حوارمع الباحث التونسي توفيق بن عامر: الاختلاف تنوّع ولكنّ التناقض ليس تنوّعا
فئة : حوارات
· بداية من هو الدكتور توفيق بن عامر؟
توفيق بن عامر أستاذ جامعي قضى في مجال التعليم حوالي 45 سنة من حياته وخصّص هذه الفترة كذلك للعناية بالنشاط الثقافي والفكري. وله مساهمات في مجال البحث العلمي، أنجز أطروحة دكتوراه دولة حول موضوع الرقّ في الحضارة العربيّة الإسلاميّة. وكانت له اهتمامات خاصة بمجال الدراسات الصوفيّة حيث نشر كتاب "دراسات في الزهد والتصوّف" وكتاب "التصوّف الإسلامي إلى القرن السادس الهجري". اعتنى كذلك بمجال أصول الفقه وأصول الدين ونشر كتابا حول "أصول الدين ومنزلتها بين العلوم الشرعيّة". واهتمّ كذلك بتجديد الفكر الديني والفكر الثقافي في كتاب له بعنوان "المستقبل الثقافي بين قضايا الهويّة والتجربة الديمقراطيّة" وساهم في إصلاح منظومة التعليم العالي طيلة عقود من الزمن وأسّس وحدة بحث حول "حوار الثقافات" بجامعة تونس. وأسّس الجمعيّة التونسيّة للدراسات الصوفيّة. وشغل عديد الوظائف العلميّة والثقافيّة من بينها رئاسة اللجنة الثقافيّة القوميّة من سنة 1981 إلى سنة 1983 وترأّس الإدارة العامّة للتنشيط الثقافي بوزارة الثقافة من 1983 إلى 1989 واضطلع بمهمّة رئاسة قسم اللغة والآداب العربيّة مدّة 6 سنوات من 1996 إلى 2003 بكلية العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس.
أشرف على إنجاز عديد الرسائل الجامعيّة والأطروحات لاسيّما في ميدان التصوّف الإسلامي وبلغ عدد الطلبة الذين أشرف على رسائلهم زهاء 80 طالبا. بالإضافة إلى مشاركات متعدّدة بالجامعات الشقيقة والصديقة ونشر عديد المقالات في مجلاّت علميّة محكّمة.
· بالعودة إلى موضوع الملتقى الفكري الذي تنظمه جمعيّة تونس الفتاة ومؤسّسة كونراد أديناور تحت عنوان "نحو فكر إسلامي بديل"، بأيّ معنى تطرح فكرة "البدليّة" اليوم؟ هل في معنى القطيعة الكلية مع الموجود بمختلف أشكاله ومظاهره أو في معنى التعديل والترميم والإصلاح؟ وفي أيّ سياق تتنزّل هذه "البدليّة"؟
هذا السؤال فيه جانبان: جانب أوّل يتعلّق بضرورة إيجاد البديل أو انعدام هذه الضرورة. في الحقيقة الضرورة موجودة لأنّ الفكر الإسلامي اليوم لا يمكن أن يبقى عالة على الفكر الإسلامي القديم في كل مجالات الفكر الديني وفي كلّ ما يتّصل بعلوم الدين، فالرؤى الدينيّة الموروثة يرجع عهدها إلى قرون خلت ولذلك من الطبيعي ألاّ تنسجم مع متطلّبات العصر. فالقدماء بنوا رؤاهم على ضوء أوضاع مجتمعاتهم وكذلك على ضوء ما توصّلت إليه المعارف في عصرهم ونحن اليوم تغيّرت أوضاع مجتمعاتنا وتطوّرت العلوم في هذا العصر فمن الضروري إذن أن تكون لنا رؤية بديلة تراعي أوضاع هذه المجتمعات كما تستفيد من العلوم المستحدثة وهي عديدة.
وأن نكتفي اليوم في مجال الفكر الديني بكلّ شعبه بما أنتجه القدماء هو نوع من التخلّف عن القيام بالواجب ونوع من البقاء في الماضي بمعنى هو موقف ضدّ التاريخ، ومن كان يسير عكس التيّار فسيبقى على الهامش. ولذلك فإنّ قضيّة إيجاد البديل أمر لا محيد عنه إن كنّا نريد للفكر الإسلامي أن يطاول الزمن وأن يثبت ذاته وأن يساهم في حظيرة الفكر العالمي. ولنا بدون شكّ درس في ما قام به الأجداد والأسلاف إذ قدّموا للعالم الكثير بفضل اجتهادهم وإبداعهم وإنتاجهم في جميع الميادين، ولم يبقوا عالة على القدماء. استفادوا منهم طبعا ولكنّهم طوّروا رؤاهم وأضافوا إليهم، فهل قدّمنا نحن إضافة؟
في الحقيقة لدينا طموحات للإضافة ولكنّنا لم نضف بعد شيئا يذكر. هناك نداءات ومحاولات للإضافة، ولكن هذا كلّه لم يتجاوز بعد المحاولة المتمثّلة إمّا في نقد الموجود أو في الدعوة إلى التجديد دون إنجاز فعلي لمشروع بديل.
في الحقيقة، إيجاد البديل يتطلّب أمرين:
1. إعادة قراءة النصوص التأسيسيّة. كما قرأوا نقرأ. هم قرأوا بعقليّة ما وتقبّلوا برؤية ما وعالجوا بمنهج ما، فلابدّ من أن تكون لنا قراءتنا على ضوء منهج لنا وبعقليّة العصر. وهذا شرط أساسي لكي نضيف.
2. إعادة القراءة لا تعني إلغاء كلّ ما هو موجود. هي تعني غربلته. أن نعيد القراءة وفي الوقت نفسه نستأنس بالقراءات السابقة فنقوم بعمليّة نخل وغربلة لنرى ماذا في هذا الموروث ممّا لا يزال قادرا على البقاء. ونعزل ما لم يعد فيه قابليّة للاستمرار.
إذن على هذين الأساسين نبني. فمثلا في ما يتعلّق بالسنّة النبويّة، نحن نعرف أنّها أخضعها القدماء لمقاييس نقديّة. ولكن بالرغم من ذلك بقيت السنّة إلى اليوم محلّ أخذ وردّ ومحلّ تشكيك. ماذا يعني هذا؟ يعني أنّ هذا الموروث مازال في حاجة إلى ضبط. أي هو في حاجة إلى منهجيّة جديدة ليست بالضرورة منهجيّة القدماء. اجتهد القدماء في ضبط هذه السنّة ولكنّ مقاييس الضبط لم تصل إلى غاياتها الحاسمة. تقدّمت خطوات في ذلك ولكنّها لم تصل إلى حقائق يقينيّة. وموقفنا نحن اليوم من هذا أنّنا لا نذهب إلى من يقول بطرح السنّة كاملة فهذا من باب المغالاة في الحقيقة. ولا نذهب كذلك إلى موقف الذين يقولون إنّها مقدّسة ونقبل كلّ ما جاء فيها ونمنع من ينتقدها وهي الأصل الثاني بعد القرآن. هذان موقفان متقابلان وفيهما نوع إمّا من التعصّب أو الارتجال. والبديل ليس هذا فهو لا يتمثّل في التمسّك بقدسيّة هذا الأصل وليس كذلك أن نضرب به عرض الحائط. الحلّ قراءة جديدة للسنّة، وهذا العمل الصعب يهرب منه الكثيرون لأنّه جدّي: إعادة قراءة السنّة وغربلتها وفق مقاييس، كأن تعرض كاملة على النصّ القرآني مقارنة لنرى ما يتضارب فيها مع القرآن وما لا يتضارب.. فعمليّة النقد تتطوّر وآليّات النقد أيضا تتطوّر. نقد النصوص اليوم أخذ بعدا متّسعا جدّا. فكيف لا نطبّق هذه الآليّات الجديدة على التراث؟ الخوف كلّ الخوف هو أن نبحث عن البديل السريع والمرتجل. البديل إمّا أن يكون حقّا بديلا فعليّا على أساس صحيح ويُعرض على إجماع كلّ الأطراف وإلاّ فإنّه يبقى شعارا وهو إلى اليوم شعار في الحقيقة.
· هل يعني هذا أنّ مثل هذه المقاييس تصنع في مخابر العلوم الإنسانيّة بما أنتجته من مناهج وآليات لتحليل الخطاب بعيدا عن مجال العلوم الشرعيّة؟
طبعا، هناك علوم مستحدثة مثل علوم الخطاب، علوم اللسانيّات الحديثة والمناهج النقديّة يمكن أن توظّف في هذا الاتجاه. حتّى الأسلوب الذي كتبت به السنّة لا نعرف هل هو متجانس أم لا. ألا يجدر أن توضع دراسات تثبت لنا أنّ هذا الأسلوب أسلوب متجانس واحد؟ وهذا قد يدعم ثقتنا في السنّة. وقد يثبت العكس ممّا يدعّم شكّنا. هذه هي البحوث الجدّيّة.
هناك العديد من المقاييس لنقد السنّة. وهنالك قضايا تاريخيّة في السنّة لا يمكن مثلا أن تصدر عن الرسول لأنّها تالية لعصره. أليس الأولى أن نتّخذ موقفا واضحا فيها ونلغيها؟ فلابدّ إذن من ضبط مقاييس.
· هذه النداءات والمحاولات التي أشرتم إليها في علاقة بإنتاج بديل أو إصلاح أو تجديد ترددت كثيرا في عديد الملتقيات والندوات العلمية بعدد من الدول العربية الإسلامية اليوم ولكنّها انحسرت في فضاءات مغلقة واقتصرت على نخب بعينها وحضرت فيها أحيانا وجهات نظر متباينة ومتباعدة ولم يكن لتوصياتها ولا لنتائجها عمق وامتداد مؤثّران هذا إن لم تتعرّض لانتقادات حادّة وتشكيك في خلفياتها وغاياتها. وهو ما جعلها أشبه بجزر معزولة وعقيمة. فبم نفسّر هذه الوضعيّة؟ وهل من حلول لتجاوزها؟
هنالك مشكلتان في هذا السياق: المشكلة الأولى غياب انسجام في النخبة الإسلاميّة، هنالك انفصام في النخبة وهذا ليس في صالح المجتمع. الاختلاف تنوّع ولكنّ التناقض ليس تنوّعا. هنالك فرق. أن نقدّم مثلا الفكر الإسلامي في ثوبين متعارضين متناقضين هذه مهزلة وليس تنوّعا. والسبب في ذلك هو أنّ النخبة غير منسجمة وكان من المفروض أن يقع التقريب بين النخب والحوار بينها. وهذا لا يحدث. ماهو حادث اليوم هو التنابذ بين النخب والاتهامات المتبادلة، وهذا رديء ومضرّ للجانبين. لابدّ أن يجلس الجميع على طاولة واحدة متجرّدين من مصالحهم الذاتيّة والآنيّة لأنّ القضيّة ليست فقط قضيّة معرفيّة. فعدم التجانس ليس فقط فكريّا هو أيضا موقعيّا واجتماعيّا وسياسيّا. هنالك أطر تحتضن هذا الانفصام ولا ينبغي للمعرفة أن تنساق وتخضع لهذه الأطر. فعلى سبيل المثال أذكر اتّحاد علماء المسلمين، وأتساءل لماذا لا يجالس ما عُرف بمفكّري الإسلام الجدد (les nouveaux penseurs de l'islam). يجب أن يتحاور الطرفان وأن يصلا معا إلى حلول، إلى رؤى منسجمة متماسكة، فليس بالضرورة أنّ الحقيقة تكمن عند أحدهما دون الآخر. والأغلب في ظنّي أنّ الحقيقة منقسمة بينهما أنصافا؛ الحقيقة الضحيّة.
الانفصام في الفكر الإسلامي ليس فقط بين النخب بل هو بين النخب وعموم الناس أي المجتمعات ويبدو أنّ الأفكار الإسلاميّة البديلة أو التي يراد لها أن تكون بديلة هي أقلّ انتشارا من الأفكار الإسلاميّة التقليديّة ولذلك نرى أنّ محاولات التجديد في الفكر الإسلامي الحديث معزولة بشكل واضح عن عموم الناس وعن الرأي العام بحكم مستوى التعليم، وبحكم شبه الأمّيّة ولذلك تعيش أغلب شرائح المجتمع الإسلامي على الموروث وهنا ينبغي كذلك مقاومة هذا الانفصام.
أوّلا لا بدّ من تنسيق موقف النخبة وثانيا العمل على نشر الأفكار الجديدة والرؤى المستحدثة والمعطيات البديلة.
· وما معوقات نشر هذه الأفكار؟ هل هي مادية أو أيديولوجية أو سياسية أو اجتماعية أو دينيّة..؟
العوائق موجودة وأنا دائما أعزوها إلى هذه الأطر الخلفيّة الأماميّة، المضمرة المعلنة، المتعلّقة بمصالح ظرفيّة وسياسيّة وأحيانا إقليميّة وأخرى دوليّة. هنالك عوائق وما دام هذا الفكر لم يتجرّد من مصالح أصحابه الآنيّة، ومن هيمنة المؤسسات الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة فإنّه سيبقى دائما متعثّرا ويبقى طبعا المعوّل في هذه الظروف على نشر التعليم والثقافة وعلى إعلام نزيه موضوعي: إعلام ثقافي.
· بماذا نفسّر عودة المقدّس الديني والروحانيّات إلى البروز واكتساح المجال العام اليوم خاصة في دول ما سُمّي بالربيع العربي؟
العودة إلى المقدّس، أو ما سُمّي أحيانا في سياقات أخرى بالصحوة الإسلاميّة في تفاؤل بهذه الاستفاقة، هي في الحقيقة عودة إلى إثبات الهويّة. ولو فحصنا جيّدا السبب في هذه الموجة منذ ظهورها وعبر تاريخ تطوّرها كذلك نجد أنّها نشأت وقويت خاصة من أجل إثبات هويّة. أي ليثبت المسلمون أنّهم موجودون. لأنّهم ليس لهم أيّ طريق آخر لإثبات وجودهم.
بماذا يثبت الإنسان وجوده؟ بصنيعه، بما يحقّقه، بما ينافس به غيره. فإذا كان لم يصنع شيئا ولم يضف شيئا وليس له ما ينافس به أو يعتدّ به، ماذا عنده؟ الموروث من الهويّة، بمعنى حتّى الهويّة غير كاملة. لأنّ الهويّة الكاملة ليست الماضي فقط. الهويّة هي إثبات الأنا لا في الماضي فقط بل في الحاضر والمستقبل. هو نوع من استنجاد الغريق بخشبة لأنّه لم يبق شيء. وهذا سبب أوّل. أي هو سبب ناشئ عن عقدة في الحقيقة: بماذا سنواجه الآخر؟ بماذا سنحتمي؟ ليس لنا ما نواجه به وليس لنا ما نحتمي به سوى ما أنزل الله، وهو ليس من عندنا.
السبب الثاني هو سبب هام جدّا وهو الإحساس بالفشل والخيبة من كلّ مشاريع الإصلاح التي حدثت في العالم العربي الإسلامي:
- فشل مشروع الدولة الوطنيّة التي وعدت بالازدهار والتقدّم ونشر العلم والتكنولوجيا والعدل الاجتماعي والتنمية. فشلت الدولة الوطنيّة في إنجاز ذلك في كامل العالم العربي الإسلامي.
- فشل ثان عندما رفع شعار الاشتراكيّة وأقام العرب الدنيا وأقعدوها حول الاشتراكيّة العربيّة وقامت حركات وأحزاب، ولكنّ المشروع الاشتراكي فشل.
- ثمّ انتظر العرب المسلمون من المشروع القومي أن ينجح وحدثت وحدة هنا ووحدة هناك، ومُني المشروع القومي بالفشل.
بمعنى أنّ مشاريع التحديث التي علّق عليها المسلمون الأمل أصابتهم بخيبة أمل. وأدّى ذلك إلى اللجوء إلى الهويّة. ما الذي بقي لم يجرّبوه؟ بقي هذا الانتماء الإسلامي. فهو إذن تيار يربح من المواقع بقدر ما تخسر التيّارات الأخرى، بقدر ما تنحسر المشاريع الأخرى. يمكن أن يكون الطرح الإسلامي مشروعا هاما لا نجادل في ذلك ولا نعارض، ولكن بشرط أن يكون هذا الطرح ملائما للوضع لا أن ننقل مقتضيات القرون السابقة إلى عصرنا. هذا هو المشكل.
وهناك سبب ثالث، هو التسلّط السياسي والقمع والاستبداد في الأنظمة العربيّة الإسلاميّة. هذا النوع من القمع المصحوب بالظلم بمختلف أشكاله يجعل أفراد المجتمع يبحثون أيضا عن ملجأ في القيم الإسلاميّة المثاليّة من عدل وإنصاف وحرّيّة وغير ذلك من القيم التي تعدّل الكفّة. وطبعا عندما قويت هذه الموجة قوي معها القمع، ووقعت محاولة ما سُمّي بتجفيف المنابع، بمعنى حرمان الجمهور من حاجياته الدينيّة. ولكنّ هذا الضغط ولّد العكس، ولّد المزيد من التعطّش إلى هذه الحاجيات الروحيّة. وفي ظلّ القمع تنحدر القيم وتتفشّى عديد الانحرافات الخلقيّة والقيميّة من محسوبيّة ورشوة.. وهذا أيضا من شأنه أن يدفع إلى التمسّك بالقيم. هذا أيضا لعب دورا لا يستهان به.
السبب الرابع هو موقف الغرب من الإسلام. كان موقفا مستفزّا وفيه نوع من المغالطة. وفيه كذلك ما عانته الشعوب الإسلاميّة من السياسات الغربيّة غير العادلة، سياسة المكيالين وموقف الغرب من القضية الفلسطينيّة، الشكّ في العدالة الكونيّة، والعولمة وإرادة الهيمنة. كلّ هذا كان دافعا لتقوية هذا المدّ الذي هو مدّ دفاعي لإثبات الذات. ألا ترى أنّنا لم نخرج من إثبات الذات؟ إذن الهويّة يمكن أن يقع فيها تقلّص كما يمكن أن يقع فيها تضخّم. ولكنّ التقلّص والتضخّم مرضان للهويّة. الهويّة السليمة هي التي تدرك ذاتها من خلال ما تنجز. الهويّة السليمة هي التي تقول ها أنا ذا لا التي تقول كان أبي. ماذا تساوي أنت اليوم بالقياس إلى غيرك؟ هذه هي الهويّة؛ موقعك في الكون يحدّد هويّتك.
· في هذا السياق المتّصل بتحديد المواقع، سمعنا اليوم تدخّلا ذكر صاحبه أنّ الفكر الإسلامي اهتمّ أكثر بحقوق الله على الإنسان ولم يرق إلى إنتاج وعي بالإنسان في حد ذاته. كيف تقرأون موقع الإنسان أو منزلته في الفكر الإسلامي؟
يجب أن نميّز حين نتحدّث عن الفكر الإسلامي ففيه شعب مختلفة ولا يمكن أن نختزله في الفقه فقط أو في التصوف فقط..
لنأخذ النصوص المقدّسة مثلا. فالاهتمام بالإنسان في القرآن أمر واضح لا غبار عليه، ومن باب المكابرة أن نقول عكس ذلك، ودون أن نكثر من الأدلة، سورة الإنسان وسورة الرحمن أقوى دليل على ذلك. بالإضافة إلى تكريم الخالق لبني آدم وهذا لا يحتاج إلى مزيد بيان. بقي أن نأخذ مثلا الفقه: صحيح أنّه ركّز على مفهومي الحلال والحرام في العبادات وفي المعاملات، وكان التركيز على حقوق الله، هذا صحيح، أي أنّك إن فعلت حلالا فستجازى وإن فعلت حراما ستعاقب لأنّ مسؤوليّتك هي مسؤوليّة أمام الله. ولكن ليس معنى ذلك أنّنا لا نجد في الفقه كلاما عن حقوق الإنسان، فالحديث عن المعاملات وعن العدل فيها وفي العقود وفي البيع والشراء والزواج.. الحديث عن العدل هو حماية للحقوق، الحديث في الفقه عن العتق هو دفاع عن الحرّيّة.. إلى غير ذلك من شعب الفقه. والحدود أيضا فيها ضمان للحقوق. ولكن ليس هنالك تخصيص باب محدّد من حيث التصنيف لهذه الحقوق. فهي مبثوثة في المدوّنة الفقهيّة في إطار يشملها وهو إطار حقوق الله. كأنّ الفقه اعتبر أنّ ضمان حقوق الإنسان هو في ضمان حقوق الله أو بطريقة أخرى إنّ قيامنا باحترام حقوق الله هو أيضا ردّ للجميل، لأنّ الله ضمن حقوق عباده وهو نوع من الحمد، فحقوق الله هي حمده وشكره على نعمه، فنعم الله على الإنسان هي حقوقه. إذن الحقوق موجودة ولا يجب أن نعمى عنها بمجرّد النظر إلى الإطار المحيط بها وهو الإطار التعبّدي. وكلّ دين يخضع للإطار التعبّدي، كلّ الأديان وليس الإسلام فقط، وإنّما تتفاوت الأديان في ضمان هذه الحقوق.
ثمّ إذا نظرنا إلى التصوّف فهذا المجال من مجالات الفكر الإسلامي يعلي من شأن الإنسان، فهو يرفع الإنسان إلى درجات تقرّبه من الخالق. يسعى بالإنسان إلى بلوغ الكمال. فهل هناك اهتمام بالإنسان أكثر من هذا؟
لنأخذ مثلا الفكر الكلامي والحديث عن حرّيّة الأفعال وخلق الأفعال عند المعتزلة. ألم يرفع المعتزلة من شأن الإنسان؟ كتابات الجاحظ أكبر دليل، يقول الجاحظ الإنسان عالم صغير. إذن ليس من السهل أن نلقي أحكاما متعجّلة.
· هل يرقى مثل هذا الكلام على الإنسان في مختلف مجالات الفكر الإسلامي القديم إلى مستوى ما نجده اليوم في أدبيات الفلسفة الغربية عن استقلالية الإنسان وحرّيّته وكرامته وفاعليّته..؟
هو يرقى من الناحية المبدئيّة، بقي من الناحية التشريعيّة والقانونيّة، الفردانيّة هي الجديد الذي جاءت به الحضارة الحديثة، أي حقوق الفرد من حرّيّة وكرامة.. لها أولويّة على الحقوق الجماعيّة، وهو تماما عكس ما كان موجودا في المجتمعات القديمة، وليس الإسلاميّة فقط. المجتمعات القديمة التي ترى عموما أنّ المصلحة الفرديّة تنضوي تحت المصلحة الجماعيّة أي تأتي في المرتبة الثانية.
· نختم هذا الحوار بقراءتكم لخصوصية الطرح الصوفي وكيفيّة إسهام الدراسات الصّوفيّة في إنتاج هذا الفكر الإسلامي البديل.
التصوّف مدرسة روحيّة وأخلاقيّة واجتماعيّة وفكريّة، لعب أدوارا تاريخيّة في كلّ هذه المجالات، وهو جزء لا يتجزّأ من التراث الإسلامي والعالمي أيضا. وعبثا نحاول أن نقتطع من التراث جزءا ونترك أجزاء، وهذا كلّه في الحقيقة من قبيل المزايدات غير العلميّة ومن التجنّيات على التاريخ. أهمّ ما في التصوّف هو هذه النظرة السامية للإنسان ونشره لقيم تتجاوز الحدود بين الأديان والقوميّات، وذات أبعاد كونيّة فمثلا التربية الصوفيّة في المسألة الأخلاقيّة لا تعادلها تربية، فالأخلاق ليست قائمة حلال وحرام ولا عقوبات زجريّة وإنّما هي تجربة وجدانيّة وتربية للضمير. وهذا المبدأ تتبنّاه اليوم أبرز المناهج الحديثة في التربية، فهذا التوليد التربوي الأخلاقي ذو الطابع السقراطي موجود في التصوّف. والتحليل النفسي للنزعات والغرائز والميولات في النفس البشريّة فيه مدوّنة صوفيّة ثريّة يستفيد منها علم النفس. هناك كنوز في المدوّنة الصوفيّة ومن أهمّ ما في هذا التراث هذه الدعوة إلى المحبّة بين البشريّة: أن يتحابّ الناس جميعا في الإله، وهذا لا يمكن إلاّ أن يقرّب بين الفئات والمذاهب والديانات والشعوب ولا يترك مجالا للنزاع بين الإنسانيّة، وهو دعوة إلى السلام. وقد استخرج التصوّف من الإسلام لبّه لا ظاهره، لم يكتف فقط بما جاء من تعاليم بل استكنه روحه، وهذا لا نجده متطوّرا إلاّ عند الصوفيّة. ثمّ نشر فكرة التسامح والتقارب بين الأديان، وأنّ الأديان ذات روح واحدة وذات منبع واحد ولا فائدة من الصراع بينها وأيّ مبدأ أسلم في الحوار بين الأديان من هذا المبدأ؟ فالتصوّف لا يعترف بهذه الحدود ورؤية التصوّف للإنسان وللكون وللإله هي رؤى راقية في الحقيقة. فصورة الإله في التصوّف هي غير صورته في مدوّنات أخرى، لا تصوّر الإله في بطشه وفي عقابه وفي سخطه وفي غضبه بل تصوّره في محبّته وغفرانه ورحمته أكثر من أيّ شيء آخر. فالتصوّف يحبّب العبد في ربّه ولا ينفّره منه. لا يقوم على الخوف من الخالق بل على محبّته وهذا بعد لا نجده واضحا في مدوّنات دينيّة أخرى.