دراسة تاريخ الأديان في ضوء المنهج العلمي: قراءة في فكر أمين الخولي
فئة : مقالات
يعتبر الشيخ أمين الخولي أحد الشخصيات الفكرية التي امتزجت الثقافة الغربية بمناهجها وأدواتها بالثقافة العربية الإسلامية في فكرها، ولقد كان لهذا الامتزاج دوره الكبير في صياغة أمين الخولي لأعماله في علوم اللغة، وعلوم الدين، وفي مواقفه الفكرية المختلفة، فالثقافة الغربية قد أمدت الخولي بالأدوات، والمنهجيات، والآليات التي تساعده على فهم كافة الموضوعات اللغوية والدينية ودراستها، وقد حاول الخولي أن يدرس تاريخ الأديان في ضوء المنهج العلمي، لأنّ تجديد الفكر الديني لن يتحقق إلا من خلال قراءة الدين وعلومه وفقاً لآليات المنهج العلمي، وبعيداً عن الدراسات الدعائية.
ويمكن القول إنّ أمين الخولي يسعى في دراسة تاريخ الأديان في ضوء تطور حركة التاريخ، والمجتمع، والبيئة المحيطة، وبيان أثر ذلك في فهمنا للدين، ومدى تطور رؤية الفهم البشرى له عبر حركة الزمن، والمجتمع، وتطور البيئة، ويبدأ الخولي ببيان أهمية أثر التاريخ والزمن في حركة الدين، موضحاً أنّ الدراسات التاريخية لا تتعارض مع الدين و"القول بهذا الارتباط أوضح من أن يختلف عليه، ولكني أعرف أنّ أناساً قد يعترضون على ذلك في دروس الأديان بخاصة، إذ يتبادر إلى أذهانهم أنّ ذلك التفاعل، والتأثير المتبادل لا يتفق مع سماوية الدين الموحى به، ولكنهم في ذلك واهمون، لأنّ هذا المعنى الاجتماعي لهذه الوحدة الإنسانية المتشابكة لا يقوم على أنّ رسولاً من الرسل عليهم السلام قد قلد أو أخذ، أو نقل من غيره بعمل نفسه، فنقل من وثنية، أو اقتبس من جاهلية ما بدا له صراحة، وبهذا تواصلت الأديان وتفاعلت العقائد كلاً، بل يقوم التواصل، ويصدق بأنّ الوحي الإلهي المصدر يكشف عن حقيقة دينية واحدة قد رددت في عقيدة ما، أو فكر أديان أخرى متعددة، لأنّها صالحة على اختلاف الأزمان، وتعاقب الأديان".[1]
وتبدو الغاية من دراسة الدين في ضوء التاريخ هي إدراك أمين الخولي أهمية عامل الزمن في فهم كل الظواهر بما فيها الدين، فالتاريخ يسهم في فهم الحقائق الكونية طلباً للمعرفة، ورغبة في تفهّم الكون، ثم انتفاعاً بذلك في توجيه الحياة توجيهاً صالحاً، ورفع مستوى الرفاهية الإنسانية مهما تفاوتت الديار، واختلفت الألوان واللغات، وتباينت المشارب والعادات، ثم لكل بعد ذلك شخصيته المستقلة، وظروفه المفردة، ومؤثرات فيه مقصورة عليه، ومع هذا التمايز المتدرج فلا سبيل إلى فهم الكون إلا في صورة الوحدة الكبرى المتداخلة الأجزاء المتصلة التفاعل، ترد في الفرد أثر أسرته، ثم أثر فصيلته، وأثر جنسه، وأثر إنسانيته.[2]
ويطالب أمين الخولي بضرورة أن تعتمد عملية دراسة تاريخ الأديان على مصادر أوسع من الرواية المنقولة، والخبر المسرود، وأن تعتمد على المصادر المادية والمعنوية كما يعتمد المنهج التاريخي على المصادر الصامتة الأكثر صدقاً، وذلك حتى نستطيع في عملية التأريخ التوثيق توثيقاً علمياً دقيقاً، ويرى أمين الخولي أنّ "الدعوة إلى النقد العقلي الاجتماعي للروايات التاريخية لم تؤيد من ابن خلدون نفسه بالتطبيق، ولم تلق من أبناء عصره، ولا ممن خلفوه في الشرق آذاناً صاغية، ولكنها اليوم عند المحدثين موضع الرعاية الكبرى، والتقدير العظيم في دروس التاريخ، تسعفهم عليها وتزيد نفاذ بصرهم فيها معارفهم المتجددة النامية عن السنن الكونية، والنواميس الاجتماعية، ونظم الحياة الفردية والجماعية، والظواهر النفسية للفرد والمجتمع في تلك الحياة، فيكون نقدهم للحوادث التاريخية أدق وأهدى كلما تجرد عن الهوى، وخلص من خطر التعصب، وسلم فيه التطبيق".[3]
ودراسة تاريخ الأديان عند أمين الخولي لابد أن تخضع للقوانين العامة المتحكّمة في تسيير الحياة، وإدراك هذه القوانين لا يمكن أن يتم إلاّ بدراسة فلسفة التاريخ، لأنّ هذه الفلسفة هي التي تستطيع التعمّق في استخراج (وكشف) القوانين البعيدة الدقيقة المتحكمة في تسيير وحدة الحياة العامة، وإظهار أنّ كل حادثة مهما كان أثرها في النظرة الأولى، وبدت للسذج قليلة الخطر، فلابد لها من أثر في التعاون الإنساني، وليس المؤرخ الحقيقي إلا الذي يتكشف خلف ظواهر الأمور أسباب حدوثها، وقوانين اتجاهاتها.[4]
ولكي يستطيع التاريخ أن يقف على قدميه فلابد أن نؤسّس دراسة تاريخ الأديان في ضوء علم الاجتماع حتى نتمكن من الكشف عن السنن الاجتماعية المتحكمة في سير التاريخ، وإدراك أسبابها البعيدة، وذلك لأنّ علم الاجتماع يبحث في طبائع العمران، ويتفهم الحياة الإنسانية التي يشارك فيها الفرد غيره، كما أنّ علم الاجتماع في ملاحظة ظواهر التجمع الإنساني، وانتقالاته لا يستطيع أن يقف عند الحاضر، بل لابد من متابعة الماضي، واستيضاح تقلباته التي انتهت إلى الحاضر المشهود، وتلك في الاجتماع مهمّة تاريخية، والتاريخ حين يحاول تفسير أحداث الماضي، والانتهاء إلى صحيح أسبابها، والفاعل من عللها، لا سبيل له في ذلك إلا بالاستنارة بما يقرره علم الاجتماع من صور الحياة وقتية ًكانت أو مطردةً مما يوجه به التاريخ، وبه يمكن تفسيره[5] ومن ثم فقد صار الدرس الصحيح لتاريخ الأديان هو ما يقوم على الوصل بين التاريخ والاجتماع، ويسعى إلى وضع الحوادث المفردة، والأخبار المتفرقة المتناثرة أمام الدارسين متفتحة الروابط، مستبين فيها أثر النواميس العامة، والمتحكمة في تسيير آلة الحياة الاجتماعية الكبيرة.[6]
وإذا كان أمين الخولي يطالب بضرورة المزج بين التاريخ والاجتماع في دراسة تاريخ الأديان فإنّ هذا يتحقق عنده من خلال توظيف الداروينية الاجتماعية فهو يعتبر "أنّ ناموس التدرج والترقي في الكائنات جميعاً المادي منها والمعنوي على السواء مهم لدراسة التاريخ، فدارس التاريخ يطبق هذا الناموس على جميع صور الحياة الإنسانية، ومظاهرها، وأعمال الأفراد، وأعمال الأمم جميعاً، حتى الأمور الاعتقادية يطرد جريانها على هذا النظام، ولا محل لإنكار أنّ مظاهر الحياة الإنسانية المختلفة تخضع لهذا الناموس التدريجي دائماً، فتبدأ من أصل بسيط ساذج، يتدرج، وينافس في سبيل الظفر بالحياة، فيبقى منه الصالح لها، ويستبعد غير الصالح، ثم يرتقى هذا الصالح، ويكتمل شيئاً فشيئاً حتى يعود مركبًا، بل معقد التركيب بعدما كان بسيطاً ساذجاً يسير الشأن[7] ولأنّ المعنى في التدرج والترقي قد تقرر اليوم، وتأصل حتى لم يعد الباحث يقبل ظهور شيء معنوي من فكر أو عقيدة، أو نحو ذلك كاملة الوجود دفعة واحدة، أو مخلوقة خلقاً مستقلاً لأصل لا يمت بصلة إلى ما حوله، وما سبقه مما يماثله في الكون، فإنّ هذا الوجود الفجائي الكامل، وذلك الاستقلال لم يتهيأ لفن، ولا أدب، ولا علم، ولا حضارة، ولا دولة، ولا دين كذلك.[8]
ولأن أمين الخولي كان ينادى بتطبيق المنهج التطوري على دراسة تاريخ الأديان في مقرّر دراسي بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر عام 1935، فقد وجدناه حريصاً على تبرير رؤيته للطلاب من وجهة نظر إسلامية، فيذهب إلى أنّ القول بتدرج الدين والمعتقد قد يبدو لأول عهد الأذن به مقلقاً نابياً، أو يخشاه المتدين، أو ينفيه المتشدد، ولكن الأمر ليس من ذلك في شيء فتدرج الدين في الحياة الإنسانية، وترقيه في أمة عن أمة ظاهرة يقررها الإسلام، وبها نعلل كيف صار هو آخر الأديان، وكيف كان ما قبله مهيّئًا له حتى بلغت الإنسانية مرتبة صح معها أن تلقى إليها أصول عامة خالدة لا تحتاج مع الزمن إلى تغيير في الأساس[9] ويرى الخولي أنّ سُنّة التدرج والترقّي موجودة في الإسلام في نزول القرآن الكريم مطابقاً لحاجات الحياة المتجددة، والمناسبة الواقعية، وذلك يبدو جلياً في الأخذ التدريجي للناس في الاعتقاد، والتشريع العملي، ثم هناك مظهر آخر لهذا التدرج هو مظهر فهم الناس للعقيدة الدينية، ومرور هذه العقيدة في أدوار انتقالية مترتب بعضها على بعض، وتنتهي به العقيدة إلى مركب بعد بساطة، وتعقد بعد سهولة بفعل تدرج الحياة، وانتقالها من البداوة المحضة إلى الحضارة.[10]
وأعطى أمين الخولي أهمية بالغة لدور البيئة في دراسة تاريخ الأديان فيرى أنّه لابد أن تتوافق العقيدة مع البيئة الطبيعية وتماثلها فلا تكون عناداً لها، ولا خروجاً عليها، وكذلك لابدّ أن تتوافق العقيدة مع البيئة المعنوية، وتجاريها فلا تكون مضادّة لها، ولا نابية من استعدادها ومقدرتها، ولو لم يتحقق ذلك في العقيدة لكان ظهورها في البيئة المخالفة لها سبب موتها العاجل، وفنائها السريع، بل لو لم يتحقق ذلك بين البيئة والعقيدة لما ظهرت العقيدة المخالفة للبيئة فيها مطلقاً، ولا فرق في ذلك بين عقيدة سماوية موحى بها، وعقيدة وثنية صنعت أو حرّف بها أصل سماوي.[11]
ويبدو اعتبار دور البيئة واضحاً عند الخولي في تصوّره المنهج التفسيري الأدبي للقرآن، فهذا التفسير عند الخولي ينقسم إلى شقين، الأول هو دراسة حول القرآن وفيه يوضّح أثر البيئة المعنوية والمادية في تفسير القرآن، والثاني هو دراسة القرآن نفسه وفيه يكشف عن التأثير النفسي والبلاغي للقرآن في الإنسان المتلقي، وما يهمنا هنا هو بيانه للشقّ الأول، والذي يدعم كلام الخولي عن أهمية البيئة في فهم الأديان، فيرى أنّ الدراسة حول القرآن "تتصل بالبيئة المادية والمعنوية التي ظهر فيها القرآن وعاش، وفيها جمع وكتب، وقرئ وحفظ، وخاطب أهلها أول ما خاطب، وإليهم ألقى رسالته لينهضوا بإذنها، وإبلاغها شعوب الدنيا، فروح القرآن عربية، ومزاجه عربي، وأسلوبه عربي، وقرآنا عربياً غير ذي عوج … والنفاذ إلى مقاصده إنما يقوم على التمثل الكامل، والاستشفاف التام لهذه الروح العربية، وذلك المزاج العربي، والذوق العربي، ومن هنا لزمت المعرفة الكاملة لهذه البيئة العربية أرضها بجبالها، وحررها وصحاريها …إلخ فكل ما يتصل بتلك الحياة المادية العربية وسائل ضرورية لفهم هذا القرآن العربي المبين"[12] وكذلك فمن الضروري دراسة البيئة المعنوية بكل ما تتسع له هذه الكلمة من ماض سحيق، وتاريخ معروف، ونظام أسرة أو قبيلة، وحكومة في أية درجة كانت، وعقيدة بأي لون تلوّنت، وفنون مهما تتنوع، وأعمال مهما تختلف وتتشعب فكل ما تقوم به الحياة الإنسانية لهذه العروبة رسائل ضرورية كذلك لفهم القرآن العربي المبين… ولن يدرس القرآن درساً أدبياً صادقاً يفي بحاجات المتعرض لتفسيره إلا بعد أن تستكمل وسائط تلك المعرفة للبيئة العربية مادية ومعنوية.[13]
ومن الواضح أنّ أمين الخولي قد نقل أثر البيئة من الأدب، فحين تكلم عن الأدب المصري تحدث عن علاقة الكائن ببيئته، وأثر تلك البيئة بنوعيها من طبيعية واجتماعية في الحي الذي يعيش فيها ويختص بها، وأثر البيئة قضية يقررها العلم التجريبي واثقاً حينما يرصد الفوارق الفاصلة بين البيئات، ويدرك أنّ مصر تميزت من ذلك بميزات واضحة الفصل، قوية التأثير في التحديد والتمييز من بحار وصحار، وبمقومات خاصة جعلت هذه البلاد وحدة مادية بارزة المعالم، جلية الخصائص، ماثلة الفوارق.[14]
ونتيجة لكون أمين الخولي مؤسّسًا للمنهج العلمي في دراسة الأديان في بيئة أزهرية محافظة، فإنّنا نجده يحاول دائماً أن يقدم تبريرات لما يقوله، ويذهب إلى أنّ مسألة بيان أثر البيئة في العقيدة لا تسلم من الاعتراض بدعوى أنّ الرسول جاء في بيئة كانت تناحر الإسلام، ويرى أنّ هذا الاعتراض لا تؤيده الدقة، فإنّ تطبيق البيئة على الدين ليس معناه الأول والأخير أنّ العقيدة وحي البيئة، كلا بل معناه أن تجيء العقيدة بما تستعد البيئة لتلقيه، أي أن يهيئ الله أسباب ظهور الدين، ويبعث به إلى البيئة المستعدة للذود عنه، وهكذا يلائم الدين البيئة، ولا يكون متأخراً عن بيئته فترفضه أو تنفيه، ولا بعيداً عن متناولها حتى يتيسّر لها تمثله والاطمئنان إليه… ومثل ذلك لا اعتراض لتدين عليه.[15]
ولا شك أنّ إخضاع أمين الخولي البحث في تاريخ الأديان للمنهج العلمي، إنّما يكشف لنا وبوضوح عن إعطاء أمين الخولي الأولوية للعقل على النقل، ورؤية للمطلق في إطار حركة الزمن، وإدراك للدين في إطار حركة الحياة، وهى رؤية علمية عقلانية موضوعية تكشف أثر الزمن، والبيئة، والمجتمع في تطور حركة العقائد ولهذا يصل الخولي إلى نتيجة مؤداها: أنّ تاريخ الأديان يخضع لما يخضع له تاريخ الحياة الإنسانية على اختلاف مناحيها المادية والمعنوية دون خروج على نواميس الاجتماع المقررة أو إخلال بأصول البحث العلمي النزيه الحرّ، ودون اعتداء على قدسيّة الدين وسماويته.[16]
والواقع أنّ دراسة أمين الخولي لتاريخ الأديان في ضوء المنهج العلمي تعكس لنا روح التسامح في قبول المؤثّرات الثقافية والاجتماعية والتاريخية، وبيان دورها وأثرها على حركة المعتقد الديني في الزمان، وهو ما يعنى قبول الآخر وتأثيره فينا، ولكن المفارقة الغريبة أنّنا نجد شخصيّة المنظّر الفكري للحركات الإسلامية، وهو الشيخ سيد قطب (1900- 1965) والمعاصر للشيخ أمين الخولي ينادي بعكس ذلك تماماً حيث يقول "إنّنا حين نريد من الإسلام أن يجعل من نفسه (نظرية) للدراسة نخرج به عن طبيعة منهج التكوين الرباني كذلك، وحين نخضع الإسلام لمناهج التفكير البشرية، كأنّما المنهج الرباني أدنى من المناهج البشرية، وكأنّما نريد لنرتقي بمنهج الله في التصور والحركة ليوازي مناهج العبيد".[17]
ومن جانب آخر، يتجاهل سيد قطب حركة الإسلام في التاريخ، ومدى تنوع هذه الحركة، وتعدد مساراتها على كافة المستويات من خلال احتواء الإسلام للعناصر غير الإسلامية، والأصول الثقافية للفرس، والروم، والهنود، ويطالبنا سيد قطب بالعودة إلى القرآن وحده فيقول "إنّ الجيل القرآني – في فترة الرسول والصحابة – استقى وجوده من النبع وحده – القرآن – فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد … ثم ما الذي حدث؟، اختلطت الينابيع، وصبت في النبع الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم، وأساطير الفرس وتصوراتهم، إسرائيليات اليهود، ولاهوت النصارى وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات، واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم، وعلم الكلام، كما اختلط بالفقه وبالأصول، وخرجت عن ذلك النبع المنشود".[18]
ولا ندري هل كان سيد قطب يريد للإسلام أن يعيش في حدود صحراء الجزيرة العرب حتى يظل النبع صافياً؟ إنّ الإسلام بوصفه دينًا عالميًّا نزل لكافة الناس كان لابد له أن ينفتح على كافة ثقافات الأرض، يتأثر بها ويؤثّر فيها، وبذلك فقط نشأ تراث الإسلام التاريخي والحضاري في كافة المجالات، ولكن سيد قطب يأتي في القرن العشرين ليدين هذا التراث، فيرى أنّ الفلسفة الإسلامية نشاز كامل في لحن العقيدة الإسلامية المتناسق، إذ نشأ من هذه المحاولات الفلسفية تخليط كثير شاب التصور الإسلامي، وصغّر مساحته، وأصابه بالسطحية، وذلك مع التعقيد، والجفاف، والتخليط، مما جعل الفلسفة الإسلامية ومنها مباحث علم الكلام غريبة غربة كاملة على الإسلام، وطبيعته، وحقيقته ومنهجه[19] وهنا يبدو واضحاً مدى تجاهل سيد قطب لدور علم الكلام التاريخي في الحفاظ على العقيدة الإسلامية ضد محاولات المانوية … وغيرها من الملل.
وإذا كان سيد قطب يدين تركة الإسلام التاريخي والحضاري فإنّه يرفض رفضاً مطلقاً النقل عن الغرب في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية بدعوى أنّها وثنية، وبذلك فإنّ سيد قطب يرسى دعائم رؤية رومانسية للإسلام تحاول أن تراه في فراغ مطلق، كما أنّ هذه الرؤية تؤكد استبعاد الآخر ونفيه، بل وتكفيره أحياناً كثيرة، ولا شك أنّ هذه الرؤية هي التي تبنّتها حركات العنف في الإسلام السياسي، والتي أساءت كثيراً إلى صورة الإسلام في العالم.
ونحن لا يمكن أن نتفق مع رؤية سيد قطب للإسلام النقي الخالص وذلك "لأنّ الدين في هذه الحياة لا مفرّ له من التفاعل والتبادل مع ما سواه من فهم وتنظيم لتلك الحياة، وأنّه لن يكتب لهذا الدين البقاء إلا على قدر ما فيه من قدرة على هذه المسايرة والمفاعلة، والاستفادة، والانتفاع بما سواه من التفسيرات والتدبيرات الأخرى؛[20] فالإسلام دين عام للإنسانية كلها في صريح دعوته، ودين خالد باق ما بقيت البشرية على الأرض، ومثل هذا العموم الشامل لا يمكن أن يتحقق إلا بوعي يقظ لما تحتاجه البيئات الإنسانية المختلفة باختلاف الأنحاء، والأهواء، ويجعل التعاقد والأعمال، وكافة الأسس الدينية في الوقت الواحد مرنة مرونة تتسع للألوان المختلفة، والأجواء المختلفة.[21]
ولهذا، فإنّنا نتفق مع الرؤية العقلية المنهجية للأديان عند أمين الخولي، والتي ترى الإسلام في إطار حركة الزمن، والتاريخ، والبيئة، والمجتمع، حيث نجده يقول في مقدّمة بحثه عن (تاريخ العقيدة الإسلامية بحث تاريخي اجتماعي ديني) إنّ هذا البحث مستحدث يراد به تاريخ العقيدة الإسلامية، ومكانها من الأديان السماوية، وماذا كان حال الناس حين دعوا إليها، وكيف تدرج بها التنزيل، وإلى أين امتد بها التأويل، وما مدى هذا الخلاف، وبما تأثر، وفيما تأثر، وما كان من ذلك سياسياً، وما كان منه اعتقادياً، مع تاريخ ما كان للعقائد من علم يدرس، وكُتُب صُنِّفت، إلى الإلمام بحديث التصوف والصوفية، وما لهم من طرائق ومذاهب، وأصل ذلك، ومنزلته من العقيدة الإسلامية، ومبلغ ما تأثرت به الحياة الإسلامية من ذلك قديماً وحديثاً إلى ذلك العهد الحاضر، والزمن الشاهد، تاريخاً نتناول بعده دراسة العقيدة على بصيرة وجلاء.[22]
ولاشك أنّ الرؤية العلمية العقلانية للإسلام تتسم بالتسامح وقبول الآخر، وهذا ما يحتاجه المسلمون الآن في ظل الظروف التاريخية التي نعيشها الآن، وذلك حتى يمكن أن نتعايش مع الآخر في أجواء من التسامح، وذلك لأنّ الرؤية العلمية ترى أنّ الإسلام شأنه شأن سائر الأديان ليس شيئاً مجرّداً حتى يمكن عزله عن الظواهر والنتائج التي يبدو بواسطتها، والتي تختلف باختلاف أدوار تطوره التاريخي ومداه الجغرافي، والطابع الجنسي لأتباعه".[23]
والواضح أنّ الرؤية العلمية للأديان لم تقتصر فقط على طرح أمين الخولي، بل كانت موجودة عند معظم رواد التنوير، ولعل أفضل تجسيد لها كان في موسوعة أحمد أمين (1886-1954) عن الإسلام (الفجر / الضحى / الظهر) ولا يمكن أن نعرض لرؤية أحمد أمين دون الوعي بأنّ أصول الإسلام الثابتة (القرآن / السُنّة) تقبل القراءات المتعدّدة، وهذه القراءات مرتبطة بظروف الزمان، والمكان، والمجتمع، وهذا ما وعاه علماء الإسلام في عصور الازدهار، فقد كان الإمام علي بن أبي طالب على وعي بالوجوه المتعددة لقراءة القرآن، حيث كانت وصيته لعبد الله بن عباس حين بعثه للاحتجاج على الخوارج بأنّه "لا تخاصمهم بالقرآن فإنّ القرآن حمّال أوجه"،[24] والدليل على ذلك أنّ كلّ المذاهب العقائدية، والفقهية المختلفة تؤكد أنّ مصادرها الأساسية من الكتاب والسُنّة. وهنا تظل المشكلة الكبرى في البشر الذين يفسّرون القرآن وفقاً لمنطلقاتهم الفكرية والأيديولوجية، ولهذا فإنّ تفسيرات القرآن إما أن تكون تقدميةً تسهم في تقدم المسلمين، أو رجعيةً جامدةً تسهم في جمود المسلمين وتأخرهم، وهذا ما أكده الإمام علي حين قال "القرآن خط مسطور بين الدفتين لا ينطق بلسان، ولابدّ له من ترجمان، وإنّما ينطق عنه الرجال".[25]
ولأنّ الرجال القائمين على تفسير القرآن محكومون بظروف الزمن والبيئة والمجتمع؛ فقد تعددت أوجه رؤية الإسلام في المجالات المختلفة من علم العقائد، والفقه وأصوله … وكافة علوم الدين. فقد أدّى أتساع رقعة العالم الإسلامي بعد الفتح إلى تعدّد المذاهب العقائدية، والفقهية، وحاولت الأمم التي دخلت الإسلام أن تدخل تاريخها الثقافي والحضاري معها في تصورها للإسلام، ولهذا يقول أحمد أمين "إنّ كثيرًا من الشعوب المختلفة ذوات التاريخ دخلت الإسلام، وأخذوا يدخلون تاريخ أممهم ويبثّونه بين المسلمين"[26]، وقد أدى هذا إلى تعدد المذاهب العقائدية نتيجة للخلاف السياسي حول الإمامة ابتداءً من فترة الخلاف بين علي ومعاوية، ولهذا لم تصبح صورة العقيدة الإسلامية واحدة كما كانت في عهد الرسول، ولكن تفرّق المسلمون إلى خوارج، وشيعة، وسنة، ومعتزلة، وأشاعرة … إلخ. ويعلق أحمد أمين على مسألة الفرق والمذاهب الإسلامية حول العقيدة فيقول "إنّ ذلك كان ككلّ شيء في عالمنا ليس خيراً صرفاً، ولا شراً صرفاً، وإنّ هذا التفرق كان نتيجة طبيعية لاتساع رقعة البلاد الإسلامية، وتكوّنها من عناصر مختلفة في الجنس، وفى العقليات، وفى الديانات الموروثة، فكان محالاً بعد دخول هذه الطوائف المختلفة في الإسلام أن يظل الإسلام في صراحته الأولى وسهولته وبساطته، وكان لابد أن تمزجه بعقلياتها، ودياناتها، وأغراضها، وكان ضرورياً للدين أن يتفلسف، لأنّ هذا طور طبيعي من أطوار الدين … وكان من مزايا هذا الاختلاف ما يبدو عليه من حرية في الفكر، وحرية في سياسة الدولة التي احتوت كل هذه الآراء والمذاهب حتى المتطرفة منها، ولم يصل إلينا من الاضطهادات إلا القدر القليل بالنسبة لتشعب هذه الآراء والأفكار، وكانت هذه الاضطهادات سياسيةً أكثر منها دينيةً".[27]
وقد تعددت المذاهب الفقهية نتيجة لاختلاف الأحكام في كل بيئة اجتماعية عن أخرى، فظهرت المذاهب الأربعة، ومذهب ابن حزم … إلخ من المذاهب، ويمكن تفسير التعدد في المذاهب الفقهية بأنّ المملكة الإسلامية أصبحت في صدر الدولة العباسية بعيدة الأطراف، تضمّ بين جوانبها أممًا مختلفة، فلكل أمّة عادات اجتماعية، وعادات قانونية، وطرق في المعاملات، ولكل أمّة دين له تقاليده، فلما دخلت هذه الأمم في الإسلام، واستقرت الأمور في العهد العباسي، وصبغت الأمور كلّها صبغة دينية، وتفرّق الأئمة فعرضت أمور العراق على أبي حنيفة وأمثاله، وفيها العادات الفارسية، والعادات النبطية وغيرها، وعرضت أمور الشام على الأوزاعي وأضرابه، وفيها العادات الرومانية وغيرها، وفيها نظم القضاء الروماني، وما كان يجرى في المعاملات، وعرضت أمور مصر على الليث بن سعد والشافعي وأقرانهما، وفيها العادات المصرية والرومانية كذلك، فكان عمل هؤلاء الأئمة "تسليم هذه العوائد والتقاليد أعني النظر إليها بالقواعد العامة للإسلام، وإقرار بعضها، وإنكار بعضها، وتعديل بعضها"[28]، ومن هنا نلاحظ مدى دور البيئة، والمجتمع، والزمن في تعدّد المذاهب الفقهية.
ومن ناحية أخرى، فإنّنا في دراسة التصوف الإسلامي لا يمكن أن ننكر الجوانب الهندية، والفارسية والمسيحية في التراث الصوفي في الحضارة الإسلامية، وكذلك تبدو الأصول الأجنبية واضحة في جهود فلاسفة الإسلام أمثال الفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وتتضح هذه الأصول أيضاً في تأثر علم الكلام بالفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني.
ومما سبق يمكن القول إنّ الإسلام بوصفه دينًا لم يكن ليعيش بمعزل عن أثر الثقافة، والبيئة، والزمن، والتاريخ. فلقد تفاعل الإسلام بعد عهد الخلافة الراشدة مع حركة الواقع، وتواءم مع طبيعة كل بيئة ويمكن القول "أنّ الإسلام في كل هذه الميادين قد أكّد استعداده وقدرته على امتصاص هذه الآراء، وتمثلها، كما أكد قدرته كذلك على صهر تلك العناصر الأجنبية كلها في بوتقة واحدة، فأصبحت لا تبدو على حقيقتها إلا إذا حللت تحليلاً عميقاً".[29]
وفى النهاية يمكن القول إنّ مفكّري عصر التنوير العربي - أمثال أمين الخولي، وأحمد أمين وغيرهما – قد أرسوا قواعد للمنهج العلمي في دراسة الأديان، ولا شك أنّ دراساتهم عن الدين في ضوء المنهج العلمي تقر إلى حد كبير روح التسامح، وقبول الآخر، والتعايش معه، ولكن المشكلة الكبرى أنّ الثقافة العربية بعد مرحلة عصر التنوير قد انتصرت لاتجاه سيد قطب الرومانسي الدعائي في دراسة الأديان، ذلك الاتجاه الذي ينفي الآخر، ويستبعده، بل ويدينه ويكفّره أيضاً، وهنا نجد بعض التساؤلات تطرح نفسها وهي: لماذا انتصرت الثقافة العربية لاتجاه سيد قطب؟ وما هي الأسباب التي أدت إلى اعتناق الجماعات الإسلامية لهذا الاتجاه؟ ولماذا تراجعت عقلانية عصر التنوير؟! ولماذا وصلنا إلى ما نحن فيه؟! وما هي الأسباب المسؤولة عن إخفاق مشروع التنوير العربي؟!
إنّنا في حاجة إلى إعادة توجيه مسار الثقافة العربية إلى اتجاه العقلانية والبحث العلمي، وذلك في ظروف يعيش فيها الإسلام والمسلمون تحت حصار المدّ الإعلامي الغربي، وتشويه صورة الإسلام في العالم. إنّ الدراسة العلمية العقلانية التي تتسم بالتسامح هي وحدها الكفيلة بإخراجنا مما نحن فيه، ولهذا فمن الضروري إحياء العقلانية العلمية في ثقافتنا.
[1] أمين الخولي، تاريخ الملل والنحل، مطبعة العلوم بلاظوغلى / القاهرة، 1935، جـ1، ص 48
[2] المرجع نفسه، جـ1، ص 45
[3] المرجع نفسه، جـ1، ص 32
[4] المرجع نفسه، جـ1، ص 43
[5] المرجع نفسه، جـ1، ص 39
[6] المرجع نفسه، جـ1، ص 42
[7] المرجع نفسه، جـ1، ص ص 51-52
[8] المرجع نفسه، جـ1، ص 52
[9] المرجع نفسه، جـ1، ص 53
[10] المرجع نفسه، جـ1، ص 53
[11] المرجع نفسه، جـ1، ص 55
[12] أمين الخولي، دراسات إسلامية، دار الكتب المصرية، 1996، ص 42
[13] المرجع نفسه، ص 42
[14] كامل سعفان، أمين الخولي، ص 44
[15] أمين الخولي، تاريخ الملل والنحل، جـ1، ص ص 57 - 59
[16] المرجع نفسه، جـ1، ص 60
[17] سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق / القاهرة، ط15، 1992، ص 173
[18] المرجع نفسه، ص 17
[19] سيد قطب، خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، دار الشروق / القاهرة، 1983، ص 11
[20] كامل سعفان، أمين الخولي، ص 95
[21] المرجع نفسه، ص 99
[22] المرجع نفسه، 70
[23] أجناس جولدتسيهر، في العقيدة والشريعة، ترجمة محمد يوسف موسى، دار الكتاب المصري، 1946، ص 21
[24] الشريف الراضي، نهج البلاغة … مجموع خطب الإمام على، شرح الإمام محمد عبده، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2004، جـ3 / 13
[25] المرجع نفسه، جـ2، ص 5
[26] أحمد أمين، فجر الإسلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997، ص 157
[27] أحمد أمين، ضحى الإسلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999، جـ3، ص 351
[28] أحمد أمين، ضحى الإسلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998، جـ2، ص 164
[29] جولدتسيهر، المرجع السابق، ص 5