"خلافة داعش"
فئة : قراءات في كتب
"خلافة داعش"
هيثم مناع، المعهد السويدي لحقوق الإنسان، جنيف، شتنبر 2014، 124 ص.
بمقدمة هذا الكتاب/الوثيقة، يقول المؤلف: "لقد تأصلت عقيدة القتال عند داعش على صناعة التوحش، ومن غير الممكن، في مشروع عسكري تحكمه الرغبة في السيطرة والعدوانية الانتقامية، أن يكون للإنسان أية قيمة. فعندما يصبح الحق في القتل شرعة، يصبح الحق في الحياة هرطقة".
ولذلك، يلاحظ الكاتب، "فإن مواجهة هذه الظاهرة لن تنجح إلا بوقف عملية تدنيس الوعي في الأوساط الشعبية، التي ما زالت تعتقد بأن هكذا مشروع يمكن أن يعود على مذهب من المذاهب بالنفع، وعلى جماعات مظلومة ومهمشة، بالحقوق والحريات التي حرموا منها، بالنصر".
بالتالي، فإن المواجهة السياسية والثقافية والأخلاقية تعتبر، برأي الكاتب، "الركن الأساس في مواجهة داعش، إذ الحل العسكري الأمني لم ينجح يوما في استئصال التطرف، بل وكلما أطلق هكذا اختيار لنفسه العنان، جعل من بداهة التوحش عنصرا مشتركا بين القامع والمقموع، الظالم والمظلوم. وما من شك بأن دور المفكرين الإصلاحيين من المسلمين في هذه الحالة، غاية في الأهمية".
ينقسم كتاب هيثم متاع عن "خلافة داعش"، إلى أربعة أجزاء أساسية: "من هجرات الوهم إلى بحيرات الدم"، "صناعة التوحش"، "اضطرابات الرؤية وغشاوة البصيرة" و"شبكات التمويل".
+ في الجزء الأول ("من هجرات الوهم إلى بحيرات الدم") يقول الكاتب بالمباشر الحي: "لقد تم تعبيد الطريق الإعلامي والسياسي والعسكري بخروج تنظيم داعش إلى النور كقوة مسلحة وعقائدية إقليمية، في إصرار السلطة السورية وبعدها العراقية على الحل الأمني العسكري في مواجهة ما يحدث، مع سياسة تركية وخليجية وغربية فاشلة، ووكلاء سوريين صغار، وعدد من السماسرة الإقليميين الذين أعماهم الحقد، وغطى على بصرهم وبصيرتهم الخوف من حراك شعبي واعد، أرادوا قتله في بلاد الشام، ولو استتبع ذلك تمزيق الأوطان وتحطيم الإنسان".
وإذا كان ثمة من فضل لداعش في هذا الباب، فيتمثل بالأساس، في نظر الكاتب، في كشف "الخطاب الإخواني الشعبوي الذي يتحدث منذ حسن البنا إلى سيد قطب والقرضاوي، في الإسلام دين وعقيدة، دولة وقانون وشريعة ومنهج حياة، علم وآداب وأخلاق وهوية، أمة وسياسة واقتصاد وحسبة وجيش ومخابرات، ويخدر العامة بمقولة الإسلام هو الحل".
ثم إن فضيلة داعش تكمن في كونها "اختصرت على المفكرين عشرات الكتب والدراسات في الرد على أطروحات العودة إلى الوراء لبناء خلافة راشدة على منهج النبوة، فأوجدت في الأحاديث النبوية كل ما يغطي عوراتها وجرائمها وتخلفها في فقه ما زال فيه ضعيف الحديث خير من حكم الرجال. فضيلة داعش أنها فضحت الباطنية السياسية لتوظيف الدين كاستراتيجية سلطة".
ولعل تنظيم داعش، يتابع الكاتب، هو الذي "أسقط الهالة على مفهوم الحاكمية لله"، وترجم مفهوم جاهلية القرن العشرين لسيد قطب في أرض الواقع، وهو من جعل "من التكفير سنة... وهو الذي حول العنف والتوحش إلى منهاج حياة".
ثم إن من فضائله أيضا، أنه أدرك بقوة ما يسمى بظاهرة المهاجرين، أدرك "مستواهم الثقافي والسياسي، ومحدودية وعيهم الديني، والمشكلات الذاتية والموضوعية التي حولتهم لمشاريع انتحار. لهذا تعامل تنظيم داعش معهم كالقطيع، واتبع سياسة لاستقطابهم تقوم على قواعد بسيطة: المال والسلطان زينة الحياة الدنيا، أضرب الرأس تلحق بك العناصر، الأحسن يصاهرنا والباقي يلتحق بالحور العين".
ويلاحظ المؤلف، من جهة أخرى، بأن متابعة تجربة داعش، من خلايا الزرقاوي إلى خلافة البغدادي، تستوجب "تناول التجربة غير الأشخاص، بعد أن تبين لنا تأثير الأشخاص على طبيعة وتركيبة ووظيفة الإيديولوجيا التي يعلنون عنها، إذ من الصعب اعتبار تأثير الإيديولوجيا على مكونات أصحاب القرار في هذه التجربة، حاسما".
ولذلك، فعندما يقف الكاتب عند أبي بكر البغدادي، زعيم تنظيم داعش، فإنما ليبين محورية الفرد في تنظيمات من هذا القبيل، حيث استطاع البغدادي أن يبني مشروعه على ستة عناصر، راهن على توفرها وتوفيرها قبل الإعلان عن تنظيمه:
أولا: الاستفادة القصوى من خبرة ضباط الجيش العراقي السابق، الذين أصبحوا، بعد امتحانهم وبمرور الزمن، في موقع تحديد السياسات العسكرية للتنظيم. إنهم النواة العسكرية الصلبة لداعش، وقوتها الضاربة، لا بل والعمود الفقري لمنطق الحرب الذي رفع التنظيم لواءه في وجه أعدائه السياسيين وغرمائه الإيديولوجيين.
ثانيا: تأمين موارد مالية ضخمة، تسمح للتنظيم بامتلاك القدرة على تحقيق برنامجه وترجمة مشروعه على أرض الواقع. البغدادي هنا، إنما يعتد بقاعدة عملية بسيطة مفادها أن لا سلطان أو جاه إلا بتوافر الإمكانات لتكريس ذلك، وتوسيعه وحمايته.
ثالثا: اعتماد الإعلام وسيلة مركزية من وسائل النصر، والتأكيد عبر الإعلام على صورة الجبروت والقسوة والرهبة لتحييد وإخضاع كل المخالفين لمشروع الخلافة. البغدادي يعي هنا أيضا أن الحرب الخشنة لا يمكن أن تؤتي أكلها في الزمن والمكان، إذا لم تتكئ على حرب ناعمة، تستوظف الصورة الرمزية لتبيان القوة وإظهار الجلد. القسوة والبطش هنا ليسا وسيلة فحسب، بل هدفا في حد ذاتهما أيضا.
رابعا: اتباع سياسة المفاوضات مع العشائر والبنيات الاجتماعية المحلية، بالارتكاز على الصحوات التي اعتمدها الاحتلال الأمريكي في العراق، ونسجت على منوالها الحكومات "العراقية" المتعاقبة، وهو ما أدركه البغدادي جيدا، فباشر في استمالة العشائر العراقية، بالترغيب تارة وبالترهيب تارات أخرى، لضمان إذا لم يكن ولاءها، فعلى الأقل حياديتها فيما يدور أو يجري الترتيب له.
خامسا: عدم التهاون مع أي تنظيم جهادي يريد التعاون مع داعش على قاعدة الندية: فإما البيعة وإما القتال. البيعة هنا هي الأصل، ولا اختيار آخر في "دولة الإسلام" إلا المواجهة والقتال.
سادسا: الغلو في التعامل مع أية مجموعات سكانية غير سنية، لتطهير أماكن تواجد التنظيم ممن يمكن أن يشكل قاعدة احتجاج أو رفض لممارسات التنظيم.
هي قواعد عامة اعتمدها التنظيم في سلوكه مع الأهالي بالعراق كما بسوريا، ولا يتوانى في الدفع بها والتشديد عليها حيثما حل مقاتلوه أو ارتحلوا.
+ في الجزء الثاني ("صناعة التوحش")، يميز الكاتب بين ما جرى ويجري بالعراق، حيث قيادة التنظيم، وما جرى ويجري بسوريا، حيث للتنظيم إياه تواجد قوي وواسع. ومع أن الكاتب يعتبر أن الجهادية التكفيرية قد بدأت في البلدين بمسارين مختلفين، إلا أن "قرار دولة العراق الإسلامية توسيع رقعة تنظيمها وساحتها القتالية، قد حمل لسوريا من العراق فيروس التطبيع مع ممارسات الاستئصال والقتل العشوائي، والاغتصاب والخطف والترحيل، وقطع الرؤوس والتمثيل بالجثث... بكلمة واحدة: التطبيع مع التوحش".
ولذلك، فإن داعش، عندما توثق لأفعالها وممارساتها، وتروج له عبر وسائل الإعلام والاتصال التي تتوفر عليها، فإنها بذلك إنما تعتبر "الجريمة فضيلة، والتوحش جهادا، والعدوانية واجبا، وقتل الآخر ضرورة لإقامة حكم الله في الأرض". بالتالي، فإن التوحش هو "حالة جمع سياسي بين الغلو الديني والنازية الدنيوية، باعتبارهما أبشع شكلين عرفتهما البشرية في الأزمنة المعاصرة".
+ في الجزء الثالث ("اضطرابات الرؤية وغشاوة البصيرة")، يقف الكاتب عند البنود التسعة عشر التي يعتبرها البغدادي عقيدة دولته، ويقف حصرا عند أهمها: وجوب هدم وإزالة ما يسميه البغدادي بـ"مظاهر الشرك وتحريم وسائله" (ألا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته). الرافضة طائفة شرك وردة. كفر وردة الساحر. التحاكم إلى شرع الله وحده. العلمانية على اختلاف راياتها وتنوع مذاهبها (كالقومية والوطنية والشيوعية والبعثية) هي كفر بواح مناقض للإسلام، مخرج من الملة. الديار إذا علتها شرائع الكفر، وكانت الغلبة فيها لأحكام الكفر دون أحكام الإسلام، فهي ديار كفر. وجوب قتال شرطة وجيش دولة الطاغوت والردة. طوائف أهل الكتاب وغيرهم من الصائبة ونحوهم، أهل حرب لا ذمة لهم. أبناء الجماعات الجهادية العاملين في الساحة إخوة في الدين، ولا نرميهم بكفر أو فجور، إلا أنهم عصاة لتخلفهم عن واجب العصر، وهو الاجتماع تحت راية واحدة.
من جهة أخرى، يعتبر تنظيم داعش أن المقاومة المدنية هي العدو الأول له، لا بل إن "المعارضة السلمية كفر بواح، وأخطر من المشاركة في المهزلة السياسية في العراق" وما سواه من "دول الإسلام".
+ في الجزء الرابع ("شبكات التمويل والدعم")، يلاحظ الكاتب أن "بيت مال" داعش (وأخواتها أيضا) يتكون من "حركة المال غير الرسمية باتجاه التنظيم، حركة المال بين التنظيمات المسلحة، أساليب الضغط والابتزاز القسرية، السوق السوداء وتجارة الممنوعات، تجارة الطاقة ثم الغنائم".
معظم هذه الأشكال من التمويل معروفة وموثقة في رأي الكاتب، إلا أنه يقف عند مسألة الغنائم، باعتبارها شكلا "جديدا" من أشكال تمويل التنظيم. يقول الكاتب بهذا الخصوص: "لم يتشوه وينحدر مفهوم الغنائم في التاريخ العربي/الإسلامي يوما كما يحدث اليوم على يد داعش والمجموعات الجهادية التكفيرية. فقد ألغت داعش المكان والمفهوم القرآني لصالح نظرة وضيعة، تجعل الغنائم في مركز أهم من كل القيم والمفاهيم الإسلامية. فليس هناك شرف المواجهة في القتال، ولا شرف الأمانة في التعامل، أو أخلاق الحد الأدنى في الديانات الثلاث التي زرعت ثقافة تكريم الإنسان. الغدر والسرقة وانتهاك الحرمات والممتلكات، والاعتداء على سلامة النفس والجسد في كل الأعمار وللجنسين، بدعوى تحويل الضحايا إلى موضوع غنائم حرب، هي العقلية السائدة عند مقاتلين آثروا الثأر والحقد والسيطرة، على احترام قوانين الحرب التي عرفتها البشرية في مختلف مجتمعاتنا ومنذ أكثر من ألفي عام. من هنا، وصفنا تصرفات تنظيم داعش بصناعة التوحش".
ويتابع الكاتب: تبلغ "الاستباحة عند هذا التنظيم قمتها في استهداف الجماعات الإيمانية التي يصنفها كافرة أو مرتدة. وإن كان الوجه الظاهر هو محاربة الشيعة والأزيدية والمسيحية، فضحايا داعش من السنة كانوا أكثر عددا منذ ولادة التنظيم وحتى اليوم...".
من جهة أخرى، فقد وجه تنظيم داعش، مع ذلك، نداء إلى كل من يرغب في الهجرة إلى أراضي "الدولة" للقدوم إليها. كما عمد إلى استقدام عائلات بأكملها من جميع أنحاء العالم، وإسكانها في البيوت التي صادرها، أو بقيت خالية جراء هروب العديد من العوائل نتيجة البطش الذي لحق بها، أو بسبب المضايقات المستمرة التي يمارسها على سكان هذا البلد حيث له السطوة، أو ذاك.
إن تنظيم داعش بهذا السلوك، لا يمكن إلا أن يتمدد ويطغى، يقول الكاتب. ولذلك، فإن إحدى سبل الوقوف في وجهه، إنما تكمن في البحث عن الأسباب الداخلية والخارجية (بالعراق وبسوريا وبدول المغرب العربي، كما بالدول المزودة له بالمقاتلين من آسيا ومن إفريقيا ومن غيرها)، والتي ضمنت له الحاضنة الاجتماعية والإيديولوجية التي عليها يتكئ، وبفضلها ينشر أطراف "خلافته".
وهذا معناه أنه من غير المؤكد حقا دحر هذا التنظيم بالطرق والسبل التقليدية التي يعتمدها ذات التنظيم (العسكرية تحديدا)، والتي تراهن عليها الحكومات والتحالف الدولي لمحاربة داعش. إن دحره لا يمكن أن يتأتى بنظره، إلا بتجريف التربة الحاضنة التي استنبتته وفسحت له في المجال للسطوة والتجبر.