خلود نيتشه
فئة : مقالات
خلود نيتشه
القراءة كما الكتابة كلاهما يتطلبان صبراً وتجشُّماً، من أجل الظفر باللذة المنتظرة منهما، التي يتطلع إليها كل من قرر أن يخوض هذه التجربة المتميزة والمتفردة، التي تشبه خوض مغامرة حقيقية نجهل مزاياها ومحاسنها، كما نجهل عواقبها ومَغبَّتها. وقد كان الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه من بين أبرز من تجرأ على خوض غمار هذه التجربة من خلال إقباله بشراهة على القراءة وبجشع على فعل الكتابة، ليزيح الذي قال عنه زرادشت «ليته لم يولد أصلاً»[1] وليرسم لنفسه معالم خلوده، أو على الأقل ليقبل على الموت في الوقت المناسب كما يعلمنا ذلك زرادشت، داعياً إلى الانتصار على الذات للعبور إلى منزلة الموت الطوعي، والتي لن تتحقق إلا بعد تحصيل إرادة الموت في الوقت المناسب، والرامية إلى حفظ البقاء والتمسك بالحياة؛ ولعل الكتابة أحد تجليات هذا البقاء باعتبارها حيلة الكاتب الماكرة للانتصار على الموت، لكن الكتابة التي يحثنا عنها نيتشه، لا تتم إلا في حالة المشي التي تعكس حركية الجسم ونشاطه، لذلك يصرح صاحب المطرقة في "أفول الأصنام" بأن الأفكار لا تقبل عليه إلا وهو يمشي، إذ يقول «وحدها الأفكار التي تأتينا ونحن ماشون لها قيمة ما»[2] كما أنه يوجه اللوم والعتاب لفلوبير صاحب المؤخرة الكبيرة، التي «يلمز إليها زولا من خلال حديثه عن سعي فلوبير الدائم لارتداء الأقمصة الواسعة والرحيبة، فبدل البنطال الفرنسيّ الضيق كان فلوبير يواظب على ارتداء عباءة تشبه عباءة القساوسة»[3] إن ازدراء نيتشه لحالة "فلوبير" التي تفتقد للحيوية والنشاط، تنم عن نوع الكتابة التي يفضل نيتشه، والتي تضاهي تدفق الدم في سرعته والتي يعبر عنها زرادشت بقوله: «من بين كل ما هو مكتوب لا أحب غير ذلك الذي يكتبه امرؤ بدمه»[4]. إن الكتابة بالدم وحدها من باستطاعتها أن تطوع الموت وتضمن الخلود.
إن من يعجز عن الكتابة بقطرات دمه، لهو أكبر دليل على هرم وكهل قلبه، إنه لم يوفق في الحياة لأن «في قلبه دودة سامة تنخره، فليعمل إذن على أن يكون أكثر توفيقاً في مماته»[5]. وحده صاحب القلب السليم والخفة المكشوفة والرشاقة الناصعة من يستطيع أن يتجرأ على فعل الكتابة، الذي يستوجب التحلي بالعزلة وحب الحياة والإقبال على الضحك والرقص على نغمات الموسيقى الجذابة.
يستهل نيتشه مقدمة كتابه "نقيض المسيح" بقوله: «بعد غد فقط هو زمني. فمن الناس من لا يولد إلا بعد الممات»[6] والذي نستشف من خلاله تطلع الرجل إلى إرجاء الرحيل، أو تحقيق منزلة الولادة بعد الموت، والتي لن ينالها إلا عبر القارئ الفذ الذي تغمر روحه الغبطة والسرور، ويفيض جسمه بالنشاط ويبوح عن ما في داخله من رشاقة وخفة، ويحرص على التعاطي مع كتابات نيتشه بنوع من المرح الذي يبتعد عن الصرامة والجدية المفرطة. إن إخلال القارئ بأي عنصر من هذه العناصر التي اشترطها صاحب المطرقة على قرّائه، تجعله عرضة للازدراء والإقصاء، حيث نجد نيتشه يخاطب القراء الخاملين على لسان زرادشت قائلاً: «إنني أمقت أولئك القراء الخاملين»[7] ولعل هذا ما يفسر كتابته لقلة من الناس التي بمقدورها أن تظفر بغنائم شتى، من خلال الدخول في صراع مع شذراته التي تفصح للقارئ الوفي بكل مكنونها، وتصوم البوح بمعانيها عن من يقبل عليها وهو جالس خامل، فالشذرات النتشوية تحافظ على استمرارها في البقاء عبر القارئ النشيط الذي يخدم الفكر ويضمن البقاء لصاحبها الذي يكتبها بكل عفوية وكما تحضر في خلده.
إن علاقة نيتشه بقرائه تجعلنا نطرح السؤال التالي: لمن يكتب نيتشه؟ إن صاحب المطرقة كما هو واضح من خلال عبارته المأثورة "إن كتاباتي موجهة للكل ولا لأحد" توضح أنه يكون من جهة كاتب للجميع؛ ومن جهة أخرى كاتب لنفسه، فبقدر ما يحتفي الفيلسوف بالكتابة في عزلته لتكون حكراً عليه، فإنه كذلك بحاجة إلى القارئ الذي يعانق من خلاله روحه، وبهذا المعنى ندخل في علاقة مزدوجة بين الكاتب والقارئ، لكنها تفترض حرية أكبر لا من جهة الكاتب الذي يكتب بدمه، وهو يمشي ويحاول أن يتخلص من ذاته أقصى ما يمكن لكنه لا يستطيع، ولا من جهة القارئ الذي يُؤول ما كُتب على ضوء ما يعتقد فيه.
لعل الناظر في كتابات نيتشه، سيلحظ تعلق الرجل بكتاباته حينما لا يكتب لأي أحد، بمعنى أنه يحب أن يحتفظ بما يكتب لنفسه ويكون حكرا عليه؛ وذلك لإفراط حبه لما يكتب والذي قد يتجاوز حب الوالد لولده، وهو ما حدثنا عنه كيليطو في "مجنون ليلى" حينما استحضر ما قاله الجاحظ: «إن الكتاب أعز عند مؤلفه من الولد»[8] فلو لا أن حب قيس للشعر كان أقوى من حب ليلى ابنة عمه لانتهت القصة بتفاهة زواج على حد تعبير كيليطو. إن تعلق الكاتب بالقراءة كما الكتابة، هو ما حدا ابن رشد بأن يكون حريصا على أن لا يفوته يوما دون أن يقرأ أو يكتب فيه، باستثناء يوم زفافه وليلة وفاة والده، ودفع ببروست أيضاً إلى التعامل مع ما يكتب كما يتعامل الأب مع ابنه، فإذا كان الإنجاب حيلة الأب للبقاء رمزيا على قيد الحياة من خلال إدراك استمرارية ذاته عبر وَلده، فإنه ما من حيلة للكاتب ليضمن بواسطتها بقاءه غير الكتابة، لذلك تصبح الولادة والكتابة بمثابة استمرار في الوجود عبر إدراك امتداد الذات خارجها.
إذا كان تعلق نيتشه بما يكتب يصل إلى حد النخاع، فما الذي يجعله بمثل ذلك السخاء الذي يضاهي حبه لكتاباته ويخلق منه كاتبا للجميع؟ أو بتعبير آخر ما الذي يجعل من نيتشه يتحول من كاتب بخيل يحتفظ بما يكتب لنفسه إلى كاتب سخي يكتب لجميع الناس؟ إن نيتشه بحاجة إلى قارئ لا إلى مريد وهو ما يعبر عنه بقوله: «إنها لمكافأة رديئة للمعلم أن يظل المرء على الدوام مجرد تلميذ. فلم لا تريدون تمزيق إكليلي؟»[9] ثم يضيف قائلاً: «والآن أطالبكم بأن تضيعوني وأن تجدوا أنفسكم، وإني لن أعود إليكم إلا عندما تكونون قد أنكرتموني جميعاً»[10] إن القارئ الفذ هو الذي يحترس من زرادشت ويساعد نيتشه على أن يعانق من خلاله وجوده ويتحدى العدم ويستمر في البقاء ويحقق الخلود. فوحدها رغبة الكاتب في الخلود ولذتها، الكفيلة بجعله يتقاسم ما يكتب مع القارئ رغم أنه يعلم مسبقاً أن ما يكتبه قد يساء فهمه، فالكتابة قد تصبح حلاً ممكناً للعيش مرة أخرى رغم ما تعج به الحياة من ألم ومعاناة، بمعنى أنها تعبير عن الحماسة التي يفتقدها من لا يكتب؛ كسقراط الذي قال عنه نيتشه: "سقراط هذا الذي لا يكتب" وهي عبارة استرعت انتباه دريدا لمعانيها المتميزة ولتركيبها اللغوي الحافل بالسخرية والتهكم، ولتعبيرها عن ما مدى افتقار سقراط للذة الكتابة وافتقاده لها، الأمر الذي جعله يشيخ ويفضل الرحيل تاركاً الحياة بكل ما تبعث عليه من مرح وحبور، ناعتاً إياها بالمرض العضال لحظة احتضاره.
إن قبح سقراط لم يكن حبيس هيئته وشكله، وإنما طال حكمته أيضا التي يجب أن نضعها موضع شك، وأن نسعى إلى الكشف عن تهافت ادعاء صاحبها، وإفشاء انحطاط قيمته، وتجاوز ازدرائه للحياة الأكثر إثارة للاشمئزاز والقرف. لقد كان سقراط جباناً رعديداً في الإقبال على الحياة مما أصابه بالشحوب والوهن والانشغال بتعلم الموت بدل العيش، وهو ما حدا بنيتشه في أن يرغب بجعل دعوة الزهاد في الحياة دعوةً هشيمةً تدروها الرياح، وتقضي نحبها من خلال طرقة واحدة بمطرقته الصلدة.
إذا كان نيتشه قد حقق خلوده على حساب خصومه، وعبر تحطيم الأصنام والمساهمة في نسفها وأفولها، فإن السؤال الذي يمكننا أن نطرحه هنا هو: ما حاجتنا إلى خلوده؟ وفي ماذا سيفيدنا استمراره بالبقاء؟ إن أهمية نيتشه تتضح من خلال معاداته إلى كل ما هو مقدس في الفكر، وسعيه إلى تجاوز الجاهز من خلال طرقه بمطرقته التي لا يطالها الصدأ وتزداد صلابةً وبأساً كلما كانت سبباً في إزاحة الأوثان الهشة. إن حاجتنا إلى خلود نيتشه تتضح من خلال إصراره على الخروج من متاهات الفكر وتحجره وعزمه على ملازمة العيش، رغم ما كان يعانيه من سقم والذي كان سبباً في اكتشافه الحياة من جديد، إذ يقول في كتابه "هذا هو الإنسان": «هكذا تتراءى لي الآن تلك الفترة الطويلة من المرض: لقد اكتشفت الحياة من جديد، بما في ذلك نفسي»[11] كما أنه أصبح قادرا على التفطن للأشياء الطيبة والصغيرة التي يواجهها في حياته، وأبدى قابلية أعظم لتذوقها بطريقة تجعله معافى، وبالتالي «فكل ما لا يتسبب في هلاكه لا يمكن إلا أن يجعله أكثر صلابة»[12] فمرض نيتشه وسقمه لم يكن وحده الحافز الذي جعله يرتمي في حضن الحياة، وإنما كان للكتابة دور كبير أيضا في إقباله على العيش رغم ما يعج به من مشاق ومحن، بل وخوض الصراع عبر الولوج إلى ساحة القتال مع الحرص على التسلح بالمطرقة الصلدة والفتاكة دفاعاً عن رغبته في البقاء وعزمه على إزاحة المُعادين للحياة والكتابة على السواء.
[1]نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، كتاب للجميع ولغير أحد، ترجمة: علي مصباح، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2007، ص141
[2] نيتشه، أفول الأصنام، ترجمة: حسان بورقية، محمد النّاجي، دار افريقيا الشرق، الطبعة الأولى 1996، ص14
[3] محمد صلاح بوشتلة، «كرسي الكتابة سببا في العداء» مجلة الدوحة، عدد161، مارس 2021، ص96
[4] نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، كتاب للجميع ولغير أحد، ترجمة: علي مصباح، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2007، ص85
[5] المصدر نفسه، ص143
[6] نيتشه، نقيض المسيح، ترجمة: علي مصباح، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2011، ص21
[7] نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، كتاب للجميع ولغير أحد، ترجمة: علي مصباح، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2007، ص85
[8] عبد الفتاح كيليطو، حصان نيتشه، ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 2003، ص15
[9] نيتشه، هذا هو الإنسان، ترجمة: على مصباح، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2003، ص11
[10] المصدر نفسه، ص12
[11] المصدر نفسه، ص18
[12] المصدر نفسه، ص19