حوار مع شكري المبخوت
فئة : حوارات
حوار مع شكري المبخوت[1]
شكري المبخوت:
أستاذ اللّغة والأدب العربيّ بالجامعة التّونسيّة، متخصّص في الدّراسات اللّغويّة، حاصل على دكتوراه الدّولة في اللّغة والآداب العربيّة بأطروحة حول «عمل النّفي وخصائصه الدّلاليّة في العربيّة». من مؤلّفاته؛ «إنشاء النّفي» (2006)، و«الاستدلال البلاغيّ» (2006)، و«نظريّة الأعمال اللّغويّة» (2008)، «سيرة الغائب، سيرة الآتي: السّيرة الذاتية في كتاب «الأيّام» لطه حسين» (1993)، و«الزّعيم وظلاله، السّيرة الذّاتيّة في تونس» (2016)، و«أحفاد سارق النّار، في السّيرة الذّاتيّة الفكريّة» (2016). من أعماله الإبداعيّة؛ رواية «الطّلياني» (2014)، ورواية «باغندا» (2016)، والمجموعة القصصيّة «السيّدة الرّئيسة» (2015).حاصل على الجوائز التّالية: جائزة وزارة الثّقافة التّونسيّة في البحوث (1994)، جائزة خادم الحرمين الشّريفين للترجمة (2012)، الجائزة العالميّة للرّواية العربيّة (البوكر) (2015)، جائزة الملك فيصل العالمية في فرع اللّغة العربيّة والأدب (2018).
جدل الأمميّة والخصوصيّة
د. نادر الحمّامي: الأستاذ شكري المبخوت، تنفتح تجربتك الّتي بدأت أكاديميّة فكريّة بالأساس، على الحقل الإبداعيّ السّرديّ، وقد عبّرت في أحد حواراتك بقولك «إنّ ما ينقصنا اليوم في تونس، وقد شهدت تحوّلات سياسيّة هامّة، هو كتابة سرديّة تونس الجميلة». فهل أعمالك الإبداعيّة محاولة لكتابة تلك السّرديّة الّتي تحدّثت عنها، خاصّة أنّك تعتبر الرّواية الجنس الإبداعيّ الأكثر قدرة على استيعاب ما يعتمل من حراك سياسيّ واجتماعيّ؟
د. شكري المبخوت: صحيح، وهو مدخل مهمّ؛ لأنّني من جيل تربّى على سرديّات أخرى أوسع، تعرف أنّ أكثر التّيّارات الفكريّة كانت تتحدّث عن سرديّة عربيّة وإسلاميّة وأمميّة، وهذه المكوّنات بالنّسبة إليّ وإلى أبناء جيلي كانت مكوّنات لا تعترف بما كان يسمّيه الخطاب السّياسيّ السّائد المتأثّر ببورقيبة «القوميّة التّونسيّة» و«الأمّة التّونسيّة»، وما زلنا إلى اليوم نعاني من هذا الإشكال. وربّما كانت مواقف أبناء جيلي المتأثّرة بالاتّجاهات الأمميّة اليساريّة أو العروبيّة الإسلاميّة نتاج ردّة فعل تجاه ذلك الخطاب السّياسيّ المتكلّس الّذي لا يتحدّث إلّا عن «أمّة تونسيّة» و«قوميّة تونسيّة»، نراها تُختصر وتجرّد شيئاً فشيئاً في شخص الزّعيم الّذي صنع منّا شعباً وأمّةً. لذلك كانت شخصيّة بورقيبة المُبهرة، في الوقت نفسه، منفّرة لنا؛ لأنّه كان يختصر الذّكاء والألمعيّةَ والبلاد وكلّ شيء، في تلك الشّخصيّة. وكانت له ظلالٌ، فقد ترك الجميع في ظلّه. وبعد ذلك جاء بن علي، وأبقى على النّزعة الفرديّة ذاتها، ولكن بدون كاريزما بورقيبة أو شرعيّته التّاريخيّة؛ فقد كان نسخة رديئة في الحقيقة. وبعد الثّورة عدنا إلى سؤال الخصوصيّة التّونسيّة في تلك الظّرفيّة المتقلّبة الّتي سمعنا فيها عن خلافة سادسة، وذلك لا يخلو من دلالة، حتّى وإن كان سبق لسان، فهو يعبّر في تقديري عمّا كنت أتحدّث عنه من نزعات فوق وطنيّة ومناهضة للدّولة الوطنيّة من حيث تشعر أو لا تشعر. لقد كانت عودتنا إلى ذلك السّؤال، عودة إلى قضيّة كبرى في تونس، هي قضيّة الهويّة؛ فسؤال «من نحن؟» يقول حوله كثيرون، إنّه سؤال ثقافيّ لا يهمّ الشّعب، وهذا غير صحيح، فهو سؤال ثقافيّ وجوهريّ؛ لأنّ الإجابة عنه تحدّد الانعكاسات الأخرى؛ فأن نقول إنّنا أمّة تونسيّة فهذا لم نقله نحن، بل إنّ فكرة «الأمّة التّونسيّة» نجدها لدى الطّاهر الحدّاد (1899-1935) قبل بورقيبة...
د. نادر الحمّامي: وأنت تعتبر أن الطّاهر الحدّاد هو أكبر مفكّر تقريباً في الفترة الحديثة في تونس.
د. شكري المبخوت: نعم، وليس في تونس فقط، بل في العالم العربيّ، ويمكن أن أقدّم فكرة بسيطة في هذا. المهم أنّنا حين عدنا إلى مسألة الخُصوصيّة التّونسيّة، أو ما سمّي أحياناً استثناءً تونسيّاً، كان ذلك في خضمّ الصّراع من أجل تونس؛ فالثّورة رفعت الغطاء عن مرجل يغلي، حيث شهدنا عودة النّزعات البربريّة ونزعات الأقلّيّات المختلفة؛ علاوة على عودة فكرة الخلافة السّادسة مع التّوجّه الإسلاميّ. وكان الظّرف الإقليميّ آنذاك، والتّركيبة الأيديولوجيّة الأولى، يسمحان بظهور هذا الصّراع. لذلك كان سؤال السّردية التّونسيّة على معنى أن نكتب قصّتنا، لأنّني أعتبر في جانب ما، لا أخفيه، أنّ الأبعاد العروبيّة أو الإسلاميّة أو الأمميّة أو الإنسانيّة أو الكونيّة... كلّها موجودة فينا، وعلينا ألّا نجعلها في تعارض مطلق مع هذه الحكاية أو القصّة التّونسيّة، فهي بعض من المادّة الّتي تكوّنها.
د. نادر الحمّامي: إذن، ينبغي الإيمان بالقيم الكونيّة، لكن مع وجوب تنزيلها ضمن خصوصيّات معيّنة، بما يستتبع ذلك من استحضار للصّراع الدّائم بين ما هو كونيّ وما هو خصوصيّ. ولعلّنا نلمس هذه الفكرة في رواية «الطّلياني»، انطلاقاً من ملامح الشّخصيّتين الأساسيّتين عبد النّاصر وزينة، وقد كانت زينة مثال الشّخصيّة المتمرّدة، وصورة عن المثقّف الّذي يسعى إلى خلخلة البنى الاجتماعيّة، ويبحث عن طوباويّات أخرى مغايرة؛ فهل نفهم من ذلك أنّك تضمّن الحكاية نقداً لمبدأ تبنّي القيم الكونيّة دون اعتبار الخصوصيّة الثّقافيّة والاجتماعيّة؟
د. شكري المبخوت: هذه معضلة أيضاً، فالتّوجّه الكونيّ العالميّ، إنّما هو توجّه نحو مزيد من التّنميط، وأعتقد أنّنا لا يجب أن نضع الخصوصيّات الثّقافيّة في تعارض حادّ مع المبادئ والقيم الكونيّة، خصوصاً في ما يتّصل بالمنظومة الحقوقيّة، ونحن نعرف أنّ الحضارة الغربيّة هي المهيمنة على العالم اليوم، سواء شئنا ذلك أم أبينا، فثمّة تراجع للرّسالة الكبرى للإسلام في الكون، وأقصد الرّسالة في بعدها الإنسانيّ وليس في تفاصيلها؛ ويبدو أنّ تقدّم الرّسالة الكونيّة كان متوازياً مع تراجع الرّسالة الإسلاميّة أو ما يمكن أن نعبّر عنه بالمشروع الإنسانيّ الإسلاميّ، ما طرح تناقضات عديدة، وجب علينا إيجاد حلول لها. فلا يمكن مثلاً، أن نبرّر انعدام المساواة بين المرأة والرّجل بحيل فقهيّة، أو بالتّمسّك بأنماط تفكير تاريخيّة ومتحجّرة. هذا في رأيي، مسار ستبلغه جميع البلدان الإسلاميّة بنوع من الحتميّة التّاريخيّة، وتاريخ الأفكار يؤكّد هذا وليس أنا. فلا يمكنك أن تكون ليبراليّاً في الاقتصاد مندمجاً في سياق العولمة بصيغها الوحشيّة أحياناً، وفي الآن نفسه، تبقى هكذا معزولاً ثقافيّاً في ركنك، مطمئنّاً إلى مسلّماتك. صحيح أنّنا في وضعيّة تبدو «كارثيةً»، لكنّ ذلك ليس حتميّة قدريّة، فلا يجب أن ننظر إلى النّصف الفارغ من الكأس فحسب، بل علينا أن ننظر أيضاً إلى النّصف المملوء منه، فهناك تحوّلات عميقة في مجال النّموّ الدّيمغرافيّ والتّعليم والصّحّة والتّكنولوجيا بما تحمله وراءها من إمكانيّات... هذا كلّه لا يمكن أن يُبقي واقعنا وواقع العالم العربيّ والإسلاميّ والعالم الثّالث عموماً، على ما كان عليه، فهذا مستحيل. ولكن ثمّة جهد نظريّ ينبغي أن يُبذل حتّى نستطيع أن نروي واقعنا بتمزّقاته، لا أن نروي أوهامنا فحسب. وحين ننظر في شخصيّتي زينة وعبد النّاصر؛ نلاحظ أنّهما يلتقيان ويتباعدان، في محاولة لرسم تمزّقات هذا الإنسان وتردّداته، وعلينا أن نحفر عميقاً في مثل هذه الحالات الفرديّة حتّى نفهم أنّ الحديث عن الفضائل، مطلقاً، لم يعد نافعاً، ولا يعني ذلك أن نتخلّى عن الفضائل، ولكن أن ننظر إلى الإنسان في حركيّته في الزّمان والمكان؛ أي في تاريخيّته. وسيكون ذلك بمثابة المرايا الّتي يصنعها الكتّاب والسّاردون والرّوائيّون، وأنا أرى فيها وجوهنا. فليس من باب الصّدفة أن الشّباب العربي اليوم، بتوجّهاته المختلفة، يقبل على مطالعة الرّواية والكتابات الفلسفيّة، ولعلّ مأتى ذلك أنّ السّرد يقدّم له صورة عن واقعه أمام ضعف السّوسيولوجيا العربيّة، فالرّواية تضطلع بهذه المهمّة إلى جانب مهمّة المرافقة النّفسيّة بنوع من التّطهير؛ لأنّ هذا الشّباب الّذي يعيش التّردّدات والتّمزقات والمخازي والآثام الفرديّة، يجد أن الرّواية تطهّره، ففي الوقت الّذي يعتقد فيه أنّه وحده من يُذنب، تأتي الرّواية لتقول له إنّ لك أشباهاً ونظائر في هذا. كما تأتي الفلسفة لتجيبه عن تساؤلاته حول معنى هذا الوجود الكارثيّ الّذي يشعر به، وتقدّم له المعنى الكامن وراء ذلك، فتتيح له أن يفكّر وأن تكون له أدوات ليفهم ذاته الفرديّة وذاته الجماعيّة.
د. نادر الحمّامي: زينة وعبد النّاصر أنموذجان، يعبّران عن سيرة جيل بداية الثّمانينات، تلك الفترة الّتي شهدت مخاضاً وتحوّلات سياسيّة كبرى، أثّرت في المجتمعات العربيّة، بداية من الثّورة الإيرانيّة (1979)، الّتي تحوّل بعدها الإسلام السّياسيّ إلى حركة احتجاجيّة تطمح إلى الحكم. فهل يمكن المقايسة بين ذلك الجيل وهذا الجيل الّذي يعيش التّحوّل الرّاهن منذ نهاية 2010، خاصّة أنّ فترة ثلاثين سنة الّتي تفصل بين الجيلين لا تعدّ فاصلاً كبيراً في التّاريخ، ولكنّها شهدت تحوّلات كبرى قد لا يكون لها مثيل؟
د. شكري المبخوت: الثّابت في هذه المقارنة أنّ التّاريخ ليس خطّيّاً، ولكنّه أيضاً لا يقوم على قطائع. ولنأخذ الفترة اللّاحقة عن ذلك؛ أي أواسط الثّمانينات وبداية التّسعينات فقد كانت فترة تحوّلات كبرى، ودعك من الثّورة الإيرانيّة الّتي سرعان ما غاصت في حرب قاتلة مع العراق؛ فالتّأثير الأكبر في نظري هو سقوط جدار برلين، وهو تحوّلٌ لو ندري عظيمٌ، لأنّه زعزع الأيديولوجيّات وفكّك أنظمة شموليّة كثيرة، بل لقد بلبل عدّة أفكار كانت تبدو أقرب إلى المسلّمات، كذلك التّحوّلات في الصّين باعتبارها قوّة عظمى، ثمّ الثّورات في أوربا الشّرقيّة؛ فما عشناه بين 2010 و2011 كان صدى لما وقع في تلك الفترة، خصوصاً في أوربا الشّرقية، وأدّى إلى تفكيك الاتّحاد السّوفياتيّ وتشيكوسلوفاكيا؛ والأرجح أنّ هناك دورات للتّحوّلات، سمِّها ثوريّة أو غير ثوريّة؛ فالتّسميات مختلفة، لكنّها دورات تاريخيّة. وقد يتساءل البعض حول بقاء الثّورة الفرنسيّة متواصلة لأكثر من مئة عام، فهذا طبيعي لأنّ الثّورات ليس فيها قوانين مضبوطة تحدّد مسارها، وأنا شخصيّاً لا أرى فصلاً بين ما حصل في تونس، أو ما حصل في العديد من دول العالم العربيّ، من ثورات أو ثورات مجهضة، أو محاولات تغيير المسارات السّياسيّة والاجتماعيّة الموجودة، وبين ما وقع في أوروبا الشّرقيّة، فرغم بعد المسافة لا يجب أن ننسى أنّنا في عالم واحد. لذلك، أعتقد أنّ المقياس الّذي نحتاج إليه لفهم ما وقع يكمن في سؤال الحرّيّة؛ أي هل يضيف ما حدث إلى الحرّيّة الإنسانيّة أم لا؟ وهل ييسّر تطوير حياة النّاس أم لا؟ هذا هو السؤال المحوريّ، لأنّ المهمّ من الثّورات ليس أن يتغيّر نظام سياسيّ، بل أن تتغيّر حياة النّاس. وفي تقديري، أنّ ما حدث قد دفع باتّجاه حرّيّة أوسع عبر شبكات التّواصل والمواقع الّتي تتشكّل فيها قوى جديدة ورأياً عامّاً مختلفا، رغم أنّ إمكانيّات الاختراق لهذه الحرّيّة كثيرة أيضاً. فالمعركة على المواقع الإلكترونيّة تبدو افتراضيّة ظاهريّاً، ولكنّ انعكاساتها الواقعيّة كبيرة جدّاً؛ وفي تقديري أنّها من الأدوات العظيمة أمام مزيد من الحرّيّة، ولكن أيضاً، مزيد من التّلاعب بالعقول، لأنّ الحرّيّة ليست أحاديّة الاستعمال. لذلك فما نلاحظه، سواء في عالمنا العربيّ الإسلاميّ أو في غيره، هو تعاظم اللّيبراليّة الوحشيّة، من خلال هيمنة أكبر لهيئات إمبرياليّة، بالمعنى الحرفيّ البسيط الأوّليّ؛ خذ لك مثلاً صندوق النّقد الدّوليّ، فهو أداة لقهر الدّول والشّعوب، وفرض إملاءات عليها، وصياغة الاقتصاد العالميّ بطريقة ليست في صالحها. وأنت ترى أنّ بلداناً كثيرةً كانت تحقّق نموّاً اقتصاديّاً عاديّاً بنقطتين أحياناً، فأصبحت بعيدة عن تحقيق ذلك بعد تطبيق إملاءات صندوق النّقد الدّوليّ؛ فكأنّ هذا الصّندوق إذا دخل قرية أفسدها. وعلى الإنسانيّة أن تتساءل أمام هذه المفارقة الّتي توفّر كثيراً من الحرّيّة والتّطوّر في العقليّات، وكثيراً من التّطوّر في حاجيّات النّاس المادّيّة والنّفسيّة، وفي الوقت نفسه مزيداً من التّفقير ومن مركزة رأس المال لدى أقلّيّة، مع عودة إلى صيغ من الهيمنة الاقتصاديّة. إنّ هذا كلّه يدعو فعلاً إلى كثير من الحيرة. وأعود ههنا إلى ما يحدث في تونس في إطار هذه المقارنة بين فترة الثّمانينات والفترة الحاليّة، فلا ننسى أنّ الإملاءات الأولى الواضحة من صندوق النّقد الدّوليّ بدأت منذ سنة 1985، وانظر الآن ما تعيشه الحكومات المتعاقبة من شدّ وجذب، في ما يتعلّق مثلاً بإملاءات صندوق النّقد الدّوليّ في اتّجاه تخفيض الدّعم عن الموادّ الاستهلاكيّة الأساسيّة، وفي اتّجاه خصخصة المؤسّسات العموميّة... فهذه الوضعيّة هي المفارقة الكبرى الّتي تزعجني شخصيّاً، وهي تتطلّب منّا مزيداً من التّأمّل.
د. نادر الحمّامي: إذن نحن في سياق مفارقة بين المطالبة بالحرّيّة، وهي من مقوّمات اللّيبراليّة، ورفض اللّيبراليّة المتوحّشة الّتي تزيد من تفقير الشّعوب وإخضاعها للإملاءات الاقتصاديّة. ولكن في إطار هذا النّوع من المراجعة الّذي نجد صداه في رواية الطّلياني، ألا تلاحظ أنّ الخطاب الّذي يعارض اللّيبراليّة في المستوى الاقتصاديّ، ويساندها في المستوى الفكريّ والثّقافيّ والاجتماعيّ، وأقصد هنا الخطاب اليساريّ تحديداً، ربّما لم ينجح في إنتاج خطاب مقنع، حتّى نصل إلى نوع من الحرّيّة والمساواة في مستوى القيم الكونيّة ومستوى الحداثة، مع أقلّ ما يمكن من الهيمنة الاقتصاديّة اللّيبراليّة؟
د. شكري المبخوت: لا أعتقد أنّ الأمر يُنظر إليه من خلال هذه النّخبة القليلة جدّاً الّتي تسمّى اليسار، فقضيّة الحرّيّة إما أن تكون قضيّة مشتركةً ومطلباً مشتركاً يشمل الجميع من يسار وعروبيّين وليبراليّين وإسلاميّين، وإلّا فإنّه مشروع فاشل. وفي تقديري أنّ الجانب المهمّ في اليسار هو هذه القدرة على إيجاد سلطة مضادّة ونشر أفكار جديدة. وعلينا أن نتساءل؛ هل يقوم اليسار بدوره في تحقيق التّوازن من خلال السّلطة المضادّة، وهل ينشر أو يبتدع أفكاراً جديدة أم لا؟ هذا هو السّؤال الّذي ينبغي أن يُطرح. والجانب الآخر المركزيّ هو جانب يتّصل بالبعد الاقتصاديّ؛ فقضيّة العولمة هي قضيّة اقتصاديّة أساساً، ودعنا من محاولة تعميقها في التّاريخ والإمبراطوريّات الكُبرى، فهي قضيّة اقتصاديّة في مستوى يتجاوز تونس، كما يتجاوز كلّ بلد على حدة، فميزانيّات بعض المؤسّسات الاقتصاديّة العالميّة تفوق ميزانيّة القارّة الإفريقيّة مجتمعةً، فما معنى الحديث حينئذ عن يسار أو يمين. لذلك علينا ألّا نخلط المستويات، فصحيح أنّ للثّقافة دوراً، وهو دور مهمّ وفاعل في سياق تطوير العقليّات، كما أنّ للحرّيّات دوراً، ولكنّ الدّول نفسها أصبحت موضع شكّ، في ظلّ ظهور شركات عالميّة أقوى من الدّول.
الحرّيّات والعقليّات وتحوّلات الواقع
د. نادر الحمّامي: هذا السّياق يطرح مسألة نهاية الدّولة بشكلها القديم، ما يتطلّب إعادة نظر في السّرديّات الكبرى، مثل الحرّيّة والمساواة والدّيمقراطيّة والحداثة... وغيرها من المفاهيم الّتي بنى عليها الفكر الحداثيّ والإنسانيّ الكونيّ. لذلك، نتساءل ألا تنقلب هذه القيم النّبيلة الّتي تيسّر التّعايش داخل المجتمع الواحد، وبين المجتمعات جميعها، إلى النّقيض إذا ما تحوّلت إلى أيديولوجيّات محنّطة؟
د. شكري المبخوت: المسألة بسيطة وليست الوصفة سحريّة؛ فالحداثة تأتي بمفهوم مثل الحرّيّة الفرديّة، باعتباره حجر الزّاوية في أيّ تصوّر حقوقيّ يحترم الذّات والكرامة الإنسانيّة؛ هذا أمر مهمّ، وهو انقلاب في تاريخ الفكر وفي تاريخ الإنسانيّة، إلّا أنّ هذه الحرّيّة لا تخلو من انعكاسات؛ خذ لك مثلاً تونس اليوم، فنحن نتحدّث عن مجتمع تعدّديّ ديمقراطيّ ومجتمع حرّيّات، ولكن كلّما أثيرت قضايا تتّصل بالحرّيّة الفرديّة، إلّا وانكشف لدى اليمين واليسار هذا الخوف الّذي يبلغ حدّ الرّهاب، من متضمّنات الحرّيّة الفرديّة. ولنا هنا طريقتان؛ الطّريقة الأولى أن نقول بإرجاء النّظر في هذه المسائل متعلّلين بأنّ وقتها لم يحن بعدُ، وفكرة الإرجاء هذه قديمة ومُتوقّعةٌ أمام كلّ جديد، وتصبح أمامنا حينئذ مغازة كبرى اسمها الحرّيّات الفرديّة، نختار منها ما نريد ونغضّ الطّرف عمّا لا نريد، والحال أنّ مقتضيات الحرّيّة ومستلزماتها وجب أن تتحقّق ضمن منظومة متكاملة. لذلك، نعتبر أنّ اختيار الإرجاء مناقض لمفهوم الحرّيّة الفرديّة كما صاغته الأفكار الإنسانيّة فلسفيّاً وقانونيّاً، ومن وجهة منظومة حقوق الإنسان. أمّا الطّريقة الثّانية، فهي أن نقول إنّنا دخلنا في تونس (مثلاً) في ديناميكيّة فكريّة ثقافيّة اجتماعيّة جديدة، وعلينا أن نهيّئ أنفسنا مهما كانت انتماءاتنا الشّخصيّة إلى كثير من الصّدمات ومفاجآت الطّريق، لأنّ الطّريق صعبة وملتوية ومتعرّجة، وأن يطمئن بعضنا بعضاً كالمسافرين في طريق موحش، وأن نقول لبعضنا بعضاً علينا أن نصل إلى ما نريد. هل المطلوب إذن، أن نراجع الحرّيّة الفرديّة مفهوماً وفلسفةً وتفكيراً ونسقاً؟ هذا غير ممكن، لأنّ ما نطلبه عميقاً هو ما يسمّيه خير الدّين التّونسيّ (1820-1890) «دوحة الحرّيّة»، وهو ما يسمّيه أبو القاسم الشّابي (1909-1934) والطّاهر الحدّاد «الشّوق إلى الحرّيّة». وهو مطمح كامن، ولكن دونه عوائق متأتّية من هذا الموروث الّذي يمثّل الثّقل الرّمزيّ والاجتماعيّ والثّقافيّ الّذي نحمله، وعلينا أن نتدرّب على التّخلّي عن العناصر الّتي تعطّل سيرنا نحو الحرّيّة.
د. نادر الحمّامي: حين نقرأ دعاة التّنوير في العالم العربيّ منذ نهاية القرن التّاسع عشر إلى اليوم، لا نجد لديهم تفكيراً عميقاً في الحرّيّة وإنّما نجد تغنّياً بها، ولعلّ السّبب في ذلك، أنّهم لم يتمثّلوا تلك القيمة باعتبارها نابعة من تحوّل ذاتيّ في المجتمع بقدر ما نظروا إليها باعتبارها نموذجاً ثابتاً. وهذا ما يجعلنا اليوم نفتقد للمرجعيّات الفكريّة والثّقافيّة والتّاريخيّة الّتي تأسّست عليها الحرّيّات، وخاصّة الحرّيّة منها الفرديّة. كيف تفسّر ذلك؟
د. شكري المبخوت: المسألة بسيطة جدّاً، فهل نطلب من الحدّاد أو خير الدّين أو غيرهما أن يكون متاحاً لهم ما هو متاح لنا ولفلاسفتنا اليوم من مراجع ومعرفة وعمق في طرح هذه القضايا؟ فليكتب فلاسفتنا اليوم وليصلوا إلى هذه المفاهيم، ولماذا نطلبها من الحدّاد وغيره؟ وهنا أقول ثمّة جانب التّفكير والتّأمل وخلع هذه الأبواب الّتي كانت مغلقة، ولكن لسنا بالضّرورة مطالبين أن نعود إلى المسار نفسه الّذي كان في الغرب مع فلاسفة التّنوير، فهناك طريق مختصرة وواضحة قد بدأنا السّير فيها حين دخلنا في منظومات قانونيّة جديدة، وهي طريق متاحة لجميع البلدان، حتّى تلك الّتي تدّعي أنّها تطبّق الشّريعة. لذلك، كان التّونسيّون جميعاً زمن كتابة الدّستور الجديد في المجلس التّأسيسيّ يطالبون بمطابقة المعايير الدّوليّة، ولا يزال ذلك المطلب مرافقاً لعمل الهيئات الدّستوريّة إلى اليوم. فلماذا عندما نأتي إلى المفاهيم الماسّة بالحرّيّات الفرديّة، والكثير منها قديم جدّاً ويعود إلى بداية القرن، نتمسّك بضرورة التّفكير وتعميق التّأمّل والتّجذير والهويّة إلى غير ذلك، وننسى أنّنا نعيش في دولة مدنيّة؟ فما يعوزنا هو أن ننظر إلى المسألة على أنّها ديناميكيّة، وأنّ دور الدّولة جوهريّ في تغيير العقليّات وغرس مبادئ المدنيّة لدى المواطنين. وأضرب لك مثالاً بسيطاً، فلو استفتى الحبيب بورقيبة (1903-2000) التّونسيّين حول مجلّة الأحوال الشّخصيّة لكانت ستفشل حتماً. لذلك، لا بدّ من جرأة السّياسيّ الّذي يحمل فكراً، بغضّ النّظر أكان إيجابيّاً أم سلبيّاً أم منقوصاً فذلك أمر آخر يمكن تقييمه لاحقاً. فما قام به بورقيبة قد غيّر كثيراً من العقليّات، وغدا مكسباً للمجتمع، وأصبحت المرأة التّونسيّة اليوم ترفض التّخلّي عنه، مهما كان موقعها أو انتماؤها الأيديولوجيّ. فثمّة مشترك وإرث وعادة، ولكن ثمّة أيضاً واقع اجتماعيّّ له الكلمة الفصل، لذلك دعك من الأصوات المؤدلجة الّتي تذهب في اتّجاهات مختلفة، فلو أقمنا اليوم استفتاءً حول مجلّة الأحوال الشّخصيّة، فستكون الأغلبيّة المطلقة معها، وهذا مثال يمكن أن ينطبق على مجالات كثيرة أخرى.
د. نادر الحمّامي: لو أخذنا مثلاً قانون الإرث، وهو محلّ جدل ونقاش راهن في إطار المساواة، فهل تعتبرُ أنّه لو طُرح اجتماعيّاً على الاستفتاء، سيقبل به التّونسيّون؟
د. شكري المبخوت: أتوقّع أنّه لو طرح فسينقسم حوله التّونسيّون، ولكن أعتقد أنّ الهوّة في هذا الانقسام لن تكون كبيرة. ولا أعتبر أنّ هذا هو المهمّ، فلا يجب أن نستفتي النّاس عن حقّ من حقوق الإنسان، فالاستفتاء ليس لعبةً. لا بدّ أن نستفتي في المسائل الظّنّيّة المشكوك فيها، ولكن المساواة بين النّساء والرّجال لم تعد مسألة ظنّيّة. هنا يوجد إشكال آخر أي في مسألة الميراث، وهو الإشكال الجوهريّ، وقد وجد له الحدّاد في طريقة تفكيره المقاصديّ حلّاً يمكن العودة إليه. وكما أنّنا لا نطالب اليوم بتطبيق الشّريعة وأيضاً كل ما يتّصل بالملكيّة العقاريّة القديمة وأحكام المغارسة والمُساقاة؛ لأنّها اجتهادات وفق مبادئ وقيم دينيّة قام بها الفقهاء وأدّت وظيفتها الاجتماعيّة في زمانها وانتهى الأمر، إذن فينبغي في مسألة المساواة في الميراث أن ننظر إلى المقصد العامّ منها أوّلاً.
د. نادر الحمّامي: نحن نتّفق أنّ المساواة حقّ لا نقاش فيه وليس ظنّيّاً، وكذلك حرّيّة الاعتقاد والتّديّن، ولكن لنفترض مثلاً أنّ فئة من النّساء تختار أنّها لا تريد هذه المساواة، وتطالب في المقابل بوجوب تطبيق الشّريعة؛ ألا تتعارض ههنا المساواة مع حرّيّة ممارسة الشّعائر أو العقائد؟
د. شكري المبخوت: هذا افتراض قريب، ولكن القوانين لا تقوم على هذا، فأن يقول أحد إنّه يريد أن يظلّ عبداً ولا حاجة له للحرّيّة، فإنّنا نقول له لقد ألغيت العبوديّة وهذا انتهى، وإذا أردت أن تكون عبداً فلك وسائل أخرى فتصرّف فيها؛ أي إنّ منطق النّقاش وجب أن يتوجّه وفق مبادئ واضحة، فالاعتراف بمبدأ المساواة في الميراث لا يمنع المرأة من أن تأخذ نصيبها وبعد ذلك تعطيه لأخيها إن أرادت، ولكن في النّهاية ينبغي أن يكون لنا شيء مشترك واحد أدنى من المبادئ الّتي نتّفق حولها، وبعد ذلك يمكننا النّقاش، مثلا في أن المساواة مبدأ ضروريّ أم لا.
د. نادر الحمّامي: نحن متّفقون دستوريّاً على أنّ كافّة المواطنين متساوون أمام القانون، وأنّ تطبيق المساواة في جميع المجالات لا يجب أن يخضع للضّغط الهوويّ ما يؤدّي إلى انتقاء مبادئ دون غيرها وفق ما يُعتبر «ثوابت» لا يجوز التّخلّي عنها. ولعلّك أشرت إلى ذلك الإشكال في أكثر من مرّة. فكلمة «ثوابت» الّتي لم تُقبل في الدّستور وتمّ تغييرها بكلمة «تعاليم»، تقوم على انتقاء ما يعتبر ملائماً لموروثنا دون غيره، ما يؤدّي في النّهاية إلى نوع من التّرميق. ألا تعتبر أنّ هذا التّرميق هو ما أوقعنا في مواطنة منقوصة؟
د. شكري المبخوت: التّرميق في الأصل ليس شيئاً سلبيّاً، فهو طريقة أو حلّ من الحلول، ولكن المشكلة تكمن في المقاصد من ورائه؛ فالمجتمعات الإسلاميّة كلّها تقريباً وجدت نفسها في منتصف القرن الماضي أمام صدام بين حداثة مفروضة ومنقوصة ومشوّهة ومتأتّية من الاستعمار، وذكرى عظيمة ساكنة في المخيال الجمعيّ ومؤسّسة تاريخيّاً على نمط اجتماعيّ إسلاميّ، ما أنتج تناقضاً جعل المسلمين يعيشون تمزّقاً حقيقيّاً وتراجيديّاً أحياناً، وجعل الشّباب المُسلم يبحث عن البوصلة الّتي تقوده في ذلك الخضمّ. ولم يتمّ تجاوز هذا الصّراع والتّمزّق في النّهاية إلّا بالتّرميق، ولا ضير من أن نواصل ذلك. وقد استعمل كلود ليفي ستروس (claude lévi-strauss) (1908-2009) كلمة التّرميق في معنى إيجابيّ وليس سلبيّاً. في النّهاية، لكلّ أن يفعل ما يريد سواء كان ترميقاً أو تلفيقاً، ولكن وجب أن يكون من ورائه مقصد، أو ما يسمّيه الأستاذ محمّد الطّالبي (1921-2017) «السّهم الموجّه». فإمّا أن نقول إنّ الإسلام ضدّ الحرّيّة، أو أن نقول إنّه في جوهره هو الحرّيّة، وهذا الاختيار الثّاني ييسّر للفرد، باعتباره مسلماً، أن يحافظ على إيمانه الدّينيّ وفي الوقت نفسه ألّا يعيش تناقضاً مع المجتمع؛ فكلّ من آمن بجاهليّة المجتمع واعتقد بأنّ المجتمع فاسد وأنّه ينبغي إصلاحه بما صلح به أوّله أخفق. فهل نبقى نعيد الصّدام ذاته ونصرّ عليه؟ وهل نبقى في طور التّكرار واستنساخ الأزمات في مستوى الأفراد والمجموعات والأحزاب والتّيّارات؟ لا بدّ حينئذ أن نعي بضرورة إنهاء هذا الصّراع، وأن نعترف بأنّ مجاله قد انتهى.
د. نادر الحمّامي: أنت تقول إنّ على الدّولة أن تتبنّى بنفسها مسألة الحرّيّات العامّة، وأن تعمل على فرضها بقوّة القانون والدّستور؛ فهل نحن نعيش اليوم في دول تؤمن فعلاً بهذه القيم؟
د. شكري المبخوت: الدّستور هو الّذي يقول ذلك؛ فالحرّيّة هي الالتزام بالقانون، وأنا أتحدّث وأشعر بحرّيّة في الحديث، لأنّ القانون التّونسي يحمي حرّيّتي، وهو الّذي تحدّث عن المساواة وعن حرّية الضّمير، بكلّ ما يتيحه هذا المفهوم من إمكان الرّدّة، ومن أن يكون المرء لا دينيّاً ومن أن يعتقد في ما يشاء. هذا ما تقوله الدّولة وهذا هو الدّستور. صحيح أنّ الأمر ليس بالبساطة الّتي نتحدّث عنها، فأن تكون الدّولة منسجمة مع قوانينها ودستورها، فهذا مطلب مهمّ، ولكن هناك جهد للجدل الثّقافيّ والفكريّ مطروح على المجتمع المدنيّ والقوى المؤمنة بالحرّيّات أن تضطلع به، وهي تلقى المساندة في ذلك من المنظّمات الدّوليّة؛ انظر مثلاً إلى ما راج مؤخّراً حول إنشاء إذاعة خاصّة بالمثليّين، فالأمر لم يتشكّل هكذا بقوّة ذاتيّة، بل هناك دعم وراءه. وهذا كلّه بتراكمه هو الّذي سيغيّر العقليّات وسيدفع نحو مزيد من الحرّيّة. نعرف أنّ الدّستور التّونسيّ لم يُكتب في غرفة مغلقة، فقد كُتب تحت قبّة المجلس التَّأسيسيّ ولكنّه كُتب أيضاً في الشّارع، وكتب بضغط دوليّ علينا. ولذلك، فمن المستحيل اليوم أن نسير منفردين في هذا العالم وصولاً إلى غاياتنا؛ فالمسألة معقدّة ومتشابكة. هذا أيضاً يتطلّب في تقديري أن نتأمّله بهدوء، رغم أنّ السّياسيّين يتخاصمون حوله، ولكن دعنا منهم؛ لأنّ مسائل السّياسة ظرفيّة، بينما نحن نحاول أن نفهم ما يوجد في العمق، وما يكمن وراء الظّواهر. وما ينبغي أن نقوله بوضوح هو هل نحن نتبنّى المنظومة الحقوقيّة الدّوليّة أم إنّنا نرفضها باسم خصوصيّة موهومة؟
د. نادر الحمّامي: نعم، والجواب المتولّد عن ذلك يجعلنا أمام طريقين، على الأقلّ، واضحين؛ فإمّا أن نذهب نحو تلك الحقوق بالقطع مع تراث بكامله، أو أن نحاول البناء على بعض تراكماته. ونفهم من كلامك أنّ المسألة لا تقوم على القطائع، بقدر ما تقوم في جزء كبير منها على التّراكمات، فأنت تعتبر أنّ القطيعة غير موجودة، ولذلك تعود دائماً إلى خير الدّين التّونسيّ وإلى الطّاهر الحدّاد وأبي القاسم الشّابي؛ فهل ترى أنّ هؤلاء فاعلون في ما وصلنا إليه اليوم بطريقة أو بأخرى؟
د. شكري المبخوت: لنتّفق أن القطيعة حاصلة تاريخيّاً شئنا ذلك أم أبينا، وحتّى أولئك الّذي يدعون إلى تطبيق الشّريعة مثلاً، فإنّ تصوّرهم حول ما يدعون إلى تطبيقه محدود، وحين نتثبّت ونتأمّل سنجد أنّ ما يدعون إليه من أحكام قليل جدّاً واقعيّاً؛ فثمّة بعض الأحكام الصّريحة والنّصّيّة وردت ضمن آيات كثيرة ولكن لا أحد يتحدّث عنها اليوم، خذ مثلاً أحكام العبيد، فهي موجودة في النّصّ ولكن تمّ التّسليم واقعيّاً بأنّها لم تعد صالحة للنّقاش، رغم أنّ الشّيخ الزّيتونيّ محمّد الأخوة (1913-1994) كان قد طالب بالعودة إلى تعدّد الزّوجات، عندما ترشّح في الانتخابات عن مدينة تونس سنة 1989، وهذا مفهوم إلى حدّ ما، ولكنّه طالب أيضاً بإرجاع الرّقّ والعبوديّة، وكان ذلك أمراً مضحكاً. فحجّة أنّ النّص صريح وثابت وقطعيّ الدّلالة تتناقض مع كثير من المسائل في الواقع. قس على ذلك حكم رجم الزّانية والزّاني وغيرها من الأحكام الّتي قد تكون ابنة بيئتها، وقد يكون لها سند نصّيّ، أو تكون ممارسة تاريخيّة تبنّاها النّصّ. هذا مجال يتحدّث فيه المتخصّصون في الفقه بدقّة، ولكن أردت فقط ملاحظة أن فكرة القائلين بالعودة إلى تطبيق الشّريعة هي نفسها تقصي جانباً من هذه المنظومة المتكاملة العجيبة الّتي هي المنظومة الفقهيّة. ولا يمكن أن نجعل هذه المنظومة محلّ انتقاء، مثلما ذكرنا حول الحرّيّات، حيث نختار منها ما نريد ونترك ما لا نريد، فإمّا أن يكون المجتمع قادراً على التّعامل من خلال المنظومة الفقهيّة وتطبيقها كلّيّاً أو فليتخلّى عنها برمّتها. والمسألة الكبرى الّتي أعتبر أنّ المقياس لفهم تطوّر الإسلاميّين الفكريّ والأيديولوجيّ والسّياسيّ، هي الموقف من المساواة المطلقة بين النّساء والرّجال. هذا المقياس لا نضعه نحن، وإنّما تفرضه التّحوّلات العالمّية، وقد حسم الغرب هذه المسألة منذ زمن بعيد، وأصبح مبدأ المساواة المطلقة معياراً دوليّاً وعالميّاً وكونيّاً ينبغي أن ننتبه إليه. وما يثير حيرتي هو اختلاف الحداثيّين والعلمانيّين والإسلاميّين حول هذه المسألة، والحال أنّهم لو حاولوا تنزيلها في المجال الاجتماعيّ، سيلاحظون أنّها ليست سوى مسائل بسيطة يمكن حلّها بقليل من الجرأة الفكريّة والنّزاهة في النّظر إلى الواقع بتحوّلاته وتطوّره، وحتّى استناداً إلى ما يسمّى في الإسلام «فقه الواقع». ولكن مع ذلك كلّه، لا يمكن غضّ الطّرف عن التّحوّلات الهائلة الّتي ذكرناها في مجال التّعليم والصّحّة والتّحوّلات الدّيمغرافيّة، ما يجعلني متفائلاً بالوصول يوماً ما إلى تطبيق المساواة المطلقة. إذن لِمَ نضيع الوقت؟ أذكر أن الطّاهر الحدّاد قال في رسالة إلى المقيم العامّ إنّه بعد خمسة أو عشرة أو خمسة عشر عاماً، سيؤمن النّاس بأفكاره الّتي انتقدوها، وهذا ما حدث فعلاً. لا يهمّ إن طالت المدّة ما دام ثمّة وعي تاريخيّ يتشكّل بمرور الزّمن. وإذا افتقدنا هذا الوعي التّاريخيّ وافتقدنا معه القدرة على فهم التّحوّلات العالميّة، فإنّنا نكون بصدد إضاعة الوقت فحسب.
الوجع والبهجة وترياق الخيال
د. نادر الحمّامي: يطالعنا اهتمامك بالكتابة في السّيرة الذّاتيّة من زاوية بحثيّة أكاديميّة، وقد صدر لك في هذا المجال مؤلّفات عديدة، فما هي دواعي هذا الاهتمام ورهاناته؟ ونحن ندرك ارتباط هذا المجال بالفرد، فهل أنّك تعتبر الفرد مدخلاً للإحاطة بفكر المجتمع وما يحمله من آمال؟
د. شكري المبخوت: هذا سؤال مركّب، ولكنّ السّؤال عن دواعي التّأليف في السّيرة الذّاتيّة هو أيضاً مهمّ حتّى وإن كانت صيغة السّؤال كلاسيكيّة؛ فلقد ركّزت الأعمال المنشورة الّتي قمت بها في النّقد الأدبيّ، كثيراً على السّيرة الذّاتيّة لسبب بسيط جدّاً، وهو أنّها جنس أدبيّ حديث، اعتُبرَ فرعاً من الرّواية، الّتي هي بطبيعتها جنس حديث. لذلك، فالسّيرة الذّاتيّة أحدث من الرّواية. وفي نشأتها باعتبارها جنساً أدبيّاً صاحبها تحوّل في النّظرة إلى الفرد سواءً في الثّقافة الغربيّة، حيث منبتُها أو في ثقافتنا العربيّة. مع العلم أنّ هناك سيراً ذاتيّة قديمة مثل ما كتب ابن خلدون، ولكن هذا في تقديري، لا يدخل في إطار السّيرة الذّاتية كما نتعارف عليها بمعناها العميق اليوم. وهي تحوّل كبير في النّظر إلى الفرد، وقبول ألّا يكون الفرد متطابقاً مع الفضائل ومع منظومة القيم السّائدة، بل إنّ هذه الفردانيّة أو الفرديّة هي الّتي تسمح للكائن بأن يخرج عن السّبل المسطورة وعن المعهود والمعروف اجتماعيّاً. فكلّ فرد أصبح يصنع حياته، ويتّخذ مساره الشّخصيّ فيها، وإذا روى سيرته فليس مجبراً على التّظاهر فيها بالفضيلة، بل إنّ مجال السّيرة الذّاتيّة يسمح بالحديث عن المخازي والتردّدات والنّقائص؛ ذلك هو المبدأ العامّ في السير الذّاتيّة عموماً، وحين نخصّص ذلك في السّيرة الذّاتيّة العربيّة، سنجد أنّ أهمّ نصّ هو سيرة طه حسين من خلال كتاب «الأيّام»، خاصّة في جزئه الأوّل، ويمكن أن نقول إنّه «ضربة مْعلّم»؛ بمعنى أنّه كتب كتاباً عجيباً في معنيين، المعنى الأوّل أنّه جاء سيرة ذاتيّة مكتملة ظاهريّاً، ولكنّه رواها بضمير الغائب كما لو كان يتحدّث عن شخص آخر؛ أي مثلما تُكتب السّير الغيريّة لا السّير الذّاتيّة، وهذا ما جعل نصّه لا يخلو من مراوغة. أمّا الأمر الثّاني، والأهمّ في رأيي، هو أنّ طه حسين كأنّه وضع للسّيرة الذّاتيّة العربيّة ملامحها، فطيلة الكتاب نجد جوانب شخصيّة وذاتيّة مثل البيئة والعائلة والمؤدّب والعادات... ولكنّه في الحقيقة، قد وضعها على نمط السّير الفكريّة دون أن تكون فكريّةً؛ بمعنى أنّ هذا الإنسان الّذي يكون من لا شيء يُحمل على الثّمامة، يصبح بطلاً معرفيّاً يؤمن بالعقل وبالتّنوير وبالحداثة وبالتّجديد وينقد نقداً لاذعاً جميع البنى الاجتماعيّة والثّقافيّة القديمة. لقد عدت إلى هذه الفكرة في «أحفاد سارق النّار» من خلال سير ذاتيّة فكريّة حقيقيّة تتحدّث عن الحياة الفكريّة وتطوّرها لدى الأشخاص، فكان التّماثل كبيراً. وهذا يطرح علينا السّؤال: هل تحقّقت الحرّيّة الفكريّة في مجتمعاتنا، حيث يمكن للذّات أن تقول ما لها وما عليها بصراحة؟ يمكن أن نبحث في ذلك من خلال أمثلة من السّير الذّاتيّة، من مثل ما كتب محمّد شكري (1935-2003) وغيره. لذلك، فالإنتاج في السّيرة الذّاتيّة يمكن أن يكون مقياساً لتطّور العقليّات في المجتمع.
د. نادر الحمّامي: كتاباتك النّقديّة في السّيرة الذّاتيّة تأتي من باب تكريس قيمة الفرد، باعتباره حرّاً ومسؤولاً، ما يمكن أن يجعله بمرتبة البطل في مجتمعه رغم المعوقات. فهل تعتبر أن السّيرة الذّاتيّة يمكن أن تكون باباً شارعاً لتركيز قيمة الفرد في مجتمعات لم تُولِ الفرد قيمته الحقيقيّة؟
د. شكري المبخوت: نعم، ولكنّ تساؤلي كان من موقع الأكاديميّ، فهذه بحوث أكاديميّة، وقد كان حول هذه النّصوص وما تخفيه من أسئلة؛ ففي القسم الأوّل من «الزّعيم وظلاله» أردت أن أتتبّع متى بدأت الذّات تعبّر عن نفسها في كتابات التّونسيّين. وليس من باب الصّدفة، حين ننظر في مطابقات التّاريخ الثّقافيّ التّونسيّ، أن يكون الشّابي قد افتتح أجناساً من الكتابات، مثل الرّسائل والمذكِّرات، وأن يكون الطّاهر الحدّاد قد كتب تلك الخواطر في فترة أزمته، والخاطرة من الكتابة الذّاتيّة، وأن يكون ذلك الجيل الّذي يضمّ علي الدوعاجي (1909-1949) الّذي أحدث ثورة لغويّة في كيفيّة البناء السّرديّ والحكائيّ. إذن ثمّة فكرة عزيزة على نفسي تتطلّب جهداً أكبر لصياغتها، وهي أنّ نقطة الارتكاز في التّاريخ الثّقافيّ التّونسيّ هي فترة الثّلاثينيات من القرن الماضي، فالأفكار الكبرى والأساسيّة وجدت في تلك الفترة. وقد ظهر التعّبير الأدبيّ والأيديولوجيّ والسّياسيّ عنها في الوقت نفسه، فقد تزامنت تلك الأفكار مع التّعبير السّياسيّ مع نشأة الحزب الدّستوريّ الجديد، رغم أن تكوينه كان على أيدي زيتونيّين منشقّين وصادقيّين. فرّبما تعود قوّة بورقيبة إلى أنّه فهم هذا التّحوّل التّاريخيّ، وعبّر في حكمه، بجرأته الّتي كانت تصل أحياناً إلى العنجهيّة، عن أحلام ذلك الجيل، وفتح تونس على المستقبل بكلّ ما يتضمّنه من إيجابيّات ومن مخاوف ومن صراعات وتردّدات. لذلك اهتممت بسيرته، في حين لم يقرأ كثيرون خطاباته في معهد الصّحافة وعلوم الإخبار سنة 1973، على أنّها من السّيرة الذّاتيّة، فقد لاحظت فيها بوضوح أنّه كان يروي أسطورته الشّخصيّة. صحيح أنّه كان يفعل ذلك في معظم خطاباته الأخرى، ولكنّه في تلك الخطابات تحديداً كانت صلته بالسّيرة الذّاتيّة أوضح، وكان يقول: «لا يمكن لكم أن تفهموا تاريخ الحركة الوطنيّة دون أن تفهموا حياتي»، وهذا أمر مهمّ، وأعتقد أنّ قوّة بورقيبة تكمن في أنّه آمن بأنّه أسطورة، وكتب هذه الأسطورة، ويعسر أن تجد للأسف في تونس من يستطيع أن يصنع كذبة جميلة عن نفسه وعن بلاده، فيصدّقها ويدفع قطاعات واسعة إلى تصديقه. ونحن نعرف أنّ التّاريخ ليس مجرّد وقائع، وإنّما هو أيضاً هذه الأكاذيب الوطنيّة الّتي نبنيها. وأعتقد أنّ مأزق تونس لا يعود إلى أنّنا نفتقد بورقيبة في حدّ ذاته، فبورقيبة لن يعود، وتصّوراته ورؤيته، في جوانب كثيرة منها، لم تعد صالحة في عصرنا، ولا نريده أن يعود، فهو قد ذهب إلى رحمة الله، وترك بعض السّمات الّتي منها الجرأة والكاريزما والأسطورة الّتي صنعها عن شخصه، وهي أسطورة لذيذة وجميلة، ينبغي أن نعترف بذلك، ولكنّها لن تعود، لكن ما ينقص تونس هو أن توجد شخصيّات لا شخصيّة واحدة، لها هذه القدرة على صناعة الأمل من خلال القصص أو السّرد. ولا أدري في الحقيقة، إن كان ذلك ممكن التّحقّق في سياقنا الحالي أو القريب.
د. نادر الحمّامي: نتبيّن من خلال اهتمامك بفترة الثّلاثينات أنّك تعتبرها مهمّة جدّاً سواء في تونس أو المشرق العربيّ، وقد عرفت تلك الفترة حركيّة فكريّة متميّزة، ولكنّها سرعان ما توقّفت أو فشلت، فما هي أسباب ذلك الفشل برأيك؟ وهل يمكن اعتبار أنّ اصطدام ذلك الزّخم الفكريّ التّقدّمي بالإيديولوجيا الإسلاميّة النّاشئة حينئذ، هو ما أدّى إلى إفشاله؟
د. شكري المبخوت: هذا سؤال صعب وأنا لست مؤرّخاً للفكر، ولكن اسمح لي أن أخالفك، ففي ما أعتقد أنّ الأجيال الّتي جاءت بعد تلك الفترة؛ أي الخمسينيات والستّينيات والثّمانينيات هي أفضل من الأجيال السّابقة من حيث الكتابات وجودة الأفكار والانفتاح والمنهجيّة العلميّة، وأنا لا أنظر إلى التّاريخ الثّقافيّ والفكريّ العربيّ نظرة سلبيّة، بل أعتقد أنّه ليس تاريخاً انحداريّاً، وإنما هو تاريخ تطوّريّ، وليس ذلك قضيّة موقف ولكن ما نراه فعليّاً، فانظر إلى ما يُنشر من كتب من حولنا فأغلبها أعمال جيّدة يستحيل أن تجد ما يقارب جودتها بين العشرينيات والستّينيات من القرن الماضي، ولكن الفرق ربّما يكمن في أن الأجيال السّابقة كانت تحلم أحلاماً كبيرةً، وأنّنا مررنا بفترة الدّول الوطنيّة مع موجات عروبيّة وموجات ماركسيّة كانت في إطار صراعات على السّلطة، فتلك الأجيال السّابقة كانت تبحث عن حلم وتصوغ معنى، وفيما بعد وجدنا تيّارات سياسيّة ليس لها هذا العمق، ولنأخذ مثلاً اليسار في تونس، فقد انطلق من كتابات تنظيريّة، رغم أنّ له حضوراً في المجال الفنّيّ والثّقافيّ عموماً، ولكن أنا أتحدّث عن جانب التّفكير في المعضلات الفكريّة والسّياسيّة؛ لأنّ المسألة ليست أن نكتب كتباً، بل أن نكون قادرين على صياغة جوّ ثقافيّ عامّ وبناء حلم جماعيّ. أعتقد أنّني لا أعرف دراسة في هذا المجال حاولت أن تبيّن هذه الحركة المتوهّجة في الفكر العربيّ، ولا ننسى أنّ كتابات مفكّرين، مثل جعيّط أو عبد الله العروي، وخاصة في كتاباتهما الأولى منذ بداية السّبعينيات، من المستحيل أن نجد مثيلاً لها سواء في فترة الثّلاثينيات أو قبل ذلك، إلّا أن السّمة المهمّة الّتي لا يجب أن نغفلها أن الصّراع ضدّ التّعليم التّقليديّ قد استهلك وقتاً طويلاً ضائعاً، خذ لك مثال الزّيتونة في تونس، فبغضّ النّظر عن الموقف الأيديولوجيّ المساند أو المعارض لقرار بورقيبة بإنهاء التّعليم الزّيتونيّ، فإنّ الزّيتونة كانت عاجزة على أن تنتج خطابا علميّاً حديثاً، أو حتّى خطاباً دينيّاً قادراً على التّفاعل مع قضايا العصر، ينبغي أن نعترف بذلك، وهو لا يحمل أيّ استنقاص لجامعة الزّيتونة بحكم أنّ دورها الأساسيّ هو التّبرير الأيديولوجيّ للملَكيّة في تونس، وهناك منظومة مصالح فرديّة وجماعيّة تجعل المحافظة مفروضة عليها فرضاً؛ فالحركات الوطنيّة والاستقلال والحركات العروبيّة وغيرها، قد خلقت كلّها ديناميكيّة، وساهمت بأشكال مختلفة في تفكيك المنظومة القديمة، وفي خلق أشياء سيّئة جديدة. لذلك، فعلينا أن ننظر إلى الأشياء بجوانبها الإيجابيّة والسّلبيّة. فكلّ ما يتعلّق بطغيان الأيديولوجيا الكليانيّة مصادره واضحة، فبعد فترة من اللّيبراليّة وجدنا هذه الأفكار لدى الأحزاب الشّيوعيّة ولدى الأحزاب القوميّة ببعثيّيها وناصريّيها، وهي تضرب كلّ مكتسبات اللّيبراليّة والدّيمقراطيّة. قد يبدو من السّهل اليوم أن نحاكم كلّ هذا، ولكن علينا أن ننظر في هذه التّموّجات الفكريّة والسّياسيّة وغيرها.
د. نادر الحمّامي: أي إنّ التّاريخ يقوم على شكل تموّجات وليس على قطائع كما أنّه ليس خطّيّاً، وأنّ كلّ ما يبدو لنا من صراعات إيديولوجيّة قد يكون مفيداً، بشرط أن يكون ضمن إطار فكريّ قابل للتّطوّر، وليس مجرّد سيطرة إيديولوجيّة محنّطة على إيديولوجيّة أخرى محنّطة؛ فهل يعني ذلك أنّ الحداثة تنبني على حركيّة الأفكار وتطوّرها ولا تنبني على نماذج جاهزة للاتّباع؟
د. شكري المبخوت: من يستطيع اليوم أن يبني نموذجاً للاتّباع؟ لم يعد ذلك ممكناً؛ لأنّ الأفكار الكبرى في عصرنا تتقلّص، وربّما هذا التّقلّص مردّه إلى ما سمّي بزوال السّرديّات الكُبرى، قد يكون هذا، ولكن أنا أؤمن بالجانب الّذي رفضه ليوتار (jean-françois lyotard) (1924-1998)، وهو يبحث عن لغة العلم وشروط ما بعد الحداثة، وهو جانب الخيال، ذاك الّذي لا يؤمن به الكثيرون حتّى من قالوا به. وأهمّ ما يجسّده في عصرنا، بالنسبة إليّ، هو هذه الحكايات الفرديّة. ولذلك، أعتقد أنّنا سنفهم واقعنا وذواتنا وأنفسنا ورغباتنا وأحلامنا، ونسجل أوجاعنا ومآسينا وتمزّقاتنا بفضل السّرد. يبقى السّرد هو الإطار الأقدر على الكشف عن معنى في هذه الفوضى وهذا الرّكام، ثم إنّ الحكايات الوطنيّة الكبرى قد انتهت، خذ لك مثلاً تونس، فالثّورة لم تستطع أن تصنع سرديّة ولو صغيرةً، رغم تلك البداية الممكنة للحكاية التّونسيّة الجميلة الّتي سمّيناها الثّورة مع البوعزيزي، وكانت بداية حكاية، وقد حرق البوعزيزي نفسه احتجاجاً أو غضباً أو كرماً روحيّاً وجسديّاً، قل ما شئتَ، فعلى الّذين يصوغون الحكاية أن يجدوا العناصر الدّراميّة المناسبة، لكن لم تمض سنة حتّى بدأ الهجوم على البوعزيزي في شعارات بذيئة في سيدي بوزيد نفسها، ولقد كُتب في هذا الكثير ولا فائدة من استعادته، لأنّ بعضه فاحشٌ. لكأنّ خنق الأسطورة، وهي في المهد من سمات هذه الحداثة الجديدة الّتي لا تؤمن بالخيال. وفي رأيي إنّ مرحلة التّفكير والتّأمّل هذه ينبغي أن تتكثّف، وعلاوة على الكتب النّظريّة الضّروريّة دائماً، علينا أن نكثّف حكاية أوجاعنا باعتبارنا أفراداً لكي نفهم أنفسنا باعتبارنا مجموعةً.
د. نادر الحمّامي: هذه الأوجاع الّتي قلت إنّها عصيّة على ما يقال في التّحليل النّفسيّ، وإنّها لا يمكن أن تُسرد إلّا عبر الخيال الرّوائيّ، تجعل الخيال قادحاً للتّقدّم والتّطوّر والبناء، ونذكر في هذا السّياق أنّ تشومسكي (noam chomsky) (1928) كان قد تنبّأ بسقوط القوّة الأمريكيّة، بسبب توقّف الشّعب الأمريكيّ عن الحلم، والحلم مرتبط بالخيال. هل لذلك نحن في حاجة اليوم لمزيد من الخيال حتّى نواصل كتابة «سرديّة تونس الجميلة»؟
د. شكري المبخوت: طبعاً، هناك هذه الأوجاع ولكن هناك أيضاً مصادر الاستمتاع، لأنّني لا أحبّ النّظرة الكارثيّة كما لا أحبّ النّظرة الأحاديّة، والنّظرة الكارثيّة وليدة النّظرة الأحاديّة. فنحن في تونس أوجاعنا متعدّدة ومتنوّعة إلى حدّ أنّا لا يمكن أن نصنّفها؛ لأنّها مرتبطة بما نسمّيه نحن في تونس «الجواجي» (أعماق الرّوح) ولا أجد عبارة فصيحة تترجمها في اللّغة العربيّة، ولا بدّ لنا أن نلج تلك الأعماق الذّاتيّة، لنغرف منها ونكشف عمّا فيها. وفي الآن نفسه يوجد أسلوب مختلف لدى الشّباب في التّفكير والمتعة والتّعامل مع الجسد وفي النّظر إلى الحياة، وعلينا أن نستكشف ذلك لديه دون منطق الإدانة والتّحقير. فنحن أمام جيل جديد يختلف عن جيلنا، وعلينا أن نرى هذا الشوق إلى الحرّيّة لدى ما يعتمل في المجتمع من تيّارات عميقة قد تكون خفيّة، ولكن هذه الحكاية الّتي بدأنا بها لقاءنا حول سرديّة تونس الجميلة، ينبغي أن تكون سرديّة متنوّعة كالفسيفساء التّونسيّة، وأن تسير على خطّين؛ خطّ الوجع وخطّ البهجة. ولعلّ ذلك سرّ من أسرار هذا البلد الّذي يجد نفسه أحياناً أقرب إلى «دولتشي فيتا» الإيطاليّة (la dolce vita) في بعض أوهامنا عن أنفسنا، وأحياناً أخرى نجده في بعض السّياقات أقرب إلى التّزمّت والنّظرة المناهضة للحياة. ولعلّ هذا الجدل جزء من الخصوصيّة التّونسيّة. لذلك، فأمامنا ورشة كبيرة للغوص في أعماق التّونسيّ من خلال حياته اليوميّة، ودعك من النّظريّات والنّماذج والمفاهيم الجامعة على أهمّيّتها، فثمّة حياة تنبض يوميّاً ولا تستطيع تلك النّظريّات والمفاهيم القبض عليها، ولا يستطيع ذلك إلا السّرد.
د. نادر الحمّامي: أمام هذه الورشة المفتوحة بين البهجة والأوجاع، علينا ألّا نسقط لا في أوهام الدولتشي فيتا ولا في العدميّة، بل أن نواصل التّفكير في سرديّات أخرى ممكنة. هكذا نأتي إلى ختام هذا الحوار معك أستاذ شكري المبخوت، شكراً جزيلاً لك على ما تفضّلت به.
[1]- أجري هذا الحوار في 18 كانون الثاني/يناير 2018