حول نظريّة سروش في الوحي ونقدها
فئة : مقالات
يُعدّ المفكر الإيراني عبد الكريم سروش[1] من أكثر الباحثين الإسلاميين المُجدّدين إثارةً للجدل والخلافات، لما تطرحه كتاباته من قضايا وإشكاليات ظلّ صداها يتردّد في إيران وبقيّة الدول الإسلاميّة حتىّ بعد هجرة الباحث إلى أمريكا واستقراره في واشنطن. ومن أهمّ القضايا التي ظلّت تثير الاهتمام ما خلّفته ثلاثيته الشهيرة: "القبض والبسط في الشريعة"[2] و"بسط التجربة النبوية"[3] و"الصراطات المستقيمة"[4] من جدل مُتعلّق بنظريته في الوحي النبوي، وهي تلك النظريّة التي اعتبر فيها أنّ الوحي عمليّة بشريّة راقية، وأنّ النبيّ محمّداً هو الذي خلق القرآن. فالنصّ القرآنيّ الذي بين أيدينا وفق عبد الكريم سروس هو نصّ نستطيع أن نلمس فيه: "معارف دينيّة يمكن أن يتطرّق إليها الخطأ بالنظر إلى المعارف الإنسانيّة المعاصرة".[5] وهذا الحكم خاضع من قِبَله إلى النظرة التاريخيّة للإنسانيّة التي تعتبر جميع المعارف البشريّة واستنباطاتها الدينيّة تاريخيّة، وهي عرضة للخطأ. فكيف تسنى له ذلك؟
1- نظريّة الوحي عند سروش:
يُقابل عبد الكريم سروش بين التصوّر التقليديّ للوحي الذي يعتبر النبيّ مجرّد وسيلة يؤدي للناس ما يأتيه من جبريل وبين تصوّره الذي يعتبر فيه النبيّ محمّداً خالقاً للوحي مُنجزاً لدور محوريّ فيه، وهو دور يشبّهه سروش بالاستعارة الشعريّة. فالنبيّ يحسّ مثله مثل الشاعر أنّ قوّة خارجيّة غامضة تُسيطر عليه، ولكنّه في حقيقة الأمر ينجز كلّ شيء. ولا يعني سروش أن يُحدّد مصدر الإلهام إن كان داخليّاً أو خارجيّاً، وإنّما يعنيه أن يُثبت انبثاق هذا الإلهام من نفس النبيّ ونفس كلّ ذات إلهيّة. ويتميّز النبيّ عن بقيّة الإلهيين بإدراكه لإلهيّة نفسه فيخرج من "القوّة" إلى "الفعل" عندما تتّحد نفسه مع الله. وهو اتّحاد معنويّ لا ينقل النبيّ أبداً كي يصير إلهيّاً، وإنّما هو اتحاد محدود بحدود النبيّ ومحتواه البشريّ.[6]
أين يتمّ الخلق إذن؟
يعتبر عبد الكريم سروش أنّ النبيّ خالق للوحي بطريقة مُغايرة، فهو يحصل من الله على مضمون الوحي، ولكنّه لا يستطيع أن يُبيّنه للناس بذلك المضمون؛ لأنّه يفوق مستوى فهمهم، إذ يتجاوز حتى مستوى الكلمات والألفاظ والصور، وما على النبيّ إلا أن يصوغه في مستوى صوري حتى يفهمه الناس فيقوم مثل الشاعر تماماً بصياغة هذا الوحي بأدواته اللغويّة وأسلوبه الخاصّ، وبما يتوفّر عليه من ثقافة ومعرفة وعلم. هذا إضافة إلى تأثير حياته الشخصيّة وواقعه الاجتماعيّ في تشكيل هذا الوحي. فإذا قرأنا القرآن نشعر أحياناً أنّ النبيّ في قمّة الفصاحة والجذل، ويكون أحياناً مفعماً بالملل وتجده عاديّاً في كلامه، وجميع ذلك قد ترك أثره في النصّ القرآنيّ، وهذه هي الناحية البشريّة التامّة في الوحي.
ويستتبع هذا التصوّر الذي ينظر إلى الوحي نظرة بشريّة احتمال تسرّب الخطأ إليه، وهنا أيضاً يقابل سروش بين النظرة التقليديّة التي تنظر إلى الوحي نظرة مقدّسة لا مجال فيها لتسرّب الخطأ إلى القرآن، والتصوّر الحديث الذي يذهب فيه بعض المفسّرين إلى اقتصار عصمة الوحي على مسائل دينيّة بحتة لها علاقة بالله مثل صفاته والحياة بعد الموت وأسس العبادة، أمّا ما يتعلّق بحياة الناس وطبيعة المجتمع فيمكن للخطأ أن يتسرّب، فليس بالضرورة أنّ ما ذكره القرآن من الوقائع التاريخيّة وحكايات سائر الأديان والمواضيع العلميّة صحيحاً، ويرى هؤلاء المفسّرون أنّ ذلك لا يعيب مقام النبوّة. أمّا سروش فيتجاوز هذه القراءة مُعتبراً أنّ النبيّ لا يمكن أن يخاطب الناس بلغتهم ووفق معارفهم وتصوّراتهم وهو يمتلك معارف مختلفة عنهم وعلوماً أرقى، وإنّما كان النبيّ ينطق بلغته ويكشف عن فكره وكان تصوّر الأرض والكون وتكوين الإنسان هو تصوّره وتصوّر معارفه معه، أمّا ما وصلت إليه الإنسانيّة من معارف وعلوم اليوم فلم يكن للنبيّ علم بها في تلك المرحلة، وهذا لا ينقص من مقام النبوّة شيئاً، فقد كان محمد نبيّاً ولم يكن عالماً ولا مؤرّخاً.
ولكن هل من جذور تاريخيّة لنظريّة شروس حول الوحي في التراث الإسلاميّ؟
يُحيل عبد الكريم سروش على القرون الإسلامية الوُسطى للحديث عن جذور كثير من أفكاره، فالقضيّة التي تعتبر أنّ: "النبوّة عامّة ويمكن العثور عليها بين مختلف أصناف البشر." موجودة بأشكال مختلفة عند الشيعة وعند العُرفاء، فالشيخ المفيد[7] المُتكلّم الشيعي الكبير مثلاً لا يعتبر الأئمّة أنبياء، ولكنّه يمنحهم جميع خصائص الأنبياء. أمّا الاعتقاد في بشريّة القرآن والإشارة إلى تعرّضه إلى الأخطاء بالقوّة فقد ورد تلميحاً في أطروحات المعتزلة الذين قالوا بخلق القرآن.[8] بيد أنّ الإشكال وفق سروش هو أنّ كثيراً من علماء تلك الفترة لم يعمدوا إلى بيان أفكارهم ومعتقداتهم بشكل واضح وفضّلوا التلميح على التصريح رغبة منهم في عدم إثارة البلبلة في أذهان العامّة الذين لم يكن بمقدورهم قبول هذه الأفكار أو حتى التفكير فيها.
أمّا في العصر الحالي فإنّ اندحار الاعتزال العقلي أمام الفقه السنيّ الأشعري الذي يقول بقدم القرآن لم يحل دون تواصل "الاعتزال الشيعيّ" الذي أوجد أرضيّة خصبة لنموّ تيار فلسفيّ غنيّ. والثابت وفق سروش أنّ الاعتقاد بخلق القرآن بين المتكلّمين الشيعة هو اعتقاد راسخ لا جدال فيه إضافة إلى اقتراب الكثير من الإصلاحيين السنّة في العصر الراهن من الموقف الشيعيّ ـ ومن بينهم على سبيل المثال نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون - فأين يكمن الإشكال؟ ولماذا كلّ هذه الثورة من الحوزة المقدّسة على نظريّة سروش؟
يرى عبد الكريم سروش أنّ القضيّة سياسيّة بالأساس عند علماء الدين الإيرانيين، فقد أقاموا سلطتهم على أساس الفهم المحافظ للدين؛ لذلك فهم يخشون أن تهتزّ الأرض من تحت أقدامهم ويفقدون امتيازاتهم إذا فتح باب الاجتهاد في مسائل مثل ماهيّة النبوّة، لذلك تراهم يتردّدون في الاستفادة من تراث فلسفيّ شيعيّ غنيّ يمكن أن يفتح آفاقاً جديدة لفهم الدين الإسلاميّ.
وحاصل نظريّة سروش عن الوحي أنّ اعتبار الوحي بشريّاً في عصرنا الحديث سييسّر عمليّة التمييز بين الذاتيّ والعرضيّ فيه. فبعض المسائل في القرآن تشكّلت بأثر واضح من البيئة والتاريخ والثقافة ولم يعد لها من حاجة اليوم، لا سيما العقوبات الجسديّة التي لو كان النبيّ محمد قد عاش في بيئة مغايرة لما كانت تلك العقوبات جزءاً من رسالته الدينيّة؛ لذلك على المسلمين اليوم أن يفصلوا الرسالة الجوهرية للقرآن عن سياقها التاريخي والثقافي، وأن يُترجموا معانيه لا ألفاظه، مراعين روح تلك الرسالة التي تختلف من بيئة إلى أخرى ومن ثقافة إلى ثقافة مغايرة، مثل ترجمة الأمثال تقريباً، فعندما نترجم: "كناقل التمر إلى هجر" إلى الإنجليزيّة يمكن أن نترجمها: "كناقل الفحم الحجري إلى نيوكاسل." لأنّ هذا المثل هو المقابل المعنوي في البيئة الإنجليزيّة وإدراكنا لحقيقة بشريّة القرآن سييسّر لنا التصرّف في فهمه وتوظيفه ومواءمة معانيه الرئيسة مع حياتنا المعاصرة. أمّا إصرارنا على اعتبار القرآن كلام الله الخالد الذي لا يجوز لنا مسّ معانيه أو التصرّف فيه؛ فإنّه يوقع المسلمين في مشاكل عويصة لا حلّ لها.
2- نقد نظريّة الوحي عند سروس:
انقسمت نقود عبد الكريم سروش حول نظريته عن الوحي إلى قسمين رئيسيين: فهناك من كفّر الباحث وأثار ضجّة حول مواقفه وأفكاره ودعا إلى إقامة الحدّ عليه؛ وهناك من دعا إلى مجادلة الرجل علميّاً ودحض نظريته وتبيان خطئها أو انحراف قصدها علميّاً. وقد جادل عبد الكريم سروش كثير من علماء الحوزة المقدّسة في إيران، وناقشه آخرون في مقالات شهيرة جُمع بعضها في كتاب إلكترونيّ من إصدارات مركز الموعود الثقافي بالكويت بعنوان: "حوارات مع عبد الكريم سروش."[9] ومن أهمّ المقالات التي راجعت أطروحة الباحث في رصانة علميّة جليّة يمكن أن نذكر:
ـ بنية الوحي وحقيقة القرآن: وهو حوار مهمّ بين الشيخ جعفر السحباني وعبد الكريم سروش حول نظريّة الوحي.
ـ القرآن والوحي دراسة فلسفيّة دينيّة: نقد نظريّة سروش للشيخ حسين المنتظري ترجمة السيّد حسن مطر.
ـ نظريّة وحيانيّة ألفاظ القرآن الكريم: أدلّة وبراهين، للدكتور إبراهيم كلانتري.
ـ نظريّة بشريّة الوحي والقرآن: فكرة بوذيّة مرفوضة، لحميد رضا مظاهري يتربي.
ـ شطحات سروش: هل كفر سروش أم أخطأ؟ لمحمد نصر الأصفهاني.
ولعلّ اللافت في هذه المراجعات سعي علماء الحوزة إلى مناقشة سروش بعيداً عن أساليب التكفير والضجّة المُخرجة هذه المسائل من سياقها العلميّ إلى سياق يسيء للحضارة الإسلاميّة ويشوّه تاريخها، لذلك يقول مقدّم مقال بنية الوحي وحقيقة القرآن: "إنّ الذي أخرج هذه المسألة من حياض الضجيج وساقها نحو أودية العلم إجابة الشيخ جعفر السحباني، وهو من مشاهير أساتذة الحوزة العلميّة في قم المقدّسة، حيث سار على نهج العلماء والأئمّة وسعى إلى إجابة الدكتور سروش من خلال الطرق العلميّة، وقد كان ملفتاً للانتباه إجابة الدكتور سروش[10] عن إجابة الأستاذ جعفر السحباني، ولو أمكن لنا أن نحذف بعض التعابير لأصبح الحوار بين الطرفين علميّاً مائة بالمائة."[11]
وتتّفق الردود حول حقيقة أنّ ظاهرة الوحي شغلت أذهان المحقّقين وعلماء المسلمين وغيرهم منذ القدم، وقد ظهرت نظريات متضادّة حتى بين علماء المسلمين والمتكلّمين أنفسهم، لذلك لا إشكال في مجادلة سروش ودحض نظريته إذا تطلّب الأمر ذلك. وقد ركّز الشيخ حسين منتظري في نقد نظريّة أركون على البعد التداوليّ في القرآن ليبرز أنّ النبيّ هو المتلقي للوحي والمأمور بإبلاغه، وهو لعصمته وأمانته لم يكن له من دور إلا الوساطة في إبلاغ كلام الله لا أن تكون الألفاظ من صنعه، ويستند مُنتظري بجملة من الآيات تثبت عباراتها أنّ القرآن وحي من الله نزل على النبيّ الأكرم وكذلك قوله: "فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه" (القيامة -18)، إذ تدلّ بوضوح على أنّ الوحي والقرآن قد قرئ على النبيّ، والقراءة من شؤون الألفاظ دون المعاني.
ويلفت منتظري الانتباه إلى أنّ لفظ التلاوة في القرآن لم يرد مطلقاً، فقد قيّد دائماً بأوصاف ونعوت دقيقة من مثل قوله:
ـ نتلوها عليك بالحقّ.
ـ لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك.
ـ إن هو إلا وحي يوحى علّمه شديد القوى.
وكلّ هذه العبارات تثبت أنّ الألفاظ والمعاني هي من عند الله، وأنّ الرسول لم يكن له من دور في صبّ الوحي في قوالب لفظيّة.
ومن جهة أخرى ينسب القرآن عمليّة الإنزال إلى الله دون النبيّ، مثل قوله: "طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى." (طه-1،2)، أو قوله: "وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزّلناه تنزيلاً". (الإسراء-106). أو قوله: "سنُقرِؤُك فلا تنسى." (الأعلى-6). وكذلك قوله: "إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً". (المزّمل-5).
وعليه فلو افترضنا بعد كلّ هذه الآيات أنّ الألفاظ من عند النبيّ وقد قرأها للناس على أنّها من عند الله وهي من عنده فسيكون بذلك كاذباً، حيث نسب فعله لله، وهذا ما لا يمكن أن يكون. ويستدلّ منتظري كذلك بالأحاديث النبويّة التي يتحدّث فيها النبيّ عن الوحي مثل قوله مجيباً عن سؤال كيف يأتيك الوحي: "أحياناً مثل صلصلة الجرس وهو أشدّ عليّ فيفصم عنيّ وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثّل لي الملك رجلاً فيكلّمني فأعي ما يقول".[12]
وبذلك يتّضح وفق منتظري أنّ النبي لا يتدخّل في صياغة القوالب اللفظيّة للوحي، بل إنّ الألفاظ كالمعاني تصل إليه عن طريق مبدأ غيبيّ، أمّا القول إنّ النبيّ فاعل للوحي فيستلزم -إضافة إلى ما ذُكر من تناقض بين الخطاب في القرآن وبين ما يذهب إليه سروش- التقليل من شأن الوحي وقداسته: "وذلك أنّ النبيّ وإن كان قد بلغ مقام (فكان قاب قوسين أو أدنى) إلا أنّه لم يبلغ المقام المُطلق للحقّ تعالى، ولم يصل إلى مرتبة وجوده اللامتناهي، ولن ينالها أبداً، وطبعاً لا تكون للوحي المستند إليه تلك القداسة والنزاهة وعلوّ المرتبة الثابتة للوحي المستند إلى الله تعالى".[13]
من جهة أخرى يرى محمد نصر الأصفهاني في مقاله "شطحات سروش: هل كفر سروش أم أخطأ؟" أنّ جرأة الرجل مميّزة، وأنّه يقول ما يسكت عنه كثير من المصلحين الذين يفعلون ولا يتكّلمون، وإلا كيف لهم أن يكونوا مقتنعين بدوام حلال الله وحرامه إلى يوم القيامة، ثمّ يُعطّلون بعد ذلك أحكامه بقطع يد السارق مثلاً؟ وهل تعطيلهم هذا ظرفيّ أم دائم؟ فإذا كان مؤقّتاً فمتى ينتهي؟
ورغم ذلك لا تخلو رؤية الدكتور سروش عند الأصفهاني من إشكالات طرحها عليه في شكل أسئلة لعلّ سروش إذا أراد أن يُتمّ نظريته ويخرجها في حلّتها النهائيّة أن يجيب عنها، وهي:
ما هو المعيار الذي يساعدنا على التفكيك بين لؤلؤ الدين وصدفه؟
مع وجود تداخل وثيق بين مسائل الوحي السياسيّة والاجتماعيّة بالأمور التي يراها سروش أساسيّة في الوحي مثل الله ويوم القيامة والإيمان والإنفاق والجهاد والخشوع والزهد والعبادة، فما هو المعيار الذي يساعدنا على التفكيك بين الأمور التي تقبل الخطأ والأمور التي لا يمكن أن يكون فيها خطأ في الوحي؟
إذا كان الجانب البشريّ هو القابل للخطأ في كلام الله، فما هي الضمانة ألا يقتصر الخطأ على السماوات السبع ورجم الشيطان وما إلى ذلك من الأمور التي يرى سروش أنّها من عرضيات الدين؟ ولماذا لا ننسب الخطأ إلى بقيّة أجزاء الوحي؟ وما الفرق بين الأمور الاجتماعية والأمور الجوهريّة؟ هل يخلع النبيّ في هذا المجال رداء بشريته ويرتديها في المجال الآخر؟
خاتمة:
حاصل القول إنّ نظريّة سروش عن الوحي من أجرأ النظريات التي يمكن تداولها في الفكر الدينيّ عن بشريّة القرآن وتاريخيته، وهي نظريّة تثبت قدرة الرجل على البحث التاريخيّ في المسائل الجوهريّة للدين بحثاً ينبغي أن يكون من خارج دائرة الدين حتى لا يتأثّر بمقولاته الجاهزة كما يقول هو في بسط تجربة النبوّة: "في الواقع إنّ بحثنا ينطلق من خارج دائرة الوحي وينظر من الخارج إلى حادثة وظاهرة باسم الوحي الذي تمظهر في المجتمع العربيّ وألقى في روع النبيّ وضميره فلو أردنا إثبات أو نقض هذا الادّعاء من خلال القرائن والشواهد فلا بدّ أن تكون هذه القرائن والشواهد من خارج دائرة الوحي".[14]
وقد استتبع هذا القول اعتبار عبد الكريم سروش الوحي تجربة دينيّة يمكن اختصارها في لقاء النبيّ لله لقاءً يخرج منه النبيّ بمعلومات هي ما يمكن نعته بـ"مضمون الوحي"، يعمل على تقريرها تقريراً بشريّاً أو صوغها في قوالب لفظيّة ينقلها إلى الناس هي الوحي. وهذه التجربة الدينيّة تفرض محدوديات كثيرة في القرآن ترتبط بعقل النبيّ وشخصيّته وثقافة عصره وغير ذلك من حدود التاريخ.
وقد جرّ هذا التفكير الحرّ على عبد الكريم سروش ويلات كثيرة، لعلّ أهونها الردود الغزيرة التي تقاطرت على نظريته من علماء الحوزة العلميّة المقدّسة في إيران، وكلّها تناقش علميّاً خطأ نظريّة الوحي وانحرافها عن منطق الدين الإسلامي القويم الذي لا يقبل بتاتاً أن يكون أساس من أُسسه الجوهريّة - أي كلام الله لرسوله - موضع تشكيك أو تأويل أو إعادة تفسير، فالقرآن "معجزة" عند المسلمين لأنّه كلام الله لا كلام نبيّه.
مسرد المصادر والمراجع:
- حمادي المسعودي: الوحي من التنزيل إلى التدوين، سلسلة بحوث جامعية، طبعة مشتركة بين كلّية الآداب والعلوم الإنسانية القيروان (جامعة القيروان تونس) ودار سحر للنشر والتوزيع بتونس، 2005
- حوارات مع عبد الكريم سروش: مجموعة من المؤلّفين، مجلة نصوص معاصرة، مركز الموعود الثقافيّ، الكويت، 2013
- عبد الكريم سروش: الصراطات المستقيمة؛ قراءة جديدة لنظرية التعددية الدينية، منشورات الجمل، 2007
- عبد الكريم سروش: القبض والبسط في الشريعة، نقلته من الفارسية إلى العربية د. دلال عباس، منشورات دار الجديد، بيروت، 2002
- عبد الكريم سروش: بسط التجربة النبويّة، ترجمة أحمد القبانجي، منشورات الجمل، 2009
- عبد الهادي عبد الرحمن: سلطة النصّ ـ قراءات في توظيف النصّ الديني، سينا للنشر، الانتشار العربيّ، بيروت، ط1، 1986
- كارلو نالينو: بحوث في المعتزلة وخلق القرآن، تحقيق وترجمة عبد الرحمن بدوي، دار ومكتبة بيبليون، سلسلة نظرات استشرافيّة في الإسلام وتاريخه، 2010
- محمد عابد الجابري: التراث والحداثة، دراسات ومناقشات، نشر مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، 1991
- نصر حامد أبو زيد: إشكاليّة القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1996
- نصر حامد أبو زيد: مفهوم النصّ، دراسة في علوم القرآن، الهيئة المصريّة العامة للكتاب، القاهرة، 1994
[1]- الاسم الحقيقيّ للمفكّر الإيرانيّ عبد الكريم سروش هو حسن حاج فرج الدباغ وهو من رواّد الإصلاح في إيران، ومن كبار المثقفين الإيرانيين الدينيين المعاصرين، من مواليد طهران سنة 1945، درس في المدرسة الثانوية (الرفاه)، وهي من المدارس التي كانت تحرص على الجمع في مناهجها بين الدروس الدينية وبين المواد العلمية المعاصرة، ثمّ التحق بعد ذلك في جامعة لندن بفرع العلوم الكيميائيّة وحصل على الدكتوراه هناك.
يعدّ عبد الكريم سروش من المقرّبين من المفكّرين الإيرانيين الشهيرين "علي شريعتي" و"مرتضى مطهّري"، وهما وجهان محوريان في فترة ما قبل الثورة في إيران، وبعد الثورة عاد سروش إلى بلده وشغل مناصب عليا في الدولة وأخرى بحثية أهمها مؤسسة الأبحاث والدراسات الثقافية .
لمزيد من التوسّع انظر تعريف الدكتور عبد الكريم سروش ضمن موقع: http://www.drsoroush.com/English.htm
وانظر أيضاً: ar.wikipedia.org/wiki/عبد الكريم سروش
[2]- عبد الكريم سروش، القبض والبسط في الشريعة، نقلته من الفارسية إلى العربية د. دلال عباس، منشورات دار الجديد، بيروت، 2002
[3]- عبد الكريم سروش، بسط التجربة النبويّة، ترجمة أحمد القبانجي، منشورات الجمل، 2009
[4]- عبد الكريم سروش، الصراطات المستقيمة؛ قراءة جديدة لنظرية التعددية الدينية، منشورات الجمل، 2007
[5]- يدقّق عبد الكريم سروش كثيراً ممّا جاء ذكره في كتابيه: "القبض والبسط في الشريعة" و"بسط التجربة النبويّة" في حوار له حول بنية الوحي وحقيقة القرآن في مجلة نصوص معاصرة (عدد15-16) بقوله: "أمّا قضية عدم انسجام ظواهر القرآن مع العلوم البشرية، فأقول: ألم يقل بذلك كل من عمد إلى تأويل ظواهر القرآن بعد أن وجدها مخالفة للعلوم البشرية؟ فليس التأويل في واقعه غير اللجوء إلى علم بشري ورفع اليد عن علم بشري آخر. وقد صرّح أستاذكم العلامة محمد حسين الطباطبائي في تفسير الميزان بكل ما أوتي من صراحة علمية، في تفسير استراق الشياطين للسمع، وهروبهم من الشهب السماوية (من الآية الأولى إلى الآية العاشرة من سورة الصافات)، أن جميع تفاسير الكتب التفسيرية المتقدمة، والمعتمدة على الهيئة القديمة، وظواهر الآيات والروايات، باطلة، وقد ثبت بطلانها في عصرنا يقيَناً، ولذلك لا بدّ من البحث عن معنى جديد لتلك الآيات، ثم عمد من خلال الاستفادة من الفلسفة الإسلامية اليونانية ـ التي هي علم بشري آخر ـ إلى تأويلات بعيدة غير مقنعة، وقد صرح هو في هذا التفسير بتشكيكه وعدم قطعه بهذهِ التأويلات، من خلال استعمال ألفاظ من قبيل "يحتمل"، "والله العالم"، وقال: ربما كان هذا من قبيل الأمثال التي يضربها الله، وأنّ المراد من السماء عالم الملكوت الذي تسكنه الملائكة، والمراد من الشهب نور الملكوت الذي يدفع الشياطين، أو المراد أنّ الشياطين يهاجمون الحقائق ليبطلوها، فتصدهم الملائكة بشهب الحقيقة ليدحضوا باطلهم. وكأن السيد الطباطبائي نسي أنّ هذهِ الشهب إنما تنطلق من سماء هذهِ الدنيا نحو الشياطين، وليست من ناحية الملكوت".
[6]- يلجأ سروش في توضيح هذه الصورة إلى جلال الدين الرومي الذي يقول إنّ: "اتحاد النبيّ مع الله مثل صبّ مياه المحيط في الدورق".
[7]- هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الحارثي من علماء الشيعة في القرن الثالث توفي سنة 413 هـ، يقول عنه العلامة الحلّي كما جاء عن صاحب الأعيان: هو من أجلّ مشايخ الشيعة ورئيسهم وأستاذهم، وكل من تأخر عنه استفاد منه وفضله. أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية. أوثق أهل زمانه وأعلمهم، انتهت رئاسة الإمامية إليه في وقته، وكان حسن الخاطر دقيق الفطنة حاضر الجواب، له قريب من مائتي مصنف كبار وصغار." ويقول عنه الشيخ الطوسي: "انتهت رئاسة الإمامية في وقته إليه في العلم، وكان مُقدماً في صناعة الكلام، وكان فقيهاً متقدماً في حسن الخاطر".
لمزيد من التوسّع انظر: http: //annabaa.org/nba52/almofeed.htm
[8]- تُعتبر مسألة خلق القرآن التي قال بها المعتزلة من أهمّ القضايا المُثارة في الجدل اللاهوتي الذي شهده التاريخ الإسلامي في العصرين الأموي والعباسي. وقد جاء قول المعتزلة إنّ القرآن مخلوق وليس أبدياً تطبيقاً عملياً لاعتمادهم العقل في تفسير الشريعة الإسلامية، مستندين في ذلك إلى نصوص دينية لدعم حججهم.
وفي هذا المستوى انطلق المُعتزلة من مسألة صفات الله، فبعد أن قرّروا وحدة الذات الإلهّية وصفاتها، وقرّروا نفي الصفات الزائدة عن الذات الإلهيّة، تحوّلوا إلى النظر فيما ورد من هذه الصفات داخل النصوص الدينية عبر إخضاعها إلى التأويل العقلي. وقد اعتبر المعتزلة أنّ القرآن يحوي نصوصاً مُتنوعة ومُختلفة ومُتعارضة أحياناً، ففيها من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد والكلام التشريعي والكلام الإخباري والكلام الوضعي، إضافة إلى جمعه بين المسائل الروحية والدنيوية في آن واحد. إذا كان ليس جائزاً تنسيب التناقض في القول إلى الله، وعليه يصبح ضروريّاً اللجوء إلى النظر العقلي لتفسير ما ورد في القرآن، ممّا ينزع عنه الأبدية أو عدم الاجتهاد في نصوصه، لأنّ "كلام الله محدث ومخلوق في محل، كما هو حرف وصوت كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه"، كما يشير المعتزلة إلى ذلك.
ويذهب القاضي عبد الجبار أحد أبرز أركان المعتزلة في شرحه مبررات القول بخلق القرآن إلى القول: "إنّ القرآن كلام الله ووحيه، وهو مخلوق محدث، أنزله الله على نبيه ليكون علماً ودالاً على نبوته، وجعله دلالة لنا على الأحكام لنرجع إليه في الحلال والحرام، واستوجب منا بذلك الحمد والشكر والتحميد والتقديس... القرآن يتقدم بعضه على بعض، وما هذا سبيله لا يجوز أن يكون قديماً، إذ القديم هو ما لا يتقدمه غيره... وآخر، ونصف وربع، وسدس وسبع، وما يكون بهذا الوصف، كيف يجوز أن يكون قديما؟".
لمزيد من التوسّع انظر: كارلو نالينو: بحوث في المعتزلة وخلق القرآن، تحقيق وترجمة عبد الرحمن بدوي، دار ومكتبة بيبليون، سلسلة نظرات استشرافيّة في الإسلام وتاريخه، 2010
[9]- حوارات مع عبد الكريم سروش، مجلة نصوص معاصرة، سبق ذكره.
[10]- أعاد عبد الكريم سروش توضيح العديد من آرائه في قضيّة الوحي بشکل دقيق ومفصّل عند ردّه على الشيخ جعفر السحباني، وذلك في ورقة عنونها بالبشر والبشير. فمن الأفكار التي سعى إلى المزيد في تدقيقها قوله بعدم وجود فرق في أن يکون الإلهام من باطن النبي أو أن يأتيه من خارجه، لأنّ الخالق موجود داخل الموحدين الحقيقيين وخارجهم بالدرجة نفسها.
أمّا تمثيله تلقي الوحي بانقداح القريحة الشاعرية، فقد توسّع فيه وبرّره بأنّ مفهوم الشعر اليوم کإبداع فنيّ متعالٍ يختلف عمّا كان يتداعى لدى أبي جهل وأبي لهب، واستعارة هذا المفهوم لتقريب فكرة الوحي لا تحطّ من شأن القرآن.
وأضاف عبد الكريم سروش أنّ السيد الطباطبائي (صاحب تفسير الميزان) اعتبر الوحي "إحساساً مرموزاً"، وهو يعتبره "فناً مرموزاً".
[11]- نفسه، ص 14
[12]- نفسه، ص 145
[13]- نفسه، ص 146
[14]- سروش: بسط التجربة النبويّة، سبق ذكره، ص 195