دفاعاً عن الموقف من اللّيبرالية
فئة : مقالات
يتحدث اليساريون في بلادنا عن الليبرالية كأنها وباء معرفي، أو انحراف سلوكي أو عيب أخلاقي؛ وعن الليبرالي كأنه مشكوك في سلامة مداركه، إن لم يكن مشتبهاً في "عمالته" لـ "الإمبريالية"، التي يُنسب إلى لينين وصفها بأنها "أعلى مراحل الرأسمالية"، في حين تشير دلالاتها اللغوية إلى أنها نزعة استعمارية، (إمبراطورية)، تتصل بالقومية / القوميات، وبالدولة القومية، أكثر من اتصالها بالرأسمالية. ومن المشكوك فيه أن تكون الرأسمالية قد بلغت أعلى مراحلها حين كتب لينين كتابه "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" (هكذا) عام 1916، وهو كتاب سجالي، كمعظم ما كتبه لينين، على الرغم من المعلومات والبيانات والإحصاءات الرسمية التي يتضمنها.
وعلى الرغم من أن فكرة القومية الحديثة، أو فكرة الوطنية الحديثة، التي ولدت في السوق الرأسمالية، فكرة ليبرالية وعلمانية من منظور الثقافة الغربية، التي أنتجت هذه الفكرة وترجمتها إلى دولة قومية (وطنية) حديثة، قابلة للتحول إلى دولة ديمقراطية، وقد تحولت بالفعل، إلا أن "الحركة القومية العربية"، التي "تأثرت بها"، كانت، على العكس تماماً، حركة مضادة لليبرالية ومضادة للعلمانية، منذ نشوئها، وأفصحت عن كونها حركة عنصرية، بدليل ما آلت إليه قومية حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا والعراق، وما انتهت إليه القومية الناصرية. ومع ذلك تحالف اليساريون مع هذه الحركة، عن وعي بخصائصها.
يمكن أن نتفهم مناهضة شيوعيين، ومناهضة إسلاميين أيضاً، لليبرالية، ولكن، كيف يمكن أن نتفهم مناهضة قوميين يساريين، إلا بتأثرهم بأردأ ما لدى أولئك الشيوعيين وهؤلاء الإسلاميين؟ اليساري العربي المناهض للعلمانية والليبرالية، هو، على الأرجح، إسلاموي متنكر، إسلاموي بقبعة حمراء، على اختلاف درجات اللون الأحمر، بدلاً من عمامة بيضاء أو سوداء. وأردأ ما لدى أولئك وهؤلاء الكارهين هو عداوتهم لـ "الغرب" الرأسمالي، الإمبريالي، العلماني (= الملحد) والكافر والمنحل أخلاقياً. هذه العداوة هي في الواقع عداوة للأفكار والمناهج والقيم، تريد أن تغطي تبعية اقتصادية وسياسية ذليلة.
وهي إلى ذلك عداوة للتمدن، كما يقول النص الآتي: "يبدو مد السكك الحديدية أمراً بسيطاً وطبيعياً وديمقراطياً وثقافياً وتمدنياً، وهو يبدو كذلك في عيون الأساتذة البرجوازيين الذين تُدفع لهم الأجور لكيما يجملوا وجه العبودية الرأسمالية، وفي عيون البرجوازيين الصغار التافهين الضيقي الأفق. أما في الواقع، فإن الخيوط الرأسمالية التي تربط بألوف الشباك هذه المشاريع بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج بوجه عام قد جعلت من مد السكك الحديدية أداة لاضطهاد مليار من الناس[1]".
أن ترغب في مد السكك الحديدية في بلادك أو بين البلدان والدول، أو أن تؤيد من يفعلون ذلك، فأنت أستاذ بورجوازي مأجور للدفاع عن العبودية، أو بورجوازي صغير تافه وضيق الأفق، فكيف إذا كنت ليبرالياً وديمقراطياً علمانياً، لا تحب الديمقراطية الشعبية، ولا تحب لينين وستالين وحافظ الأسد وصدام حسين، وتسرك إزاحة محمد مرسي وعمر البشير عن الحكم، وتطالب بمحاكمة بشار الأسد؟!.
حدد أندريه لالاند معاني الليبرالية في موسوعته على النحو الآتي: أ – مذهب سياسي يرى أن من المستحسن أن تزداد إلى أبعد حد ممكن استقلالية السلطة التشريعية والسلطة القضائية عن السلطة الإجرائية / التنفيذية، وأن يُعطى للمواطنين أكبر قدر من الضمانات في مواجهة تعسف الحكم. ب – مذهب سياسي – فلسفي يرى أن الإجماع الديني ليس شرطاً لازماً، ضرورياً، لتنظيم اجتماعي جيد، ويطالب بحرية الفكر لكل المواطنين. ج - مذهب اقتصادي يرى أن الدولة لا ينبغي لها أن تتولى وظائف صناعية ولا وظائف تجارية، وأنها لا يحق لها التدخل في العلاقات الاقتصادية التي تقوم بين الأفراد والطبقات أو الأمم. بهذا المعنى، يقال غالباً ليبرالية اقتصادية. تتعارض مع الدولانية أو حتى بنحو أعم مع الاشتراكية. د – احترام استقلال الآخر، تسامح، وثقة في الآثار الجيدة للحرية[2].
المعاني الواردة في هذا التعريف تستبعد معنى العقيدة و"الدعوة"؛ أي الأيديولوجية، من كلمة "مذهب"، وتحيل، كما في العربية، على نهج أو طريق (اسم المكان من الفعل ذهب)، خاصة أن الليبرالية تعني، في هذا التعريف، التسامح واحترام استقلال الآخر، وتعني الثقة في الثمار الجيدة للحرية، وتطالب بحرية الفكر للجميع.
ومن ثم، يمكن القول إن حرية الفرد (الذكر والأنثى) وحقوق الإنسان والمواطن/ـة هما ركنان أساسيان من أركان الليبرالية؛ ونحن نذهب إلى أن الليبرالية هي النسغ الحي، الذي تتغذى منه الديمقراطية وتغذيه، اليوم وغداً؛ والذي يجعل الديمقراطية تعالج اختلالاتها، وتجدد نفسها ذاتياً. فالليبرالية هي الأكثر اتساقاً وتناغماً مع الطبيعة الإنسانية، التي قوامها الحرية. أما عن تعارضها مع الاشتراكية، في قول لالاند، ففيه نظر، وقد يكون نوعاً من الخُلف، لأن الليبرالية لا تتعارض مع العدالة، بل هي التي تؤسس العدالة على المساواة والحرية وتكافؤ الفرص، فتتجاوز العدالة بذلك معنى "أن تأخذ بحق وتعطي بحق"، و"أن تعطي كل ذي حق حقه" ... إلى توزيع الموارد المادية والخيرات الاجتماعية وتوزيع السلطة توزيعاً عادلاً بين الفئات الاجتماعية، حسب مواقعها على سلم الإنتاج، ولأن فكرة الاشتراكية ذاتها واحدة من ثمرات الليبرالية، وكذلك "الديمقراطية الاجتماعية".
لقد كان كارل ماركس (1818 - 1883) يراهن على تطور الديمقراطية الليبرالية ذاتها للوصول إلى الاشتراكية، ثم إلى الشيوعية، قبل تشكيل "عصبة الشيوعيين" (1847) ثم تأسيس "الأممية الأولى - الجمعية العالمية للعمال" (1864). ومنهجه في كتاب "رأس المال" لا يتناقض مع ذلك الرهان، إذ يوكد طابع الضرورة التاريخية للملكية الخاصة. وكان قد أشار، في "المسألة اليهودية"، أيام شبابه، إلى "إلغاء الملكية الخاصة سياسياً"، بحق الاقتراع العام[3]، وإلغاء الدين سياسياً أيضاً، وإلى أن نمو الديمقراطية وتطورها يفضيان إلى اضمحلال المجتمع المدني واضمحلال الدولة السياسية معاً، لتنشأ ما سماها "الدولة المادية"، التي هي تجاوز جدلي، ديالكتي، للدولة الديمقراطية الليبرالية. وقد وصف الدولة المادية بأنها "وحدة الشكل والمضمون"، أي إن الدولة تصير شكلاً مطابقاً لمضمونه، وهو الشعب، وتصير الديمقراطية بالفعل حكم الشعب نفسه بنفسه.
الفردية في الليبرالية مؤسسة على فكرة الإنسان؛ أي على الهوية الجذرية (الإنسانية) لأي فرد على الإطلاق
ذكرنا تشكيل عصبة الشيوعيين والجمعية العالمية للعمال، (الأممية الأولى)، للإشارة إلى ما للتحزب من أثر في تقييد التفكير، وتغليب الأيديولوجي على المعرفي، وقد برز هذان بوضوح في "الماركسية اللينينية" ثم "الماركسية اللينينية - الستالينية" والماركسية الصينية.
المبدأ الحاكم في الليبرالية هو اختيار المنفعة (العامة) اختياراً حراً؛ والغاية المتوخاة من الاختيار الحر للمنفعة العامة هي السعادة: أعظم قدر ممكن من السعادة لأعظم قدر ممكن من الناس. والسعادة هي جملة من الشروط الإنسانية، التي تمكن الناس من تلبية حاجاتهم، وتحقيق ذواتهم، والتصالح مع عالمهم، الذي هو من إنتاجهم. وهذا ما يمكن ترجمته فلسفياً بنفي اغتراب الإنسان عن عالمه وعن ذاته. المنفعة العامة، في نظر الليبراليين، هي المعيار الأول لجميع القيم؛ وأعظم القيم والمنافع الاجتماعية هي الحرية.
الحرية ليست وسيلة للسعادة، بل هي السعادة ذاتها[4].
الذين يقولون بأولوية المجتمع على الفرد، وبأن الأفراد يكونون كما تكون مجتمعاتهم، يأخذون على الليبرالية احتفاءها بالفرد والفردية، واعتبار الفرد أساس المجتمع المدني والمواطن/ـة أساس الدولة الوطنية، وأن المجتمع لا يكون إلا كما يكون أفراده. ولطالما فُهمت الفردية في بلادنا، ولدى مثقفاتنا ومثقفينا فهماً خاطئاً، نظراً لمعنى الفردية في الثقافة العربية، والاجتماع العربي، ونظراً لمعنى الحرية أيضاً.
الفردية في الليبرالية مؤسسة على فكرة الإنسان؛ أي على الهوية الجذرية (الإنسانية) لأي فرد على الإطلاق، إنها وحدة الماهية والوجود، أو وحدة الماهية والهوية (الفرد، الذكر والأنثى، هو كائن كلي، فرد / نوع؛ الفرد هو الوجود العياني للنوع، أو للماهية الإنسانية. أجل، الفردية من المنظور الليبرالي هي وحدة الماهية والوجود. من هذه الوحدة فقط تنبع المساواة بين جميع الأفراد والجماعات، وبين النساء والرجال، في الكرامة الإنسانية وفي الأهلية والجدارة والاستحقاق، بخلاف معنى الفردية، في الثقافة العربية، الفردية التي قوامها "هوية" حصرية، والفرد الذي قوامه هوية حصرية: عشائرية أو إثنية أو دينية أو مذهبية، "هوية بلا ذات، فردية، ماهيتها عشيرة أو عقيدة أو حزب. (وما أنا إلا من غزيَّةَ إن غوت ... غويت وإن ترشُد غزية أرشد[5])".
الحرية، المنفعة، السعادة هي ثالوث الليبرالية[6]، التي لا يفوت أوانها[7]؛ هذه العناصر تشكل مجتمعة أو فرادى، الأساسَ المعرفيَّ والأخلاقيَّ لسائر الاتجاهات الفكرية الحديثة والنظم الاجتماعية والسياسية الحديثة، وإن غلب على بعضها عدم الاعتراف بهذا الأساس، أو مناهضته أيديولوجياً، على نحو فعلت الماركسية السوفييتية، على سبيل المثال. الليبرالية هي الأساس المعرفي والأخلاقي لسائر الاتجاهات الفكرية والنظم الاجتماعية والسياسية الحديثة، مثلما الديمقراطية، (من ديموس، الشعب)، هي مضمون جميع أنظمة الحكم، بما في ذلك الأنظمة المعادية للديمقراطية، هذا، لأن الليبرالية هي النسغ الحي للحداثة وجميع منجزاتها الفكرية والعلمية والأدبية والفنية والسياسية.
حين نفترض أن الليبرالية هي الأساس المعرفي والأخلاقي لسائر الاتجاهات الفكرية والنظم الاجتماعية والسياسية، إنما نتحدث عن أساس مطمور، أشبه "بالجذور، التي تقوم بوظائفها من دون أن تظهر"، حسب تعبير جون استيوارت ميل. هذا الافتراض ناتج من اعتبار الحرية أساساً أولياً ومعياراً مطلقاً لمبادئ العقل والأخلاق. والأخلاق هي أساس الدين ومرجعه، لا العكس. وقد أكدنا مراراً ارتباط العقل بالأخلاق، فالعقل وحده لا يتجه بالضرورة إلى الخير والحق والجمال، ولا يتجه بالضرورة إلى المنفعة العامة.
ما من شك في أن هنالك بعضَ تطرفٍ في الحريات الفردية، في بعض الأوساط الأمريكية والأوروبية، وهو من قبيل الحريات المشرَّعة ذاتياً، والفالتة من الروابط الاجتماعية والإنسانية؛ أي من قبيل البطر أو فائض القوة أو فائض الثروة أو فائض السلطة، إذا جاز التعبير، ومن قبيل اللامبالاة بحريات الآخرين وحقوقهم. هذا التطرف ليس ناتجاً من الليبرالية، في تقديرنا، بل من التراجع عن القيم الليبرالية، والذي يوصف، على وجه التعميم، بأنه "ليبرالية جديدة"، أو من ترهل الليبرالية. نعني بالتراجع عن القيم الليبرالية ضمور العلاقة بين الماهية والوجود، والانتكاس إلى ما قبل الليبرالية؛ أي إلى العنصرية والتمييز العرقي والتعصب الديني، وقد بلغت هذه الظواهر أوجها في الشعبوية والسلطوية والاحتكار وكره اللاجئين. ولا ننفي تطرف الليبرالية الاقتصادية المسماة ليبرالية جديدة أيضاً، كما لا ننفي الاستغلال المفرط ودكتاتورية السوق، وندرك الآثار المدمرة لـ "رأسمالية المحاسيب"، في بلادنا، التي تقترن فيها الحرية بالثروة والسلطة والجاه، مجتمعةً أو فرادى، كما ندرك الآثار المدمرة للتسلط والاستبداد.
[1]- فلاديمير لينين، الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية، نسخة إلكترونية محذوف منها اسم المترجم والناشر وتاريخ النشر، ص 3 من مقدمة لينين للطبعتين، الفرنسية والإنكليزية. والنسخة متاحة على الشبكة.
[2]- أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، ترجمة خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت وباريس، الطبعة الثانية، 2001، ص 725 وما بعدها.
[3]- باور وماركس، حول المسألة اليهودية، ترجمة الياس مرقص، دار الحقيقة، بيروت، بلا تاريخ، ص 178
[4]- ما يؤخذ على الليبرالية، اليوم، أنها لم تنجز وحدة الماهية والوجود، إلا في المدونات القانونية، لذلك لا تزال النزعات العنصرية والتعصبات الدينية تلابس الحياة الاجتماعية والسياسية، وتُنسب إلى الحداثة ظلماً، مع أنها رسابات من ماضي الحداثة.
[5]- بيت من قصيدة للشاعر "الجاهلي" دريد بن الصمة.
[6]- هذا الثالوث لا يمكن اللعب عليه، كما لعب القوميون من العرب على ثالوث الوحدة والحرية والاشتراكية تعجيلاً وتأجيلاً، في الخطاب، لا في الواقع.
[7]- لقد انتهت حركات التحرر من الاستعمار، في العالم العربي، نهايات فاجعة وكارثية لأنها نأت عن هذا الثالوث الليبرالي.