حوارمع خميس بن راشد العدوي: حول مفهوم الإيمان
فئة : حوارات
يحرص الكثيرون من أهل الأديان على أن يكون كلامهم غير خارج عن (صراط السابقين) فإن سألت أحدًا عن دينه أو ما يراه في هذا الجانب أو كيف ينظر إلى قيمة معينة، أجابك بما يقوله السابقون، ففي إجابات السابقين سكنٌ وراحة، ولا قلق يصاحب الإنسان سواء في الجواب أو السؤال، حتى أنّ بعضهم يخشى جوابك عما يقدّمه للناس على أنّه من البديهيات، وبعضهم يجيبك بمنطق (ربنا إنّنا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا) دون سؤال حول ماهية الإيمان أو مفهومه، ودون أن يخبرك عن تلك التجربة التي تستغرق جزءًا من حياته أو تستغرقه كلّه.
حاول العلماء تعريف مفهوم الإيمان سواء من خارج الدين ذاته أو من داخل الدين، وهناك من رصد في كتاباته عن الإيمان ما تقوله النصوص الدينية، وخاصة ما يقوله القرآن أو ما ترويه الرجال عن النبي أو عن الصحابة والتابعين، أو ما تقوله معاجم اللغة وقواميسها التي لا تختلف في التعبير عن المصادر السابقة، حتى وإن تحدثت عن جذر الكلمة وتصاريفها فهي لا تفارق ما تقوله النصوص بل تعتمده. قليلٌ جدًا من ينتبه إلى مفهوم الإيمان عند أهل التجارب الدينية من المسلمين، ويفترض أنّ كل مؤمن له تجربته الخاصة التي تعبّر عن استغراقه في موضوع إيمانه وتمثّله وحده لا شريك له.
إنّ مفهوم الإيمان هو تحديدٌ لموضوع الحوار بين رسول الإسلام ومعاصريه، كان الرسول يتحدث لمعاصريه عن حقيقة الإيمان ويدعوهم إليه ونحن اليوم نبحث عن موضوع ذلك الحوار ونسعى لفهمه، يقول حافظ الشيرازي:
قصّتنا البارحة كانت عن جدائلك
بقينا نتحدّث عن ذؤابات شعرك إلى كبد المساء
لو نظرنا في كلام الصوفية والعرفاء لوجدنا أنّ الإيمان استماع خطاب واستجابة مشوّقة له، وسير حثيث وراءه، وملء المستقبل بالأمل.
الإيمانُ أمانٌ وتأمين للآخرين، فمن لا أمان معه، مهما أقسم بالأيمان أنّه مؤمن لا نسلّم له بذلك.
من مقدّمات الإيمان: الشّك! - لا - التفكير أولاً والبحث في كافة المطروح من تصورات دينية تُلقى إلينا وتُفرض علينا باعتبارها هي عين الحق والصواب.
من مقدمات الإيمان (يتفكرون) يحاولون الوصول إلى تصور يخصّهم ويعبّر عنهم، ويصقل تجربتهم حتى لا يكونوا تكرارًا لآخرين، وإذا ارتضوا دينًا أو تصورًا يشابه تصورات الآخرين، فبعد بحث مضنٍ، بعد أن يجدوا ثقبًا في جدار السجن، وبعدها يتجدد الإيمان كل لحظة وكل نفس وكل نظرة وبكل معرفة جديدة وحياة مستمرة!
يقول محمد مجتهد شبستري: المفروغ منه ! أنّ صاحب التجربة الإيمانية لا يستطيع القول (أنا أذيع عباراتي العقيدية ولا أبالي أبدًا بما يوجّه إليها من نقود) فالواجب المعرفي للمؤمن يحتّم عليه الاهتمام للنقدِ، ومراجعة عباراته العقيدية في ضوء المؤاخذات النقدية وصياغتها بنحو ينأى بها عن الهشاشة المعرفية. على أنّ هذا الكلام لا يعني أنّ البراهين الفلسفية بوسعها إنتاج الإيمان!
الإيمان كما أفهمه نمطٌ من ردود الفعل، والاستجابة لخطاب داخل ثقافة معينة، ولا صلة لهذا الخطاب ببراهين إثبات الصانع أو غيرها من النقاشات الميتافيزيقية، غير أنّ الذين يدّعون التصاقًا بمثل هذه الخطابات يجب أن يسمحوا للآخرين بنقدهم، فهذا النقد من شأنه الملاءمة بين العبارات العقيدية في كل زمان وحقيقة التجربة الدينية[1].
ولأنّنا لا نظفر بحديث حول الإيمان سوى أحاديث الكتب والمراجع التي تناقش المسألة بشكل عقلي أو ديني تغرق فيه في التنظير وتبتعد عن التجارب الحيّة المتجددة رأيت أن أتوجّه بالسؤال عن مفهوم الإيمان ومعناه إلى المفكّر العماني خميس بن راشد العدوي.
والأستاذ خميس بن راشد العدوي خريج كلية أصول الدين، تخرّج في جامعة السلطان قابوس وله عدة مؤلفات وبحوث منشورة، أثارت الكثير من الجدل في الساحة الثقافية والفكرية العمانية، منها:
كتاب "الإيمان بين الغيب والخرافة".
كتاب "رواية الفرقة الناجية ... المنطق والتحليل".
كتاب "السنة - الوحي - الحكمة".
كتاب "سنة الله في غير المسلمين".
كتاب "الوحدة الإسلامية".
خالد محمد عبده: جرت العادة عند الكتّاب؛ عند الحديث عن الإيمان أو أي مصطلح من مصطلحات أهل الأديان أن يتحدثوا عن جذر الكلمة، ويحاولوا أن يستندوا إلى المعنى الذي يشيرون إليه ويتبنونه على نصوص من الكتابات المقدّسة عند من يتوجّهون بالخطاب إليهم. هل ترى أن ما يُطرح على هذا النحو يمثّل تجربة الإيمان اليوم؟
خميس بن راشد العدوي: الإيمان بالأصل أمر ذهني، وعندما أقول ذهني، فليس ينحصر في الجانب المعرفي وحده، وإنما يعني تلك المنظومة النفس-اجتماعية التي يسير عليها الإنسان نفسياً واجتماعياً في الحياة، وهذه المنظومة وإن كانت تتشكل وفق بُعد معرفي واجتماعي خارجي، إلاّ أنّها لا تنشأ إلا داخلياً لدى الإنسان، فمثلاً إيمان المرء بوجود الله، متشكّل في الأساس وفق بُعدٍ معرفي واجتماعي خارجي، بيد أنّه لا ينشأ فعلاً إلاّ في نفس المرء ذاته، بحسب المنظومة النفس-اجتماعية التي يحياها الإنسان.
وهذه المنظومة متطورة وفق التطور الاجتماعي والمعرفي للمجتمع أو المجتمعات التي يحتك بها المؤمن، فإيماني ليس هو إيمان أبي ذاته، بل إيماني وعمري أربعون عاماً ليس إيماني وأنا في العشرين، فأنا ترقيت معرفياً ونفسياً، كما أنّ المجتمع ذاته تغيّر معرفياً وعلائقياً.
وإذا نحن افترضنا تثبيت الإيمان، عن طريق تعريفه بمعنى معيّن، فإنّه سيؤدي إمّا إلى ثبات في منظومة الإيمان، وهذا غير قائم واقعاً، وإمّا إلى أنّ منظومة الإيمان ستتجاوز ذلك المعنى المحدد بالتعريف البياني، وهذا ما يحصل واقعاً، وبالتالي يبطل هذا المعنى بمرور الوقت وفعل التحولات في المنظومة الإيمانية التي يعتنقها الإنسان.
ولكن التعريفات تفيد في المحاجّة العقدية، حيث لابد من اتفاق بين الأطراف في حجاجهم في أمر عقدي معين، إلاّ أنّي أفصل كثيراً بين المنظومة العقدية، وهي غالباً متناسخة على مرور الأجيال، وتتميز بنوع من الثبات، وبين المنظومة الإيمانية التي يعنى بها في المقام الأول الفرد المؤمن بنفسه، وهي تنحو دائماً نحو التغيّر والتطور، مع تسليمي بأنّ المنظومات العقدية هي روافد معرفية ضمن روافد أخرى للمنظومة الإيمانية.
خالد محمد عبده: هل الإيمان يحكي معاني لا تمثل أهلها، وتعبّر عن ميراثهم الكتابي فحسب؟
خميس بن راشد العدوي: كما بينت لك سلفاً، هذا التمييز بين الإيمان والمعتقد، من وجهة نظري، قائم لدى كل المؤمنين، فالمنظومة الإيمانية بالمقام الأول منهج نفسي على ضوئها يتحرك المؤمن، وهي وإن استمدت كثيراً من التراث الكتابي للمؤمن إلاّ أنّ هذا التراث يبقى عاملاً من عوامل التأثير، وهو عامل يخضع لمتغيرات كثيرة في الحياة.
بيد أنّ التدوين للمعتقدات عموماً، ولمصطلحاتها خصوصاً، مهم في مسار المعرفة الإنسانية، حيث يحفظ لنا جزءاً مهماً من معتقدات البشر في أزمنة سابقة وأمكنة محددة، وهو مفيد للإنسان المعاصر في مجال دراسة تطوّر المعتقدات، والمآلات التي تؤدي إليها، وكذلك في المقارنة بين الأديان والملل والنحل.
خالد محمد عبده: ما معنى الإيمان بالنسبة إليكم؟
خميس بن راشد العدوي: من حق هذا السؤال أن يأتي في الأول، ولكنّي لم أشأ أن أقدمه، وذلك لأنّ السؤال يشكّل سياقاً مفهومياً لدى السائل أكثر منه لدى المجيب، وعلى ذلك أتركه في مكانه.
المهم؛ كما أشرت سابقاً، أنّ الإيمان ليس معتقداً، وليس مفردة واحدة، وإنّما هو منظومة متكاملة مما تنطوي عليه النفس من معان يتحرك بها الإنسان في الحياة. الإيمان ليس حالة شعورية دينية فقط، ولا معتقدات منصوص عليها في كتب آتية إلينا من زمن سابق علينا فقط، ولا قضية تتعلق بالإيمان بالله وحده فقط. الإيمان يشمل كل تلك المعرفة المسافرة إلينا من منظومات: رأسية؛ أي آتية ممن هم قبلنا، وأفقية؛ آتية إلينا بفعل الاحتكاك المنظومي المجايل لنا، وهي حالة نفسية شعورية متكوّنة بفعل ممارسة الحياة بكل تشابكها وتعقيدها، وهي وضع يتشكّل من ألم الإنسان وأمله، ومن صحته وسقمه، ومن يسره وعسره، ومن كافة قيمه الأخلاقية التي يتبناها من ذات نفسه، أو تفرض عليه بفعل الدين أو القانون أو المجتمع.
إنّ كل عناصر الحياة تدخل في بناء المنظومة الإيمانية لدى الإنسان، وهي متطورة بما تتواءم مع الحالة المعرفية والاجتماعية التي يعيشها هذا الإنسان، وكذلك بما تحقق له الانسجام في المجتمع الذي يعيشه والحياة من حوله.
نعم، قد نرى بروزاً لمنظومة إيمانية لدى جماعة من البشر أو حتى لآحادهم، بما يشي أنّ هذه المنظومة غير منسجمة مع المجتمع من حولها، ولكن هذا غير خارج عن إطار الانسجام الذي أشرت إليه، فهذه المنظومة ترى أنّ المنظومات الأخرى، وليس هي، غير منسجمة مع طبيعة الحياة –وقد يكون مع إرشادات خالق الحياة– فتعمل جهدها، ولو بالعنف الجسدي أو اللغوي، على أطْر تلك المنظومات بما يجعلها تتفق مع طبيعة الحياة كما تفهمها هذه المنظومة البارزة بالتشدد وغيره.
وصفوة القول؛ إنّ الإيمان ما هو إلا عمل نفسي معرفي وفق منظومة متسقة منطقياً لدى المؤمن بها، غرض هذا العمل هو الانسجام مع الحياة ومتغيراتها.
خالد محمد عبده: هل ترى أنّ مفهوم الإيمان مفهوم ثابت ومستقر حُدد سلفًاً؟ أم أنّه مفهوم متحرّك ومتجدد يرتبط بتجربة تتكوّن في مسار بشريّ مستمر؟
خميس بن راشد العدوي: طبعاً؛ مفهوم الإيمان غير ثابت، وإنّما هو متجدد باستمرار، وأصلاً لا يمكن تثبيت الإيمان؛ طالما أنّ الحياة متجددة في معارفها ومفاهيمها، وآمالها وآلامها.
وعليّ هنا أن أبيّن أنّ قضية الإيمان هي فردية وجماعية، فأما كونها فردية فهي تتحدد وفق منظومة الفرد في الحياة، فما من إنسان إلا له منظومة خاصة يتحرك بها في الحياة، بيد أنّه يعيش في مجتمع، له هو الآخر منظوماته، ومنها منظومته الإيمانية، تقريباً كالعقل الفردي والعقل الجمعي، هاتان المنظومتان تشتغلان معاً باتجاهين متعاكسين، فمنظومة الفرد الإيمانية هي جزء مكوِّن لمنظومته الجمعية، وفي الوقت نفسه خاضعة لها إلى حدٍّ كبير، وعندما تتطوّر المنظومة الفردية بعيدةً أو متجاوزةً للمنظومة الجمعية، تظهر مشكلة التأقلم، مما يؤدي بالمجتمع إلى إقصاء أو اضطهاد أو تكفير الفرد، كما هو الحال في مجتمعاتنا الدينية، وعندما يزداد الأمر شدة على الفرد، قد يهجر مجتمعه إلى مجتمع أكثر تقبلاً له من مجتمعه السابق.
لذلك تحتاج المجتمعات المؤمنة أن تطوِّر من آليات تعاملها مع المؤمنين المختلفين مع منظومتها الإيمانية بما يستوعب المنظومات الفردية أو ذات النتوءات الجماعية.
خالد محمد عبده: ما رأيك بحديث الفرق الكلامية عن الإيمان؟
خميس بن راشد العدوي: لعلي تطرقت إلى جانب من هذا الموضوع في كتابي "رواية الفرقة الناجية: المنطق والتحليل"، وهو حديث على الرغم من صعوبته لابد من طرحه، وما أراه أنّ الفرق الكلامية تنظّر للعقائد وليس للإيمان، فعملها بالأساس معرفي، وغالباً ما يفتقد إلى مراعاة الجانب النفسي لإيمان الفرد والجماعة، التنظير والجدل الكلامي يأتيان في المقام الأول للحفاظ على الهُوية الكلية لمعتقدات الجماعة، ومع ذلك؛ رغم جنوحه إلى تثبيت هذه الهُوية، فقد أثبت التاريخ أنّ هذا الجدل الكلامي ليس ثابتاً ثبوتاً أكيداً، وإنّما هو يتطوّر –وإن ببطء– مع المناهج العلمية المستجدة، فمثلاً المتكلم [نسبة إلى علم الكلام] الذي كان يركن ذات يوم لإثبات معتقده إلى أساطير تاريخية، أصبح اليوم يستجدي المعارف العلمية، لإثبات معتقده، وهذا تطوّر منهجي.
بيد أنّه كما قلتُ: إنّ هذا العمل الكلامي، يساهم بطريقة أو بأخرى في تعديل المنظومة الإيمانية للفرد والجماعة.
وحصيلة الأمر: أنّنا هنا أمام ثلاث منظومات، كل منظومة لها معالمها وتكوّنها وأثرها، هذه المنظومات هي:
المنظومة الإيمانية: تتشكل بالأساس داخل ذهن الفرد، بما يجعله متوائماً مع الحياة.
المنظومة العقدية: وهي مجموعة العقائد المعرفية التي يتم ترسيمها لأجل الحفاظ على هُوية الجماعة دينياً أو مذهبياً.
المنظومة الكلامية: وهي منظومة الحجاج والجدال بين المنظومات العقدية المختلفة.
خالد محمد عبده: هل ساعد الجدلُ الإنسانَ على الوصول إلى الروحانية أم أنّه غيّب الإيمان والإنسان في خلافات وسجالات لا طائل من ورائها؟
خميس بن راشد العدوي: الإيمان أو قل المنظومة الإيمانية؛ بطبيعتها بعيدة عن السجالات والخلافات المعرفية التي تحصل خارج الإنسان، وإن كانت غير بعيدة عن السجالات التي تحصل داخل النفس الإنسانية الواحدة، بل وثيقة الصلة بها.
وعندي كلام طويل حول توصيف الحالة الروحانية أو الوجدانية في الإنسان، وقد كتبت مقالاً في هذا الموضوع، نشرته منذ سنوات في ملحق شرفات بجريدة عُمان، بعنوان "الموسيقى والفكرة"، وزبدة القول إنّه لا توجد حالة روحانية أو وجدانية في الإنسان، على وجه الواقع، وإنّما هي حالة ذهنية، تجمع بين تفاعل الفكرة مع العصب الإنساني، وما نراه من انفعال روحاني أو وجداني إنّما هو هذا التفاعل.
فالأشواق الإيمانية أو الروحانيات، ليست هي أكثر من تفاعل الأفكار [وليدة احتكاك المعارف مع بعضها] مع العصب الإنساني، فلذلك لا يمكن أن نحذف التجربة الإيمانية عن المعرفة التي يتحصل عليها الإنسان في الحياة، فشعور الإنسان بالفيض الإلهي أو غمره بالجمال أو انسجامه مع الموسيقى، ونحو ذلك، هو ليس أمراً منبتّاً عن المعرفة، فالمعرفة تشكّل جزءاً مهماً من هذه الحالة الإيمانية، وإن شئتَ بعبارتك: الروحانيات أو التجربة الروحية.
وأنت ترى معي هنا أنّ السجالات الكلامية ليست لها علاقة مباشرة بالحالة الإيمانية أو الروحية، في تغييبها أو حضورها، فالإيمان يعمل في منطقته، التي لا يمكن أن تذوي أو تذوب بفعل السجالات الكلامية، فالإيمان منطقته الذهن [والبعض يسميه القلب أو الضمير]، والسجالات منطقتها القلم أو اللسان [والبعض يسميهما العقل]؛ أي هي منطقة معرفية بحتة. نعم؛ هناك تأثير وتأثر بين المنطقتين كشفتُ سلفاً عن بعض منهما، ولكن التميّز بينهما واضح لديّ.
خالد محمد عبده: من وجهة نظري أرى أنّ الصوفية أصحاب التجارب لا الصّوفية الطرقية تساعد على تجاوز القوالب التي تسجن الإنسان في تجارب الآخرين وتجعل منه صورة مكررة تابعة للآخر (السلف)، فهل ترى أنّ الفهم الصوفي يساعد إنسان العصر الحديث على التعبير عن تجربته دون قلق أو خوف، وتفتح له بابًا ظنّه قد أغلق من سنين؟
خميس بن راشد العدوي: صوفية التجارب التي ذكرتَها لو نظرتَ إليها بعمق، ستجدها هي نفسها المنظومة الإيمانية تقريباً، أو ربيبتها، بينما الصوفية الطرقية هي منظومة اجتماعية؛ تكاد تكون خالصة، فالصوفية الطرقية يكاد ينحصر عملها في الإثارة العاطفية الجمعية حتى حدِّ الهيام والسُكر ونحوهما، وكل ما عدا ذلك من عناصر تكوينها خادم لهذا الهدف الأعلى لديها، ولذلك لا علاقة لها بالمنظومة الإيمانية التي أقصدها، إلاّ بذات الدرجة التي تتلاقى فيها المنظومات الأخرى.
أمّا صوفية التجارب، فهي تجربة إيمانية، لكن يغلب فيها أمران:
- التجرد النفسي؛ وهو محاولة تخليص النفس من تأثير النفوس الأخرى، المجاورة لها، والسابقة عليها.
- التجرد المعرفي؛ وهو محاولة تخليص النفس من المعارف السابقة عليها.
وهنا الاختلاف الدقيق بين هذه المنظومة وعموم المنظومة الإيمانية، فالقصد الذاتي لبناء الإيمان في منظومة التصوف هذه يكون هو الأساس، بينما عموم المنظومة الإيمانية يكون بناء الإيمان بحسب التطور الاجتماعي الذي يعيشه صاحب المنظومة، بمعنى آخر أنّ المتصوف بالأساس لا يعيش ردة فعل، وإنّما يصنع الفعل ذاته لمنظومته، في حين أنّ المؤمن العادي غالباً ما يعيش ردة الفعل في تكوين منظومته، وهذا فارق جوهري بين المنظومتين.
طبعاً هذا من حيث الناحية النظرية، والتي يمكن أو ينبغي للمتصوف أن يسلكها، ولكن في الواقع العملي، كثيراً ما يقع هذا الصوفي في أسر منظومات نفسية ومعرفية أخرى. إلاّ أنّها من حيث المبدأ جيدة، وأفضل من غيرها، في بناء المنظومة الإيمانية عموماً.
أما بالنسبة إلى القلق؛ فلا علاقة له مباشرة بهذه المنظومات كلها، القلق حالة أصيلة في النفس الإنسانية، ولابد من القلق لكي تتحرك الحياة، دون القلق الحياة ميتة، ولكن الاختلاف في نسبة القلق، فكما أنّ انعدام القلق أمر سلبي، فكذلك طغيانه أمر سلبي.
المهم أنّ القلق هو أحد عناصر صياغة المنظومة الإيمانية وربيبتها منظومة التجربة الصوفية اللاطرقية، وهذه المنظومات ليست لتبديد القلق، وإنّما القلق محرك لها، لكن دون أن يفضي إلى الخوف المكبِّل لحركة الذهن، وهو يبني منظومة الإيمان والتجربة الصوفية.
خالد محمد عبده: هل يمكن النظر إلى الخلافات الكلامية لمفهوم الإيمان على أنّها ثراء وتعدد في المعنى يفتح ولا يغلق؟
خميس بن راشد العدوي: هذا صحيح، ولكن عليك أولاً أن تميّز بين المنظومات التي ذكرتُها، فالخلافات الكلامية تُعنى بجدل المنظومات العقدية، وتعدد الآراء يغني جداً هذه المنظومات، كما يؤثر في منظومة الإيمان بالقدر الذي ذكرتُ سلفاً.
بيد أنّني أنبه إلى قضية مهمة جداً من وجهة نظري، وهي أنه يجب أن لا تفضي هذه الاختلافات إلى عنف لغوي أو عنف بدني، فالاختلاف دائماً مفيد وفاتح لأفق أرحب، بشرط أن يتجنب العنف بكل أشكاله.
[1]- انظر حواره (الإيمان والمعتقدات والمناسك) في قضايا إسلامية معاصرة - السنة الثالثة عشرة، شتاء وربيع 1430 - العددان 39 و40.