د. الحبيب عيَّاد: من أجل مقاربة تاريخيَّة للتَّوحيد الإسلاميّ
فئة : حوارات
من أجل مقاربة تاريخيَّة للتَّوحيد الإسلاميّ([1])
حوار مع د. الحبيب عيَّاد([2])
1ـ يشغلنا في هذا الحوار الذي نجريه معكم حول مفهوم التوحيد الإسلاميّ شاغل حضاريّ عامّ هو البحث عن مداخل تجديد الفكر الدّينيّ الإسلاميّ، وشاغل معرفيّ هو تطوير نظريّة الإيمان الإسلاميّة، وشاغل إيديولوجيّ هو التصدّي للتطرّف الدينيّ باسم الإسلام، والتأسيس للتعايش الكوني والمحلّي الإسلاميّ. ولعلّ ذلك ما يدفعنا إلى التساؤل: ما أهمّ دواعي العودة إلى الكلام في/ عن التوحيد في الفكر الإسلاميّ المعاصر، وما دلالات تلك العودة؟ وما أهمّ رهاناتها؟
د. الحبيب عيّاد: بطبيعة الحال يمكن أن نرى أنَّ هذه العودة إلى الحديث في التوحيد استدعتها ظروف معاصرة نفهمها جميعاً، وهي ظروف حافّة بوضعيَّة سياسيَّة وثقافيَّة تتعلّق بواقع العالم العربي الإسلامي اليوم، وهي وضعيَّة متميّزة بالحرب على الإرهاب، وربَّما يكون ذلك من أهمّ الأسباب التي تدعو إلى التفكير في هذه القضيَّة، ذلك أنَّ القول في التوحيد يمثّل حجر الزاوية بالنسبة إلى التيّارات الدينيَّة الحديثة والمعاصرة التي انطلقت من السلفيَّة، والتي لها رؤية معيَّنة في التوحيد. وإذا ما أردنا أن نلخّص القول في شأن العودة إلى التوحيد، فإنَّ هذه العودة ليست معرفيَّة، وهو ما يدعو الباحثين في هذه القضية إلى الاهتمام المعرفيّ بالتوحيد، حتّى يقع إجلاؤه من الناحية المعرفيَّة. نرجّح أنَّها عودة حتّمتها ظروف سياسيَّة، ولم تحتّمها دواع معرفيَّة. ولكن على رجل المعرفة في كلّ حال أن ينهض بدوره ويوضّح هذه المسألة، وذلك على ما تقتضيه المعرفة العلميَّة.
2ـ هل نحن بهذا المعنى إزاء رؤيتين مختلفتين للتوحيد، وهما التناول العلمي والمعرفي والتناول الإيديولوجي؟
د. الحبيب عيّاد: ثمَّة جانب أوَّل من سؤالك وهو يتعلّق بالتناول العلمي لقضيَّة التوحيد أو غيرها من القضايا، والتناول غير العلمي الذي يمكن أن نقف عليه عند الكثير من التيَّارات الدينيَّة التي تعود من المحضن السلفي، ولها تفرُّعات عديدة. والفرق الأساسيّ أنَّ ما يجمع بين أغلب التيّارات الدينيَّة في ما يتعلّق بتعاملها مع قضيَّة التوحيد هو أنَّها توظّف قضيَّة التوحيد والدّين بصفة عامَّة من أجل تحقيق غاية سياسيَّة. أمَّا التناول العلمي، فيجب ألّا يخضع للتوظيف - مهما كان ذلك التوظيف - لأنَّ المقاربة العلميَّة تسعى إلى الفهم ولا شيء غير الفهم.
3ـ تؤكّد أبحاث عديدة (يان آسمان، ...) أنَّ الأديان الإبراهيميَّة هي في بُعد من أبعادها امتداد للأديان السابقة لها (التعدّديَّة، ...)، وأنَّ التوحيد له جذور أبعد من الأديان الكتابيَّة.
د. الحبيب عيّاد: إنَّ الدراسات المعاصرة في أغلب الأحيان تستعمل مصطلح الأديان الكتابيَّة Les religions bibliques، وهو مصطلح متداول، ويعود ذلك بالأساس إلى أنَّ الظاهرة التوحيديَّة موجودة قبل الأديان الكتابيَّة التي تستند إلى كتب، وأهمُّها اليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلام. والاطلاع على ما قامت به الدراسات المعاصرة المتعلقة بغير الأديان الكتابيَّة يبيّن لنا أنَّ ظاهرة التوحيد موجودة منذ القدم في صيغ وأشكال متنوّعة.
4ـ إنَّ القارئ لكتابكم "الكلام في التوحيد" يلفت انتباهه تخصيصكم قسماً مهمَّاً من الكتاب للنظر في أهمّ المقاربات المعاصرة التي عالجت التوحيد، وفي مقدّمتها مقاربة مارسيل غوشيه، فما الذي يميّزها؟ وما الذي يمكن أنْ تقدّمه للبحوث المعاصرة؟
د. الحبيب عيّاد: نعم، لقد اعتمدت في أطروحتي "الكلام في التوحيد" مقاربة مارسيل غوشيه Marcel Gauchet في فهم ظاهرة التوحيد، لأنَّ تلك القراءة - في تقديري - تقدّم رؤية مميّزة لقضايا التوحيد، فالأهمّ بالنسبة إلى غوشيه - خاصة في ما يتعلّق بالديانة المسيحيَّة - أنَّها ساهمت في الخروج من دائرة الدّين حسب عبارته.
وقد بنى غوشيه رؤيته على القول: إنَّ الأديان التي عرفها الإنسان في العصور المتقدّمة كانت تقوم على مبدأ التقديس، وإنَّ الدّين كان ظاهرة كلّيَّة، وهو يقع في الأساس الاجتماعي كلّه، وإنَّ الخروج من ذلك التقديس وتجاوز هيمنة الدّين على المجتمع قد قامت به المسيحيَّة. وهي رؤية خاصَّة ومهمَّة قام فيها مارسيل غوشيه بقراءة مسار تطوُّر الظاهرة الدّينيَّة انطلاقاً من المجتمعات الغربيَّة، وتبعاً لخاصيّتها التاريخيَّة، فإنَّ قيمة هذه المقاربة متجاوزة للمسيحيَّة، بما أنَّها تمكّننا من فهم الظاهرة الدينيَّة بصورة عامَّة.
5ـ هل تفيد هذه المقاربة في ما يخصّ الإسلام؟
د. الحبيب عيّاد: نعم، بالطبع، فالمقارنة التاريخيَّة مفيدة جدّاً، فبالنّسبة إلى الإسلام يمكن أن نرى أنَّ مسار التطوُّر لم يكن هو نفسه قياساً إلى المسيحيَّة، فالمسيحيَّة لها ظروف خاصَّة تجعلنا نقرُّ بوجود اختلاف بين المسارين، ففي المجتمع الغربيّ كان للكنيسة مرجعيّتها السياسيَّة والدينيَّة، ولكن مع عصر النهضة وقع الفصل بين الدّيني وطرق تسيير المجتمع، وهذا لم يحدث في المجتمع العربي الإسلامي. وربَّما يفسّر هذا، إلى حدٍّ ما، ظاهرة هذه العودة المتكرّرة، في فترات ذروة تاريخيَّة، لإثارة المشكل الاجتماعيّ أو السياسيّ أو الثقافيّ في ارتباط مع الدّين أو من خلاله.
6ـ هل ترون أنَّ التوحيد الإسلاميّ حامل في ذاته لإمكانيَّة توجيهه نحو التركيز على معنى الاستبطان الفرديّ لمعنى الألوهيَّة على نحو ما وقع ذلك مع المسيحيَّة؟
د. الحبيب عيّاد: إنَّ الاستبطان الفرديّ لمعنى الألوهيَّة يدفعنا إلى الخروج من التوحيد النسقي، إلى مجال آخر هو مجال الممارسة الفرديَّة الحرَّة للإيمان وللتوحيد. بينما موضوع انشغالي الأساسيّ هو التوحيد النسقيّ الذي هو توحيد الفِرَق. فكلُّ فرقة وضعت نظاماً مخصوصاً للتوحيد وصاغت مفاهيم معيَّنة، والواضح أنَّ الصوفيَّة كانت من الفرق التي اختلفت عن البقيَّة. فالصوفيَّة في جوهرها مقاربة أخرى للدّين ولإشكاليَّات التوحيد، وهي مقاربة ذاتيَّة تجعل من الدّين تجربة. ولهذا فهي أفق من آفاق فهم الدّين والتعامل معه، وفهم التوحيد بالاستتباع. فالظاهرة الدينيَّة مهمَّة في حياة البشر، ولكنَّها تُتلقّى. ولا توجد وجهة واحدة في تلقّي الدّين والتعبير عنه. وأنا اهتممت بوجهة مخصوصة وهي الوجهة النسقيَّة الفكريَّة، ولكنَّ هذه الوجهة هي وجهة نظريَّة تهدف إلى خدمة أغراض معيَّنة لا شكَّ في هذا. ولكنَّ الواقع المعيش أو الواقع الحي لا علاقة له بصفة وثيقة بهذه المنظومات النّسقيَّة. فالتوحيد النسقي ليس هو التوحيد الذي عاشه، والذي يعيشه المسلمون اليوم، أي أنَّه ثمَّة توحيد نظري (الأنساق)، وتوحيد واقعيّ ممارس ومعيش.
7ـ ما الذي ضيَّع مفهوم التوحيد الإسلاميّ عند من كرّروا نظريَّته الكلاسيكيَّة، وعند من حوّلوه إلى أساس لتأويل جهاديّ عنيف للإسلام؟ هل السبب معرفيّ يرتبط برؤية الكون التي بقيت رؤية الثقافات الكونولوجيَّة على نحو ما بيّن بيتر برغر، ومن هذا المنظور بقي مفهوم التوحيد في قبضة نظريَّة الخلق الإسلاميَّة، وما تحيل عليه من تحكّم إلهيّ في الكون، أم أنَّ السبب عمليّ واقعيّ بمعنى أنَّ التوحيد كان ضحيَّة ضرورات مأسسة الدين اجتماعيّاً وسياسيّاً فصيغ صياغة فقهيَّة قانونيَّة، أم السبب العاملان معاً، أم عوامل أخرى؟
د. الحبيب عيّاد: أنا لا أعتبر أنَّ التوحيد ضحيَّة، فمسار مأسسة الدّين أمر طبيعيّ، ولا يمكن ردّ المسألة إلى المأسسة. فالمأسسة تتعلّق بكلّ الظواهر، بل إنَّ المأسسة هي فرض للنظام أو بحث عنه. والبحث في الدّين يجب ألَّا يؤدّي بنا إلى الوقوع في هذا الفخّ.
عندما نقول هذا هو جوهر الإسلام، وحتّى إذا كنّا منطلقين من منطلق حديث، فلا بدَّ من تجاوز تلك الرؤية. فالمأسسة أمر ضروريّ لا بدَّ منه ويدخل في طبيعة الاجتهاد، فما من دين إلّا وتمَّت مأسسته، ولكن من الناحية التاريخيَّة نرى أنَّ كلَّ دين أمامه إمكانيَّات انفتاح عديدة.
ليست التنظيرات التي وضعت للتوحيد هي جوهر الدّين. وإنَّما هي تعبيرات/ تنظيرات استجابت لتاريخ معيَّن ولمقتضيات مخصوصة ولخدمة أغراض إيديولوجيَّة. وهذا ليس بالعيب، إنَّه جزء من لعبة المجتمع. فدولة الخلافة كانت تحتاج إلى إسناد نفسها، وهذا أمر طبيعيّ.
وفي هذا الإطار ظهرت الفرق بما في ذلك المعتزلة. وأنا لا أعُلي من شأن هذه الفرقة أو غيرها من الفرق وأنظر إليها نظرة تمجيديَّة. على الرّغم من أنَّ الكثير من الدارسين يتجاوزون هذا، ويفضّلون جزءاً من التراث أو مذهباً أو فرقة. ولكن على الباحث ألَّا ينخرط في هذه النظرة، فمثلما نقرأ المعتزلة، نقرأ الخوارج، والشيعة، والأشاعرة، علينا دراستها جميعاً دون مواقف مسبّقة، ودون تحيّزات. فالمعتزلة مثلاً كانت فرقة لها أساطين وأعلام وضعوا تنظيرات وأفكار مهمَّة، ولكنَّ تلك الأفكار لم تكن خارجة عن خدمة الخلافة - وذلك ما لا يراه الكثير من الباحثين - وعندما أتحدَّث عن الخلافة أتحدَّث عن شكل الدّولة، والدّولة هي الإطار الذي ينظّم المجتمع في إطار العلاقة بين الدّولة-المجتمع والفرق.
وأحسب أنَّ هذه النظرة التاريخيَّة للمعتزلة وغيرها من الفرق هي التي تقينا من النظرة غير التاريخيَّة التي تذهب إلى تمجيد فرقة دون غيرها، أو تخفّف منها أو تبعدنا عنها.
8ـ هل ذلك ما دفعكم إلى الاهتمام بأكثر من فرقة في أطروحتكم الموسومة بـ"الكلام في التوحيد"؟
د. الحبيب عيّاد: لقد كان من أهمّ أهداف هذه القراءة الإلمام بمختلف الآراء ومعرفة خلفيَّات النظر. فالهدف الأساسي هو أن نفهم الأنساق والآراء والمذاهب. إذ ينبغي أن نفهم المعتزلة وغيرها، - والمعتزلة هي فرقة كانت في جدل مع غيرها -. الفرقة لا يمكن أن نفهمها خارج دائرة السياسة، هي انتماء مذهبي وسياسي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
إنَّ المذهب عندما يتطوَّر تخفت صلته بالسياسة والدّولة بصفة عامَّة. فانتماء المتكلمين إلى المذهب أو إلى الفرقة هو انتماء فكري أو ثقافي، هو بمعنى أخذ العلم، عندما يتحوَّل الرّأي الدّينيّ الجماعيّ من موقف ذي علاقات مختلفة، أبرزها الموقف السياسيّ، إلى مذهب تتوارى أبعاده المختلفة، خلف طابعه العلميّ أو الفكريّ، ويصبح الانتماء إليه انتماء فكريَّاً في الغالب، فالمنتمي إلى الفرقة يعمل على أخذ العلم عن شيوخ وأعلام عصره. ففي فترة من الفترات كان الانتماء إلى الفرقة هو انتماء ثقافي أو انتماء فكري. ولكن في أصل الأشياء إذا أردنا أن نفهم مفهوم الفرقة فلا مناص من الأخذ بعين الاعتبار دور السياسة في نشأة الفرق وتطوُّرها. أي أنَّ الموقف من الدّولة والسياسة هو في الأصل منشأ موقف الفرقة ونشأتها. ومن الناحية التاريخيَّة أقول كلّ فرقة تتطوَّر. وقد ترتّب على ذلك لاحقاً أنْ أصبح الانتماء إلى الفرقة لا يتطابق مع المواقف من الدّولة.
9ـ التوحيد في الأديان الكتابيَّة قام على مستويين: مستوى النصوص المقدَّسة/ التأسيسيَّة، ومستوى التنظيرات. هل لكم أنْ توضحوا المسافة الفاصلة بين المستويين، وتأثير ذلك في فهمنا للتوحيد الكتابي؟
د. الحبيب عيّاد: إنَّ الظاهرة الدينيَّة لها مستويات متعدّدة، فثمَّة مستوى طقوسي يتعلّق بالشعائر والعبادات، وهناك مستوى عقدي، وهو ما يتعلق بالأفكار والمجرَّدات. وفي مستوى العقائد يمكن الخروج من الرؤية الضيّقة التي تتمحور حول فكرة التوحيد، أي الإيمان بالإله الواحد، وهو من المشتركات عند الإنسان. وبعيداً عن التعميم، فالعرب في الجاهليَّة اعتقدوا في إله أسمى وواحد متعالٍ، وهو ما نقف عليه من منطوق النّص القرآني على خلاف ما هو شائع متداول. فالسائد أنَّ التوحيد هو ابتكار الأديان الكتابيَّة، وهي قراءة تكرَّست في مستوى الدراسات والتنظير العقائدي عند المسلمين وغيرهم، دون أن يكون لتلك القراءة سند علمي واضح. ذلك أنَّ تمحيص الأمور يدفعنا إلى الإقرار بوجود التوحيد قبل تلك الأديان. فالفكرة غير مقصورة على المسلم أو المسيحي أو اليهوديّ. ففكرة التوحيد تتجاوز الكتابيين.
أضف إلى ذلك أنَّ التوحيد إذا ما نظرنا إليه في تمحوره حول فكرة إله واحد، فإنَّه يتجاوز الدّين، فضروب التفكير الأخرى مثل الفلسفة والتصوُّف - رغم اختلاف المفاهيم - عُنيت بهذا الجانب.
10ـ وقد اهتممتم بالخطاب الصّوفي في هذا الجانب.
د. الحبيب عيّاد: نعم، فكما تعلم لا يوجد دين من الأديان يخلو من التصوُّف.
11ـ ليست قضيَّة التوحيد مميّزة للمجتمع الإسلاميّ، إنَّما هي قضيَّة كلّ المجتمعات التي تدين بالأديان التوحيديَّة، وفي هذا السياق يتحدَّث هونري كوربان عن مفارقة التوحيد، ويحتجّ روجي أرنالديز على وجود ثلاثة رسل لإله واحد، ويتحدَّث يان أسمان عن تسبّب التوحيد في إهدار التعايش الذي كان موجوداً في فترة تعدُّد الآلهة، وانطلاقاً ممَّا توصَّل إليه هؤلاء، يمكننا الحديث عن مفارقة التوحيد الإسلاميّ القائم على حدّين مرفوضين هما التشبيه والتعطيل. فما الإشكاليَّات المرتبطة بمسألة التوحيد من الوجه السابق، أي بنيويَّاً؟
د. الحبيب عيّاد: أعتقد أنَّ فهم تلك المفارقة يفرض علينا النظر إلى الأمور نظرة تاريخيَّة. فالدّين ليس فكرة وليس عقيدة. وإنَّما الدّين ينخرط في التاريخ من خلال العمل. فمن الناحية التاريخيَّة ينبغي أن نتحدَّث عن المتديّنين. فالأفكار الدينيَّة ينخرط بها أصحابها في مسارٍ تاريخي مخصوص. فالمسلمون أو اليهود أو غيرهم هم الذين مارسوا الدّين وانخرطوا في التاريخ. أنا شخصيَّاً أفهم كيف يقع الانزلاق نحو الرفض ونحو الإقصاء وحصر التوحيد في فكرة معيَّنة. فمن الناحية التاريخيَّة ومن الناحية الاجتماعيَّة يتّجه كلّ المتديّنين إلى بناء دولهم ومؤسَّساتهم وعقائدهم وأفكارهم وغير ذلك - وهو أمر طبيعي فكلُّ الناس يعيشون عصرهم وظروفهم اجتماعيَّاً وسياسيَّاً - بالانخراط في التاريخ. وفي تلك الظروف يقع الذهاب بالدّين إلى تأويلات مخصوصة. فالعقيدة يحملها البشر ويقع توظيفها باعتبار أنَّ الإنسان يحتاج إلى تبرير أفعاله.
12ـ متى تجاوزنا التنظير السنّيّ الكلاسيكيّ للتوحيد الإسلاميّ، وجدنا أنَّ التوحيد يمثّل الأساس النظريَّ الأكبر لمختلف جماعات الإسلام السياسيّ الرّاهنة، بما في ذلك الجماعات الإسلاميَّة المتطرّفة. وهو يتغذّى على خطّين تأويليّين كبيرين يتقاطعان في المصدر عند التصوُّر التيميّ للتوحيد، وفي المنتهى عند تصوُّره القطبيّ (نسبة إلى سيّد قطب)، فالخطّ الأوّل هو الخطّ الحركيّ الذي يبني على مفهوم التوحيد مفهوم الحاكميَّة بوصفه معارضاً لمفهوم السيادة في نظريَّة الدّولة الغربيَّة، وربَّما يمثّل أبو الأعلى المودودي المنظّر الأساسي لهذا التأويل. أمَّا الخطّ الثاني، فهو الخطّ السلفيّ الذي يبنى عليه مفهوم الولاء والبراء. وكلا التأويلين يتقاطع في الحركات الجهاديَّة الرَّاهنة. لو بحثنا عن أسباب التأويل العنيف للتوحيد الإسلاميّ عند هذه الجماعات في مشكلات التأويل القديم لمفهوم التوحيد، أين تكمن تلك المشكلات التأويليَّة؟
د. الحبيب عيّاد: تسيطر علينا التأويلات القديمة وتتحكَّم في مواقفنا، لأنَّ أوضاع المجتمعات الإسلاميَّة لم تتغيّر. ومن شأن الإجابة عن سؤالك أنْ يحملنا على النَّظر في الواقع العربي الإسلاميّ. فرغم ما شهده من التطوُّرات، فإنَّ هذا الواقع لم يواكب الحداثة على الوجه الأمثل، ولم يحدث التغيير المرجو في واقعنا من النواحي الاقتصاديَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة. فالمجتمعات العربيَّة ما تزال تعيش الأزمات نفسها.
نحن مازلنا نعيش في الدائرة نفسها، وهي تقوم على الاعتقاد بأنَّ ما نهض به المسلمون بالأمس يصلح لنا اليوم. فالطريقة التي بنى عليها المسلمون نهضتهم وتقدُّمهم هي ـفي نظرناـ الطريقة نفسها التي يجب علينا اتباعها، وذلك ما يجعلنا أمام قراءات غير تاريخيَّة. ومن السهل أن يتجاوز المؤمن البسيط واقعه ويعرّج بفكره إلى عصر آخر دون مراعاة المسافات الزمنيَّة الممتدَّة لأربعة عشر قرناً، فهذه العودة إلى التوحيد بقراءة معيَّنة تدفعنا إلى القول إنَّ المجتمعات العربيَّة لم تتطوَّر بطريقة تسمح لها بالإجابة عن قضاياها المعاصرة، وذلك ما مهَّد الطريق للقراءات التي تريد توظيف الأمور. وهو ما عبَّد الطريق للتيارات المتشدّدة لرفع شعارات تنادي بالعودة إلى التوحيد الصحيح. وبناء على ذلك أقول: إنَّ الفهم الواضح للمسألة يجب أنْ يكون فهماً تاريخيَّاً كي نرى كيف وقع ـويقع اليوم أيضاًـ الانزياح من العقيدة إلى التوظيف.
13ـ هل يعني ذلك أنَّ التوحيد في مفهومه الكتابي (الكتب المقدّسة) يفتح الآفاق أمام الإنسان، خاصّة الإنسان الديني، في حين تعمد القراءات والتأويلات المذهبيَّة إلى تضييق تلك الآفاق وغلقها؟
د. الحبيب عيّاد: نعم، ولكنَّ فتح الآفاق لا يرتبط بتصفية العقيدة، أو تقديم فكرة معيَّنة وتصنيف العقائد إلى صحيحة وخاطئة. فتح الآفاق بالنسبة إلى الناس يتعلّق بمعطيات أخرى أهمُّها أن يعيش الناس واقعهم وظروفهم. فنحن نعيش في إطار كوني يعلي من حقوق الإنسان. وهو وضع يعطي للإنسان حريَّات عديدة؛ منها حريَّة التفكير، وحريَّة الاعتقاد. هذه الكونيَّة الجديدة هي التي تفتح الآفاق. وبهذا المعنى لا بدَّ من مواكبة العصر اقتصاديَّاً واجتماعيَّاً وفكريَّاً. وعند تحقيق ذلك الشرط ننظر إلى الدّين نظرة منفتحة وعندها فقط سنعرف أنَّ هناك مسافة بين الفكرة الأوَّليَّة للدّين والممارسة التاريخيَّة. فالإنسان يسعى عبر الممارسة التاريخيَّة إلى غلق المنافذ وتضييق الآفاق.
14ـ في إطار التفكير في مداخل تثوير النظريَّة التوحيديَّة الإسلاميَّة، كيف تقيّمون محاولات تجديد التوحيد الإسلاميّ مع محمَّد إقبال، ومحمَّد عزيز الحبّابي، ودعوة عبد المجيد الشرفي إلى تأسيس هرمينوطيقا التوحيد، وتيَّار لاهوت التحرُّر مع حسن حنفي وفريد إسحاق مثلاً، وما يُسمّى بمدرسة علم الكلام الجديد (عبد الجبّار الرفاعي، ...)؟
د. الحبيب عيّاد: من الناحية البحثيَّة نرى أنَّ الدراسات الإسلاميَّة أو دراسات الإسلام لا تخلو من مظاهر التجديد والتطوُّر. ويمكن أن نرى التجديد في تجاوز الرؤى التقليديَّة، وذلك بتناول الظواهر الدينيَّة بنظرة نقديَّة، ولكن لا يمكن مقارنة ما هو موجود على صعيد تناول الظاهرة الدينيَّة في الإسلام - أي ما أنجزه المسلمون - بما تمَّ على صعيد دراسة الظّاهرة الدينيَّة في الغرب، هناك بون واضح. ويفسّر ذلك تقدُّم البحث العلمي عندهم.
اليوم في العالم الغربي تطوَّرت النّظرة إلى الظّاهرة الدينيَّة، ومنها الظّاهرة الإسلاميَّة، وذلك بالإفادة من العلوم الإنسانيَّة المتعدّدة مثل علم الاجتماع وعلم النفس، وذلك ما عبَّر عنه الغرب بالحديث عن علم جامع للظّاهرة الدينيَّة La religion logique[3].
لقد وصلوا إلى التفكير في علم نظير لعلم الاجتماع والأنتربولوجيا. وهو ما يعني أنَّ ثمَّة تقدُّماً في دراسة الدّين، بما في ذلك دراسة الإسلام. ونحن يجب أن نسير في هذه الطريق، إذ ينبغي علينا الإفادة من الكشوفات العلميَّة. ولكنَّ ثمَّة مشكلة بالنسبة إلينا تتمثل في دراسة المسلمين للإسلام، إنَّها دراسة متأثّرة بالظرف التاريخي والإكراهات السياسيَّة.
أعتقد أنَّه على الصعيد العلمي يجب أخذ مسافة بين تلك الإكراهات والبحث العلمي. أنا أوجّه نظري دائماً إلى مسألة دقيقة، وهي غلبة النفعيَّة خاصَّة لدى المسلمين لا سيَّما عند دراسة الظاهرة الدينيَّة. فمن شروط التقدُّم التحرُّر من شتَّى صنوف الإكراهات من جهة، ومن جهة أخرى يجب الوعي بوجود نوعين من الباحثين: فهناك فئة غير منفتحة على ما جاءت به العلوم الإنسانيَّة، وهي لا تستطيع إجلاء الأمور، فما لم نحط بالعلوم المعاصرة، فإنَّنا نظلّ نتحرَّك خارج العصر. أمَّا النوع الثاني، فهو يتمثل في أنَّ الحرص على تكريس الاتجاه النقدي يجعل الكثير من الدارسين لا يتوفّر في بحوثهم الإلمام بالعلوم الإسلاميَّة، فإذا بنا إزاء خيار التفويت في المنهج أو التفويت في المادَّة. وللخروج من ذلك لا بدَّ من التواضع، وذلك بكبح جماح التسرُّع الموجود عند الكثير من الباحثين. فلكي أكون دارساً جيّداً للفقه مثلاً يجب أن أكون عارفاً معرفة دقيقة به. وكذلك الأمر بالنسبة إلى علم الكلام أو العقيدة بصورة عامَّة، فالتخصُّص مطلوب، وأنا ألتفت إلى هذه الظاهرة.
15ـ هل غادرنا علم الكلام القديم؟
د. الحبيب عيّاد: أعتقد أنَّنا غادرنا علم الكلام القديم، فاليوم لن تكون العودة إلّا إبستمولوجيَّة، فمجتمعنا منظّم عن طريق القانون وليس عن طريق الأحكام الفقهيَّة.
فأنْ تتساءل: هل نحن نحتاج إلى تجديد علم الكلام؟ لا يختلف كثيراً عن السؤال: هل نحتاج إلى علم الفقه أو إلى أصول الفقه؟
علم الكلام ومختلف العلوم الكلاسيكيَّة القديمة تنتمي إلى حضارة أخرى، ونحن تجاوزنا ذلك، وجدوى العودة إليها يجب أن تكون إبستمولوجيَّة معرفيَّة أو لا تكون.
16ـ ولكن كيف نفسّر العودة الدائمة إلى الحديث عن ضرورة تأسيس علم كلام جديد؟
د. الحبيب عيّاد: أنا لا أرى وجاهة في الدّعوة إلى تأسيس علم كلام جديد، فنحن تجاوزنا تلك المرحلة. فالركب يسير والمجتمع بصدد التطوُّر. والتجديد مسألة طبيعيَّة تجري بطريقة تلقائيَّة، ونحن نجدّد من الداخل. ولا أرى من منطلق الاختصاص جدوى الدَّعوة إلى علم كلام جديد.
لقد تجاوزنا تلك المرحلة. نحن نحتاج إلى علم الدّين، بمعنى أن ندرس الدّين دراسة نقديَّة لا وثوقيَّة. أعتقد عندما نتحدَّث عن أيَّة مسألة من مسائل علم الكلام القديمة مثل وجود الله، فمن الضروري أن يختلف تناولنا لها اليوم عن المقاربة القديمة، فبالأمس كان الحديث عن هذه المسألة أو غيرها هو حديث الواثق، أمَّا اليوم، فالحديث يكون نقديَّاً.
[1]- نشر في الملف البحثي "التوحيـد بين الأصل الإسلامي والتأويل الجهادي: الأعلام والنُّصوص" بتاريخ 22 فبراير 2018، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، إشراف بسام الجمل، تقديم أنس الطريقي.
[2]ـ دكتور الحبيب عيّاد أستاذ جامعي تونسي، ولد بمدينة طبلبة ولاية المنستير سنة 1964، من أهم الباحثين التونسيين المعاصرين في قضايا علم الكلام وعلم الأديان المقارن، اشتغل بمجالات أخرى عديدة؛ أهمّها بنية الفكر العربي الإسلامي القديم والترجمة وتحقيق النصوص وحقوق الإنسان.
يدرّس حالياً في كليَّة الآداب والفنون والإنسانيَّات، منوبة، جامعة تونس. من أهم مؤلّفاته: "مقاصد الشريعة في كتاب الموافقات للشاطبي"، وكتاب "التوحيد في الأديان الكتابيَّة"، و"الكلام في التوحيد".
[3]- ينبّه الأستاذ الحبيب عيّاد إلى ضرورة التمييز بين: La religion logique وLogique-religieuse، وبين: La religion logique وLa science des religions