حوار مع حسن حنفي: "اليسار الإسلامي" يجمع شرعية التراث وشرعية الثورة
فئة : حوارات
يعد د. حسن حنفي من أبرز المشتغلين في الفكر العربي والفلسفة المعاصرة، كما يتميز بألمعية بحثية، وتفرد في معاينة الظواهر قلّ نظيرهما.
ولد حنفي في القاهرة العام 1935، وفيها نشأ وتعلم وحصل على البكالوريوس العام 1956، ثم سافر إلى فرنسا، فنال درجة الدكتوراة من جامعة باريس (السوربون) العام 1966، وعاد ليعمل بقسم الفلسفة بآداب القاهرة، حتى وصل إلى درجة أستاذ متفرغ. وعلاوة على إتقانه أصول اللغة العربية، فإنه يجيد الإنكليزية والفرنسية والألمانية، وهو ما مكَّنه من العمل كأستاذ زائر فى عدد من الجامعات بالعالم، منها: جامعة تمبل (فيلادلفيا) 1971- 1975، جامعة فاس (المغرب) 1982- 1984، جامعة طوكيو (اليابان) 1984- 1985 كما عمل مستشاراً علمياً لجامعة الأمم المتحدة في طوكيو (1985- 1987).
وكنتُ التقيتُ حنفي في عمان على هامش مؤتمر فلسفي، واحتسينا القهوة، وسألته عن عدد من القضايا الفلسفية والفكرية التي أجاب عنها بطريقة تعكس عقلاً متقداً، وبصيرة مشعة، وذاكرة حافظة صافية.
قلت له: إنك ذكرت غيرَ مرة بأن العرب مسكونون في حضارة النص، وأن عليهم الانتقال من هذه المنطقة، وشد الرحال نحو الفعل. فما السبيل في نظرك إلى تحقيق هذه الغاية؟
رد حنفي قائلاً: من الأفكار الشائعة عندنا وعند الآخرين، أن الحضارة العربية بدأت بنص وانتهت بنص، ولايعني ذلك النص القرآني؛ فقد كان الشعر العربي نصاً، وكذلك الأمثال العربية، ثم أصبح التراث يقوم بالدور نفسه، حتى أصبح العقل العربي لا يستطيع التعامل مع الواقع إلا من خلال نص يؤوّله. وإذا تحدثنا عن الحداثة، التجأنا إلى دريدا أو فوكو، فكيف أستطيع أن أخرج من النص وأواجه الطبيعة، وأنتج نصاً جديداً من دون أن أنتظر تأويل نص آخر؟ ويحضرني، يتابع حنفي، في هذا السياق قول الشاعر محمود درويش: "واحتمى أبي بالنصوص فدخل اللصوص".
سألته، ولكن هذه الالتجاءات التي تحدثت عنها، ألا تعبر عن واقع ثقافة عربية ذات سمات فسيفسائية وآيلة إلى مزيد من التشرذم؟
ردّ حنفي مؤكداً: إن الثقافة العربية هي ثقافة التوحيد بين الشعوب والقبائل والمذاهب مع إبقاء هامش للتعددية، لكنّ التوحيد في تعددية القيم يقوم على قدرة الإنسان على معرفة الحسن بإرادته، وألا فرق بين عربي وآخر إلا بالتقوى.
ولكننا نشاهد الآن أحوال الأمة العربية بعدما تناهشتها، مطلع القرن الماضي، أطماعُ الدول الاستعمارية؛ فنشأت لدينا الدول القطرية التي عملت كل واحدة منها على إنشاء الدولة المستقلة التي حاول بعضها الانخراط في تجربة الوحدة، لكنها أخفقت كما جرى بين مصر وسوريا (1958- 1962)، وانتهى كذلك المشروع الناصري في أعقاب هزيمة حزيران (يونيو) 1967.
يعتقد حنفي أن ما نواجهه الآن هو بمثابة هجمة ضارية، لتقطيع أوصال الدولة الوطنية التي تريد الوقوف أمام أشكال الهيمنة الجديدة، وتجزئتها إلى فسيفساء عرقية وطائفية، فنرى في المغرب صراعاً بين العرب والبربر، وفي مصر بين المسلمين والأقباط، وفي العراق بين السنة والشيعة والأكراد، وفي الخليج بين نجديين وحجازيين وحضرموتيين، وفي اليمن بين زيديين وشوافع، وفي السودان بين عرب وأفارقة. كل ذلك من أجل أن تصبح إسرائيل أكبر دولة عرقية في المنطقة، وتكتسب شرعية جديدة بدلاً من شرعية (هيرتزل) في القرن الثامن عشر التي تقوم على أسطورة (أرض الميعاد) التي لم يعد يصدقها أحد. وستحاول أميركا على مدى العقدين القادمين إجهاض محاولة أية دولة وطنية للاستقلال، مثل ماليزيا أو إيران أو تركيا، حتى لا تكون قطباً ثانياً في مواجهة القطب الأول، وحتى لا ينشأ تجمع عربي إسلامي، وهي ستقترب من الصين لتحاصرها من جنوبها، ليستمر العالم ذو القطب الواحد مسيطراً.
وفي تعليقي على ما قال، ذكرت له بأن أي تحول في أي مجتمع يحتاج إلى روافع من بينها الحرية والعدالة والديمقراطية، ولعل الأخيرة أن تكون في العالم العربي حلماً يوتوبياً في غمرة طغيان الاستبداد. فهل المطلوب تفكيك بنية الوعي أم بنية التفكير أم كليهما؟
حنفي عاين المعضلة من زاوية مختلفة، موضحاً: لقد حاولنا أن ندافع عن حرية الفرد وديمقراطية الحكم، ولكننا لم نفكر سلباً؛ أي نزع جذور التسلط والاستبداد من الموروث الثقافي والوعي الفكري، فبنينا من دون أن نهدم، وأقمنا صروحاً من دون أن نؤسس، فانهار الصرح الليبرالي الذي بنته مصر في النصف الأول من القرن العشرين، ولما انهار المشروع البديل في النصف الثاني، عادت المحافظة التاريخية من أقبية الماضي، وعادت جذور التسلط المقيمة في الإمامة في قريش، وهو ما جعل دور العقل تبريرَ المعطيات سلفاً، كما استمر التصور الهرمي للعالم وترتيبه بين قمة وقاعدة، وكذلك التصور الرأسي للعالم الذي يجعل العلاقة بين طرفيه علاقة بين أعلى وأدنى، وليس بين أمام وخلف كما في التصور الأفقي.
ويؤكد حنفي أننا ما نزال نعيش في عصر الثقافة الأبوية، بحسب هشام شرابي، وثقافة السي السيد على حد تعبير نجيب محفوظ.
ومنذ ألف عام سادت ثقافة التسلط، منذ أن قضى الغزالي على العلوم العقلية، وكفّر المعارضة الباطنية والخارجية والاعتزالية، وأخذ السلطة بالشوكة متجاوزاً الشورى والبيعة، وأعطى الحاكم أيديولوجية السلطة في الاعتقاد: يسمع، ويبصر، ويرى كل شيء، مثل الله.
الغزالي، فضلاً عن ذلك، أعطى الناس ثقافة الطاعة في إحياء علوم الدين والصبر والتوكل والورع والرضى والخشية والخوف، واستمر ذلك في العصر المملوكي العثماني. ولم تستطع حركات الإصلاح تجاوز ثقافة السلطة، لأنها أولعت بالنمط الغربي في الثورة الفرنسية وبالملكية الدستورية وبالبرلمان. وأتت الثورات العربية منتصف القرن العشرين بقيادة الضباط الأحرار، وليس المفكرين الأحرار.
وعلى الرغم من كل شيء، فإن حنفي يعتقد أننا على أعتاب نهضة عربية ثانية تضع العربة أمام الحصان، وتبدأ من حرية الفرد وديمقراطية الحكم، وتنزع بذور القهر من الثقافة الموروثة، حتى نبني مجتمعات ليبرالية أو اشتراكية أو أي شيء آخر، لا يهم البناء بقدر ما يهم التأسيس.
ولكن، يا سيدي، هذه النهضة – الحلم، التي تتحدث عنها ما مقوماتها، وما القوى التي ستحمل بيارقها؟
يرد حنفي: مقوماتها التعلم من فجر النهضة العربية في فترتي الليبرالية والقومية، بعد أن سُلب العرب وانهارت مشاريعهم، وأحسوا بالعجز والإحباط والضياع، وهذا في مجمله يشكل بداية مخاض قريب قادم بعد أن نصل إلى نهاية القاع. ينقصنا، كعالم عربي، القشة التي تقصم ظهر البعير. بعدها قد تتحرك الشعوب، وتحدث الهبّات من المحيط إلى الخليج.
وفي غمرة هذه التحولات والعواصف يا دكتور حسن، أين قوى المعارضة، أم أن تغوّل السلطة السياسية العربية حيّدها وشلّ فعاليتها؟
يجيب حنفي: السلطة والمعارضة واجهتان لشيء واحد. السلطة تستعمل ثقافة القهر، والمعارضة ثقافة القهر المضاد؛ فهي لم تستطع توحيد فصائلها، والتفكير بعقلية السلطة البديلة، لأن عينها على الحكم وليس على الشعب، مع أن المهم ليس من يحكم في القصر، بل من يتحكم في الفعل. مؤسسات المجتمع المدني أقدر بكثير من أحزاب المعارضة على تحريك الشارع؛ فالذين يتظاهرون في شوارع العواصم العربية هم الفعاليات الجديدة خارج السلطة والمعارضة. السلطة قاهرة، والمعارضة مستأنسة ترضى بقسم ولو بسيط من غُنم السلطة، سواء بوجود بعض أعضائها في البرلمان، أو تمويل مقارها؛ فالمعارضة، وفقاً لذلك، حكومة ظل. أما الشعب الذي يعاني من القهر، فإنه يبدع منابره وأدوات تعبيره. .ويبدو أن وضع الفقهاء المسلمين ليس أحسن حالاً من المعارضة، فثمة فتاوى لا سندَ عقلياً أو إنسانياً أو دينياً لها، نراها تخرج من أفواه بعض الفقهاء الذين يبشّرون بالموت ويهتفون للظلام...
ويقسم حنفي الفقهاء إلى أنواع : فقهاء السلطان الذين تعودنا عليهم؛ فهم إن أراد الحاكم حرباً فحرباً، وإن أراد سلماً فسلماً، وإن أراد اشتراكية فاشتراكية، أو رأسمالية فرأسمالية، وهؤلاء تراهم بكثرة في أجهزة الإعلام، وفي دور الإفتاء، ومعاهد الدراسات الإسلامية.
وهناك فقهاء جدد، كوّنوا اتحاد علماء المسلمين، وهم فقهاء أحرار مستنيرون لا يرتبطون بنظم سياسية، ويعطون الوطن حقه في الاستقلال، ويعطون المقاومة حقها في الشرعية، ويدافعون عن المصالح، ويحمون الأبرياء من أتون النار.
هذا الفقه الجديد متناثر هنا وهناك في كل أرجاء الوطن العربي والعالم الإسلامي وينقصه المنبر الواحد، ويحتاج إلى تنسيق، وهذا الأمر يندرج في إطار حركة مطلبية اجتماعية وسياسية، وليس مجرد مناصب إفتاء فقط .
سألت، بعد ذلك، حنفي عن المفهوم أو التيار الذي أطلقه، بخصوص (اليسار الإسلامي). وقلت له: أنت تنسب إلى تيار يحاول أن يجمع بين مفهومين متعارضين؛ فما مدى دقة التوصيف أولاً، ثم ما النجاحات التي حققتها في هذا المضمار؟
رد حنفي بالقول: حاولت في مسعاي هذا أن أجمع بين شرعيتين: شرعية الماضي وشرعية الحاضر، شرعية التراث، وشرعية الثورة، فلم أجد اسماً أفضل من (اليسار الإسلامي).
تكلم الأفغاني عن (العروة الوثقى) ورشيد رضا عن (المنار) وآخرون عن (المجاهد)، لكنني كنت أريد تعبيراً يعطي الشرعيتين حقهما؛ لأنني جزء من الحركة الوطنية التقدمية العربية أناضل ضد الاستعمار، والتخلف، والفقر، والظلم الاجتماعي، والتجزئة، والاعتماد على الآخرين، ولا مبالاة الناس، ولكن من خلال ثقافة موروثة ، حتى أحقق التغيير من خلال التواصل، وبالتالي أستطيع أن أدافع عن الأرض، لأن الله إله السموات والأرض، وأن أدافع عن الحرية (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)، وأدافع عن العدالة الاجتماعية (والذين في أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم)، وأن أدافع عن الوحدة ( إن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاعبدون) وكذلك الدفاع عن الهوية (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم)، والدفاع عن التنمية المستقلة بإعمار الأرض (إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليفعل)، وأدافع عن حشد الجماهير وتجنيدهم (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل).
وفقاً لذلك، فإنني أستطيع أن أحقق المشروع القومي العربي في الثورة والنهوض عن طريق متصل بالتراث العربي الإسلامي بعد بيانه وجلائه، حتى لا أوقع الأمة في استقطاب بين سلفيين وعلمانيين، ومجددين ومحافظين.