حوار مع هانز جورج جادامر
فئة : حوارات
حوار مع هانز جورج جادامر([1])
ترجمة: د. محمد سليم محمد حنفي
من دون الشعراء لا توجد فلسفة:
ر. ب([2]): لقد كان الشعر دائمًا مثار اهتمامك الكبير، وكتبت ذات مرة: يجب على من يكتبون الفلسفة أن يكتبوها بطريقة الشعر. فهل من السهل عليك كتابتها بهذه الطريقة؟ إنه لمن دواعي سروري أن تكون إجابتك هي الإثبات؟
جادامر: لا، الحوار الفلسفي يكون جيدا، بالرغم من كونه عنيفا وباعثا على التفكير كما في هذا الحوار! لكن الكتابة الفلسفية بالنسبة لي هي دائمًا تأمل ذاتي هائل. كما تعلم لقد نشرت كتابي الرئيس عندما كنت في الستين من عمري. ولقد حظيتُ بمكانة عالية جدا في التدريس، وبالفعل لقد حصلت على الأستاذية منذ فترة طويلة، ولكنني لم أنشر مؤلفاتٍ كثيرة، حيث إني استثمرت أكثر ما لديَّ من طاقة في التدريس.
لكن أشرطة المودم التسجيلية ربما تقدم حلاً لهذه المشكلة. عندما أقوم بإلقاء محاضرة الآن، فإن الجميع يعلم أنني سأتحدث من دون ورقة أو مخطوطة مكتوبة. ولكن يمكنك أن ترى نصوصا من محاضراتي في جميع أنحاء مكتبي هنا. أنا أتذكر تجربتي الأولى مع كتابة المحاضرة في مخطوطة مكتوبة وعرضها على الطلاب بواسطة الآلة أو الكمبيوتر أو جهاز العرض "الداتا شو". فكرت في الأمر: فوجدت أنه من المستحيل أن يعيرني الطلاب انتباههم من خلال الآلة فحسب. فبالتأكيد سأكون قلتُ أكثر بكثير من ذلك الذي أعرضه! لذلك لا بد لي من إضافة ماذا كان يدور في ذهني عندما كنت أتكلم. أود أن أقول إنني وجدت حلًّا وسطًا جيدًا بين تقديس الكلمة الحية ومتطلبات الكتابة. صديقي دولف ستيرنبرجر يقول دائمًا: إننا مختلفون تمامًا، أنت -وأنا - مثلا، فأنا أفكر وبعد ذلك أكتب، ولكنك تتكلم ثم تكتب.
ر. ب: ما رأيك في العلاقة بين الفلسفة والتدريس؟ هل تنظر إلى الفلسفة على أنها بشكل أساسي حوار بين المعلم والطالب؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل تعتقد أن هذا النوع من التدريس مازال ممكنًا مع تحديات ومتطلبات الجامعة الحديثة؟
جادامر: سؤالك جيد، ولكن يمكنك أيضًا أن تسألني: هل تعتقد أن الجامعة الحديثة تستطيع أن تنجو من هذا الأمر؟ أنا لست متأكدا حيال ذلك. بفضل مشواري الطويل في التدريس لأكثر من خمسين أو ستين عامًا، أصبحت لدي خبرةٌ فعالةٌ فى التدريس. وأود أن أقول إن التعليم الحقيقي في الفلسفة يكون دائمًا بالحوار. كنتُ دائمًا أقوم بنفسي بتدريس الكورسات التمهيدية للطلاب في السنوات الأولى؛ لأنها المهمة الأصعب؛ لأن الطلاب المبتدئين يحتاجون بالفعل إلى انفتاح المعلم معهم وحثهم على التفكير، بينما نمط التعالي من جانب المعلم هو بالطبع يجعل الكورس شائنًا.
لدي تعريف لما يجب أن يكون عليه الامتحان. يجب أن يتكون الامتحان من طرح سؤال على أحد الطلاب ولا يعرف الإجابة عنه، ثم أستطيع أن أبدأ منه من باب التشويق وجذب الانتباه. هل يمكنه التعامل مع سؤالي؟ هل يمكنه الاستجابة واستخلاص الحل لهذا السؤال مثار اهتمامي؟ لم أقم بإجراء الامتحانات إلا في حالات نادرة جدًّا، وكنت أتناولها دائمًا على أساس مبدأ أنني يجب أن أدخل في الحوار. والحوار لا يمكن أن يبدأ إلا عندما أكون أنا أيضا لست متأكدا مما أفكر فيه. وهذا غير ممكن مع وجود أعداد كبيرة من المشاركين. لكن في ألمانيا لا يتم تدريس الفلسفة عادة في المدارس. ولأسباب وجيهة، قال ديلثي: إن الفلسفة أمر صعب للغاية - ليس بالنسبة إلى الشباب فحسب، كما تعلمون، بل وبالنسبة إلى المعلمين أيضا! لقد بدأوا في التعامل مع الفلسفة على أنها شيء غامض، وهذه ليست الطريقة الصحيحة لتنمية الفلسفة في العقل البشري.
الصدق، الأمانة والفلسفة:
ر. ب: ما الفرق بين الوجود الفلسفي a philosophical existence والوجود اللا الفلسفي a non-philosophical existence؟ في نهاية حياته، كتب إدموند هُسِّرل عن كونه شخصًا قد عاش تجربةً وجوديةً فلسفية بكل جديتها وطرافتها. في اعتقادك ماذا كان يعني بذلك؟
جادامر: حسنا، هُسِّرل حالة خاصة جدا. اعتدت أن أشارك في ندوته، وكثيرا ما سمعته يتحدث عن مثل هذه الأشياء. كما تعلم إنه كان في الأصل عالم رياضيات ومنطق. ولكنه كان مدفوعا بالرغبة في أن يكون صائبا ودقيقا ليس في العمل الرياضي فقط، بل في العمل الحياتي أيضًا. لذلك كان عليه أن يوسع تأملاته حول فكرة الدقة في العثور على الحقيقة أو الصدق. لقد وصف دائمًا حياته الخاصة بالتعبير التالي: "أودّ أن أكون فيلسوفًا حقيقيًا"، بالألمانية "ein ehrlicher Philosoph sein"، وتنطق في الشرق الأوروبي "الفيلسوف الحقيقي". بدأ هذا ﺑ "البحوث المنطقية" كما تعلم، ثم توسع في هذه الفكرة، حتى تعرض للنقد من قبل علماء النفس، الذين قالوا: حسنًا، أنت تتحدث عن الأدلة، ولكن الدليل ليس هو نفسه الإثبات أو البرهان. فالأدلة يمكن أن تكون خاطئة دائما. من أجل الدفاع عن نفسه ضد هذا النقد، طوَّر تفسيرًا ديكارتيًا ومثاليًا لآرائه الفلسفية في كتابه السابق. لقد تحدَّى تلميذه هايدجر بهذا التفسير المثالي وتغلب عليه.
وأما مسألة الوجود الفلسفي: فإن هُسِّرل هو مبتكر هذا المصطلح، الذي نال شهرةً عالميةً، ومثله مصطلح "عالم الحياة life world" الذي ابتكره ليبنزويلت Lebenswelt، باستثناء أن مصطلح هسرل من ابتكاره، وليس مجرد تعبير مركب من كلمتين. لقد كان اختراعه. وأصر على أن ما قاله علماء وظائف الأعضاء، وعلماء النفس، والفيزيائيون يمكن أن يخبروننا بأن الإدراك الحسي sense perception لا علاقة له بمسألة التجربة الفعلية للناس. إنه سوف يبحث في كيفية حدوث الحياة في الواقع، بوصفها تجربة للناس الأحياء وهذا ما كان يعنيه ليبنزويلت بالمصطلح. وعندما كان يقول هسرل إنه "عاش من أجل الفلسفة"؛ فمعنى هذا القول إنه عاش من أجل هذه الرغبة – في أن يكون أمينا، وأن يكون مخلصًا.
ر. ب: هل يمك أن يؤخذ ذلك على أنه تعريف للفلسفة المثالية عموما؟
جادامر: نعم، يمكن هذا بالنسبة إلى هىُسِّرل نفسه، لكن لسوء الحظ هناك فيلسوف آخر، اسمه نيتشه. لم نتعلم منه ثقتنا في أننا نستطيع الوصول إلى هذا المستوى الأعلى من الإخلاص.
ر. ب: كتب هُسِّرل ذات مرة أن كل مفكر حر مستقل يجب عليه تماما أن يغير اسمه مع نهاية كل عقد من السنوات؛ لأنه بحلول ذلك الوقت سيكون قد أصبح مفكرا مختلفًا. فهل توافق على ذلك؟
جادامر: لم أكن أعرف هذه العبارة، أو على الأقل لم آخذها أبدا على محمل الجِد. وأنا سأقول: إنها بالتأكيد خاطئة. والعكس هو الصحيح: لا أحد يستطيع أن يغير نفسه تماما. لذلك يجب علينا ألا نغير أسماءنا أبدًا.
ر. ب: يتكون كتابك بشكل أساسي من تفسيرات لنصوص من التاريخ الكلاسيكي للفلسفة. ولكن هل توافق على أنه يمكن أن يكون هناك خطر في التعامل مع النصوص الفلسفية كما لو كانت كلها جزءًا من نص فائق a super text- يشتمل عليه تاريخ الفلسفة - حيث يأتي تاريخ الفلسفة سابقا على النصوص، وليس على العكس من ذلك؟
جادامر: هل درست الفلسفة التحليلية...؟ أعتقد أنني سمعت ذلك في سؤالك. حسنًا، النقطة الفارغة، نقطة الصفر، هي مجرد وهم. أعتقد أنني سأكون قادرًا على إثبات أن الفلاسفة التحليليين غالباً ما يفشلون في تحقيق أهدافهم؛ لأنهم لا يعرفون ما يكفي عن تحيزاتهم الخاصة - أو عن المفكرين الذين هم أفضل منهم.
ر. ب: لكنك في كتابك الصدق والمنهج تتحدث عن التمايز الجمالي، وهو يتجسد في المتحف الحديث، حيث يتم جمع الأعمال الفنية المختلفة معًا باسم مفهوم عام للفن art، وتمييزها عن اللا فن non-art. وكنت أتساءل عما إذا كان يمكن أن يكون هناك خطر مماثل من هذا التمييز أو هذه المفاضلة الفلسفية...
جادامر: حسنًا، يجب أن يكون النص الفلسفي أداة لنا، مثل كل الأعمال الفنية الأخرى أيضا. كلاهما تأملان حول الوجود الإنساني، حول سر الحياة، سر الموت، سر الامتداد اللامتناهي للكون، وهكذا، وهكذا. حسنًا، هناك حكم مسبق شائع جدًّا، وهو أن الفلسفة هي من اختصاص الفلاسفة فحسب، لكن هذا خطأ؛ فهى وجهة نظر فردية خاصة لكل واحد من البشر.
ر. ب: مع ذلك، عندما تتحدث عن الفلسفة ألا تمارسها من حيث النصوص الفلسفية؟
جادامر: لا، أن أتحدث عن نفسي!
ر. ب: حدثني عن النصوص الفلسفية؟
جادامر: لا! عن المسائل الفلسفية! فأنا، أحيانًا يمكن أستخدم النصوص؛ لأنني قد لا أستطيع العثور على الكلمات الصحيحة المناسبة للتعبير عن رأي جديد. ومع ذلك، فأنا لست مؤرخا للفلسفة.
ر. ب: إحدى مميزات أعمالك الفلسفية، هي روح التوفيق، والتأييد تجاه المواقف والمذاهب الفلسفية الأخرى. يبدو أنك مهتم قبل أي شيء بأن تجعل لأفكارك الفلسفية معنى، حتى لو كانت تبدو في البداية خالية من المعنى. لكن ماذا لو كانت الأفكار بالفعل لا معنى لها؟ بعض الفلاسفة – فتجنشتين على سبيل المثال – يبدو أنهم يمارسون جدلا سلبيا محضا. بتعبير آخر يمكن للمرء أن يقول إنهم يحاولون دائمًا إثبات أن المعنى الظاهري هو في الواقع خال من المعنى. بينما يكون موقفك هو العكس: تحاول اكتشاف المعنى الحقيقي حيث يبدو هناك أنه لا معنى.
جادامر: إنها ليست مسألة سخاء. لا أستطيع فهم شيء خال من المعنى، ولا أرغب فى تضييع وقتي. لكنى سأقول إن فتجنشتين أيضًا لم يبحث فيما هو أبعد من الأخطاء. ولم تكن لديه أي حماسة لإجراءات سلبية محضة، وكان أيضًا متجهًا نحو الحقيقة. ولم يكن فيلسوفا شاكًا. كما قد يبدو أن هيدجر لم يكن بعيدًا عن فتجنشتين. على سبيل المثال، اهتمامي بفلاسفة اليونان ليس لأنهم جاءوا أولاً، بل لأننا مازلنا نستخدم مفاهيم الفلسفة اليونانية، أو المفاهيم اللاتينية ذات الأصل اليوناني، ولا أحد يفهم ما تعنيه الكلمات اليونانية في الحياة الحقيقية. ولهذا السبب درست الفلسفة الكلاسيكية - وليس الفلسفة فقط، بل أيضا فقه اللغة الكلاسيكي؛ لأنه من دون الشعراء لا توجد فلسفة. وفي الترجمات الأخرى "لا يوجد تفكيرٌ حي".
فتجنشتين كانت لديه تجربة الاغتراب الأولية ذاتها، بطريقة علم النفس المتأخر في القرن التاسع عشر، والنظريات الميكانيكية؛ فالمعنى عند إرنست ماخ وغيره. وحتى الآن يمكننا حصر الفلاسفة الذين تحدثوا عن المثالية، أوعن الواقعية، أو عن المادية كما لو كانوا يعرفون ما يعنون بها. لكني تعلمت من الفينومنولوجيا - عند هُسِّرل وهيدجر - أن أتجنب كل هذه الشعارات التقليدية. فأن تتعلم كيف تفكر، فهذا معناه الرجوع إلى البداية، حيث كانت تحيا كل هذه المفاهيم الفلسفية. مثلا، الكلمة الكلاسيكية اليونانية ousia تعنى "المادة"، والكلمة اليونانية Sein التي تعني الفعل "يكون" من "الكينونة being". في اليونانية تعني مزرعة، أو ثروة، أو ملكية باللغة الألمانية das Anwesen. مما جعل هيدجر ينظر إلى كل هذه المفاهيم على أنها صحيحة تمامًا. بالنسبة إلى اليونانيين كان من الواضح أن كلمة "المادة ousia" هي ثروة الزارع. ولهذا، مع اليونانيين، فإن المرء يفهم القليل بشكل أفضل مما يفعله في هذا الوجود. ما أود أن أقنعك به هو أن الفلسفة التحليلية، وفلسفة هايدجر التفكيكية هما في الواقع مشروعان متوازيان للغاية.
ر. ب: ولكن في نهاية رسالة فتجنشتين المنطقية الفلسفية تقول إن المنهج الصحيح فى الفلسفة هو أن تسمح للناس أن يقولوا الأشياء التي يمكن أن تقال، ومن ثمَّ، عندما يحاولون أن يقولوا شيئا آخر، فسيكتشفون أنهم لم يعطوا معنى لبعض الكلمات التي يستخدمونها. "هذا المنهج لن يكون مستوفيا في رأى الفلاسفة الأخرين". أما فتجنشتين، فيرد بقوله: "لكنه المنهج الوحيد الصحيح تمامًا".
جادامر: ذلك في كتابه الأول "الرسالة المنطقية"، حيث يتحدث عن السُّلَّم الذي يجب أن نُلقِي به بعيدا بعد أن صعدنا عليه. حسنا، نحن نفعل الشيء نفسه. عندما أسأل عن معيار للتفسير الصحيح، فإجابتي هي أنه المعيار الذي يمكنك أن تنساه في الاعتماد النص، أو في الإعجاب بالعمل الفني. إن استطعت أن تنساه، فهذا يدل على أنه لم يكن معيارا مصطنعا وقسريا ومتحيزا.
ر. ب: وماذا عن علاقتك بممارسة التفسير في التحليل النفسي؟ كثير من الناس ينظرون إلى فرويد على أنه تأويلي أو هرمنوطيقي، بطريقته الخاصة. لكن فيما يبدو لي أن فرويد لم يكن أبدًا شخصية مهمة بالنسبة إليك.
جادامر: بالتأكيد، لكن في جامعة ليبزيج خلال الرايخ الثالث، قمنا بدراسة فرويد بالطبع، ودرسنا كل المؤلفين الآخرين غير المسموح بدراستهم، ولقد كانوا أكثر إثارة للاهتمام من هؤلاء المقبول دراستهم. وهكذا حصلنا على نسختنا من أعمال فرويد، وقرأناها بعناية شديدة. كما كان لدي أيضًا عديدٌ من الأصدقاء المحللين النفسيين. لكنني لم أتأثر بهم بشدة؛ لأنني كنت أعرف نيتشه بالفعل. وكانت النزعة الطبيعية لفرويد موضوعًا بالفعل لانتقادات كثيرة في هذه الفترة، ولهذا أتفق مع هذا النقد. بالطبع، لا أستطيع العيش من دون فرويد، هذا واضح. عندما أرتكب زلات أو أخطاء، أعرف السبب. هذا هو علم النفس المرضي للحياة اليومية، وقواعده واضحة تماما، مثل قواعد النحو. ومع ذلك، ما زلتُ أحاول ألا أرتكب أخطاءً. في هذه اللحظة، أصبحت هذه هي قضية الساعة مرة أخرى، وكثيرًا ما أتناقش مع جاك دريدا والمشهد الفرنسي. إنهم يتعاملون مع كل اللغات كأشكال من الكبت. بالنسبة إليهم، كل شيء كبت. لا أستطيع التسليم بهذا. أعلم أن هناك شيئًا اسمه الكَبت؛ لكن كل لفظ منطوق يسمَّى كبتًا، يبدو لي أنه لا معنى له. في هذه الحالة يجب أن تكون الألفاظ كلها صامتة. لكن دريدا ساحر، ومازِلتُ آمل أن أستطيع فهمه. لكنه صعب جدا؛ لأنه فيلسوف طرائقي a mannerist، من الدرجة الأعلى. الشهر القادم سأذهب إلى باريس، وآمل أن أكون قادرا على إقناعه بأنني لست معارضا لميوله بشكل مطلق. لكن عليه أن يقبل أن المرء يحتاج إلى دافع للتفكيك. وهذا عينه يحدث في الحياة اليومية، عندما يصيح الناس بصوتٍ عالٍ وغاضبٍ للغاية، ويستمرون في الجدال والجدال..، ثم يمكنني التوقف عن الجدال، ولا يظهر إلا ضعف موقفهم. سيقول دريدا إن هذا مجرد اصطلاح، وسيتساءل: ماذا وراءه؟ لكنني أود أن أقول: ليس الأمر كذلك دائمًا، أن هناك شيئًا ما خلفه، وهو شيء ما مكبوت وصحيح. وبطبيعة الحال، فإن إرادة القوة كونية، وهذا واضح. لكن للعثور على شيء جميل، أو خبرة عن الثقافة، أو عن الفن، أو الشعر، أو الفنون الجميلة، أو المشكلات النظرية، والرياضية، كل هذا له قيمة مختلفة من الصدق. ويمكن إساءة استخدامه من خلال إرادة القوة بالطبع - ولكن هذا يصدق على كل شيء. أما بالنسبة إلى بول دي مان: حسنًا، لقد عرفته، عرفته جيدًا. لقد كان زميلًا لطيفًا جدًا. ولم أكن أعرف شيئًا عن شبابه بالطبع. لكنني لن أنتقد بعنف آرائه في سن المراهقة. ولكن بعد ذلك، أصبحت المشكلة تتمثل فى أنه لم يكن ينتقد نفسه بما فيه الكفاية. هذا هو انتقادي: لقد كان مرتبكًا. لم يفكر بما فيه الكفاية.
السياسة والأعراف أو التقاليد:
ر. ب: ماذا عن السياسة في حياتك الخاصة؟ لقد وصفت نفسك دائمًا بأنك ليبرالي. لكنك أديت دورًا مهمًا في المؤسسات الثقافية والتعليمية الألمانية لسنوات عديدة، وخاصة في لِيبزيج، أولا في عهد النازيين وثم تحت حكم الروس. الآن، لقد كتبت في عمل ما عن مدى اجتماعية الضغط يمكن أن يجعل المؤلفين يتكيفون أو يخففون حججهم، بوعي أو دون وعي، بطريقة الرقابة نفسها. فهل يمكنك تطبيق ذلك على الليبرالية الخاصة؟
جادامر: نعم، أعتقد أنه يمكننا تدريس الفلسفة حتى في ظل النظام النازي. الفلسفة مثل الرياضيات: كلاهما غير مفهوم للرقابة. كانت هناك محاكمات في موسكو في الثلاثينيات. وقد قبل المتهمون التهم الموجهة إليهم، وكان العالم كله على قناعة بأن ذلك يتم عن طريق السم، من خلال الكيمياء. لكنني مقتنع بأن الأمر لم يكن كذلك. لقد تحولوا حقا، وكان هذا سؤالك. لكن كيف أفكر في الأمر بشكل عام؟ حسنا، أعتقد أنه لكي نحمي أنفسنا من هذا الضعف البشري، فإننا بحاجة إلى الفلسفة. نحن بحاجة إلى شجاعة نقدية. الثورة الصناعية تفضل الأشخاص الذين يتبعون القواعد، ويعملون فقط مثل التروس في الآلة، وبالتالي فهي تحمل تهديدًا بعبودية جديدة. الطريقة الوحيدة لمكافحة هذا هى ممارسة ذكائنا أو تفكيرنا النقدي. يجب علينا خلق مساحات حرة من السلوك الإبداعي. علينا أن ندرك أنه حيث توجد قواعد، توجد دائمًا استثناءات، لكن لا مفر من أنه في المجتمع الجماهيري سيكون لدينا عدد كبير من الأشخاص الذين تم تدريبهم على الطاعة. وسائل الإعلام لدينا في ألمانيا ليست مستعدة حقًا لمواجهة تحدي التحفيز على التفكير النقدي. إنهم يفتقرون إلى التدريب فى الحكم، وفى النقد الذاتي، وفى انتقاد المؤسسات، وانتقاد الحكومة. نحن نحاول دائمًا تنظيم كل شيء: حتى المعارضة محسوبة مسبقاً بالفعل. وعلى المدى الطويل، أعتقد أن هذا ليس تعليما حقيقيا. التقاليد في بريطانيا أقوى بكثير مما هي عليه في ألمانيا. التقاليد بوصفها طريقة حياة. البداية بالحدائق!
ر. ب: أنت معروف بمحاولاتك لإعادة تأهيل سلطة التقليد، وخاصة ربما تقاليد الثقافة الغربية، التي تركز على الفلسفة، ألا يجعلك هذا محافظاً؟
جادامر: لكن ليس أمام المرء خيار البقاء في التقاليد. إنها ليست قرارا سياسيا. كثيرا ما يُطلَق عليَّ لقب "الليبرالي". وهذا مصطلح قوي في الثقافة الألمانية؛ لأنه منذ الثورة الفرنسية كانت البرجوازية في منافسة مع التقاليد الأرستقراطية، كما تعلمون، وبالتالي الثقافة الفلسفية في القرن التاسع عشر، حقا هي ثقافة عقلية ككل سكنت هذه الآفاق. ولذلك، فمن الصحيح أننا جميعا ليبراليون بمعنى ما إذا كنا علماء. نحن لا نقبل سلطة التقليد بمعنى الموقف السياسي، أو بأي نوع من الدوجماطيقية.
ر. ب: ولكن لا يزال هذا هو التقليد المحدد، وريث الثورة الفرنسية؟
جادامر: هذا هو النظام الثقافي المحدد الخاص بالغرب، هذا صحيح، رغم أنه يختلف بعض الشيء في البلدان الأخرى. أعلم بالطبع أن التقليد الفرنسي، مثل التقليد الإنجليزي، هو أيضا قوي جدا. وفي كندا أستطيع أن أدرس التقليد بشكل متواصل: هناك، الحداثة لم تصل أبدا!
ر. ب: هل الثقافة الغربية تقليد واحد، وهل هي مجرد تقليد واحد فيما بينها وبين التقاليد الأخرى؟، حيث يمكن للمرء أن يتحدث عن الثقافة الغربية، والثقافة الصينية، والثقافة الأفريقية، كلها على أنها بمستوى واحد؟
جادامر: كلنا فانون، ولذلك علينا أن نمرر الأشياء لنؤمنها، وأن نتخذ قراراتنا بأنفسنا؛ لأن هناك جيلاً جديداً سيأتي بعدنا: وهذا الأمر صحيح في الصين، كما هو الحال في كل دولة أخرى.
ر. ب: دعنا نأخذ بعين الاعتبار المثال التالي: لقد امتدحت في كثير من الأحيان هيدجر لتعقبه للاستمرارية بين التكنولوجيا الحديثة والميتافيزيقا اليونانية القديمة. فهل معنى هذا أن الناس الذين يعيشون في عالم التكنولوجيا الحديثة لا يستطيعون أن يفهموا أنفسهم دون الإشارة إلى الفلسفة اليونانية، حتى لو لم تكن الفلسفة اليونانية جزءًا من تقاليدهم؟
جادامر: حسنا، بالطبع هذا صحيح بمعنى ما، لكننا جميعا في هذا الموقف. الفلسفة بالمعنى الذي نتحدث عنه هي معجزة غربية. لقد ظهرت إلى الوجود بعد أن بدأ اليونانيون في تطوير الرياضيات، كما استخدم البابليون والمصريون القدماء بعض التقنيات الرياضية، لكنهم لم يصلوا بها إلى منزلة العلم. ولم يكن لديهم إقليدس، صاحب التجريد القوي في الهندسة والبراهين الراسخة. البرهان أو الإثبات هو مفهوم إقليدي (نسبةً إلى إقليدس) في المقام الأول، كما أن الفلسفة قد ساعدت على تحقيق التطورات العلمية في علم الفلك، والطب، وغيرهما من العلوم الأخرى، والتي هي بالطبع لم تكن تيارًا واحدًا مستمرًا: بل كان يحتوي على إخفاقات وبدايات الجديدة، كما تفعل التقاليد الحية دائمًا.
ر. ب: ماذا عن الاختلافات القومية؟ هل يمكن للفلسفة أن تكون عالمية يومًا ما، وهل سيكون ذلك جيدًا متى أصبحت الفلسفة عالمية؟
جادامر: سيكون من الرائع لو استعطنا معرفة الفلسفة الصينية واليابانية، وكذلك الفلسفة الإفريقية (زائير على سبيل المثال). هناك مسعى في علم الأساطير التقليدي الآن إلى اصطناع لغة جديدة – إنها لغة الفلسفة. صحيح أنه نشأ في أوروبا شكل خاص من التفكير المفاهيمي، الذي كان تلخيصا تجريدًيا لمفاهيم الرياضيات، والذي كان أيضًا بمثابة منهج جديد للتفكير في الكون، وفي تنظيم العلاقات بين مدنه أو شعوبه المختلفة. وكان هناك اتصال، وبالتالي أساس مشترك. الثقافة الغربية كلها تعتمد على الجذور اليونانية واللاتينية وتطوراتها وانتشارها بين الشعوب الأوروبية، ولكل منها لغته الخاصة، على أساس عائلة اللغات الهندو- أوروبية، كما يطلق عليها. بالطبع الدول المختلفة لديها لغات مختلفة. ولكن يمكن تعلم كل لغة بمعنى ما. مثل هذه اللحظة التي نجري فيها الحوار أو المحادثة إلى حد ما - باللغة الإنجليزية السيئة للغاية من جهتي، ولكن مع ذلك آمل أن نتمكن من إيجاد أساس مشترك يبرز المعنى ويوضحه.
الصداقة والديمقراطية:
ر. ب: لقد أشرت في بعض أعمالك إلى الأفكار الكلاسيكية في الأخلاق التي تقابلها الأفكار الأخلاقية الحديثة، وخاصة أن الأخلاق الكلاسيكية تتحدث عن مفهوم الصداقة، أكثر من مفهوم الأنا الفردية individual ego؛ فهل تعتقد أن هذا يُسلِّط الضوء على الاضطرابات السياسية في القرن العشرين، وهل تعتقد أنها تعطينا أي بارقة أمل؟
جادامر: بالتأكيد من الصعب جدّاً الحديث عن الديمقراطية بينما لا توجد ديمقراطية. وهذا هو حالنا. لدينا دستور ديمقراطي، ولكن لدينا الطبقة السياسية، ولدينا السياسيون الذين يمارسون السياسة، ثم في بعض الأحيان الشعب للحصول على التصويت. يؤسفني بشدة أنه في عام 1946 لم يسمح لنا الأمريكيون بإجراء نظام التصويت الفردي كما هو الحال في النظام الانتخابي البريطاني. لكان هذا كان مناسبًا لنا. فنحن بحاجة إلى تعلم الديمقراطية من خلال الاتصال بين السياسيين والشعب. وهذا ما تفتقده ألمانيا. ورغم ذلك، نحن منظِّمون ممتازون: هذا صحيح جدًّا. وهي ليست نقطة انطلاق جيدة للفضائل الديمقراطية، ولكن هذا هو الواقع. ومع ذلك، أحب أن أقول إنه إذا أردنا تجنب الاستمرار في سكب آخر قطرة دماء، كما يحدث في البلقان في هذه اللحظة، فإن هذا سيكون من خلال فهمنا لمعنى الصداقة، أو من خلال شيء مشترك بيننا.
ر. ب: هل من الممكن أن نكون متفائلين؟
جادامر: نعم، أعتقد ذلك. هناك بالطبع بعض الأشياء الغريبة التي تحدث. يجب أن تدرك بوضوح أن البلقان في الوقت الحاضر في ثورة ضد عقود زمنية من العنف والقوة. وليس من السهل عليهم إيجاد شكل جديد من التعايش. لكن أنا أعتقد أن هناك رغبة قوية جدًّا في البقاء في حياة الطبيعة البشرية، وبالتالي هناك قلق هائل، عندما تكون الحياة تحت التهديد، والقلق هو سبب رئيس وجيد جدًّا. آمل أن نتعلم كيفية تنظيم مشكلة الطاقة النووية. في عالم المستقبل وفي حالة الحرب، قد تصبح كل محطات الطاقة النووية هذه بمثابة تشيرنوبيل جديدة. التقنيات النووية ما زالت في مهدها، وأنا متأكد من أنه في غضون خمسين عامًا، سوف يضحك الناس على مسألة انعدام الأمان في إنتاج الطاقة النووية. وفي السياسة، من الواضح أن الحرب العالمية الثالثة سوف تعني نهاية البشرية، ثم هناك المشاكل البيئية، وهي مشابهة. لهذا يجب على المرء أن يبدأ في إدراك أننا جميعاً في هذا العالم في قارب واحد. لذلك، أنا لست متشائما جدا. سيتم العثور على وسائل البقاء، ولكن ليس لدوافع مثالية. وهناك أيضًا من سيبنون ثقافتهم على أساس هذه الرغبة في البقاء. ولذلك، سأقول إنه ما زال لدينا عديد وعديد من أشكال: المصالح المشتركة، والصدق في التعامل، والتعاون، وأيضًا التنافس - وبالتالي الصداقة بالمعنى الأوسع للكلمة، مثلما استخدمها اليونانيون من قبل.
لكن ما يسمى الآن بالصداقة هو مفهوم جديد، ينطبق فقط على الحياة الخاصة، وقد بدأ بإلغاء إظهار المرء لبطاقة هويته (أو جواز سفره) عند التنقل بين البلدان الأوروبية. الصداقة بهذا المعنى الجديد نادرة؛ لأن الصداقة تتطلب بالفعل حياةً مشتركة. يمكن للمرء في نطاق الحدود الضيقة للمدن القديمة، أن يتحدث عن الأصدقاء وأيضًا عن العلاقات، بل أيضًا يتحدث عن الصداقة التي تشمل المجتمع بأسره، وكذلك المجتمعات فى المدن الأخرى. لستُ متأكدا من أننا سوف نكون باقين على قيد الحياة. لكن الطبيعة قوة ملحة للغاية. إنها تجعل الموت صعبا للغاية على البشر، كما أن الانتحار ليس سهلًا. فلماذا لا نعطي أنفسنا أيضا الفرصة لتنظيم التعايش بين الثقافات المختلفة للغاية على المدى الطويل؟ هناك قناعة مشتركة بأن هناك بعض المشاكل المشتركة، والشروط، وما إلى ذلك.
ر. ب: ماذا عن إعادة توحيد ألمانيا؟ هل كنت متفاجئًا تمامًا به؟
جادامر: نعم، كنت متفاجئا. لكنني كنت آمل أن يكون هناك حل فيدرالي؛ لأن فكرة تنظيم أوروبا أسهل بكثير من فكرة القوة الساحقة لألمانيا الموحدة. بالطبع، أدرك أن ذلك ربما كان مستحيلاً، وكذلك يجب ألا ننسى أنه في النهاية كان التحول غير دموي. لذلك، أعتقد أننا يجب أن نقبل ذلك التحول كما هو، والاستفادة منه على أفضل وجه.
ر. ب: هل سيكون من الصائب النظر إلى فلسفتك السياسية على أنها جزء من حركة ملهمة؟ ربما تأثرت فيها ﺑ فردريك نيتشه وهنري برجسون وجورج زيمل - ضد المجتمع الصناعي؟
جادامر: حسنا نعم، هذا صحيح. لكن هذا كان اتجاهًا عامًّا في بداية القرن العشرين. على ما أتذكر عندما كنت شابا في بريسلاو، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، ذهبت إلى سلسلة محاضرات؛ إحداها كانت بواسطة محاضر ديمقراطي اشتراكي، والثانية بواسطة شيوعي، والثالثة بواسطة ديمقراطي، والرابعة بواسطة محافظ. المحاضرون الأربعة كانوا ممتازين. بدأ الاتجاه المحافظ مع زيمل، والتقاليد، وما إلى ذلك. والآن لماذا أستجيب لهذا النمط المحافظ من التفكير؟ حسنًا، مقدمتي الأولى له كانت من خلال تأملات توماس مان حول الإنسان غير السياسي، كان ذلك بمثابة صورة كاريكاتورية تقريبًا للنزعة المحافظة. لم أتبع في وقت لاحق توماس مان، ولكن تجاربي الخاصة أخبرتني أن التحرك نحو تأسيس دستور جديد ومجتمع جديد سيكون صعبًا للغاية؛ لأننا كنا نستورد نظامًا لم تكن لدينا الاستعدادات اللازمة له. في جنوب ألمانيا كان الوضع أفضل، وقد تدثنا في منزل والدي بتعاطف عن "الجنوب الألماني الديمقراطي". كان ذلك صحيحًا فعلا، أعني أنه كان هناك المزيد من الديمقراطية الحقيقية في الجنوب، في فورتمبيرغ، وبادن، وبافاريا. وهذا لا علاقة له بالحاضر بالطبع. أنا أتحدث عن حقبة الحرب العالمية الأولى؛ لأنها كانت عندما تشكَّلت انطباعاتي الأولى عن السياسة. ثم كان هناك أستاذي، بول ناتورب، الذي كان مفكرًا اشتراكيًا، وبمعنى ما يوتوبيا للغاية، لكنه شخص رائع. اعتقدت أنه كان مثاليًا للغاية. ولكن بالنسبة إلى حزب المحافظين، فقد رأيته تجسيدًا للدفاع عن امتيازاتهم الخاصة، لذلك كنتُ أكثر ليبرالية.
ر. ب: هل كانت الماركسية تمثل خيارًا بالنسبة إليك؟
جادامر: أثناء وجودي في ماربورغ، قرأت كتاب الفيلسوف المجري جورج لوكاش "التاريخ والوعي الطبقي"، لكن ذلك كان شكلاً رفيعًا ونبيلًا جدًّا من الماركسية، ويمكنني أن أتفق معه بطريقة ما، في بعض الأحيان - على سبيل المثال، عندما قال إنه ليس من الممكن تقديم مفاهيم مثل "الصراع الطبقي" لكي ينطبق على تاريخ العالم بأكمله، ربما يصدق هذا فقط بالنسبة إلى الوضع الخاص للرأسمالية الحديثة. حسنًا، يمكنني قبول ذلك. أستطيع أن أفهم كيف كان من الممكن القول في القرن التاسع عشر، وخاصة في هذا الوضع بالنسبة إلى العمال في بريطانيا. إن المهمة كانت هي تطوير الصراع الطبقي. لكن الماركسية اللينينية المتطرفة مختلفة. لقد قدم لوكاش تفسيراته الخاصة هنا، لذلك لن أرميه بسهام النقد؛ فقد كان هو نفسه ضحية أخطائه. كان في يأس شديد في نهاية حياته.
لكن مدرسة فرانكفورت أصبحت مختلفة مرة أخرى، وهابرماس أيضًا بعيد عن أن يكون شيوعيًا متطرفًا. نحن صديقان حميمان على المستوى الشخصي، أنا وهابرماس. هو أقرب كثيرا إلى موقفي الفكري. لكنني لا أستطيع أن أتفق مع سياسته؛ لأنه - في تصوري -يؤمن بالعلم كوسيلة لحل جميع مشاكل المجتمع. أما أنا، فلا أعتقد ذلك. وإنما أعتقد أنه من دون الصداقة والتضامن فلا شيء ممكن. وكانت فكرة مدرسة فرانكفورت، وكذلك فكرة ماركس نفسه، مثالية للغاية في تصوري؛ فالبشر ليسوا ملائكة. كلا من مدرسة فرانكفورت ووجهة النظر الشيوعية تنطويان على شيء عظيم فيهما، شيء رائع، لكنني تعلمت من خبرتي الحياتية أنها ليست طبيعة بشرية. لم أكن مسيحيا بشكل خاص، ولكن لقد تعلمت شيئًا عن الخطيئة الأصلية، ووجدته مؤكدًا. إن أعظم سيطرة ممكنة على القوة يجب أن تكون هي هدفنا. ولهذا السبب أنا ديمقراطي. إنه نسبيا النظام الأفضل، ولكنه ليس النظام المثالي.
ر. ب: ما رأيك في النِّسوية؟ قال هربرت ماركيوز ذات مرة أن الحركة النسوية كانت هي الظاهرة الأكثر تحدّيًا له في حياته كلها من الناحية الفلسفية. هل تشاركه في هذا الرأي على الإطلاق؟
جادامر: لا، لكني أعتقد أنه أمر بالغ الأهمية، ومشكلة صعبة جدا من التنظيم في الحياة الاجتماعية. وأي شخص منصف وأمين عموما سيتفق معي في أنه لا توجد فرص متساوية للنساء في الحياة المهنية. لكنني لا أرى كيف يمكننا تنظيم طفولة الأجيال القادمة بشكل مناسب، إذا حاولنا إعطاء المرأة فرصًا مهنية متساوية. هذه مشكلة ذات مستوى عالٍ من الأهمية، وكل يوم يمكننا أن نطالع في الصحف كيف ينهار الدور التربوي للأمهات، وللآباء أيضا، كما أن الأسرة أصبحت أكثر وأكثر تفككًا، نتيجةً للثورة الصناعية. والحركة النِّسوية هي أحد مظاهرها. في ألمانيا الشرقية الأسرة هي الأضعف. هنا، في ألمانيا الغربية الصناعية، كان يمكن القيام بالأشياء بطريقة أفضل قليلا. وتمت أشياء كثيرة بالفعل، لكنها تظل مشكلة. الفرص المهنية المتساوية لها عواقب وخيمة للغاية. فهى لا تستطيع تغيير الطبيعة!
ر. ب: واضح من كتاباتك أن لديك احتراما هائلا للتجربة الدينية وللنظرية الدينية، لكن من المستحيل معرفة ما إذا كنت مؤمنًا أم لا. فهل هذا متعمَّد؟
جادامر: حسنًا، نعم، إنه متعمد بالطبع. أعتقد أنه من الواضح أن مشكلة الحداثة هي حداثة التنوير العلمي. لقد كان هذا هو تراث الفلسفة منذ بدايتها. وكان أول مفكر تنويري هو هوميروس. يقول هيرودوت: إن هوميروس وهسيودوس هما اللذان منحا الإغريق آلهتهم. هذا هراء بالطبع. فهما لم يمنحاهم آلهتهم، لكنهما حاولا تعقل الأنواع المختلفة من الآلهة. الدين فيما أعتقد مطلب إنساني طبيعي جدا. لا يمكننا أن نفهم ما هو الموت. هذا يتجاوز قدراتنا. وجميع الأديان تحاول تقديم تفسير لفكرة التعالي. بالمعنى الأوسع، فإنها موجودة في جميع الأديان المختلفة. في معظم الأديان، ليس من الصعب جدا قبول مثل هذا التصور؛ ولكن في المسيحية الأمر أصعب. فهناك فكرة التجسد، ومشكلة حلول اللاهوت في الناسوت "أي إن الله صار إنسانًا"، وأننا بحاجة إلى الإيمان بذلك. وهذا الإيمان موجود في التوتر العقلي. لدي احترام كبير للأشخاص الذين يمكنهم التعاون في مثل هذه الكنيسة، لكنه سؤال للبشرية. وفي الفن أرى أشياء متشابهة جدا من التعالي. هذا ما نشعر به بوصفه وعدًا بالعالم المثالي، بالعالم المبارك.
ر. ب: لقد تحدثت مؤخرًا عن "المرحلة العمرية الأفضل أو الأنضج Altersbonus"، وهي امتياز الشيخوخة. فهل تجربة التقدم في السن ظاهرة فلسفية، مثلما أنها ظاهرة ترتيب زمني؟
جادامر: بالتأكيد. يجب أن تكون كذلك بالنسبة إلى الفيلسوف. أعتقد أن المرء يرى الخطوط الرئيسة بشكل أفضل. والفلسفة تعني أن يكون الإنسان مستقلاً بذاته. لذلك، فهو يتسم في هذه المرحلة بالميل إلى الأنانية – أو ما يُطلِق عليه التحليل النفسي "النرجسية". وهذه السمة يصبح من السهل قليلاً التغلب عليها. وتلك هي هدية الشيخوخة.
ملاحظات:
1- انظر هانز جورج جادامر، التلمذة الفلسفية، ترجمة روبرت سوليفان، معهد ماساشوستس للتكنولوجيا مطبعة1985، ص. 109
2- انظر مجموعة ممتازة من المؤلفين، الهرمنوطيقا التطبيقية: هانز جورج جادامر فى التعليم والشعر والتاريخ، حرره دييتر ميسجيلد وجريم نيكولسون، مطبعة جامعة نيويورك، 1992، ص 128
3- التلمذة الفلسفية، ص. 189
[1]- ولد هانز جورج جادامر عام 1900 في عائلة عالم أكاديمي في بريسلاو. تلقى تعليمه -بوصفه طالبا في ماربورغ في عشرينيات القرن الماضي- على يد الشاب هايدجر، وحضر أيضًا ندوة هُسِّرل في فرايبورغ إم بريسغاو. تركزت اهتماماته على الفلسفة الكلاسيكية، وخاصة أفلاطون. لكن فكرته الملهمة هي أن كل كلمة، وكل تفسير، وكل قضية، تنطلق من حالتها "الهرمنوطيقية" الخاصة. في عام 1938 تم استدعاؤه إلى لايبزيغ بسبب قوة عمله في تاريخ العلم، وبعد هزيمة النازية أصبح رئيسًا للجامعة هناك لفترة قصيرة تحت الروس. (من دون أوهام لا يمكن للمرء حتى أن يحاول "شغل مثل هذا المنصب" قال ذلك لاحقًا). في عام 1949 بدأ فترة طويلة من الإنتاجية في هايدلبرغ. كتاب "الحقيقة والمنهج" كان قد نُشر عام 1959، على الرغم من أن ملاحظاته عنه تعود إلى عام 1933. هذا الكتاب واسع النطاق، "موضوع الكتاب أنه ليس ثمة منهج ناجز ولا حقيقة مكتملة، فهذه ليست من مهمات الهرمنوطيقا أو التأويلية. للتأويلية هنا هدف آخر يدخل في صميم التجربة الإنسانية للعالم: فهم الآخر، التراث، تاريخ الفكر الإنساني، اللغة، الفن، الحياة، وتفعيل التواصل القائم على الفهم مع هذا كله، والبحث في الشرعية الفلسفية للحقيقة التي تدعيها العلوم الإنسانية والطبيعية عبر وصلها بشمولية التجربة الإنسانية. كيف يكون الفهمُ ممكناً؟ هذا هو السؤال الرئيس لهذا الكتاب (المترجم)". ثم عمل جادامر من خلال مذاهب كانط وهيجل وهوسرل وهيدجر، لكنه عرضه للنتائج بوضوح، لا يمكن العثور عليه في هذه النماذج. كما قال في مناسبة أخرى: أنا أعارض إبداع لغة خاصة، وأرغب في صياغة لغة مثل التي نستخدمها عادة، والتى تحدث عنها هيدجر. أصبح جادامر أستاذا فخريا في عام 1968، ونشر على نطاق واسع، منذ ذلك الحين عديدا من أعماله المترجمة والمتاحة. ثكما أن إنشاء مجلد يضم أعماله الكاملة مجمعةً قيد التقدم الآن. يُعرّف نفسه بأنه «هرمنوطيقي"، ولكنه يصر على أن الهرنوطيقا ليست موقفًا فلسفيًا. بل هي "طريقة للخبرة" ولا تعترف بوجود أى مبدأ أسمى من إبقاء المرء منفتحًا مع ذاته فى محادثة '. هذا الحوار اعتمد على محادثةٍ باللغة الإنجليزية، واستغرقت مكانا في هايدلبرغ في أكتوبر 1993. وكان القائمون على الحوار هما: كريستيان جيرون، ولوناثان ري.
[2]- الحرفان (ر. ب) يشيران إلى مجلة الفلسفة الراديكالية (Radical Philosophy) التي أجرت الحوار مع جادامر.