حياة عمامو: كتابة التّاريخ وقضايا المنهج والمصادر (الجزء الأول)
فئة : حوارات
د. نادر الحمامي: نرحّب في هذا الحوار المتجدّد بالأستاذة حياة عمامو التي نشكرها شكراً خاصّاً على قبولها أن تكون ضيفتنا اليوم للحوار معها حول ما كتبته وما أصدرته في مجالات اهتماماتها التي تدور حول التّاريخ الوسيط عموماً، وهو اختصاصها الذي تدرّسه بكلّية العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس وقد كانت عميدتها أيضاً. وفي هذا المجال الواسع الذي يتعلّق بالتّاريخ الإسلامي وبالفترة المبكّرة منه، يمكن أن نذكر لها جملة من الإسهامات المهمّة والدّراسات الأكاديميّة والعلميّة التي نشرتها، انطلاقاً من بحثها في حلقة الدّكتوراه حول "أصحاب محمّد ودورهم في نشأه الإسلام"، لتتبع هذا العمل أعمال أخرى في هذا المجال الواسع الذي يشمل التّاريخ الوسيط، ونقصد أساساً كتابها "أسلمة بلاد المغرب؛ إسلام التّأسيس من الفتوحات حتى ظهور النِّحل"، وقد كتبت أيضاً "السّيرة النّبوية؛ مناهج نصوص وشروح"، وصدر لها كتاب آخر بعنوان: "السّلطة وهاجس الشّرعيّة في صدر الإسلام". وفي الحقيقة، إنّ صدر الإسلام أو الفترة المبكّرة من الإسلام هي فترة صعبة الدّراسة، وهذا ما يفسّر كثرة زوايا النّظر التي يعتمد عليها الباحثون والمؤرّخون بصفة عامّة، إلى جانب مدى موثوقيّة المصادر التّأسيسيّة الإسلاميّة حول فترة هي محلّ نزاع بين رؤى كثيرة من حيث المقاربات والمناهج، وحتى من حيث الخلفيّات الإيديولوجيّة، وقد استفادت مقاربة صدر الإسلام والإسلام المبكّر أيضاً من تطوّر مناهج المعرفة التّاريخية كما ظهرت في الغرب، منذ أواخر العشرينيات من القرن الماضي وظهور مدرسة الحوليّات (Les Annales) مع إرنست بلوخ (Ernst Bloch) (1885-1977) ولوسيان فيفر (Lucien Febvre) (1878-1956)، وقد سبقت هذه المرحلة التّمهيدية إرهاصات لظهور تلك المدرسة المهمّة التي ستوجّه أنظار الباحثين، ومن بينها المقال الشهير لفرنسوا سيميان (François Simiand) (1873- 1975) بعنوان: "المناهج التاريخيّة والعلوم الاجتماعيّة"، وقد تحدّث سيميان في هذا المقال عمّا أسماه "قبيلة المؤرّخين" التي تعبد ثلاثة أصنام أساسيّة؛ هي الصّنم السّياسي والصّنم الفردي والصّنم الكرونولوجي؛ وهي مسألة ستغيّر النّظرة إلى التّاريخ الشّمولي والمقاربة الوضعانيّة التي يقول عنها عبد الله العروي في كتابه "مفهوم التاريخ": "إنّنا نجد ما يسمّى تاريخانيّة في ألمانيا يسمّى وضعانيّة في فرنسا". وبهذا بدأت النّظرة التّاريخانية في الغرب الخروج من تلك الوضعانيّة التي ربّما لم يخرج منها المؤرّخون العرب والمسلمون بعد، فهل يمكن اعتبار أنّ مقاربات الأستاذة حياة عمامو قد تطوّرت شيئاً فشيئاً اعتماداً على المقاربات الجديدة التي أفادت من التّطوّرات المعرفيّة في النّظرة إلى التّاريخ بصورة عامّة، لتطبيقه على التّاريخ الإسلامي، وعلى صدر الإسلام والإسلام المبكّر بصورة خاصّة؟
دة. حياة عمامو: شكراً على الاستضافة، وأنا فرحة جدّاً بالحديث معك لأنّني رأيت الكثير من اللّقاءات التي تعقدونها مع باحثين وأكاديميّين ومفكّرين في تونس، ويشرّفني أن أكون ضيفتكم اليوم. أمّا مسألة المناهج التي يمكن اتّخاذها لمعالجة ما يسمّى التّاريخ الإسلامي المبكّر أو تاريخ صدر الإسلام، واللّفظان غير مترادفين تماماً؛ ففي الحقيقة لقد طوّرت في تعاملي مع المصادر التي أعتمدها في الكتابة التّاريخية في ما يهمّ هذا الاختصاص، ليس من باب تغيير المناهج فحسب، فعندما كنّا نعدّ رسائل الدّكتوراه لم يكن هنالك تكوين في هذا الاتّجاه وفي كيفيّة قراءة المصادر، لذلك كانت مجهوداتنا شخصيّة، وكنّا نتعامل مع ما يُذكر في المصادر على أساس أنّه لا يمكن التّشكيك فيه، وأنّ علينا مقارنة الأحداث فيما بينها آخذين بما يرد في الرّوايات، ولكنّ ممارسة هذه المهنة لسنوات طويلة والاطّلاع على مناهج كتابة التّاريخ، وخاصّة المناهج الغربيّة في ظلّ غياب مناهج لدى العرب والمسلمين، جعلاني أراجع الكثير من الأشياء. وقد استفدت من ذلك في جملة كتاباتي، كما هو الشأن بالنّسبة إلى كتاب "السّلطة وهاجس الشّرعية" أو "السّيرة النّبويّة" الذي أردته كتاباً بيداغوجيّا موجّهاً للطّلبة أساساً، أو كذلك في العديد المقالات التي نشرتها، وقد ساعدني الاطّلاع على ما يسمى بالمدرسة الأمريكيّة التي استعادت ما عالجه المستشرقون في بداية القرن العشرين وخاصّة منهم سوفاجيه (Jean Sauvaget) (1901-1950) ولامنس (Henri Lammens) (1862-1937) وفلهاوزن (Julius Wellhausen) (1844-1918) وجولد تسيهر (Ignác Goldziher) (1850-1921)... فمع أن الأوربّيين كانوا يعتمدون على المدرسة الوضعانيّة في ذلك الزّمن، إلاّ أنّ هؤلاء المستشرقين جميعاً قد اعتمدوا على المقاربة النقديّة، وفيهم من شكك في كتابة التّاريخ الإسلامي الأوّل مثل هنري لامنس الذي شكّك في إمكانيّة كتابة تاريخ إسلامي في المئة والخمسين سنة الأولى التي تلت ظهور الإسلام على اعتبار أنّ المصادر لم تُكتب في إبّانها، ولا توجد نصوص يمكن اعتمادها على أنّها حقائق؛ والمسألة هنا معقّدة جدّا، لأنّ الحقائق المطلقة لا وجود لها في التّاريخ، وإنّما توجد فحسب حقائق متعدّدة، ولذلك فنحن ننظر من زوايا متعدّدة، ولكلّ منّا حقيقة التي ينطلق منها، ولا يعني هذا أنّ التّاريخ ليس علماً، فهو علم بمنهجه لا بنتائجه، كما يقول ج. لوغوف (Jacques Le Goff) (1924- 2014)، ونحن لا نستطيع أن نكتب أيّ شيء دون اعتماد المصادر، رغم ما فيها من اختلاف، ولذلك فهي تخضع لزوايا نظر متعدّدة. وما ساد لدى المؤرّخين العرب المسلمين، باستثناء البعض منهم مثل هشام جعيّط وعبد الله العروي، هو ترديد لما يوجد في تلك المصادر واكتفاء بإعادة تصنيف ما جاء في متونها من روايات وأحداث متعدّدة ومحاولة إكسابها سياق الحكاية الواحدة، في حين أنّ ما أتى به الغرب هو النّظرة النّقدية التي تطوّرت عند بعضهم إلى مستوى التّشكيك؛ وهذه النّظرة استعادت ألقها مع باتريشيا كرون (Patricia Crone) (1945-2015) ومايكل كوك (Michael Cook) (1940) وخاصّة مع وونزبرو (John Wansbrough) (1928- 2002) الذي كتب "الدّراسات القرآنية" (Quranic Studies: Sources and Methods of Scriptural Interpretation) و"المجتمع الفرقي" (The Sectarian Milieu: Content and Composition Of Islamic Salvation History)، هذان الكتابان واصلا سلسلة كانت بدأت مع لامنس وتطوّرت بشكل كبير في منتصف السّبعينيات من القرن الماضي، واعتبر وونزبرو أنّ التّاريخ الإسلامي الأوّل لا يمكن كتابته لعدم وجود وثائق أصليّة، وبعده اعتبر كل من كرون وكوك أن الإسلام الأوّل يمكن كتابته، ولكن من خلال المصادر الأجنبيّة وخصوصاً منها السّريانيّة والإغريقيّة. هذا الجدل الذي طغى على ساحة المؤرّخين الغربيّين منذ أواخر القرن العشرين حتّى بداية القرن الحادي والعشرين، غاب عن ساحة المؤرّخين العرب والمسلمين بصفة عامّة، بل إنّهم تجاهلوه.
د. نادر الحمامي: صحيح، لكن هذا لا ينفي بعض المحاولات للإفادة المنهجيّة خاصّه مع عبد الله العروي (1933) في "مفهوم التّاريخ" مثلاً، فقد تحدّث عن طبيعة الكتابة التّاريخيّة، وقال إنّها ذات جوهر ديني بالأساس، ومع عزيز العظمة (1947) في بعض مقالاته حول طبيعة الكتابة التّاريخية، وقد اعتبر أنّها تستند إلى نوع من الأوامر والنّواهي وتبحث عن تحقيق خلاص ما، ممّا يجعلها ذات خلفيه دينيّة. ما لاحظته هو أنّك لا تنساقين وراء المنهج الذي ينفي كلّ موثوقيّة وكلّ قيمة عن المصادر التّاريخية، وهذا يتجاوب مع المنهج الأنجلوسكسوني الذي أشرتِ إلى بعض أعلامه، ولا يتجاوب في المقابل مع المنهج القديم في التّعامل مع المصادر التّاريخيّة، والذي يقوم على الجرح والتّعديل وقد شاع لدى العرب والمسلمين الذين اعتبروا أنّ التّاريخ النّقدي يقوم على نوع من التّرجيح بين الرّوايات، هذا ما ألمسه بوضوح تام في ما كتبتِه حول "السّيرة النّبويّة"، وقد تحدّثتِ عن أدبيّات السّيرة، وهذا ما يجعلك تقتربين شيئاً ما إلى الأنثروبولوجيا التّاريخيّة.
دة. حياة عمامو: فعلاً، لقد حاولت دائماً اعتماداً على ما تمكنّت من الاطّلاع عليه من كتابات، وهي كثيره جدّاً في هذا الميدان، أن أغيّر في مسألة كتابة تاريخ المسلمين الأوّل وحتى تاريخهم في ما بعد؛ أي فتره الإسلام المبكّر وحتى الفترات التّاريخية اللاّحقة أو ما نسمّيه التّاريخ الوسيط. لكنّ الإشكال بالنّسبة إلى كلّ الفترات التّاريخيّة يتمثّل في نقص الوثائق، لذلك كان لا بد من الاشتغال على مختلف الوثائق والمصادر المكتوبة التي نقع عليها، وتصنيفها حسب طبيعتها والتّمييز بينها في كتابة التّاريخ، وتلك مسألة حيويّة وضروريّة كثيراً بالنّسبة إلى شغلنا؛ رغم ما قد يتغافل عنه بعض المؤرّخين أحياناً بسبب الاستسهال. وبالعودة إلى ما ذكرتَ حول إسهامات العروي والعظمة في ميدان كتابة التّاريخ، أقول بكلّ أسف إنّهما ليسا مؤرّخين، ولكن إلى جانب هؤلاء الذين كتبوا حول نظريّات كتابة التّاريخ، هنالك من جسّد تلك النّظريّات في كتاباته، وأذكر من بينهم هشام جعيّط (1935) باعتباره مؤرّخاً، وقد انطلق في أبحاثه في البداية على أساس أنّه مفكّر، واعتمد كثيراً على المنهج النّقدي الألماني، ودون أن يشير إلى مسألة المناهج وكيفية التّعامل معها ذهب مباشرة إلى التّطبيق، وقد حسم أمره بالنّسبة إلى المؤرّخين فلم يتّبع المسألة البيداغوجيّة، ولعلّ هذه الطّريقة هي ما كانت تنقص المؤرّخين في تونس، وفي اعتقادي إنّ الأمر يستدعي الكثير من اللّقاءات العلميّة والنّدوات والورشات مع الطّلبة لكي نستطيع التّفريق بين مسائل مختلفة ومتنوّعه في كتابة التّاريخ والاشتغال على نظريّات المعرفة التّاريخيّة، وفي المناهج التي يتمّ تطبيقها، فلا يزال الكثير من الأساتذة الكبار الذين وصلوا إلى أعلى الدّرجات العلميّة لا يدركون هذه المسائل، مع أنّ إنتاجنا في الجامعة التّونسيّة كثيف جدّاً بخصوص رسائل الماجستير والدّكتوراه، التي يكاد عددها يصل إلى ثلاثة آلاف في أقسام التّاريخ وحدها، ولكن من بين هذه الرّسائل لا نكاد نجد ما يجدّد المعرفة التّاريخيّة من خلال طريقه التّعامل مع المصادر التاريخية واتّخاذ المقاربات المختلفة في دراستها وفي اعتمادها، حتى يكون التّاريخ الذي نكتبه مجدِّداً ومساعداً على الفهم والتّفهّم كما يقول جعيّط، الذي يميّز بين التّاريخ والتّراث، وقد كتب ذلك في تقديمه لكتابي حول "أصحاب محمّد" معتبراً أنّ التّراث هو كل ما ترثه الإنسانيّة من أسلافها، وأنّ التّاريخ هو كتابة ونظرة جديدة ومحاولة فهم لما حدث، وأنّ الكثير من المواضيع لابدّ من إعادة كتابتها، لأنّ كتابة التّاريخ تقوم أساساً على التّدقيق.
د. نادر الحمامي: لقد كتبتِ في السّيرة واهتممت بها، باعتبارها جزءاً من الإسلام المبكّر، ولا يمكن أن نغفل عن المساهمة المهمّة التي قدّمها هشام جعيّط في هذا المجال، في الثّلاثية التي كتبها حول السّيرة، ولو نظرنا في الجزء الثّاني منها الذي يحمل عنوان "تاريخيّة الدّعوة المحمّديّة في مكّة" وتمعنّا في التّقييم النّقدي الذي أجراه على المصادر، سنلاحظ أنّه انتهى إلى عدم وجوب الثّقة بغير المصادر التي ظهرت في القرون الثّلاثة الهجريّة الأولى، بالإضافة إلى النّص القرآني الذي يعتمده بشكل أو بآخر، باعتباره وثيقة تاريخيّة لكتابة السّيرة، وهو ما يثير في تقديري الكثير من الاحتراز، فعلى أيّ أساس يمكننا أن نميّز هذا التّمييز بين المصادر، وأن نعتبر مثلاً مصادر الواقدي (ت 207 هـ) والطّبري (ت 310 هـ) والبلاذري (ت 279 هـ) وابن سعد (ت 230هـ) وابن إسحاق (ت 151 هـ) وابن هشام (ت 218هـ)، فقط هي الجديرة بثقه المؤرّخ، وأن نستبعد المصادر المتأخّرة وبعض المصادر الأخرى من غير الاتّجاه السّنّي في الإسلام المبكّر، لأنّ تلك الفترة ظهر فيها أيضاً المسعودي (ت 346 هـ) واليعقوبي (ت 284هـ)، ولكن هذه المصادر بالنّسبة إلى الأستاذ هشام جعيط وغيره كثير ممّن يكتبون التّاريخ الإسلامي لا يتمّ الاعتماد عليها؟
دة. حياة عمامو: لابدّ أن نعرف كتابات جعيّط كلّها، حتى نستطيع أن نقيّم هذا الأمر؛ فهو عندما اعتمد على هؤلاء الأربعة رأى أنّهم مؤسّسو السّيرة على اعتبار أنّ الطّبري استعاد بعض الأجزاء من ابن إسحاق والشّيء نفسه بالنّسبة إلى البلاذري الذي استعاد بعض ما كتبه الواقدي وفُقد، ثم ما كتبه الواقدي نفسه في المغازي، وكذلك ما كتبه ابن إسحاق وفُقد وأعيد تركيبه لدى ابن هشام مع تهذيب. وقد اعتبر جعيّط أنّ هؤلاء الأربعة يمثّلون المصادر الأساسيّة في دراسة السّيرة النبويّة، ولكنّه لا ينفي مثلاً دور اليعقوبي الذي يعتمده كثيراً في كتابه "الفتنة"، ولا ينكر دور المسعودي الذي اعتمده في كثير من الكتابات التي أستحضِرُ منها على سبيل المثال "الكوفة". ولكنّ جعيّط أراد أن يركّز على هذه "الأناجيل الأربعة" في كتابة السّيرة، ولا يعني ذلك أنّه ينفي أهمّية الكتابات الأخرى الصّادرة في القرون الأربعة الأولى، كما لا ينفي أيضاً أهمّية المصادر المتأخّرة مثل ابن الأثير (ت 630 هـ) والقلقشندي (ت 821 هـ) وابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) وابن سيد النّاس (ت 734 هـ) وغيرهم... وأنا أذكر جيّداً قوله إنّ هذه المصادر المتأخّرة، بالرّغم من أنّها استعادت مصادر أبكر منها، فإنّها تتضمّن "قِطعاً" كبيرة لا بدّ على المؤرّخ أن يطّلع عليها، وهذا يعني أنّ المؤرّخ حين يركّز على بعض المصادر التّاريخية فلا يعني ذلك أنّه ينفي أهمّية المصادر الأخرى ولكن لكلّ مقام مقال، وهذا ما أفهمه أنا من تصرّف جعيّط مع المصادر.
د. نادر الحمامي: قد نجد في هذه المصادر المتأخّرة استعادة لمصادر فُقدت، وقد نجد أحياناً كتباً بأكملها منقولة في كتب متأخّرة مثل الموسوعات والمصنّفات الكبرى، ولكن يوجد فيها أيضا شيء آخر مهم، يخصّ المتخيّل، وقد اهتممتِ بذلك في كتابك حول السّيرة، وما قدّمتِ به كتابك كان فقرة مهمّة جدّا أشرت فيها إلى صعوبة الحديث عن الإسلام المبكّر جرّاء التّداخل بين التّاريخي والمتخيّل، وهو ما يسمّيه هشام جعيّط وغيره من قبله بـ "المتخيّل التّاريخي" أو "التّمثّلات التّاريخيّة" التي كانت مهملة أو هي على الهامش في التّاريخ الوضعاني ولكنّها أصبحت، شيئا فشيئا بتطوّر المعرفة التّاريخيّة، معبّرة عن آمال مجموعة تاريخيّة معيّنة، ولذلك ينبغي الاهتمام بهذا المتخيّل منهجيّا، لأنّ كاتب السّيرة قد لا يكون يكتب سيرة النّبي محمّد فحسب، وإنّما هو يكتب أيضاً واقعه وجدالاته وتاريخه الخاص أكثر من محاولة استرجاع حياة محمد التي قال عنها إرنست رينان (Ernest Renan) (1823-1892) قديماً، إنّها كانت في ضوء التّاريخ السّاطع، وهي ربّما قد تكون على غير ذلك؟
دة. حياة عمامو: قبل أن أجيب عن سؤالك هذا، اسمح لي أن أعود إلى أمر مهمّ ضمن سؤالك السّابق كنت قد نسيت الإجابة عنه، والمتمثّل في أنّ جعيّط لم يعتمد المصادر الشيعيّة، صحيح أنّه لم يعتمدها بصفة مباشرة، ولكنّه اعتمد على رواة قريبين من الشّيعة أو ممن ينسبون إليهم ولهم ميول شيعيّة، مثل أبي مخنف (ت 157هـ)؛ فالمصنّفات الشّيعيّة ظهرت في فترة لاحقة عن الإسلام المبكّر، وهي تعود إلى ما بعد القرن السّادس للهجرة، مثل الطّبرسي (ت 548 هـ) وابن أبي حديد (ت 656 هـ)، فهي مصادر متأخّرة.
أمّا مسألة التّمثّلات التّاريخية، فهي مرتبطة بالسّياق، وما كُتب حول التّاريخ الإسلامي المبكّر يجب التّمييز فيه بين سياقين؛ يتعلّق السّياق الأوّل بحدوث الأحداث في حدّ ذاتها، ويتعلّق الثّاني بكتابة تلك الأحداث. ويعتبر جعيّط أنّ الذين كتبوا التّاريخ الإسلامي الأوّل كانوا مؤرّخين جيّدين، فقد نفضوا الغبار عن كل ما تمّت روايته بطريقة شفاهيّة طيلة قرن ونصف، ولكنّه يرى مع ذلك أنّهم لم يتجرّدوا من السّياق الذي عاشوا فيه، وهذا ما يجب على المؤرّخ أن يأخذه بعين الاعتبار ويركّز فيه بطريقة جيّدة وبتمعّن، لأنّ الصّراعات المذهبيّة التي بدأت تنفجر انطلاقاً من القرن الثّاني الهجري على الصّعيدين الفكري والسّياسي، كان لا بدّ لها أن تؤثّر في كتابة تلك الأحداث السّابقة، حتى وإن كان نقلها موضوعيّاً ولا تشوبه أيّة شائبة. وقد بذل مؤرّخو تلك الفترة مجهودات كبيرة في سبيل أن تكون الرّوايات تاريخيّة فعلًا، ويمكن الاعتماد عليها، بغضّ النّظر عن مستوى موثوقيّتها، لأنّ الموثوقيّة تحيل على الدّوغمائيّة. وأعرّج ههنا على فرد دونر (Fred Donner) (1945) وهو مؤرّخ أمريكي وله نظرة منافية تماماً لنظرتي باتريشيا كرون ومايكل كوك، وقد اعتبر أنّ الرّواية التّاريخيّة عند المسلمين الأوائل، حتّى وإن لم تكن تاريخيّة كلّها، فلابد أن نجد فيها نواة تاريخيّة، وهذه النّواة هي التي يجب أن نتشبّث بها وأن نعتمد عليها لاستخراج باقي مكوّنات الصّورة التي يمكن من خلالها أن نعيد تركيب الحدث التّاريخي الذي نبحث عنه، وههنا أيضا لا بدّ من الإشارة إلى ما ذكره أحد الأنثروبولوجيين وهو حسّان البودراري، من أنّ المصادر التّاريخية الإسلاميّة متنوّعة ومختلفة المشارب ومتعدّدة وثريّة، ولا بد من اعتمادها في الكتابة التّاريخية، رغم ما يطرحه ذلك من صعوبات، لأنّ اعتمادها يمكن أن ينير طريقنا في اتّجاه الدّراسة في مواضيع مختلفة تتجاوز التّاريخ إلى الأنثروبولوجيا والثّقافة والمتخيّل، وكلّ ما يهمّ الإنسان في تلك الفترة التّاريخية التي تبدو كثيرة التّعقيدات والصّعوبات.
د. نادر الحمامي: ولعلّ أوّل هذه الصّعوبات التي تواجه عمل المؤرّخ تتمثّل في الافتراض، فعمليّة إعادة تركيب الأحداث استنادا إلى النّواة التّاريخية التي تحدّث عنها دونر، قد تجعل المؤرّخ أو الباحث في التّاريخ أمام حلقات فارغة وعليه محاولة ملئها، ليبحث انطلاقاً منها في مجالات أخرى متعدّدة ضمن سياقات مختلفة، ومن بينها السّياق السّياسي، وقد تحدّثتِ عن الصّراع السّياسي، وكان محورا أساسيّاً في بحثك حول "الصّراع على السّلطة وهاجس الشرعيّة"، ولعلّنا نجد اليوم العديد من الشّرعيّات السّياسيّة التي تستند إلى التّاريخ الإسلامي المبكّر، لذلك سيكون هذا الموضوع مدخلاً مهمّا للمحور الثّاني من حوارنا الذي سنتحدّث فيه عن الإسلام المبكّر من زاوية السّياسة والسّلطة.