MENU

حول نظرية الترجمة عند طه عبد الرحمن


فئة :  مقالات

حول نظرية الترجمة عند طه عبد الرحمن

عندما حاول "د. طه عبد الرحمن" في 1995 في متن كتابه "فقه الفلسفة"[1] إعادة ضبط ترجمة "كوجيطو ديكارت" من عبارة "أنا أفكر، إذن فأنا موجود" إلى ترجمة جديدة، وجدها أقرب لتأصيل المعنى، هي "انظر تجد" لاحقته تبريكات المؤيدين، وانتقادات المعارضين؛ فهناك من أيّد طه عبد الرحمن في محاولته تقريب وتأصيل المفاهيم الفلسفية الغربية لتلائم خصوصية اللغة العربية والثقافة الإسلامية، وهناك من انتقد موقفه الماتح من الخصوصية الهوياتية، مثل: "علي حرب" الذي كتب في "الفكر والحدث" عام 1997، ص 223: "ليس الفكر الفلسفي مجالًا لدعاوى الخصوصية التراثية أو الهوياتية، فمشكلة التراث والتجديد هي مشكلة زائفة مصطنعة تستخدم كإلهاء عن ممارسة التفكير الفلسفي الحق؛ إذ ليس بوسع أحد الانسلاخ عن تراثه، لأنه في كل لحظاته هو محصلة هذا التراث في أحد أطواره، حتى عندما يمارس فعل قراءة الفلسفة الأجنبية، أو حتى لو تمادى إلى حد التماهي مع الفلسفة الأجنبية؛ ذلك أن حتى عملية التماهي تلك إنما تتم وفق البناءات والمفاهيم المستقرة بالفعل داخل ذهن المتلقي والتي عمل التراث على تكوينها وترسيخها داخله، بصفته أحد العناصر التكوينية الأساسية للذهنية العربية"[2].

لكن نظرية الترجمة لدى طه عبد الرحمن تستند إلى التمييز بين الفلسفة والترجمة، فهو يقول في كتابه "فقه الفلسفة" ص 103:

"السبب في ظهور الفلسفة هو إرادة إنسانية تمثلت في كون الإنسان قرر أن يستخدم العقل في تحصيل المعرفة بأسباب الوجود، بينما يبدو أن السبب في ظهور الترجمة هو إرادة إليه تجلت في كون الإله شاء أن تختلف الألسنة بين بني الإنسان وأن تنزل الصحف المقدسة ببعض منها".

ويميّز طه عبد الرحمن بين ثلاثة أنماط متتالية من الترجمة، تتدرج في الجودة من الأسوأ إلى المتوسط إلى الأفضل، فهو يكتب في ص 404 من "فقه الفلسفة":

"وضعنا نموذجًا نظريًّا في ترجمة الفلسفة يتألف من مراتب ثلاث متفاوتة فيما بينها؛ أولاها: الترجمة التحصيلية، وتقع في التعارض الكلي بين الفلسفة والترجمة وتتولى نقل كل ما في النصوص الأصلية من غير تمييز ولا تقويم، وتعمل جاهدة على محاكاة الصور التعبيرية لهذه النصوص، ألفاظًا وتراكيب، فيكون مآلها تطويل العبارة بما يرهق الفكر ويزهق الوقت. والثانية: الترجمة التوصيلية، وتبقي على تعارض جزئي بين الفلسفة والترجمة، قد تشتد قوته أو تضعف، وذلك بحسب درجة التمسك بالصفات التقليدية للفلسفة، كما أنها تنقل كل ما لا يبدو فيه إخلال ظاهر بالقواعد المقررة للغة وبالأركان الأساسية للعقيدة، وتبذل غاية الجهد في نقل كل ما يحتمل الانتساب إلى حقل المعرفة من غير كبير تفريق ولا دقيق تقدير. والثالثة: الترجمة التأصيلية، وترفع التعارض بين الفلسفة والترجمة، وتجتهد في نقل ما تثبت لديها موافقته لضوابط المجال التداولي المنقول إليه "اللغوية والعقدية والمعرفية" متوسلة في ذلك بأنجع أدوات التمييز والتقويم؛ لأن العبرة هنا ليست بالحكاية عن الغير، وإنما بتمكين الذات من الممارسة الفكرية".

ويمكننا أن نتتبع خطوات طه عبد الرحمن في تطبيق نظريته في الترجمة، كما يلي، عندما يصل إلى ص 409 من كتابه، حيث يكتب: "وحتى نبين صحة نموذجنا النظري في الترجمة ذي المراتب النقلية الثلاث (التحصيل والتوصيل والتأصيل) نختار "الكوجيطو" وعبارته الفرنسية: Je pense, donc, je suis "

ثم يتناول بالنقد أنماط ترجمتها كما يلي، فيكتب في ص 436: "وخلاصة القول في الترجمة التحصيلية للكوجيطو التي أتينا عليها بمثال ترجمة محمود محمد الخضيري "أنا أفكر، إذن فأنا موجود" أن الصيغة التحصيلية للكوجيطو دخل عليها من التكلف ما جعل تركيبها غير قصير وفهمها غير قريب، فيتعين صرفها وطلب غيرها مما لا تطول عبارته ولا يبعد إدراكه". بعد ذلك ينتقل طه عبد الرحمن إلى الترجمة "التوصيلية" للكوجيطو، وهي ترجمة "نجيب بلدي" التي تقول: "أفكر، إذن فأنا موجود" فيكتب في ص 437: "تمتاز الترجمة التوصيلية عن الترجمة التحصيلية، بكونها تحذف بعض العناصر التي يمكن أن تطول العبارة الناقلة، لكنها تقع في تهويل بعض المعاني والحقائق التي يتضمنها المنقول، إنها تقع في تهويلين اثنين؛ تهويل لفظ الـ"موجود" وتهويل لفظ "إذن" (وغيرهما)، وهكذا فإن الترجمة التوصيلية، وإن اجتهدت في اجتناب الأخطاء اللغوية للترجمة التحصيلية، فإنّها وقعت في أخطاء معرفية صريحة".

ثم يقدم طه عبد الرحمن ما يعتبره ترجمة "تأصيلية" للكوجيطو، فيقرر إن لفظ "أنا" لا يصلح للعربية، وأن لفظ "التفكر" غير مناسب لنقل الكوجيطو لأسباب عقدية ولغوية ومعرفية، فهو يرى أن لفظ "النظر" يمتاز على لفظ "الفكر" نتيجة لشهرة استعماله، ومناسبة مضمونه، فيكتب في ص 491: "تصبح صيغة الكوجيطو: انظر تجد (وهي بالذات الصيغة التأصيلية للكوجيطو) ونحن لا نجانب الصواب إن قلنا بأنّ (الترجمة التأصيلية) هي أكثر مراعاة لأسباب الضبط والتعليل في النقل من الترجمة التحصيلية والترجمة التوصيلية".

وهكذا يكون تبرير ترجمة طه عبد الرحمن التحصيلية قد تطلب حوالي مائة صفحة من 409 - 506 لترجمة خمسة كلمات من الفرنسية إلى كلمتين بالعربية.

فإذا حللنا دلالات هذه الترجمة التحصيلية، سنجد أن طه عبد الرحمن يمارس فيها "التأويل والتحويل والحذف والتغطية" بكثرة، وتلك هي ذات الألفاظ التي يستخدمها طه عبد الرحمن بالفعل في وصف طريقته في الترجمة التحصيلية، فترجمة طه عبد الرحمن لا تتقيد بالألفاظ ولا بالمضامين الموجودة في النص الأصلي؛ لأنه يرى أن نقل المفاهيم الفلسفية من مجال تداولي "غربي" إلى مجال تداولي آخر "شرقي" يبيح للمترجم التصرف بالتأويل والتحويل والحذف والتغطية على النص المراد ترجمته، دون تقيد باعتبارات الترجمة الحرفية إذا كانت لا تلائم الأصول "العقدية والمعرفية واللغوية" في الثقافة الناقلة.

يكتب طه عبد الرحمن في ص 333:

"مادام المترجم التوصيلي يجتهد في أن يكون نقله لا نقلًا آليًّا كالنقل التحصيلي، وإنما نقلًا موجهًا بقصد إفادة المتلقي على الوجه الذي لا يضرّ بأرسخ مبادئه العقدية وأعم قواعده اللغوية، فإنه ينقل كل الأصول والفروع الفلسفة التي يرى أنها توافق هذه المبادئ العقدية والقواعد اللغوية، ويترك نقل الأصول الخاصة بالمنقول الفلسفي التي يثبت عنده أنها تخالف هذه المبادئ والقواعد، أو تخالف ما يتفرع عليها؛ فلو أن هذه الصنف من المترجمين وجد عند نقل الفلسفة اليونانية إلى العربية لقاموا بإسقاط الأصول اليونانية المصادمة للمعتقد الإسلامي من نقولهم، نحو (الآلهة المتعددة) و(العقول آلهة) و(المادة القديمة) وتجنبوا بذلك كل الأسباب التي أدت إلى ما نعلمه من مظاهر التكفير والتبديع للمشتغلين بالفلسفة، ولما كان المترجم التأصيلي لا يحذف إلا بعض الأصول الفلسفية التي يتأكد أنها تضرّ بالعقيدة أو بلغة المتلقي، وينقل ما سواها من حقائق فلسفية لا تظهر ظهورًا صريحًا مصادمتها لمحددات وموجهات المجال التداولي المنقول إليه، فإن نقله يأتي على أكثر الحقائق التي يتضمنها النص الفلسفي الأًصلي".

ويحرّض طه عبد الرحمن المترجم "التحصيلي" أن يستكمل مهمة الحذف بالتغطية، حيث يكتب في ص 357:

"إذا كان المترجم التوصيلي لا يحذف في نقله للنص الفلسفي إلا الأصول التي تكون مصادمة للأصول اللغوية والعقدية للمتلقي، فإن المترجم التأصيلي لا يكتفي بهذا الحذف الجزئي، محافظًا على باقي النص بوجهه الأصلي، بل يسعى في تخريجه على مقتضى أصول المجال التداولي للمتلقي وفي تغطية أوصاف النص الفلسفية بأوصاف تداولية ُتنهض المتلقي إلى العمل الفلسفي، ويكون من همه التخريج والتغطية التداولي، فلابد أن يلتجئ إلى حذف أوسع يشمل الأصول المخالفة والفروع المخالفة وأوصاف الأصول الموافقة وأوصاف الفروع الموافقة، سواء كانت هذه الأصول والفروع عقدية أو لغوية أو معرفية أو غيرها، وحيث أن المترجم التأصيلي يستخدم في نقوله كل آليات التخريج والتغطية مثل الحذف والإبدال والإضافة والمقابلة، فإنّه لا يبقي من النص الفلسفي الأصلي إلا على الجزء الذي لا غني له عنه". هكذا تكون مهمة المترجم التحصيلي لدى طه عبد الرحمن هي استكمال حذف ما يصدم المتلقي "عقديًّا ولغويًّا ومعرفيًّا" بل وممارسة التغطية على هذا الحذف.

من المشروع هنا، أن تثور اعتراضات حول ممارسة طه عبد الرحمن للوصاية "العقدية واللغوية والمعرفية" على القارئ؛ فهذه الوصايا الموجهة للمترجم التأصيلي فيها مصادرة على عقل القارئ، وفيها تعامل مع القارئ وكأنه فاقد لأهلية تلقي الأفكار دون وصاية، بحيث يتوجب على ممارِس الوصاية أن يبيح لنفسه حذف وتغطية مضامين النص الأصلي، خوفًا على عقل القارئ وحماية له من التعرض لصدمة معرفية ولعقدية ولغوية.

فلننتقل الآن لتحليل مدى فاعلية هذه الوصاية من الناحية "العقدية واللغوية والمعرفية" إذن.

فأولًا: من الناحية المعرفية، لو حللنا ترجمة طه عبد الرحمن التأصيلية لكوجيطو ديكارت، انظر تجد، سنجد أنها تمارس الانتقال من السياق الديكارتي الفرداني الذاتوي إلى سياق مختلف. طه عبد الرحمن يبتكر سياق مختلف عن المنظور الديكارتي يفترض فيه خطاب يبدأ بفعل أمر (انظر) وهو ما يفترض وجود علاقة تراتبية في الخطاب، مما يصعب اعتباره حديثًا بين الذات ونفسها، بل يصبح أقرب إلى حديث بين ذاتين متمايزتين في علاقات القوة، حيث تصدر إحداهما للأخرى أمر (انظر) ثم تصدر وعدًا تنبؤيًّا (تجد) وهذا يختلف عن حرفيّة ومعنويّة الكوجيطو الديكارتي الذي يتم داخل الذات الديكارتية الفرحة بتأكيد توصلها لإثبات وجودها عقليًّا بعبارة "أنا أفكر إذن فأنا موجود" بعيدًا عن تراتبية إصدار الأوامر أو النصح أو الإرشاد أو الوعد أو التنبؤ بالإيجاد المفاجئ، التي نلمحها في ترجمة طه عبد الرحمن: (انظر تجد) فالذات لدى طه عبد الرحمن تبدو وكأنّها في حالة انفصام انقسامي بين جزء إيجابي يمارس كل الحديث والأمر والإرشاد والتنبؤ، والوعد لجزء آخر من الذات يمتاز بالسلبية والسكوت واستقبال الأوامر وانتظار النبوءة، وهذا السياق الأخير يبعدنا تمامًا عن علاقة التعليل ذي التسلسل المنطقي والعقلاني الموجود في العبارة الديكارتية الأصلية، التي تصدر عن ذات متوحدة تشتغل بالتأمل والتعليل، ويستخدم كلمة "اذن" donc حرفيًّا.

ثانيّا: من الناحية اللغوية، يمكننا أن نختلف مع طه عبد الرحمن في استخدامه للفظ (أنظر) بديلًا عن لفظ (أفكر) مستندين إلى سياق اللغة العربية ذاتها؛ حيث نرى أن اللغة العربية تحرص حرصًا شديدًا على تدعيم لفظ "النظر" بعطفه على غيره، إذا ما قصد به معنى الفكر، بما يزيد فعل "النظر" وضوحًا، كما في المتواتر في الأدبيات التراثية من مثل: (انظر وتمعّن) أو (انظر وتأمّل) أو (فانظر واعتبر) والتي غالبًا ما كانت تأتي في نهاية سردية النظر والتفكير لا في بداية هذه السردية.

بل إن فعل "النظر" حين يأتي موقعه في بداية سردية النظر والتفكر، كما في ترجمة طه عبد الرحمن المذكورة هنا، فإنّ المعتاد في اللغة العربية هو أن يأتي فعل "النظر" غالبًا متبوعًا بمفعوله وبسياق مستفيض لا حذف فيه ولا اختصار، كما في قوله تعالى:

"فَانظُرْ إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إلى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا" سورة البقرة – آية 259.[3]

"فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها" سورة الروم – آية 50.[4]

"قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي.." سورة الأعراف – آية 143[5]

في كل هذه الأمثلة القرآنية لا نجد انفرادًا للفظ "النظر" وحده، كالذي نجده لدى طه عبد الرحمن، بل نجد في الآيات القرآنية إضافة وإلحاق مكتمل ومستفيض لتبيين المقصود، وهو أمر يختلف كثيرًا عمّا فعله طه عبد الرحمن في استخدامه لفظ "انظر" بشكل انفرادي ومقطوع عن مفعوله، وفي بداية سردية يقصد بها استخدام النظر بديلًا عن التفكير.

وثالثًا: من الناحية العقدية؛ يمكننا أن نؤكد إن الترجمة التأصيلية لدى طه عبد الرحمن إنّما تتكئ في الحقيقة على الفلسفة الغربية المعاصرة، بأكثر مما تتكئ على أي فلسفة إسلامية أو عربية، وهذا أمر مدهش.

فجوهر نظرية الترجمة التأصيلية الطهاوية إنّما يستند بشكل كبير على "نظرية موت المؤلف" لدى رولان بارط، و"نظرية تعددية التأويلات" لدى نيتشه ودريدا، و"نظرية التلقي الحر للنص من جهة القارئ" (والمترجم بالطبع) لدى ياوس وأيزر، وصولًا إلى ما يسميه إمبرتو إيكو "التأويل المفرط".

فإن كان المشهور هو أن المشروع "الطهاوي" يتموضع عقديًّا على أرضية عربية إسلامية، إلا أننا نزعم أن جوهر مشروع طه عبد الرحمن بآليات اشتغاله وبفرضياته، إنّما يتموضع عقديًّا وأيدولوجيًّا على أرضية الفلسفة الغربية المعاصرة، وبالضبط على أرضيتها القارية التأويلية مابعد الحداثية.

ذلك أن مجمل مشروع الترجمة التأصيلية لطه عبد الرحمن يستند بشكل واضح إلى منظور "موت المؤلف" فيما يخص عدم تقيد المترجم التأصيلي باللفظ الحرفي أو المضمون المعنوي الوارد في النص الأصلي، وفق ما أراد له مؤلفه الأصلي، وبالتالي، فالمترجم يضع نفسه في مكانة المؤلف الأصلي، وفي هذا يكتب طه عبد الرحمن في ص 362: "فالمترجم التأصيلي هو إذن، عبارة عن المترجم الذي ينقل النص الفلسفي على مقتضى التأصيل، لا فارق بينه وبين المؤلف سوى أن هذا ينشئ ابتداء من نصوص متفرقة معلومة دامجًا بعضا ببعض، وذاك ينشئ ابتداءً من نص واحد معلوم دامجًا بعضه ببعض" ومن الواضح أن هذا التصور ينتمي إلى الفلسفة الغربية المعاصرة بجدارة، بل وإلى أشد أشكالها تطرفا في التأويلية، فهو يكتب في ص 381: "وأما مقدار التأويل، فقد مال منظرو الترجمة إلى جعله لا يتجاوز الحد الأدنى، بمعنى أن المترجم لا يضيف إلى الأصل إلا أقل ما يمكن مما ليس مصرحًا به فيه، على افتراض أن الاتفاق حاصل على هذا القدر الذي إذا زاد عليه المترجم، فقد يسيء إلى نقله أو يجازف بقيمته على الأقل، غير أننا لسنا نميل إلى هذا الرأي، ولا نرى أنه يخدم الغرض الذي جعلناه للترجمة الفلسفية، وبيان ذلك من الوجود الثلاثة الآتية: ج- أنّ الأجدر بالترجمة أن تأخذ بالتأويل غير المحدود من أن تأخذ بالتأويل المحدود، إذا كان الغرض من الترجمة عمومًا هو خدمة التبليغ (أو التواصل)".

ولا اعتراض لنا على أخذ طه عبد الرحمن من الفلسفة الغربية المعاصرة، فقد سبق لنا أن أثبتنا، في مقال سابق[6] وجود أصول للفلسفة الغربية المعاصرة في ثقافتنا العربية والإسلامية التراثية، التي فوتنا على أنفسنا قراءتها بإمعان كاف، لكن بؤرة اعتراضنا هنا هي على عدم استيفاء الترجمة "التأصيلية الطهاوية" لأي من شروطها الثلاث (التوافق العقدي واللغوي والمعرفي) التي وضعها طه عبد الرحمن لنفسه، ولم نكن نحن واضعيها، فنحن هنا نبين تجاوز نظرية ترجمة طه عبدالرحمن لنفس المعايير الثلاثة التي حددها هو نفسه، لا غيره، لصحة الترجمة التأصيلية.

فمثلًا، يكفي أن ننظر إلى فهرست كتاب طه عبد الرحمن "فقه الفلسفة" وإلى متنه، لندرك ندرة أسماء المنظرين العرب، في مقابل كثرة أسماء المنظرين الأجانب، وفق التصنيف الطهاوي، وبخاصة في الفصل الثاني حيث يناقش نظريات الترجمة لدى "فالتر بنيامين وهيدغر وغادامير ودريدا وأندريو بنجامين وأنطوان برمان" ولا نجد اسمًا واحدًا لمنظر عربي واحد، بل إن طه عبد الرحمن في نقاشه هذا للنظريات الأجنبية لا يكاد يخرج في تلخيص محتواه عن المعتاد في الترجمات التحصيلية والتوصيلية بالمرة؛ فهو في تلخيصه لنظريات "هيدغر وغادامير ودريدا" يستخدم نفس الالفاظ المعتادة، مثل: الترجمة التحريفية والترجمة التحقيقية، والتأويل، والتجربة، والحقيقة، والتراث، والجدل، والتاريخ، واللعب، والاختلاف، والتأجيل، والحضور، والآثار، وهذه كلها هي ذات الألفاظ المعتادة في ترجمة فلسفات هؤلاء دون أي تغيير يذكر؛ فالتعديلات التي قام بها طه عبد الرحمن على الترجمة الحرفية المعتادة مع هؤلاء الفلاسفة كانت طفيفة جدًا، فقد استخدم الألفاظ المعتادة مثل (التأويليات والحفريات والتفكيكيات) بدلًا من ألفاظ (الهيرمونيطيقا والجينالوجيا والديكونستراكشن) وهذا أمر معتاد جدًّا، كذلك نجده في ترجمته لعنوان كتاب غادامير "الحقيقة والمنهج" اختار "الحقيقة والطريقة" وهي أيضًا ترجمة معتادة، فقد استخدمها المترجم عمر الشارني في ترجمته لكتاب ديكارت "حديث الطريقة" منذ عام 1985[7]؛ أي قبل نظرية طه عبد الرحمن بعشر سنوات، وقد أعيدت طباعة هذه الترجمة مؤخرًا. الأهم من ذلك أن المترجم التونسي عمر الشارني نفسه في أول سطر من مقدمة ترجمته لكتاب "حديث الطريقة" يتبنى ترجمة الكوجيطو: "أنا أشك إذًا فأنا موجود" بما يخالف نظرية طه عبد الرحمن في الترجمة بالطبع.

نستنتج مما سبق، أن نظرية الترجمة لدى طه عبد الرحمن تعاني من مشكلات مع المعايير الثلاثة التي وضعتها لنفسها، بل إننا لو أضفنا إليها معيارًا رابعًا مما اعتاده المترجمون، والمتعلق بأمانة الترجمة، لوجدنا أن طه عبد الرحمن مستعدّ للرد على هذا المعيار بالرفض والتشاكل معه، حيث يكتب في ص 370: "القول بمراعاة الأمانة قول لا يسلم من القوادح عند عرضه على التحقيق، إذا يقصد بالأمانة (أداء المنقول على ما هو عليه في أصله) فهذا المعنى المطلق للأمانة يكاد أن يكون وهمًا لا نفع معه، بل أسطورة لا حق فيها، وبيان ذلك من الوجوه الآتية: أن الأمانة التبليغية تتميز عن الأمانة الأخلاقية، على خلاف ما ذهب إليه البعض، فالأمانة الأخلاقية تقتضي وجود وديعة يجب تسليمها لصاحبها، ولا وديعة ولا تسليم في الأمانة التبليغية، فلم يستودع صاحب النص المترجم صور ألفاظه ولا معانيها، ولم يأتمنه عليها، ولا كان المترجم، بنقله لهذه الصور والمعاني، مسلّمًا لها إلى صاحبها، بل على العكس من ذلك، يكون من واجبه أن يسلمها إلى غيره، مع عدم وجود وصية منه بتسليمها إليه، وعلى هذا، فلا يصح الكلام عن الأمانة التبليغية من الوجهة الأخلاقية، ولا يكون استعمال لفظ الأمانة بصدد التبليغ إلا من باب التجوز في الكلام أو تكون الأمانة لفظًا مشتركًا يدل على معنيين متباينين، حدًّا وحقيقة".

أخيرًا، إننا إذا استخدمنا "المعيار الأسلوبي" في تقييم الترجمة "الطهاوية" فسوف نصادف مفارقة غريبة جدًّا؛ ذلك أن مضمون ما يطرحه طه عبد الرحمن في ترجمته لكوجيطو ديكارت ترجمة تأصيلية من "أنا أشك إذن أنا موجود" إلى "أنظر تجد" يدور حول زعمه وافتراضه بأن هذه الترجمة الجديدة التي يقدمها هي أقرب إلى روح وأسلوب اللغة العربية الإسلامية، ومضمون هذا الزعم والافتراض هو أن هناك مميزات محددة للترجمة حتى نتمكن من قبولها باعتبارها "عربية إسلامية" وهو ما يعني أن هناك ترجمات أخرى يمكننا أن نعتبرها، بمعايير طه عبد الرحمن، لا تنتمي إلى الثقافة ولا إلى الروح ولا إلى الأسلوب "العربي الإسلامي".

وهذا زعم وافتراض كاسح من طه عبد الرحمن خاصة إن علمنا أن "الطابع الأسلوبي" لترجمة طه عبدالرحمن يتبنى نمطًا أسلوبيًّا يقوم على:

-   الاختصار في الوصف اللغوي والاقتصاد في الكلمات، من خلال حذف الذوات الفاعلة والمفعولة مع الاكتفاء بالإشارة إليها بضمائرها فقط.

-   تبنّي نمط خطاب يفترض حضور ذاتين اثنتين؛ إحداهما تمارس الكلام وتوصي الأخرى وترشدها، بينما الأخرى مفعولة غير متكلمة متقبلة للإرشاد.

وقد سبق وأوضحنا أن هذا النمط الأسلوبي الطهاوي مختلف كثيرًا عن النمط الأسلوبي الديكارتي، لكن الأخطر من هذا هو أننا لو استقرأنا مماثلات هذا النمط الطهاوي في الترجمة لوجدناه يقترب لدرجة المماثلة، في الناحية الأسلوبية، من نمط الترجمة المستخدم في الأناجيل المسيحية؛ ففي الأناجيل المسيحية نقرأ ما يلي:

"اسألوا تعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يفتح لكم" متى 7: 7.[8]

"وأنا اقول لكم اسألوا تعطوا اطلبوا تجدوا اقرعوا يفتح لكم" لوقا 11: 9.[9]

لا يسعنا هنا إلا أن نلاحظ أن هذا النمط الأسلوبي الإنجيلي المسيحي في الترجمة، هو مماثل لنمط الترجمة الذي يتبناها طه عبد الرحمن للكوجيطو الديكارتي، وهنا نتحصل على مفارقة غريبة، وهي أنه بينما يزعم طه عبد الرحمن أن ترجمته هي الأقرب إلى التأصيل العربي "الإسلامي" فإنها استقراء النصوص وفق المعايير الأسلوبية يخبرنا بأن الترجمة الطهاوية تقترب بشكل واضح من الترجمة بالأسلوب المسيحي الإنجيلي، وهذه الحقيقة الاستقرائية وحدها يمكنها أن تضعف الفرضيات والمزاعم النظرية التأصيلية لترجمة طه عبد الرحمن التي تتوخى التأصيلية نظريًّا، لكنها تطبيقيًّا تقصر عنها كثيرًا.


[1] طه عبدالرحمن، فقه الفلسفة، 1، الفلسفة والترجمة، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1995، وقد ذكرنا موقع كل اقتباس من هذا الكتاب في موضعه في متن نص المقال.

[2] علي حرب، الفكر والحدث، حوارات ومحاور، دار الكنوز الأدبية، الطبعة الأولى، 1997، ص 223

[3] القرآن الكريم - سورة البقرة – آية 259

[4] القرآن الكريم - سورة الروم – آية 50

[5] القرآن الكريم - سورة الأعراف – آية 143

[6] أمير الغندور، الأصول العربية لما بعد الحداثة، مجلة العربي، نوفمبر 2016، العدد رقم 696، وزارة الإعلام، الكويت.

[7] رينيه ديكارت، حديث الطريقة، ترجمة وشرح وتعليق: عمر الشارني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2008، في التصدير الذي كتبه الطاهر لبيب لهذا الكتاب، يشير إلى كون هذا الكتاب هو إعادة طبع كما يلي: "أن يعاد طبع ترجمة إلى العربية، بعد مرور أكثر من عشرين سنة على صدورها، فهذا يعني الاطمئنان إلى الجهد المبذول فيها" ص 11، كذلك انظر مقدمة المترجم عمر الشارني الموقعة، نواكشوط / تونس 1985/، في صفحة 34

[8] المصدر: العهد الجديد، إنجيل متى، الفصل / الأصحاح السابع، على الرابط:

https://st-takla.org/Bibles/BibleSearch/showChapter.php?book=50&chapter=7

[9] المصدر: العهد الجديد، إنجيل لوقا، الأصحاح الحادي عشر، على الرابط:

http://st-takla.org/pub_newtest/42_luk.html#الإصحاح_السابع_