حول المسارات المعقدة للتطرف الديني
فئة : قراءات في كتب
حول المسارات المعقدة للتطرف الديني
قراءة في كتاب (الراديكالية)[1] لفرهاد خروخوسفار
بقلم: فؤاد غربالي
يشكّل كتاب (الراديكالية) لعالم الاجتماع الفرنسي ذي الأصول الإيرانية فرهاد خروخوسفار مرجعاً مهمّاً من أجل التأصيل السوسيولوجي لمفهوم «الراديكالية»، الذي يبدو أنّه أصبح متداولاً على نطاق واسع سواء في الأوساط الأكاديمية أم في وسائل الإعلام، ولدى الفاعلين في المجتمع المدني الذين يعملون من أجل «نزع الراديكالية». صدر الكتاب سنة (2014) عن مطابع دار علوم الإنسان في باريس؛ يبلغ عدد صفحاته (190) صفحة، وينقسم إلى عشرة محاور أساسية يحاول من خلالها فرهاد خروخوسفار أن يقدّم مقاربة وقراءة تبحث في دلالات وجذور الراديكالية المتمثّلة في السياق الحالي في الحركات الجهادية التي تقاتل في سورية وليبيا والعراق، وتقوم بتفجيرات في المدن الأوروبية على غرار باريس ولندن ومدريد. سنحاول في هذه الورقة أن نمرّ على أهم المحاور الأساسية في هذا الكتيب، الذي يشكّل تلخيصاً نظرياً لأعمال كثيرة أنجزها فرهاد خروخوسفار على مدى أكثر من عقدين، من خلال أعماله في التسعينيات[2]، التي اهتمّ فيها بالتطرّف في السياق الإيراني، وصولاً إلى أعماله حول إسلام «شبان الضواحي الفرنسية»، والإسلام في السجون الفرنسية.
معنى ورهانات فكرة الراديكالية:
يرى فرهاد خروخوسفار أنّ أحداث (11) أيلول/ سبتمبر (2011)، التي هزّت الولايات المتحدة الأمريكية، ظلّت هامشية في العلوم الاجتماعية؛ فالأدبيّات التي خُصِّصت للحركات «الإرهابية»، منذ بداية القرن العشرين، اكتفت فحسب بالتعليق على أشكال الفعل التي تتوخّاها، حيث تُعدّ حركات إرهابية بالنسبة إلى البعض، وحركات مقاومة بالنسبة إلى البعض الآخر، دون أن تهتمّ بالصيرورات التي تؤدّي إلى المرور نحو العنف. من هنا يرى فرهاد خروخوسفار أنّ المقصود بالراديكالية هو أساساً الصيرورة التي يمرّ عبرها فرد ما أو مجموعة معيّنة إلى تبنّي شكل من الفعل العنيف، وعادة ما يرتبط هذا العنف، بالنسبة إلى فرهاد خروخوسفار، بإيديولوجيا متطرّفة ذات مضمون سياسي واجتماعي أو ديني يعارض النظام القائم على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي[3]. ويرتبط استعمالٌ ضمن استعمالاتها الحالية بالمشاغل الأمنية، حيث الرهان الأساسي هو كيفية حماية المدن والأفراد والبلدان (البلدان الغربية بشكل مخصوص) من الهجمات. ولكن السؤال المهمّ، بالنسبة إلى فرهاد خروخوسفار، يتعلّق تحديداً بماهيّة الصيرورات التي تجعل الأفراد ينخرطون في مجموعات متطرّفة، وكيف يمكن مجابهة جاذبيّة الإيديولوجيات الراديكالية (الإسلام الجهادي بالدرجة الأولى، ولكن أيضاً الرؤى العنيفة لليمين أو اليسار المتطرّف). ولكن خروخوسفار لا يكتفي بهذه الأسئلة فحسب، بل ثمّة أسئلة أخرى تبدو أيضاً ذات أهمية قصوى تتعلّق تحديداً بالملامح الشخصيّة للأفراد الذين ينخرطون في طريق الراديكالية؛ فيتساءل فرهاد، في هذا الصدد، حول الملمح الشخصي النموذج للذين يمارسون الإرهاب في شكله الجديد، وكيف تنتدب المجموعات الإرهابية أعضاءها. لهذا حدث استثمار كبير من قبل الحكومات الغربية بشكل مباشر (ولاسيما المخابرات الأمريكية)، أو بشكل غير مباشر من خلال تمويل البحوث، والهدف من ذلك تفادي النقص في المعلومات الأمنية حول الجهاديين. إذاً، محاولات فهم الراديكالية كانت ضمن سياق السياسات الأمنية للدول الغربية المُهدَّدة من قبل تنظيم القاعدة أساساً). ولكن مع ذلك، ظلَّ مفهوم الراديكالية مفهوماً هامشياً، وانتقل حديثاً إلى نطاق العلوم الاجتماعية، حيث بتنا، في سياق ما بعد سقوط جدار برلين، مثلما يرى فرهاد خروخوسفار، إزاء شكل جديد من الحرب يعكس تشكّلاً تاريخياً جديداً للصراعات. هذا النمط من الصراعات القائم على العصابات الحربية، وكذلك «المجموعات الإرهابية»، لا يمكن مجابهته بفاعلّية عن طريق الأجهزة الأمنية التقليدية، دون تغيير في شكل عمل هذه الأجهزة ذاتها. فمنذ التسعينيات عرفت البلدان الغربية هجمات غربية في داخلها، أو ما يسميه فرهاد خروخوسفار «الإرهاب الداخلي»، قادها جهاديّون ولدوا ودرسوا وتربّوا داخل هذه البلدان (مثل خالد قلقال منفّذ هجوم محطة سان ميشال في تموز/ يوليو 1995). يحاول خروخوسفار، ضمن الجهد النظري الذي يقوم به، أن يخرج فكرة الراديكالية من الاحتكار الأمني ليضفي عليها دلالة سوسيولوجية، حيث يرى أنّ «الراديكالية لا يمكن اختزالها على نحوٍ مخصوص في المقاربة الأمنية، على الرغم من أنّ هذا العدد له الأولوية في اهتمامات الدول»[4]. في هذا الصدد يؤكّد خروخوسفار فكرة أنّ رؤية عالم الاجتماع تضل مغايرة ومختلفة، حيث يطرح الأسئلة المتعلقة بأشكال الفعل الحركية، وذلك ضمن أفق أوسع يتمّ خلاله تحليل الدوافع العميقة للفاعلين المتطرفين والتأثيرات التي تتولّد عن الإقصاء الاجتماعي والإذلال والاستبعاد الذي يعيشونه. هذا البعد الذاتي عادة ممّا يُستعبد من استراتيجية عمل الأجهزة الأمنية. من هنا يصير عمل عالم الاجتماع ذا أهميّة، حيث يتوجب عليه أن يركّز النقاش الدائر حول الراديكالية على الجوانب الاقتصادية والسياسية والسوسيو أنثروبولوجية للظاهرة؛ وذلك ضمن أفق شامل. يؤكّد خروخوسفار مرّةً أخرى أنّ «الراديكالية ينبغي ألّا تُقارب ضمن سجل أمنيّ فحسب، بل يجب أن تصبح مشكل معرفة للمجتمع». ويذهب فرهاد خرخسوفار بعيداً حين يؤكّد أنّ من الضروري ألا نكتفي فحسب بتفسير الراديكالية عبر الأسباب المؤسساتية والمنظماتية، بل علينا أن نأخذ في الاعتبار الأشكال الذاتية المرتبطة بها؛ وذلك على نحو أكثر وضوحاً، وهو ما سيمكّن، بحسب خروخوسفار، من التأكيد على أنماط الانتقال إلى العنف القائم على معتقدات إيديولوجية، وعلى قرارات متناقضة ولا يقينية، وهو ما يعني أنّ ثمّة أبعاداً مذوتنة للراديكالية طالما أهملتها السوسيولوجيا الكلاسيكية، ولم تأخذها في الحسبان. بهذا المعنى هنالك رهانات معرفيّة عندما تتناول العلوم الاجتماعية مفهوم الراديكالية كإشكالية معرفيّة تتجاوز الأفق الأمني لأجهزة الاستعلامات. ويقيم فرهاد خروخوسفار فرقاً بين فكرة «الإرهاب» وفكرة «الراديكالية». فعالم الاجتماع عندما يتناول فكرة الإرهاب لا يوجّه اهتمامه إلى الأفراد الذين يصبحون متطرفين ويختارون العنف؛ بل يتّجه أكثر إلى الدلالات السياسية والاجتماعية للظاهرة ودور الأفراد وحالاتهم النفسية والذهنية، في حين أنّ حساسية عالم الاجتماع، فيما يتعلّق بالراديكالية، تتجه، مثلما يذهب فرهاد خورخوسفار، إلى ذاتية الفاعلين وأنماط تذوتنهم وانخراطهم في المجموعة، إضافة إلى التفاعلات بين الفرد والمجموعة من خلال لعبة المرايا؛ حيث يتدخل علم النفس الفردي وديناميكية المجموعات أيضاً، وكاريزما القائد ودرجة كثافة الارتباط به، وبالمثل التي تحكم المجموعة. وعلى هذا النحو تغدو الراديكالية، من منظور خروخوسفار، بمثابة الربط بين رؤية إيديولوجية جذرية وإرادة تريد وضعها موضع تطبيق. ومن هنا نكتشف أنّ ثمّة نوعين من التطرّف: الإيديولوجيا المتطرّفة من جهة، والفعل المتطرف الذي يستلهم من الإيديولوجيا، ولكن له خصوصيّته، ولا يمكن اختزاله في مجرّد عمل تنفيذي؛ ذلك أنّه بمجرد التحول إلى الفعل يأخذ هذا الأخير مساراته الخاصة مثلما يؤكد خروخوسفار. ولكنّ الخلاصة المميزة التي يتوصل إليها خروخوسفار أثناء المحور الأول، والتي نرى أنّها ذات أهمية قصوى، أنّ الراديكالية تكتسب بعداً تخييلياً عبر صور مرمقة على «الإنترنت»، أو وقع مشاهدتها على التلفاز، أو تم التطرق إليها مع مجموعات الرفاق، ولكن على المستوى الأنثروبولوجي؛ للراديكالية بعدٌ سياسي يتجسّد على نحو تحت وفوق سياسي. ما تحت سياسي حين يُلغى الجانب العاطفي، ويُستخدم العنف حيث يعبّر الفرد المتطّرف عن حقده وإرادته للتغيير بدل إيجاد الحلول التي من الممكن ترجمتها سياسياً. أمّا في ما يتعلّق بالبعد ما فوق سياسي، فيتمثّل في وجود يوتوبيا من الممكن أن تدفع إلى التطرّف (بالنسبة إلى الجهاديين، الخلافة الجديدة ذات البعد الكوني، والتي يجب أن تفرض على المجتمعات الإسلامية وكلّ العالم، ذات بعدٍ ميتا سياسي).
تاريخ الراديكالية:
يرى خروخوسفار أنّ للراديكالية[5] تاريخاً طويلاً، فهي تبدأ مع فرقة الحشاشين التي تؤرّخ لمحاولات أولى للتطرّف في العصور ما قبل الحديثة، وصولاً إلى الحركات اليسارية المتطرّفة سنوات السبعينيات والثمانينيات، حتى الوصول إلى تنظيم القاعدة بوصفه تنظيماً عابراً للقارات، وقد ميّزتها مرونة وديناميكية جعلتها تأخذ في كلّ مرة شكلاً جديداً. يتتبع فرهاد خروخوسفار المراحل الكبرى التي عرفها تنظيم القاعدة، فبدأ بمرحلة الشرعيّة التي اكتسبها في عيون الغرب، وهي مرحلة الحرب ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان سنة (1989)، ومرحلة الحرب ضد الغرب نفسه من خلال أحداث (11) أيلول/ سبتمبر (2001)، وأخيراً مرحلة الضعف على إثر الضربات الأمريكية التي أفقدتها الكثير من قياداتها. وهذه المرحلة تميّزت بتكاثر الكثير من المجموعات الجهادية التي تستلهم فكر القاعدة، والتي وضعت أشكالاً تنظيمية جديدة، حيث تتجاور المجموعات الإرهابية ذات الاستقلالية المالية والتنظيمية، والتي تقوم على نوع من اللامركزية، وتستعمل الإنترنت عارضةً رؤيتها للدولة الإسلامية المستقبلية وللخلافة الجديدة، وهي مجموعات لها إمكانيّة التحالف، بحسب فرهاد خروخوسفار، على الميدان كتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، والدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). وتتّسم هذه المجموعات بالقدرة على إعادة التشكّل حتى تتمكّن من الإفلات من الهجمات الدولية، وتستطيع أيضاً أن تجذب المزيد من المتعاطفين والمنخرطين، وخاصة عبر الإنترنت، وتُعدّ المرحلة الأخيرة مرحلة طفرة نوعيّة في تنظيم وفعل الحركات الجهادية، وهو ما يعني أنّ هذه الحركات لها دينامياتها، ومنطق اشتغالها الخاص. وقد نجحت المجموعات الجهادية المتولدة من تنظيم القاعدة في دفع الجيل الحالي إلى التطرّف، سواء في «أحياء الإقصاء» في الدول الأوروبية، أم شباب الطبقات المتوسطة في دول الشرق الأوسط. ولكنّ المحور الجديد، الذي فُتح لدى الحركات الجهادية، بدأ مع الثورات العربيّة، حيث بتنا إزاء شكل جديد للتطرف[6]. فبحسب فرهاد خروخوسفار نعيش، في مرحلة الثورات العربية، فشل الجهادية كحركة اجتماعية؛ فالجهاديون، من خلال رؤيتهم الحربية، وعنفهم الذي لا يتوقف، لم ينجحوا في قلب أيّ نظام عربي، في حين أنّ حركات سلميّة أدّت إلى قلب نظامين استبداديين في العالم العربي. فأزمة الدعوة الجهادية قد ارتبطت أيضاً، بحسب خروخوسفار، بأزمة إيديولوجية، وهو ما وضع حلقة الجهاديين على خط الدفاع. في المقابل الثورات العربية، بحسب التحليل الذي يقدّمه فرهاد خروخوسفار، كانت فرصةً، بالنسبة إلى الكثير من الإسلاميين الراديكاليين، للخروج من السجن والتمتّع بالعفو العام وبفترة اللايقين وعدم الاستقرار في ظلّ غياب السلطات المركزية حين فُتحت أبواب السجن. فمرحلة المتعة في الثورات العربية لم تدم سوى بضعة أشهر سواء في تونس أم في مصر، حيث كان البلدان يعتمدان على السياحة التي غالباً ما تتطلّب نوعاً من الاستقرار السياسي، وهذا الأمر قلّص من الموارد الاقتصادية للفئات الأكثر هشاشة. من جهة أخرى، عبّرت حركة النهضة في تونس والإخوان المسلمون في مصر عن نوع من المواقف المتساهلة مع الجهاديين، معتقدين أنّهم قادرون على إقناعهم بتوخّي سلوك غير عنيف. في هذا الصدد، يخلص فرهاد إلى فكرة مفادها أنّ الراديكالية لها مسار تاريخي طويل، ولها تشكّلات متعددة، والحركات الجهادية هي أحد تمظهراتها الأكثر تأثيراً في السياق الحالي المعولم. ولكن الفكرة الأهم في رأينا أنّ الثورات العربية قد أثّرت في إعادة تشكّل الحركات الجهادية، التي استغلّت في كلّ من سورية والعراق وليبيا الضعفَ الذي مسَّ الدولة المركزية. كما أنّ انتشارهم في تونس على تخوم الحدود الجزائرية، وفي الأحياء الفقيرة في وسط وجنوب البلاد المهمّش، أو في مصر في صحراء سيناء، كان نتيجة النزعة التصالحيّة التي توخّتها حركة النهضة والإخوان المسلمون مع الحركات الجهادية، التي كانت تراهن على ضمّها إلى التيارات الإسلاميّة القانونية، ومن ثمّ كان الإسلاميون يراهنون بهذا المعنى عليهم كقوّة يستطيعون أن يقوّوا بها شوكتهم. وقد راهن الجهاديّون، من خلال انتشارهم في تلك المناطق، على العمل على دفع المتساكنين المحليين إلى التطرّف، وبشكل خاص هؤلاء الذين يعتريهم الشعور بأنهم مقصيون ومتروكون لحسابهم.
الراديكالية الإسلاموية في العالم الإسلامي:
ينتقل فرهاد خروخوسفار في هذا المحور إلى تحليل الراديكالية في سياق العام الإسلامي، وهو، في رأينا، محور ذو أهميّة قصوى في هذا الكتاب، باعتبار النقاش الدائر في الحقول الأكاديمية والسياسية والإعلامية حول ما يُعرف بـ«التطرف الإسلامي». في هذا الصدد، يرى فرهاد خروخوسفار أنّ الراديكالية في العالم الإسلامي هي نتيجة تراكمٍ لشعور الإذلال[7] في العالم العربي والإسلامي، حيث ساد هذا الشعور، على إثر حرب الأيام الستة (ما يُعرف بنكسة 67)، إضافة إلى الاستبداد الذي ترزح تحته الأنظمة العربية التي أعاقت تطلّعات أجيال متعلّمة إلى المواطنة (التعددية السياسية، الاقتصاد المبنيّ على الاستحقاق)، وقد أُضِيفَ إلى هذا تجارب الانفتاح الاقتصادي، التي انطلقت في ثمانينيات القرن الفائت، والتي بموجبها أخذت الدولة الراعية في التخلّي تدريجياً عن المسألة الاجتماعية. وأخيراً بدء العربية السعودية كقوة اقتصادية بترولية في فرض الرؤية الوهابية للإسلام، التي تشترك مع الإسلام الراديكالي في نظرتها اللامتسامحة، مثلما يؤكد فرهاد خروخوسفار. يذهب فرهاد خروخوسفار بعيداً في التحليل، معتبراً أنّ الراديكالية الإسلامية في الشرق الأوسط ترتبط أساساً بإحباطات الأجيال الجديدة ذات المستوى التعليمي الجيد. وهنا يكون خروخوسفار متطابقاً مع المنطلق المنهجي والنظري الذي يتوخّاه والذي يعطي مساحة لذاتيّة الفاعلين لفهم الراديكالية. وتعيش الأجيال الجديدة، بحسب فرهاد خروخوسفار، في تنازع بين ظروف اقتصادية متدنية وثقافة وتعليم الطبقات المتوسطة. في هذا الخضمّ يفتح الإسلاميّ الراديكالي عصراً جديداً للتطرّف، فمقارنةً بالحركات الإرهابية التي سبقته (الفوضوية الروسية في القرن التاسع عشر، الألوية الحمراء ومجموعات من الجيش الأحمر، الفعل المباشر...)، تبدو الراديكالية الإسلامية أكثر كثافة، حيث التضحية تتمّ بسهولة وبأعداد مرتفعة، لكنّها أكثر امتداداً على المستوى الجغرافي، كما تشكل أكثرية عددية مقارنة بالحركات الإرهابية السابقة. كما تتمدّد الحركات الجهادية[8] على مدة زمنية يبدو أنّها طويلة تبدأ من تأسيس حركة الإخوان المسلمين سنة (1928)، وصولاً إلى اليوم، حيث لا تبدي هذه الحركات منذ تأسيسها أية علامة للتراجع. من ناحية أخرى، يحاول فرهاد في هذا الفصل أن يبحث بشكل مختصر في الاختلافات والتشابهات الممكنة بين التطرف الشيعي والتطرف السني، حيث يخلص إلى أنّه على خلاف التطرّف الشيعي، لا يجد التطرّف السني دولة يتكئ عليها، كما أنّ صيرورة التطرّف تنجز من تحت متّكئةً على بُنَى قبلية (مثلما يحدث في اليمن وباكستان). وينتهي خروخوسفار في هذا الفصل إلى الإشارة إلى البعد النسوي للحركات الجهادية، وحضور المرأة فيها، الذي يَعدّه حضور أقليات، حيث يرى أنّ تطرّف النساء محكوم بمنطق مختلف عن منطق الرجال، ولكن ثمّة نقاط مشتركة بين نمطي التطرّف، حيث نجد الشعور بالإذلال والاستبعاد والاعتقاد بالقدرة على الفعل في ظلّ التنظيمات الجهادية التي تتيح إمكانية إذلال من يقومون بالإذلال، وعادة ما يُستهدف في هذا الصدد رجالُ الشرطة الذي يتمثّلون في الذهنية الجهادية بوصفهم طواغيت.
أمكنة التطرّف والدور المفارقي للإحباط في الفعل الراديكالي:
على الرّغم من السرديّة التي تروج لها العولمة، والتي تدافع عن نهاية المحلي وتهاوي الحدود، لا تزال الجغرافيا تشكّل عاملاً أساسياً، وإن تمّت إعادة تشكيلها عبر الإنترنت والعلاقات الدولية؛ فالتطرّف يتمّ في أماكن وجغرافيا معيّنة، كما يذهب خروخوسفار؛ يتمّ في المدن وفي المساجد وفي الأحياء وفي عمارات السكن. ففي الحالات الغالبة كثيراً ما تكون الأحياء الفقيرة أمكنةً مميّزة للتطرف، حيث يترابط الإقصاء الاجتماعي والنزعات الإثنية مع القراءات الراديكالية للإسلام. ففي فرنسا مثلاً، كانت ضواحي مدينة ليون، وتحديداً حيّ «فلو أو فولان»، الذي تربّى فيه خالد قلقال منفّذ هجمات سان ميشال سنة (1995)، وهو ما ينطبق أيضاً على الضواحي الباريسية، وضواحي لندن، وأيضاً مدن الشرق الأوسط؛ مثل: تونس، والمغرب، ومصر، حيث تعجّ الأحياء الفقيرة بشبّان محبطين ومستعدّين لتفجير أنفسهم، حيث يكون الإسلام في هذه الأماكن «ملاذ المقموعين»، الذين يعانون من الاستبعاد والإحباط. ولكن برأي فرهاد خروخوسفار، لا يمرّ الشبان المتطرفون مباشرةً إلى تنفيذ هجمات، وذلك على اعتبار غياب علاقة سببية مباشرة بين الشعور بالإحباط والراديكالية، ولكن إذا كان الإحباط لا يؤدّي مباشرة إلى التطرّف، فإنّه من الممكن أن يؤثّر في الأفراد الذي يعيشون هشاشة اجتماعية ونفسية. يرى فرهاد خروخوسفار في هذا الصدد «أنّ التعقيدات المتنامية للأشكال الاجتماعية في المجتمعات الحديثة، ولكن أيضاً الفروقات الاجتماعية والاقتصادية، تحيي لدى بعض الأفراد الإحساس بوجود ‹›ثنائية إنسانية»؛ أي تلك التي تعيش ظروفاً جيدة ومندمجة، وتلك المستبعدة ضمن هشاشة تجعلها مهدّدة بالسقوط نحو الفقر؛ بل نحو البؤس». ومن هنا، مراكمة الإحباط، بحسب فرهاد خروخوسفار، وخاصة عندما يرتبط بالمسائل التي تمسّ الإسلام، من الممكن أن تكون عاملاً مؤثراً في مسارات الراديكالية. يشير فرهاد خروخوسفار إلى نقطة ذات أهميّة في هذا الصدد ألا وهي أنّ الشبان المتطرّفين عادةً لا يمتلكون معرفة دينية خاصة في بداية تطرّفهم، ففي أغلب الأحيان يكون ذلك بعد التطرّف، حيث تنتاب الفرد الرغبة في تعميق معرفته بالإسلام.
الراديكالية في سياق معولم:
يرى فرهاد خروخوسفار، في نهاية مؤلفه، أنّ السياق الحالي للعولمة القائمة على تدفّق المعلومات وعولمة الاقتصاد، كانت له استتباعات سلبية في أماكن عديدة من العالم[9]؛ الحرب الأهلية في سورية، وتنامي الحركات الجهادية، والهجمات التي يشارك فيها الشبان من أصول مغاربية، والتي تمسّ الدول الأوربية، التي تعرف بين الحين والآخر هجماتٍ دامية تزيد من الخوف ونزعات الإسلاموفوبيا. كما يبدو أنّ الراديكالية الجهادية تتسم بالكثير من المرونة مثلما يؤكّد فرهاد خروخوسفار على طول هذا الكتاب، فهي تتجدّد في كّل مرة، وفي كلّ سياق جديد، محاولةً تحييد الحرب التي تشنّها الدولة ضّدها. فالجهادية هي الشكل المهيمن للتطرّف في الغرب والعالم الإسلامي، ولكن هذه الجهادية تجاورها أشكال أخرى من الراديكالية مثل: النزعات الإيديولوجية للإسلام، واليمين المتطرّف المتنامي على نحو كبير في المجتمعات الغربية، والذي ترافقه مجموعات كثيرة تمارس العنف على غرار ما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية (مثل الحركات المناوئة للإجهاض، ومجموعات البيئة الراديكالية... إلخ). وينتقد خروخوسفار بشدة (بوصفه مثقفاً وعالم اجتماع غادر إيران في السبعينيات على إثر تنامي القمع الذي مارسته الثورة الإيرانية المستندة على خلفية شيعية راديكالية) الحركات الجهادية، التي وضعت موضع تساؤل الحريات الأساسية، والقيم الإنسانية المتعلقة بالمواطنة والكرامة الإنسانية. ولكن سرعان ما ينتهي إلى أنّ «التوعك» الذي تعيشه المجتمعات الحديثة، حيث تتآكل الروابط الاجتماعية وتتمزّق، ويشعر الكثير من الأفراد بأنّهم متروكون لحسابهم ومقصيّون، هو ما يدفعهم إلى توخّي خيارات راديكالية. وفي هذا الصدد يؤّكد خروخوسفار أهميّة وضع تعريف جديد للمواطنة يقوم أساساً على الإدماج الاقتصادي والاجتماعي.
[1]- Khosrokhavar, Farhad, Radicalisation, Paris, EMSH, 2014
[2] - Khosrokhavar, Farhad, les nouveaux martyrs d’Allah, Flammarion, Paris, 2002. et Khosrokhavar, Farhad, L’islam dans les prisons, Paris, Bolland, 2004
[3] -Khosrokhavar, Farhad, radicalisation, Paris, EMSH, 2014, p. 21
[4] -Khosrokhavar, Farhad, op. cit, p. 25
[5] -Op. cit, p. 33
[6] - Op. cit, p. 55
[7] - Op. cit ,p. 56
[8] -Op. cit, p .70
[9] - Op. cit ,p. 182