، هو لماذا توقفت الفلسفة العربية عن التأثير في أوروبا خلال القرن السابع عشر بالذات؟ كما قلت هو تشبيه قاس قليلًا، ولكنه أقرب إلى الصحة. أصيبت الفلسفة العربية الإسلامية في أوروبا بالسكتة القلبية في القرن السابع عشر؛ فالرشدية اللاتينية كانت سائدة في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، الرشدية النهضوية أو رشدية عصر النهضة كانت موجودة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وكانت أعمال ابن سينا تطبع سنويًا في أوروبا حتى القرن السابع عشر أيضا. ماذا حدث في القرن السابع عشر كي تنتهي الفلسفة العربية من الحضور والتأثير في أوروبا؟ طبعًا القرن السابع عشر هو قرن فرنسيس بيكون، وديكارت، وسبينوزا، ولايبنيتز، وبييربايل وهكذا. إنه عصر انفجار التراث الفلسفي الأوروبي الغربي الحديث
د. حسام الدين درويش:
طبعًا، هذا الكتاب ليس الكتاب المتخصص أو المختص في الإجابة عن هذا السؤال. وفي كلّ الأحوال، كلّ نهايةٍ هي بدايةٌ أيضًا. ونهاية عرضنا لفصول الكتاب هو الفصل التاسع عشر.
د. أشرف منصور:
يعد الفصل التاسع عشر، تيارات متأخرة في الفلسفة العربية والفارسية، لحسين ضيائي، فصلًا قصيرًا، يحاول مؤلفه البحث في امتدادات الفلسفة الإسلامية داخل التراث الإيراني خلال القرون التالية على صدر الدين الشيرازي. ويمكن أن يكون هذا الفصل دليلًا استكشافيًا للباحثين لدينا، كي يعرفوا مصير الفلسفة السينوية وفلسفة صدر الدين الشيرازي في إيران في العصر الحديث.
أشكركم على صبركم، فقد أخذنا وقتًا طويلًا.
د. حسام الدين درويش:
العفو، وشكرًا جزيلًا لك. أريد أن أختم بسؤال في غاية الأهمية، لإظهار التعدد في الوحدة. فعندما نتحدث عن التناول الغربي للفلسفة العربية؛ يمكن أن يبدو أن هناك تناولًا واحدًا أو طريقةً واحدةً لهذا التناول. وأنت، ربما، تعزز هذا الانطباع عندما تحدثت في المقدمة عن بعض الأطروحات المستقرة لدى الأكاديميين الغربيين في دراسة الفلسفة العربية الإسلامية. من ناحية أخرى، يشير محرّرا الكتاب إلى وجود بعض الاختلافات في الرأي بين أو مع بعض مؤلفي فصول هذا الكتاب. وهذا يعني أن هناك تنوّعًا في الرأي بين الأكاديميين الغربيين الذين تتحدث عنهم. فإلى أيّ حدٍّ يمكن الحديث عن وحدة لا تنفي التنوع؟ وما السمات العامة لتناول الباحثين الغربيين أو البحث الغربي لهذه المسألة: مسألة الفلسفة العربية؟ وما الاختلاف بين التناول الأكاديمي الغربي والعربي لها؟
د. أشرف منصور:
عندما يكتب الغربيون في الفلسفة الإسلامية، فهم يركزون على تحليل النصوص؛ فالنص مهم جدًّا بالنسبة إليهم، ولذلك غالبا ما يحيلون إلى رقم السطر، وليس إلى رقم الصفحة. ونحن عندما نشتغل بالفلسفة الإسلامية، نقرأ كتاب الفيلسوف كما نقرأ أي كتاب آخر، العربية هي لغتنا الأم، ولذلك نقرأ النص الفلسفي العربي بسرعة ولا نقف كثيراً على الكلمات والعبارات. الباحث الغربي يحيل إلى الصفحة وإلى السطر، ويركز على الكلمة ويحللها؛ لأنهم غربيون، واللغة العربية ليست هي اللغة الثانية بالنسبة إليهم، فقد تكون الثالثة أو الرابعة، الباحث الغربي، الفرنسي على سبيل المثال، اللغة الأجنبية الأولى بالنسبة إليه، سوف تكون اللغة الإنجليزية أو الألمانية، وسوف يكون مجيدًا للاتينية أو اليونانية، وبالتالي فاللغة العربية هي اللغة الرابعة أو الخامسة لديه، هي لغة بحثية، وبالتالي فهو يهتم بالنصوص أكثر من اهتمام الباحثين العرب بالنص أو تحليل النص الفلسفي، كما يميل إلى التركيب. نحن نريد ولا نزال، أن نقدم الفلسفة الإسلامية إلى الناس، فنميل إلى التحليل ونميل إلى العرض والشرح، ولكنهم يميلون إلى التركيب نظرًا لأوضاعهم الأكاديمية في الغرب؛ لأنهم يحاولون تقديم أبحاث علمية للترقية والتأهيل الأكاديمي للبحث عن وظائف في الجامعات الغربية الصعبة حاليًا، كما أن الاختزال والاختصار سائد لديهم، وهناك نوع من المدارس الفكرية في دراسة الفلسفة الإسلامية لديهم، وتشعر لدى بعضهم أنه يخاطب الأكاديميين في التخصص. ولذلك لا يشرح كثيرًا، ويفترض أن للقارئ معلومات كثيرة، وهو متخصص مثله.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا، لك، مرة أخرى، دكتور أشرف.
د. أشرف منصور
خالص شكري وتقديري لك صديقي العزيز دكتور حسام، والشكر موصول إلى العزيزة الفاضلة الدكتورة ميادة كيالي، ولكلّ الأساتذة والأخوة والزملاء والأصدقاء الأعزاء الذين شرّفوني بالمتابعة اليوم.