دفاعا عن الإنجيل في التراث الإسلامي
فئة : مقالات
يعود النصّ التراثيّ الذي ننشره في هذه المقالة إلى القرن التاسع الهجري، وكاتبه هو برهان الدين البقاعي ت 885 هـ. يصفه الإمام الشوكاني بقوله: إنه من أوعية العلم المفرطين في الذكاء الجامعين بين المعقول والمنقول. والبقاعي هو صاحب تفسير القرآن الموسوم ب ـ(نظم الدرر في تناسب الآي و السور)، هذا الكتاب من أشهر أعماله في عصره، هو ورده على ابن الفارض، ومما اشتهر به في مصر أنه قام بتكفير ابن الفارض، وصارت فتنة كبيرة بعد ذلك، وردّ عليه كثيرون من العلماء الأقران والمعاصرين له، وردّ عليهم علماء مثلهم! وطالت القصة؛ مما خلّف لنا تراثًا ضخمًا لا يزال بعضه مخطوطًا في دار الكتب المصرية حول هذه المسألة[1]. اهتم السلفيون بالبقاعي حديثًا، والتفتوا إلى هذا الجانب من كتاباته؛ فتخصص أكثر من خمسة طلاب في درس شرح له في علم الحديث، وآخرون في تحقيق نصوصه في الرد على الصوفية، والحقيقة أن مصر كانت سبّاقة في هذا الاهتمام؛ فرئيس جماعة أنصار السنة في مصر سبقهم بنشر رسالتين للبقاعي، وعنون الرسالتين بـ (مصرع التصوف)، وهو عنوان ينبئ عن هدف الرجل الضخم الذي من الصعب أن يتحقق له أو لأحفاده.[2]فمن قبل كتب ما كتب البقاعي، ولم يطق المقام في مصر، ثم ارتحل منها إلى الشام، وكتب في ذم مصر وأهلها ! والغريب الذي لا يُلقى عليه ضوءٌ من ميراث البقاعي، خاصة من المعاصرين أتباع التيار السلفي الحديث.. أن البقاعي، وإن نَقد التصوف وأعلامه، إلا أنه ابن شرعي لهذا الفكر، ومنه نهل وعليه اعتمد.. فالذي يتصفح كتابه (نظم الدرر في تفسير القرآن) يجد الكتاب عبارة عن تلخيص وحفظ لما كتبه الحرّالي الصوفي المراكشي تفسيرًا للقرآن، والحرالي هو علمٌ صوفيٌّ كبير، ذكر ابن الطوّاح له نصًا في كتاب (سبك المقال) أشار فيه إلى دهشة قسيس تركونة، واعتبر القسيس كلام الحرالي مخالفًا للشريعة الإسلامية[3]! فيمكن لمن يعدّ البقاعي حجّة في نقد التصوف أن يراجع ترجمة الحرّالي أولاً، ثم يراجع عمل البقاعي في تفسيره ثانيًا، ويراجع إن أراد كتابه عنوان الزمان بتراجم الشيوخ والأقران؛ ففي أربع مجلدات ترجم لكثير من معاصريه وأقرانه، واحتفى بهم وذكر مناقبهم وكراماتهم، وكثير منهم من الصوفية.
أمرٌ آخر أثار اهتمام الباحثين الغربيين مؤخرًا، وأثار اهتمام المعاصرين للبقاعي، وهو اعتماده في تأويل كثير من آيات القرآن على الكتاب المقدّس ( وليست الإسرائيليات)؛ فالبقاعي كان ينقل من نسخة بين يديه[4] نصوصًا كاملة يشفع بها تأويلات الحرالي للنصوص، وهو ما أثار سخط صديقه في التلمذة على ابن حجر (السخاوي)، وحفّزه لكتاب كتاب مستقلّ يجرّم فيه فعل البقاعي، أسماه: (الأصل الأصيل في تحريم النقل من التوراة و الإنجيل)، ولم يصل إلينا نصّ السخاوي، و إن كان أحد الدارسين الغربيين أشار إلى أنه اطلع على نسخة من هذا الكتاب، وهو في مصر إلاّ أنه ليس موجودًا في أي دار من دور الكتب والمخطوطات بحسب مراجعة أكثر من باحث ومهتم في هذا الشأن .. وكان كتاب السخاوي باعثًا للبقاعي على كتابة نصّ جديد يردّ فيه على السخاوي وغيره ممن انتقدوه، لاعتماده على الكتاب المقدّس في تفسير القران، ولم يكتف بكتابة (الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة)، بل شفعه بخاتمة تزيد في حجمها على حجم الكتاب الأصلي ليتحدى بها أقرانه أن يأتوا بمثلها في تفسير سورة الكوثر! الجميل أن جزءًا من هذا الكتاب دفع أحد الأساتذة أن ينشر هذا النصّ كاملاً تحت عنوان (دفاعا عن الإنجيل)،[5] وقد أحسن في اختيار هذا العنوان، وإن كان لا يعبّر عن غاية البقاعي، إلاّ أنه يسلط الضوء على هذه الشخصية التراثية التي لا تزال تُستدعى حتى اليوم لتقول عن فريق من المسلمين ما يودّون قوله، ويعجزون عن التأصيل له، فينهلون من تراثهم دون إدراك للمنحى الشخصي للكاتب أو مجمل أفكاره و تطوره . خصص البقاعي الفصل السابع من كتابه (الأقوالِ القويمةِ في حُكم النقلِ من الكُتبِ القديمةِ) للحديث عن تحريف الإنجيل، وقد اعتمد في حديثه تلك الفكرة من (الكلام الأشعري) التي ترى أن: (كلام الله واحد إن عُبّر عنه بالعربية فقرآن، وإن عُبّر عنه بالعِبرية فتوراة، وإن عبر عنه بالسُريانية فهو إنجيل).. واستدعى مواقف السابقين من العلماء الذين لم يجدوا حرجًا في الاعتماد على الكتاب المقدس لتأييد آرائهم، وأشهرهم حجّة الإسلام الغزّالي في كتابه "الرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل"، وكذلك استدعى من كتب الفقه ما يشير إلى جواز ذلك.
ويتسق هذا الفصل مع سابقه ولاحقه من فصول الكتاب؛ فهمُّ البقاعي الرئيس جمع الكثير من الشواهد التي يحسن الاستدلال بها على رأيه في إباحة النقل من الكتب القديمة، فنلاحظ في الفصل الرابع توظيفه لقصة إسلام تميم الدّاري، وقصة إسلام سلمان الفارسي، وفي الفصل الخامس ينقل من كلام الأئمة (أهل الفقه والأصول والحديث) ما يراه داعمًا له على صحة النقل من الكتب القديمة؛ فعلى سبيل المثال يورد قول الكرماني: (لا سبيل لنا إلى أن نعلم صحيح ما يحكونه [أي أهل الكتاب] من تلك الكتب من سقيمه)، ويناقش البقاعي هذا الرأي مشيرًا إلى أنه مذهب من سلك طريق الورع، لكن هل يعني ذلك أن من رجّح صحة نصٍّ أو ضعّفه؛ فقد سلك طريقًا غير طريق الورع؟ لعل البقاعي قد أجاب على ذلك بقوله: (إن التّوقّف إنّما هو فيما يُشكل، وأما غيره مما عرفنا صدقه أو كذبه بشهادة كتابنا فلا). وما يقوله البقاعي صحيح، فقد كان (التّوقّفُ) مذهب الكثيرين من علماء الإسلام تجاه نصوص الكتاب المقدّس.[6] كذلك يستند البقاعي إلى مرويات مسلمة أهل الكتاب، وخاصة كعب الأحبار، ويناقش وقوع المُبدّل في مروياته، والاعتذار عن ذلك بمقولة ابن عباس (بدّل من قبله فوقع في الكذب) [7]. ويتوقف المرء أمام هذا العذر متحيّرًا؛ فالصورة التراثية عن كعب الأحبار أنه "الحبر"[8] صاحب الكتب والأسفار، المثير للمكتوم والأسرار، والمشير إلى المشاهد والآثار، وملجأ العلماء[9]. وروايات كعب ليست كلّها من قبيل المبدّل، إذ بعض رواياته مطابقة لما هو موجودٌ حاليًا في التوراة.[10] والبعض الآخر من قبيل الأحاديث الشفاهية والأقوال الشائعة في بيئته، والتي احتفظت بها ذاكرته، وأدّاها في الإسلام، وبعضها من "المشنا" و"المدراش". ينقلُ البقاعي في الفصل السادس عن مجموعة من العلماء (الأئمة و أعيان الأمّة)، ويحاول أن يبرر نقله من الكتب القديمة في تفسيره للقرآن (نظم الدرر في تناسب الآي والسور) بإلقاء التبعة على غيره؛ فهو مقلّد لهؤلاء الأئمة، فإن وُصِف أحدهم بسوء، أو كانت طريقته خاطئة؛ فينبغي أن يكون هؤلاء (الأئمة) كذلك. ربما كان البقاعي مقلّدًا؛ إلاّ أنه كالغريق يحاول النجاة، وإذا وضعنا في اعتبارنا أن النّقل من التوراة والإنجيل وُجِّه كـ(تُهمة) للبقاعي، بدا لنا أن فعله مناسب لحالة الدفاع عن النفس، وقد صرّح البقاعي نفسه، أنه ما صنّف هذا الكتاب إلاّ للرّد على منتقصي قدره (ابن القطّان ومن نهج نهجه).
ويأتي الفصل السابع الذي يجيب البقاعي فيه على سؤال : في أن الكتب القديمة هل هي مبدلة؟ وما المبدل منها؟ ولأن هذا النص وما ورد فيه لا يزال بعيدًا عن أيدي القراء والمهتمين، رأيت أن أنشره معتمدًا في نشره على ثلاث نسخ خطّية للكتاب، اثنتين منهما في دار الكتب المصرية، أولاهما مسودة بخط يد البقاعي، والثانية نسخة تامة من الكتاب، أما النسخة الثالثة، فهي نسخة الإسكندرية.
الفصـــل الســــابع: في أن الكتب القديمة هل هي مبدلة؟ و ما المبدل منها؟
قال شيخنا حافظ عصره ابن حجر في (شرح البخاري) في باب [قول الله عز و جل بل هو قرآن مجيد]. يُحرّفون: يُزيلون. وليس أحدٌ يزيل لفظ كتاب من كتب الله عز و جل، ولكنهم يحرفونه يتأولونه على غير تأويله. قال شيخنا ابن الملقن في (شرحه) هذا الذي قاله أحد القولين في تفسير هذه الآية، وهو مختاره؛ أي البخاري. وقد صرّح كثيرٌ من أصحابنا أن اليهود والنصارى بدّلوا التوراة والإنجيل، وفرّعوا على ذلك: جواز امتهان أرواقهما، وهو يخالف ما قاله البخاري هنا. انتهى.
وهو كالصّريح في أن قوله: (وليس أحدٌ) إلى آخره من كلام البخاري، ذيّل به تفسير ابن عبّاس، وهو يحتمل أن يكون بقية كلام ابن عباس في تفسير الآية. انتهى كلام شيخنا.
وكلام شيخه ابن الملقن صريحٌ أيضًا في أن الامتهان يخصّ المبدّل، فيكون الاحترام لغيره، وكذا كلّ ما يأتي في الكلام على ذلك عند من تدبّره. قال شيخنا وقال بعضُ الشُّراحِ المتأخرين: اختُلف في هذه المسألة على أقوال؛ أحدها: أنّها بُدِّلت كلها، وهو مقتضى القول المحكي بجواز الامتهان، وهو إفراطٌ وينبغى حمل إطلاق من أطلقه على الأكثر، وإلا فهي مكابرة. والآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل. من ذلك : قوله تعالى "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإِنْجِيلِ". الآية. ومن ذلك: قصة رجم اليهوديين، وفيه وجود آية الرجم، ويؤيده قوله تعالى: "قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"؛ ثانيها: أن التّبديل وقع ولكن في معظمها، وأدلته كثيرة، وينبغي حمل الأول عليه؛ ثالثها: وقع في السير منها، ومعظمها باقٍ على حاله، ونصره الشيخ تقي الدين بن تيمية في كتابه (الرّد الصحيح على من بدّل دين المسيح). قلتُ: ويؤيده قول إمامنا الشافعي –رحمه الله- في خطبة كتاب الرسالة: وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. بعثه، والناس صنفان: أحدُهما أهل كتاب بدّلوا من أحكامه، وكفروا بالله؛ فافتعلوا كذبًا صاغوه بألسنتهم، فخلطوه بحقِّ الله الذي أنزل إليهم، فذكر تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم من كفرهم، إلى آخر كلامه. وقال في باب ترجمته (الحكم بين أهل الذّمة) :- وأكره للمسلم أن يعمل بناء أو تجارة أو غيره في كنائسهم التي لصلاتهم، ولو أوصى أن يكتب بثلثه الإنجيل والتوراة يدرس لم تجز الوصية، لأن الله عز وجلّ قد ذكر تبديلهم منها، فقال: "الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ"، وقال: "وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ". قرأ الربيع الآية. انتهى.
فانظر إلى تعبيره عن التبعيضية في الموضعين، ولا تنس تقييده بيدرس، ويستأنس له، بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "آمنت بك وبمن أنزلك" كما مضى في الفصل الثالث. وقال الأصبهاني في سبب نزول (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ): إن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ألست تؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها حق، قال: بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها، فأنا بريءٌ من إحداثكم . قال شيخنا: رابعها: إنما وقع التبديل والتغيير في المعاني لا الألفاظ، وهو المذكور هنا. وقد سُئل ابن تيمية عن هذه المسألة مجردًا، فأجاب في فتاويه: إن للعلماء في ذلك قولين، واحتجّ للثاني من أوجه كثيرة منها: قوله تعالى: "لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ". وهو معارض بقوله تعالى: "فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ" كذا قال. والتبديل هنا، إنما هو للإيصاء قال: ولا يتعين الجمع بما ذكر من الحمل على اللفظ في النفي، وعلى المعنى في الإثبات، لجواز الحمل في النفي على الحكم، وفي الإثبات على ما هو أعم من اللفظ والمعنى. ومنها أن نسخ التوراة في الشرق والغرب والجنوب والشمال لا تختلف، ومن المحال أن يقع التبديل؛ فتتوارد النسخ بذلك على منهاج واحد، وهذا استدلالٌ عجيبٌ؛ لأنه إذا جاز وقوع التبديل جاز إعدام المبدّل. والنسخ الموجودة الآن هي التي استقر عليها الأمر عندهم عند التبديل، والأخبار بذلك طافحةٌ.
أما فيما يتعلق بالتوراة، فلأن بختنصر لمَّا غزا بيت المقدس، وأهلك بني إسرائيل، ومزّقهم بين قتيل وأسير، حتى جاء (عِزْرا)، فأملاها عليهم. وأما فيما يتعلق بالإنجيل، فإن الروم لما دخلوا في النصرانية، جمع ملكهم أكابرهم على ما في الإنجيل، الذي بأيديهم، وتحريفهم المعاني لا يُنكر، بل هو موجود عندهم بكثرة، وإنما النزاع: هل حُرِّفت الألفاظ أو لا؟
وقد وجد في الكتابين ما لا يجوز أن يكون بهذه الألفاظ، من عند الله عز وجلّ أصلًا. وقد سَرد أبو محمد بن حزم في كتابه (الفِصَل في الملل و النِّحَل) أشياء كثيرة من هذا الجنس، من ذلك:
• أنه ذكر أن في أول فصل، في أول ورقة من توراة اليهود، التي عند ربّانيهم، وقرّائيهم، وعاناهم، عيساويهم؛ حيث كانوا في المشارق والمغارب، لا يختلفون فيها على صفة واحدة. لو رام أحدٌ أن يزيد فيها لفظة، أو ينتقص منها لفظة، لافتضح عندهم، متفقًا عليها عندهم (أي: الأحبار الهارونية، الذين كانوا قبل الخراب الثاني). يذكرون أنها مبلغة من أولئك إلى عزرا الهاروني.
• وذكر في مواضع أخرى: أن التبديل وقع فيها إلى أن عدمت؛ فأملاها عزرا المذكور على ما هي عليه الآن، ثم ساق أشياء من نصّ التوراة التي بأيديهم الآن، الكذب فيها ظاهر جدًا.
قال الشيخ نور الدين: هذا قد نقل أشياء من التوراة ليس إلا لصحٍة مُدّعاة؛ فانتَبَه لهُ مع أنه مبدل، فمن أين له التبديل؟ لا يتوقف أحد في أنه من كتابنا؛ لأنه مهيمن، حكمٌ، شاهد، فما ردّه فهو مردود. انتهى .
ثم قال ابن حزم: وبلغنا عن قوم من المسلمين: ينكرون أن التوراة والإنجيل، الذين بأيدي اليهود والنصارى مُحرّفان .والحاملُ لهم على ذلك: قلة اهتبالهم بنصوص القرآن والسنة، وقد اشتمل على أنهم يحرّفون الكلم عن مواضعه، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله، ويلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق، وهم يعلمون. ويُقال لهؤلاء المنكرين: قد قال الله تعالى:- فى صفه الصحابة – "ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ " إلى آخر السورة، وليس بأيدي اليهود والنصارى من هذا شيء.[11] ويُقال لمن ادّعى أن نقلهم نقلٌ متواتر، قد اتفقوا على أن لا ذِكر لمحمد صلى الله عليه وسلم في الكتابين، فإن صدقتموهم فيما بأيديهم، لكونه لا ملازمة بين الأمرين نقل نقل التواتر، فصدّقوهم فيما زعموه، على أن لا ذكر لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا لأصحابه، وإلا فلا يجوز تصديق بعض، وتكذيب بعض، مع مجيئها مجيئًا واحدًا. انتهى كلامه. وفيه فوائد. وقال الشيخ بدر الدين الزركشى: اغتر بعضُ المتأخرين بهذا (يعني: بما قال البخاري) فقال: إن في تحريف التوراة خلافًا هل هو في اللفظ والمعنى، أو في المعنى فقط؟
ومَال إلى الثاني. ورأى جواز مطالعتها، وهو قولٌ باطلٌ، لا خلاف أنهم غيّروا، وبدّلوا، والاشتغال بنظرها وكتابتها لا يجوز بالإجماع، وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم، حين رأى مع عُمر – رضي الله عنه – صحيفة فيها شيء من التوراة. وقال: (لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي) ولولا أنه معصية ما غضب فيه. انتهى. ولقد اغترّ بدعوى هذا الإجماع من قَصر بَاعه في الرواية، وعمى نظره وضلاعته في رتبة الدراية، وضعف اطلاعه على أسباب الهداية، وصدّه تحيَره وانقطاعه بظلمات الضلالة والغواية، فإنه مكابرة في المحسوس، وقلب للحقائق؛ لأن دعوى الإجماع في ضدّه أولى، وإقامة الدلة على مقابله أظهر وأعلى، ولذلك قال شيخنا عقب نقله عنه: قلت إن ثبت الإجماع فلا كلام .
وقال الشيخ نور الدين: وكيف يثبت مع قول الإمام عياض المتقدم، وما ألفى من ذلك في التوراة والإنجيل، مما قد جمعه العلماء، وبيّنوه. انتهى. على أن من حفظ كتاب الله لا يحتاج في ردّ نقل ذلك إلى شيء، يعني لأن الله قد أمر بإحضارها وتلاوتها، ولا يظن بالأمة أن تُجمع على مخالفة كلام الله تعالى. قال شيخنا: وقد قيَّده (يعني: الزركشي) بالاشتغال بكتابتها، ونظرها، فإن أراد من يتشاغل بذلك دون غيره، فلا يحصل المقصود؛ لأنه يفهم أنه لو تشاغل بذلك مع تشاغله بغيره جاز، وإن أراد مطلق التشاغل؛ فهو محل للنظر. وفي وصفه القول المذكور بالبطلان، مع ما تقدم نظر أيضًا. فقد نُسب لوهب بن منبّه (وهو من أعلم الناس بالتوراة)، ونُسب أيضًا لابن عباس (ترجمان القرآن)، وكان ينبغي له تركَ التَّرفُّع بالصدر، والتّشاغلَ بردّ أدلة المخالف التي حكيتها. انتهى. وقال الشيخ بدر الدين الدماميني في (حاشية المغنى)، وفي قول بعض الناس أن الواو للترتيب، ونقلِ أبي حيان عن السيرافي والفارسي والسهيلي الإجماع عليه. قال: وغلطهم (يعني أبا حيان) بما ذكره من الخلاف. قال الشيخ بهاء الدين السبكي: وفيه نظر من أوجه، أحدها: أن قول القائل هؤلاء أجمعوا، وقول الآخر: هؤلاء اختلفوا مطلقتان، فلا تتناقضان؛ فيجوز أن يكون ثمّ خلاف سابق انعقد الإجماع بعده؛ فيقع الخلاف في الإجماع بعد الخلاف: أهو حجّة أو لا ؟ وفيه خلاف، ومذهبنا: أنه ليس بحجّة، ويجوز أن يكون ثمّ خلافٌ لاحقٌ عرض بعد الإجماع، فلا أثر له، وإذا كان كذلك، فلا وجه للتغليط.
الثانــي: سلّمنا أن المراد التوقيت المستمر، فتغليط ناقل الإجماع، وإن كثُر في كلام أهل العلم هو المتبادر إلى الذهن، فإن ناقل الخلاف مثبتٌ، وناقلُ الإجماعِ كالنّافي، ينبغي أن يتوقف فيه، وهذه قاعدة ينبغي التنبيه لها؛ فإنها كثيرة الجدوى في المباحث، ولم أر من تعرّض لها، والذي يظهر أن يقال: إما أن يفرّع على أن الإجماع السكوتي حجّة أو لا ؟ إن قلنا بحجّيته؛ فينبغي أن يقدّم ناقل الخلاف، لأنه اعتمد الصريح. وناقل الإجماع يجوز أن يكون اعتمد على مجرد الانتشار مع السكوت، وإن قلنا : إن السكوتيّ ليس بحجة، فقد يقال يتعارضان؛ لأنهما مثبتان. وقد يقال بترجيح ناقل الخلاف، لأنه نصّ في نسبة ذلك إلى قائله. وناقل الإجماع كالنّاطق بالعام الذي لا يدلُّ على الشخص المخالف إلا ضمنًا. وقد يقال بترجيح الإجماع؛ لأن الخلاف يرتفع بالإجماع من غير عكس، فتمكن صحة كلِّ منهما في وقت. ويصير ذلك كما ذهب إليه بعض أصحابنا من أن بينة الوقف تقدّم على بينة الملك؛ لأن الملك يقبل الانتقال إلى الوقف من غير عكس، وإن كان الصحيح من مذهبنا أن بينتي الوقف والملك تتعارضان، انتهى. رجعٌ إلى كلام شيخنا ابن حجر، قال: وفي استدلاله -أي الزركشي- على عدم الجواز الذي ادعى الإجماع فيه، بقصة عمر – رضي الله عنه – نظرٌ أيضًا سأذكره بعد تخريج الحديث المذكور.
• وقد أخرجه أحمد، و البزار، واللفظ له، من حديث جابر – رضي الله عنه – قال: نسخ عمر – رضي الله عنه- كتابًا من التوراة بالعربية، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يقرأ، ووجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير؛ فقال له رجل من الأنصار: ويحك يا ابن الخطاب ألا ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم، وقد ضلّوا، وإنكم إما أن تكذبوا بحق أو تصدّقوا بباطل. والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حلّ له إلا أن يتبعني. وفي سنده جابر الجعفي، وهو ضعيف .
• ولأحمد أيضًا، وأبي يعلى من وجه آخر عن جابر – رضي الله عنه- أتى بكتاب أصابه من بعض كتب أهل الكتاب؛ فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فغضب، فذكر نحوه دون قول الأنصاري. وفيه: والذي نفسي بيده لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني. وفي سنده مجالد ابن سعيد، وهو ليّنٌ.
• وأخرجه الطبراني بسند فيه مجهولٌ، ومختلفٌ فيه، عن أبي الدّرداء – رضي الله عنه – قال: جاء عمر – رضي الله عنه- بجوامع من التوراة فذكر نحوه، وسمّى الأنصاري الذى خاطب عمر: عبد الله بن زيد – الذي أرى الأذان – رضي الله عنه – وفيه : لو كان موسى بين أظهركم، ثم اتبعتموه، وتركتموني لضللتم ضلالًا بعيدًا .
• وأخرجه أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن ثابت، قال: جاء عمر – رضي الله عنه- فقال: يا رسول الله إني مررت بأخ لي من بني قريظة؛ فكتب لي جوامع من التوراة، ألا أعرضها عليك. قال: فتغيّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث، وفيه: والذي نفسي بيده لو أصبح موسى فيكم، ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم .
• وأخرج أبو يعلى من طريق خالد ابن عرفطة، قال: كنت عند عمر – رضي الله عنه- فجاءه رجل من عبد القيس، فضربه بعصا معه، فقال: ما لي يا أمير المؤمنين قال: أنت الذي نسخت كتاب (دانيال). قال: مُرْني بأمرك، قال: انطلق فامْحه، فلئن بلغني أنك قرأته أو أقرأته، لأنهكنك عقوبة، ثم قال: انطلقت فانتسخت كتابًا من أهل الكتاب، ثم جئت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ قلت: كتاب انتسخته لتزداد به علمًا إلى علمنا؛ فغضب حتى احمرّت وجنتاه، فذكر قصة فيها: يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتمه، واختصر لي القول اختصارًا. ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية، فلا تَهَوَّكوا. وفي سنده عبد الرحمن ابن إسحاق الواسطي، وهو ضعيف.
• وهذه جميع طرق هذا الحديث، وهي وإن لم يكن فيها ما يُحتج به، لكن مجموعها يقتضي أن لها أصلًا، والذي يظهر: أن كراهته ذلك للتنزيه، لا للتحريم.
والأَوْلَى فى هذه المسألة: التفرقة بين من لم يتمكن ويصير من الراسخين في الإيمان، فلا يجوز له النظر في شيء من ذلك. بخلاف الراسخ فيجوز له، ولا سيّما عند الاحتياج إلى الرد على المخالف. ويدل على ذلك نقل الأئمة قديمًا وحديثًا من التوراة وإلزامهم اليهود بالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم، بما يستخرجونه من كتابهم. ولولا اعتقادهم جواز النظر فيه لما فعلوه، ووتواردوا عليه. وأما استدلاله للتحريم، بما ورد من الغضب، ودعواه: أنه لو لم يكن معصية ما غضب منه، فهو مُعترَضٌ، بأنه قد يغضب من فعل المكروه ومن فعل ما هو خلاف الأولى، إذا صدر ممن لا يليق منه ذلك. كغضبه من تطويل معاذ – رضي الله عنه – صلاة الصبح بالقراءة. وقد يغضب ممن يقع منه تقصير في فهم الأمر الواضح، مثل الذي سأل عن لُقطة الإبل. وقد تقدّم في كتاب العلم: الغضب في الموعظة، ومضى في كتاب الأدب: ما يجوز من الغضب. انتهى.
• والذي فهمه شيخنا: أن هذا متوارد مع الأحاديث الآمرة بالأخذ عن أهل الكتاب على شيء واحدٍ، وليس كذلك، بل الذي مضى في مصادقة ما عندنا من غير زيادة، إما بتحسين شرعنا، أو تقبيح ما هم عليه و تكذيبهم فيه، أو مجرد خبر عنهم لا حكم فيه، كما ورد من طول ثيابهم في التّيه بطولهم، وعدم توسخها، ونحو ذلك. وهذه الأحاديث الناهية في إثبات حكم ليس في شرعنا دليل عليه، حتى يكون هداية لنا ممن أضل نفسه إلى شيء لم يهدنا شرعنا إليه، وحتى يكون اتباعًا لموسى – عليه السلام- وتركًا لنبينا صلى الله عليه وسلم، وحتى يكون زيادة فيما عندنا لم تكن في شرعنا قبل ذلك، وحتى يكون تهوّكًا، أو تحيّرًا، كما في بعض طرق حديث جابر – رضي الله عنه – ليلزم عنه أن شرعنا ناقص، ومحتاج إلى غيره. وذلك كما استدل بعض من شنّع عليّ في هذا الأمر، لما أنكرته من جهر من ابتدع من المؤذنين، بقولهم: (يا دائم المعروف) على ما نقل عنه، بأن إسرائيل – عليه السلام- قال ذلك؛ فكان مع أنه مثبت حكمًا جديدًا في شرعنا منابذًا لآيتين من كتاب الله. واستدل بعضهم لأمر عرض له على شخص خاصمه، بأن قال: ورد في بعض كتب الله المنزلة: ( أن الله لا يغفر عقوق الأستاذين)، فكان مع كونه شارعًا أمرًا جديدًا، لا عهد لمسلم به، منابذًا لقوله تعالى: ( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). فأصبحوا كما ترى لداء الجهل والحسد لمن هو معرضٌ عنهم مُقبلٌ على شأنه، لا يحاسدهم بين بدعة ينكرها، فينصرونها بما ينكرون به عليه، وسنة يظهرها، فيردونها إليه، وهم يعلمون من مثلها على تقدير تسليم نقله، ما يعارض الشرع، وقد عرفوه صغيرًا وكبيرًا ما زاحم أحدًا منهم في وظيفة ولا ضائقة في رزق ولا نازعه في منصب؛ فعُلِم قطعًا، أن كلامهم إنما هو لإرادة الغض منه، والتنفير عنه، فيكسبهم ذلك ضد مرادهم.
وهو: أن يعلم الناس أنهم دونه؛ لأن الشافعي – رحمه الله – قال: (ما نظر الناس إلى من هم دونه إلا بسطوا ألسنتهم فيه).
فانظر – أيّدك الله – الباطلَ وأهله، كلما قُلِّب تكشّف من جهلهم ما كان مستورًا، وتبيّن من داء حسدهم ما كان دفينًا، يخادع المكر مغمورًا.
فليس الأمر إلا كما قلت (من الوافر الأوّل مطلق بردف):
نصرنا سُنّة المختار حقًا فكان لنا السلامة والغنيمه
ورُمْتم نصرَ دعوتِكم فخبتم وكان لذاك عاقبة وخيمه
وقد مضى (في آخر الفصل الخامس) عن إمامنا الشافعي: التّعجبُ من حكايةِ شخص الإجماع في مثل هذا سواء، وهو أن يكون مخالفًا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل التابعين له بإحسان، وأنه لا يلتفت إليه، ولا يُعوّلُ بوجه من الوجوه عليه، والله الموفق بمنّه وكرمه.
[1] انظر تفاصيل تلك الفتنة عند محمد بن أحمد بن إياس الحنفي المصري، أحداث عام 875 هـ بدائع الزهور في وقائع الدهور، ط مطابع الشعب 1960. ويرد فيها : وفي أوائل هذه السنة كثر القيل و القال بين العلماء بالقاهرة في أمر الشيخ العارف بالله تعالى سيدي عمر بن الفارض نفع الله تعالى الناس ببركته، وقد تعصب عليه جماعة من العلماء بسبب أبيات قالها في قصيدته التائية فاعترضوا عليه في ذلك و صرَّحوا بفسقه، بل وتكفيره و نسبوه إلى من يقول بالحلول والاتحاد وحاشاه من ذلك أن ينسب إليه هذا المعنى ولكن قصرت أفهام جماعة من علماء هذا العصر، ولم يفهموا معنى قول الشيخ عمر فيما قصده من هذه الأبيات فأخذوا بظاهرها، ولم يوجِّهوا لها معنى .... فكان رأس من تعصب على الشيخ عمر بن الفارض برهان الدين البقاعي وقاضي القضاة محب الدين بن الشحنة وولده عبد البر وقاضي القضاة عز الدين الحنبلي و نور الدين المحلي وتبعهم كثير من طلبة العلم يقولون بذلك.
[2] : نُشر الكتاب تحت عنوان مصرع التصوف، أو تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي. و تجدد طبعه في أكثر من مكان، نذكر على سبيل المثال بعد طبعه في مصر، طبعة رئاسة إدارة البحوث العلمية و الإفتاء، الرياض 1995 م- 1415 هـ .
[3] امتُحن الحرالي الصوفي بأسر أقارب له فكتب إلى قسيس تركونة ليفك أسرهم رسالة مطوّلة أوردها ابن الطوّاح في سبك المقال لفك العقال، نشرة جمعية الدعوة الإسلامية – ليبيا- 2008 م ص 99 و ما بعدها: (بسم الله، و لا حول و لا قوة إلا بالله، خلق الله البشر كلهم من نفس واحدة، و برأ أبدانهم كلها من أديم الأرض الواحدة، فجعلهم في الحقيقة ذوي رحم واحدة. لو تعارفوا حق المعرفة بما اشتركت فيه أبدانهم، وانفردت بالنفس الواحدة نفوسهم، و تحققت بروح الله أرواحهم ما تقاطعوا ولا تسافكوا الدماء) ( ثم أكد تواشج رحم الأبدان بدنا، والنفوس نفسا، و الأرواح روحا، بما شرع لإبراهيم خليل الرحمن من الملة الجمعاء، والحنيفية البيضاء، و جعله أبا جامعا لأسباط بني يعقوب بن إسحاق، و والد الأصفر أبي كافة الرومية و قبائل أولاد إسماعيل بن إبراهيم أبي كافة العرب. و ذلك ليكون أولى باجتماعهم و تراحمهم وتعاطف بعضهم على بعض، و ائتلاف بعضهم ببعض. فلم يزد الأمر بتأكيد أسباب الألفة إلا افتراقا، ولا جعل منهم بتوثيق الرحم و الملة الإبراهيمية إلا شدة الشتات شقاقا و نفاقا. اللهم إلا آحادا من أفراد الفضلاء، و أكابر الحكماء، الذين قضوا حق الرحم و الملة، وتحققوا بروح الله فتصافوا و تواصلوا في القرب و البعاد، و خلصوا من نكر التباغض و العناد. فلم تحرقهم نار التفرقة، و كانت عليهم بردا و سلاما، كما كانت على أبيهم إبراهيم النار المحرقة، و ذلك لما عادوا بقلوبهم إلى الأصل، و لم يلتفتوا لعارض الشتات، فبقوا على اتصال الوصل). اللافتُ للنظر في القصّة أن الحرّالي كان من السّعة أن قبِل بالكل، واتسع صدره للكلّ، و لم يقبل به بعد ذلك المسلم والمسيحي، ففي الأول عزّ الدين بن عبد السلام، و هو فقيه صوفي، لم يقبل بتأويل الحرّالي للقران، و قام بتأليب العامة و العلماء عليه، و سبحان الله؛ لأن الحرّالي كانمتذوقًا لكتاب الله وعالمًا بالفعل، حفظ الله تفسيره من خلال البقاعي ــــ تلميذ ابن حجر ــــ في القرن التاسع الهجري، فاعتمد البقاعي على التقاط فوائده و درره في كتابه الكبير نظم الدرر في تناسب الآي والسور؛ فما خلت سورة من تأويل إلاّ وللحرالي كلام ينقله البقاعي؛ النكتة الثانية في صلب الرسالة ذاتها: أن القسيس/المسيحي، لم يقبل بالحرّالي ممثلاً للمؤسسة الرسمية الدينية، ولم يعتبره عالمًا بالشريعة لأنه يقول كلامًا بخلاف ما ألِفه القسيس من خطاب ديني منتشر آنئذ، على الرغم من وجود متصوفة أكابر معاصرين للحرالي؛ هاتان النقطتان هما ما انتبهت إليهما في نصّ الرسالة وفي رحلة إسراء الحرالي بين البقاع المختلفة. أخيرًا ذكر جمعة شيخة (الحرّاليّ الصوفي) كنموذج للمسلمالمتسامح وعدّه من (نماذج التسامح في التراث) التي عدد أمثلة منها في مقاله في مجلة دراسات أندلسية جزء 14 لسنة 1416 هـ. لمن أراد أن يطالع المزيد.
[4] يتأكد لنا ذلك من خلال مراجعة تفسيره نظم الدّرر وتعقّب النقول التي أوردها ومقارنتها بما ورد في الكتاب المقدّس، ومن كلام البقاعي في مقدمة التفسير مما له صلة مهمة بموضوعنا: اعلم أن التوراة ثلاث نسخ مختلفة اللفظ متقاربة المعنى إلا يسيرًا : إحداها تسمى توراة السبعين، وهي التي اتفق عليها اثنان وسبعون حبرًا من أحبارهم؛ وذلك أن بعض اليونان من ملوك مصر سأل بعض ملوك اليهود ببيت المقدس أن يرسل إليه عددًا من حفاظ التوراة، فأرسل إليه اثنين و سبعين حبرًا، فأخلى كل اثنين منهم في بيت ووكل بهم كتّابًا وتراجمة، فكتبوا التوراة بلسان اليونان، ثم قابل بين نسخهم الستة والثلاثين فكانت مختلفة اللفظ متحدة المعنى، فعلم أنهم صدقوا ونصحوا، وهذه النسخة ترجمت بعد بالسرياني ثم بالعربي وهي في أيدي النصارى. والنسخة الثانية نسخة اليهود من الربانيين والقرائين. والنسخة الثالثة نسخة السامرة؛ وقد نبّه على مثل ذلك الإمام السمرقندي في الصحائف واستشهد بكثير من نصوص التوراة على كثير من مسائل أصول الدين، وكذا الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد والقاضي عياض في كتاب الشفاء وغيرهم.ثم أعلم أن أكثر ما ذكرته في كتابي هذا من نسخة وقعت لي لم أدر اسم مترجمها. على حواشي فصولها الأوقات التي تقرأ فيها، فالظاهر أنها نسخة اليهود وهي قديمة جدًا، فكان في الورقة الأولى منها محو في أطراف الأسطر فكملته من نسخة السبعين، ثم قابلت نسختي كلها مع بعض اليهود الربانيين على ترجمة سعديا الفيومي و هي عندهم أحسن التراجم لو كان هو القارئ، فوجدت نسختي أقرب إلى حقائق لفظ العبراني ومترجمها أقعد من سعيد في لغة العرب.(نظم الدرر في تناسب الآي و السور) 1/ 273.
[5] : راجع: Walid A. Saleh (In Defense of the Bible: A Critical Edition and an Introduction to Al-biqai's Bible Treatise (Islamic History and Civilization . Brill in 2004. جدير بالذكر أن الكتاب كان قد نُشر جزء منه في مجلة معهد المخطوطات العربية 1401 هـ - 1980 م. بعناية محمد مرسي الخولي، و لكنه اكتفى بنشر ما يقارب ثلث الكتاب، متوقفًا عند الفصل الخاص بتحريف التوراة و الإنجيل، مكتفيًا بما نشره، مستبعدًا الخاتمة التي تمثلّ أكثر من نصف الكتاب. و من هنا أتت ضرورة نشر هذه الفصل و توفيره لقرّاء العربية.
[6] : راجع كلام ابن تيمية في هذه المسألة في: بيان تلبيس الجهمية 1/370، واقتضاء الصراط المستقيم عند تعليقه على فضائل بيت المقدس، ومجموع الفتاوى 8،10، 17، 19، وفي قاعدة في المحبة.
[7] : جدير بالذّكر أن كعب الأحبار رويت عنه هذه الرواية في صحيح البخاري، ولم يرد له ذكر في الصحيح إلا في هذه المسألة فحسب.
[8] : معنى كلمة "حبر" حسب قول ابن عبّاس: (فقيه-عالم-صاحب كتب) انظر: الرازي مفاتيح الغيب 6/31 ط دار الغد العربي...
[9] : راجع شرح الزرقاني 2/373، و الصفات حسب عطاء ابن يسار، وهو أحد تلامذة كعب الأحبار، وممن أكثروا من الإسرائيليات. راجع الطبقات لابن سعد 5/174.
[10] : راجع على سبيل المثال: رواية كعب لنبوءة نبوخذ نصر، والتي أدرجها المسلمون ضمن دلائل نبوة النبي، فهي متفقة مع ما ورد في دانيال الإصحاح الثاني، والرابع في كثير من المعاني والألفاظ.
[11] : قارن إنجيل متى (الإصحاح 13) و إنجيل مرقس (الإصحاح 4 رقم 2)؛ ففي إنجيل متى: (هو ذا الزراع قد خرج ليزرع وفيما هو يزرع سقط بعض على الطريق، فجاءت الطيور وأكلته وسقط آخر على الأماكن المحجرة؛ حيث لم تكن له تربة كثيرة، فنبتت حالا، إذ لم يكن له عمق أرض* ولكن لما أشرقت الشمس احترق، و إذ لم يكن له أصل جف* وسقط آخر على الشوك، فطلع الشوك وخنقه* وسقط آخر على الأرض الجيدة فأعطى ثمرا، بعض مئة وآخر ستين وآخر ثلاثين* من له أذنان للسمع فليسمع)، ثم يفسر السيد المسيح هذا المثل قائلا: (فاسمعوا أنتم مثل الزراع* كل من يسمع كلمة الملكوت ولا يفهم، فيأتي الشرير، ويخطف ما قد زُرع في قلبه، هذا هو المزروع على الطريق* والمزروع على الأماكن المحجرة هو الذي يسمع الكلمة وحالا يقبلها بفرح* و لكن ليس له أصل في ذاته، بل هو إلى حين، فإذا حدث ضيق واضطهاد من أجل الكلمة فحالا يعثر* والمزروع بين الشوك هو الذي يسمع الكلمة، وهمّ هذا العالم وغرور الغنى يخنقان الكلمة فيصير بلا ثمر* وأما المزروع على الأرض الجيدة، فهو الذي يسمع الكلمة ويفهم، وهو الذي يأتي بثمر، فيصنع بعض مئة وآخر ستين وآخر ثلاثين).