حوار مع رياض الميلادي: ترجمة النصّ الديني وتأويله سبيلا إلى تحرير الوعي الإسلامي
فئة : حوارات
أنس الطريقي: كيف تقدّمون سيرتكم الفكريّة لقرّاء المؤسّسة؟
رياض الميلادي: رياض الميلادي جامعي تونسي مدير قسم العربية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس وباحث في الحضارة العربية الإسلامية، وفي شؤون الترجمة تنظيرا وممارسة، تدور المشاغل التي أهتم بها على النصّ الديني قراءة وترجمة وتأويلا. وتُعنى بحوثي بهذه القضايا إن تأليفا أو تعريبا. ويجدر بي أن أضيف أنّ سيرتنا الفكرية تندرج في سياق ما تسعى إليه الجامعة التونسية منذ عقود من رغبة في تطوير علوم الإنسان وتحيين مناهج التعاطي مع القضايا المتّصلة بالراهن الإنساني في جميع أبعاده.
أنس الطريقي: من أعمالكم المعروفة أطروحة الدكتوراه "الكتاب أصلا من أصول التشريع"، والتي نشرتها مؤسّسة مؤمنون بلا حدود في طبعة أولى عام 2016. لو حدّثتمونا عن هذه الأطروحة، ما هو مدارها، وما هي أهمّ النتائج التي خلصتم إليها ومدى أهمّيتها في ضوء ما يغلب على الكتابات المعاصرة في أصول الفقه عموما من نزعة إلى اجترار آراء علماء الأصول القدامى وإعادة إنتاجها بلغة جديدة؟
رياض الميلادي: تمثّل الأطروحة، في ما نقدّر، محاولة للعودة إلى خطاب أصوليّ تشريعيّ شمل قرونا عديدة، وما زال عدد من المعاصرين يعودون إليه على نحو من الحنين إلى استحضاره واعتباره قادرا على الإجابة عن أسئلة الواقع التاريخي الراهن. وسعينا في عملنا إلى العودة إلى المفاهيم الجوهرية التي قام عليه الفكر الأصولي في فلسفته العميقة، وهي مفاهيم الحجيّة والثبوت والبيان والدوام، وهي عودة نقديّة تحليليّة. وقد يتبادر إلى ذهن القرّاء أنّ كتابة الأطروحة على صلة بعودة الإسلام السياسي من جديد في الفضاء العربي، ولاسيّما في مصر وتونس بعيد الثورة، إلاّ أنّ الحقيقة ليست كذلك البتّة. فالقضايا التي تطرحها رسالة الدكتوراه، وهي تتّصل بالنص القرآني وطاقة التشريع فيه، إنّما هي قضايا سابقة لعودة الإسلام السياسي؛ ذلك أنّنا بدأنا الاشتغال بالموضوع منذ سنة 2005 وربّما قبل ذلك الزمان. إنّ الأطروحة سليلة مدرسة تونسيّة نشأت داخل أسوار أقسام العربيّة بالجامعة في اختصاص فريد فيها هو "الحضارة"، وهو اختصاص موجود في بعض الجامعات الغربية، ويُعنى بالقضايا الدينية دون أن يكون همّه الأساسي إثبات حقيقة تلك العقائد أو بطلانها، وإنّما همّه البحث في وظائفها ومدى تماسكها وتطوّرها وعلاقتها بالتاريخ وغيره. وقد تحدّث كريستيان لانغ عن هذا الاتجاه البحثي في الجامعة الألمانية، وبيّن ما يميّزه من البحوث الكلاسيكية التي تُجرى في الجامعات اللاهوتية (انظر مقدّمة كتابه للترجمة العربية: "العدالة والعقاب في المتخيّل الإسلامي خلال العصر الوسيط"، دار المدار الإسلامي، بيروت 2016)، غير أنّ راهنيّة كتابنا الذي نشرته مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدراسات ولأبحاث، مشكورة، سنة 2016 قد تعمّقت بعد أحداث الثورة في الوطن العربي. فقد حاولنا في الكتاب دراسة طاقة النصّ على التشريع، وبينّا بالحجة والبرهان أنّ القرآن كتاب دين من الأديان الكبرى التي أثّرت في مسيرة البشرية: هو كتاب هداية يحوي جوهر القيم الكونية ولكن لا يمكن تحميله ما لا طاقة له به أو ما لم يُرسل من أجله. وقد عبّر القدامى عن ذلك منذ أجيال، فالمتناهي لا يمكن أن يحيط بما لا يتناهى. وعليه دُعِيَ الإنسان في الإسلام إلى فضيلة التدبّر بالعقل في كلّ شؤون البشر المستجدّة.
أنس الطريقي: أطروحتكم في أصول الفقه، وحول وضع القرآن في أصول الفقه كما تقرّر مدرسيّا منذ الشافعي. في كلّ بحث علميّ هناك أهداف نظريّة وعمليّة باعثة على الاهتمام بموضوعه، فما الذي وجّهكم علميّا وحضاريّا إلى هذا الاهتمام، أو عبارة أخرى في أيّ سياق علمي معرفي وحضاري يمكن لكم أن تضعوا هذه الأطروحة؟
رياض الميلادي: يمثّل عملنا جهدا تنظيريّا راهنا كأشدّ ما يكون؛ فالعودة إلى القرآن مصدرا أوّل للتشريع ما زال مطلبا يستعاد في اللحظة الراهنة من حين إلى آخر ولاسيّما في مراحل الأزمة، ولذلك رأينا أن ننظر في طاقة القرآن على التشريع لا من خلال المواقف الإيديولوجية الخارجة عن سياق النصّ، بل من داخل منطق القرآن ذاته، ومن داخل المصنّفات الأصوليّة بدءا بالرؤية السياسية الشافعيّة، وصولا إلى الرؤية المقاصديّة التي أرساها أبو إسحاق الشاطبي في القرن الثامن للهجرة / الرابع عشر للميلاد.
وأظنّ أنّ السياق الأكبر الذي أضع فيه الأطروحة هو سياق رغبة أو واجب إعادة النظر في النصوص التأسيسية التي بنت الثقافة الإسلامية وأسّست علومها. ولقد سبقتنا الثقافات الأخرى في العودة إلى نصوصها الكبرى من أجل إعادة فهمها وقراءتها وتأويلها على أساس أنّ المثقف المعاصر قادر على تحيين المعاني ومراجعة ما استقر من أفهام اكتسبت بفعل الزمن معنى البداهة. ولا يشكّ قارئ هايدغير وغادامير وريكور وغيرهم في أنّ الفهم والتأويل والترجمة ليست أفعالا ثابتة، بل هي متحوّلة بتحوّل وضعياتنا التأويليّة ومتغيّرة بحسب ما يطرحه على النصوص من أسئلة هي أسئلة العمران البشري الموسوم بالتطوّر المستمرّ.
إذا فهمنا هذا السياق المعرفي العام وإذا تمثّلنا رهاناته تصبح الإجابة عن أطروحات أصحاب الإسلام السياسي مشغلا هيّنا بسيطا. ذلك أنّهم يأخذون مواقفهم بالتقليد عن أصحاب المقالات من الأصوليّين الكلاسيكيّين. ونحن قدّمنا قراءة نقدية بينّا فيها حدود تلك المقالات الأصوليّة التي عليها يعتمدون. ولذلك، فنحن نعتبر أنّ النتائج التي انتهينا إليها في أطروحتنا تسحب البساط كليّا من تحت أرجل التيّارات الإسلامويّة، وتبين عن هشاشة مقالاتهم وسطحيّة مواقفهم.
أنس الطريقي: إذا كان التحوّل التاريخيّ المرغوب للعالم الإسلاميّ يرتبط في جانب منه بتحيين الفهم التاريخيّ للنصّ المركزيّ المؤسّس للوعي الإسلاميّ عامّة أي القرآن، فكيف يمكن أن يساهم تناول هذه المواضيع في هذه العمليّة، ونحن في سياق تداوليّ يهيمن عليه النفور العامّ من فتح هذه الأبواب الموصدة؟
رياض الميلادي: نعتقد أنّ سبيل تحوير الوعي الإسلامي وتحريك التمثّل السائد للنصّ التأسيسي، لا يمكن أن يتحقّق إلاّ من خلال قراءة متعقّلة للتراث الفقهي والنظر فيه نظرة تاريخيّة بالتركيز على آليات اشتغال العقل الفقهي في كلّ لحظة من لحظات التاريخ الإسلامي. وأمّا القسم الثاني من تحوير الوعي، فيكون بالنظر إلى ما حدث وما يحدث في الضفاف الأخرى من بحوث جزئيّة في مقاربة النصّ الديني. والرأي عندي أنّ الأساسي في تناول قضايا الدين عقيدةً وتشريعا إنّما يتمثل في احترام حقّ الآخرين في الاختلاف عنّا في آرائنا ومواقفنا، فلا أحد يملك الحقيقة كلّ الحقيقة، ولا أحد من حقّه أن يصادر حرّيّة الآخرين في التفكير على نحو مختلف. وقصارى ما نطمح إليه هو تأسيس حوار رصين يقوم على سلامة الحِجَاج بعيدا عن المواقف الإيديولوجية المسبقة وبعيدا عن البنى المغلقة. وإذا نجحنا في تدعيم هذا الحوار بعيدا عن العنف بكلّ أشكاله وبعيدا عن التكفير والتخوين وغيرها كان ذلك أوّل الطريق في تحرير الوعي وتطويره.
أنس الطريقي: ما الجدوى اليوم من التأليف في أصول الفقه اعتبارا إلى شواغل المسلم المعاصر من جهة، واعتبارا إلى تنوّع مصادر التشريع، وخاصّة منها التشريع الوضعي من جهة أخرى؟
رياض الميلادي: هذا الطرح في حدّ ذاته القائم على البحث عن الجدوى هو طرح الثقافة العالميّة؛ ذلك أن يكون جموع المؤمنين يتوهّمون أنّنا نملك منظومة تشريعيّة قادرة على الاستغناء عمّا سواها. ولذلك يجدر أن نراقب هذه المنظومة، وأن نقيس حدودها وأن نضبط قدرتها على استيعاب القيم الجديدة، ثمّ نحكم بعد ذلك على جدوى طرح مثل هذه القضايا. ومن المهمّ في نظرنا ألاّ ننسى أنّ مسألة التشريع، وهي في قلب علم أصول الفقه، مازالت متلجلجة في الفكر الإسلامي وفي الممارسة التاريخية للمجتمعات المسلمة. فيجب ألاّ ننسى مثلا الجدل الذي اقترن بوضع الدستور التونسي الجديد سيّما الحديث عن الشريعة: أهي مصدر للقانون أم لا؟ ولذلك، فإنّني أتصور بكل تواضع أنّ أعضاء المجلس التأسيسي كان يمكنهم ادخار الكثير من الجهد وربح الكثير من الوقت لو أنّهم اطّلعوا على بعض فصول من أطروحتنا "الكتاب أصلا من أصول التشريع" وعلى غيرها من الأعمال المهمّة في هذا الاتجاه. ولكن يبدو أنّ أغلب مؤسّسي الجمهورية الثانية لم تكن القراءة لتعنيهم كثيرا. والحق أنّهم لا يمكن أن يكونوا للأسف إلاّ صورة أمينة تعكس هويّة أغلب الذين انتخبوهم.
أنس الطريقي: في إطار اهتمامكم المزدوج بالترجمة وبأصول الفقه، أنتم من العارفين بكتابات وائل بهجت حلاّق دراسة وترجمة، ولاسيما وأنّكم ترجمتم أحد كتبه "نشأة الفقه وتطوّره في الإسلام". كيف تقيّمون كتاباته من زاوية المختصّ في الموضوع، وهل هي تجيب عن تطلّعات المسلم المعاصر في ما يخصّ أصول الفقه؟
رياض الميلادي: تمثّل كتابات وائل حلاّق عملا مرجعيّا في قراءة تاريخ الفقه الإسلامي نشأة وتطوّرا. وتكمن أهميّة أطروحة حلاّق في مشروعه البحثي في أنّه يغرّد خارج السرب صحبة ثلّة قليلة من الباحثين الغربيين مثل هارالد موتزيكي (Harrald Motzki)؛ ذلك أنّه يحاول إعادة بناء تاريخ نشأة الفقه الإسلامي وتطوّره على أنقاض أطروحة شاخت وأطروحة الاستشراق الكلاسيكي عموما. وقد ترجمتُ، فضلا عن الكتاب المذكور، عملين مهمّين لوائل حلاّق أوّلهما هو: "هل الشافعي هو أول من أرسى علم التشريع الاسلامي"، وقد صدرت في "حوليّات الجامعة التونسية" سنة 2007، وثانيهما دراسة مطوّلة عنوانها "أوليّة القرآن في أصول الفقه عند الشاطبي"، وصدرت بمجلّة "بحوث جامعية" وهي من منشورات كلّيّة الآداب والعلوم الانسانية بصفاقس سنة 2012. وعندما نمعن النظر في كتاباته، وأعتقد أنّي اطّلعت على أغلبها، فإنّنا ندرك أنّها كتابات موجّهة بالأساس للدراسات الاستشراقية الكلاسيكية المؤرّخة للفقه وأصول الفقه. ومن هنا أهمّيتها وطرافتها، حيث تمكّن الباحث من تجاوز بعض الفرضيات المجحفة في بناء تاريخ العلوم الإسلامية. ولكن حلاّق لم يطّلع، في رأينا، الاطلاع الكافي على المحاولات الجريئة التي اقترحها عدد من كبار المثقّفين العرب المسلمين الذين يكتبون بالعربية أساسا، مثل نصر حامد أبو زيد وعبد المجيد الشرفي وتلاميذه بالجامعة التونسية، وبالفرنسية مثل أعمال محمّد أركون وغيرهم. ولذلك، تبدو النتائج التي انتهى إليها قاصرة عن تقديم إجابات حقيقية عن تطلّعات المسلم المعاصر المستنير، بل كثيرا ما يقف حلاّق في مستوى تلك الشعارات الكلاسيكية القائلة بأنّ الشريعة الإسلامية هي الحلّ، لأنّها تجمع بين القانون والأخلاق، وهو طبعا خطاب يُنَاقش من زوايا عدّة.
أنس الطريقي: متى أردنا الإفادة من خبرتكم في موضوع أصول الفقه، كيف تقيّمون سائر المحاولات التجديديّة التي حاولت دفعه إلى الأمام؟ وما هي في نظركم أبرز سبل التجديد التي ترونها جديرة بالتدبّر في الفقه وأصوله؟
رياض الميلادي: أظنّ أنّ المحاولات التجديديّة في تطوير أصول الفقه الإسلامي قد وقفت على حدودها ومحدوديّتها بعد محاولات الطاهر ابن عاشور وعلاّل الفاسي إحياء التصوّر المقاصدي للشريعة الإسلاميّة. واعتقد أنّ ما يقع من مغامرات تأويليّة عند الإيرانيين وبعض الباكستانيين المعاصرين يمكن أن يكون فرصة لتجديد الرؤية في مسألة النصّ والتشريع من خلال فهم جديد لمعنى الوحي.
أنس الطريقي: كرّستم حيّزا من نشاطكم العلمي للترجمة (كتاب كريستيان لانغ، أعمال وائل حلاّق...)، من أيّة زاوية ترون فائدة الترجمة لتجاوز أزمة المعرفة في الفكر العربيّ المعاصر؟ هل تقدّرون أنّها من زاوية الوضع الإبستيمي للمعرفة في المجال العربي الراهن الذي يُحوج إلى مواكبة آخر المقاربات الفكريّة المتّصلة بالشأن الديني عن طريق التعريب؟ أم هناك زوايا نظر أخرى تعملون ضمنها؟
رياض الميلادي: تندرج أغلب أعمالي في الترجمة في سياق قراءة النصّ الديني أو التأريخ للعلوم الدائرة على النصّ التأسيسيّ. وتبدو أهميّة الانخراط في مثل هذه المشاريع واضحة إن نحن انتبهنا إلى المقاربات الفكريّة المعتمدة وقدرة الأعمال الغربية على نقد بعضها لبعضها الآخر، وهو ما ينهض شاهدا على أنّ الفكر الاستشراقي متطوّر ولا يعكس رؤية واحدة ثابتة، فضلا عن أنّ الأعمال الغربية تعتمد أحيانا مصادر نادرة لا نملك القدرة على الاطلاع عليها.
أنس الطريقي: ما هو تقييمكم لما يُنشر اليوم من ترجمات للفكر الغربي المعاصر في باب الإنسانيّات والعلوم الإنسانيّة؟
رياض الميلادي: هذا الجهد مازال ضعيفا على أهميّته، ولكن يكفي أن نذكّر بأنّ ما يترجم في كامل العالم العربي الإسلامي من كتب هو دون ما تترجمه دولة متقدّمة واحدة، وفي ذلك دليل ساطع على قصور حركة الترجمة عندنا. ولا يزال الناس يظنّون أنّ التأليف أهمّ من الترجمة. والحال أنّ الترجمة فعل ضروري للفهم والحوار. ولذلك، فحركة الترجمة ضعيفة لأنّ حركة التفكير متوقّفة متعّطلة أو تكاد. ومن آيات ذلك في المجال الديني أنّنا لم نعرف حركة إصلاحية بالمعنى العميق للمصطلح في مجال قراءة النصوص التأسيسية على نحو ما شهدته الثقافة المسيحيّة على سبيل المثال. وأعتقد أنّنا لا نستطيع الحديث عن ترجمات جديدة للقرآن إلاّ في ظل حركة ثوريّة في مستوى الفهم والتأويل. وعندما أتحدث هنا عن الترجمة، فإنّني أقصد بها أيضا الترجمة داخل اللغة الواحدة. فنحن نترجم كلّما فهمنا شيئا، ولا شكّ في أنّني هنا أستحضر عبارة ستاينر (Steiner) الشهيرة "أن تفهم يعني أن تترجم". والحقّ أنّي أنظر إلى الترجمة اليوم في سياق أنموذج إرشادي (paradigme) أرساه علماء التأويلية من الفلاسفة يقوم على أنّ الترجمة فعلُ تأويلٍ بامتياز.
أنس الطريقي: ما السبيل إلى تكوين مترجمين متخصّصين في الباب المذكور يساهمون حقّا في مواكبة قرّاء العربيّة من طلبة وباحثين بالخصوص لآخر ما يُنشر من كتابات علميّة موثوق بقيمتها المعرفيّة وتحوز على موافقة النخبة العلميّة على مضامينها؟
رياض الميلادي: الترجمة من هذا النوع تتّصل بنصوص مخصوصة تحمل لغة خاصّة (Langue spécialisée) تقوم على مصطلحات تمثّل ذاكرة العلم. وعليه، لا يمكن أن تكون المعرفة باللغة المنقول منها واللغة المنقول إليها أمرا كافيا، بل يجب أن يملك المترجم وعيا بالعلم موضوع الترجمة. ولهذا، فإنّني أظنّ أنّ الطريقة المثلى في إعداد مترجمين مختصين في مثل هذه العلوم تتمثّل في تكوينهم تكوينا صلبا في كلّ مجال من مجالات العلوم التي نعرف فيها نقصا واضحا، أو نشهد فيها تخلّفا في اعتماد المناهج الحديثة، ثمّ نبحث في هذه الفئة المتكوّنة عن عدد ممّن يحذقون الترجمة إلى اللغة الأمّ. وهذا المنهج هو تقريبا ما تعوّدت عليه الجامعة التونسية، وإن بشكل غير منظّم ومهيكل. ولذلك، فأنت ترى أساتذة اللسانيات يترجمون أمّهات المصادر اللغوية وأساتذة الحضارة ينقلون الكتب القريبة من اختصاصهم وهكذا.