دفاعًا عن حرية المعتقد
فئة : مقالات
لا ينتبه الذين يقفون ضد حرية العقيدة، باسم هذا الدين أو ذاك، إلى أنهم يتخذون موقفًا مضادًا لطبيعتهم الإنسانية، من حيث كونهم بشرًا يتمتعون بنعمة العقل وملحقاته الذاتية من حرية ومسؤولية، وقدرة على التمييز بين الخير والشر، وحق في الاعتقاد والاختيار.
وحينما نـتأمل في روح الدين الحنيف نجده قد بنى كل تعاليمه للأتباع على مبدإ التكليف العقلي المقترن بالقدرة على الفعل والاختيار، أو بكلمة واحدة، على مبدإ الحرية، إذ يرفع التكليف عن الإنسان العاقل حينما يكون في وضع تنتفي فيه حريته.
إن هذا الأساس الذي يربط المسؤولية الإنسانية باجتماع العقل والحرية هو الذي قامت عليه حركة التنوير الفكري؛ إذ ليس التنوير شيئًا آخر غير إخراج الإنسان من حالة القصور والوصاية والتبعية إلى حالة يصبح فيها مالكًا لزمام المبادرة في كافة شؤونه الذاتية وسيد قراراته الشخصية.
إن الحديث عن حق الإنسان في الاختيار لا معنى له إلا حينما يكون هذا الإنسان، المشار إليه والمتعين في الزمان والمكان، مخيرًا في كافة قراراته الحياتية، وفي مقدمتها، حقه في اختيار عقيدته وممارسة طقوسها وتعاليمها، في أجواء من الاحترام التام لعقائد وملل الآخرين.
وهكذا تكون حرية العقيدة أفضل ضمان ووسيلة لصيانتها؛ أي العقيدة، وحمايتها من كل مساس بمقدساتها أو انتهاك لحرماتها، ولا أدل على ذلك من أن الدول التي لا تفرض وصاية على عقائد وشعائر رعاياها، وتعاملهم على أساس المواطنة الخالصة، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية، أومشاربهم المذهبية هي أكثر المجتمعات التي ينتشر فيها التدين السليم.
أما المجتمعات التي تفرض القيود والأغلال على عقائد الناس، وتحرمهم من حقهم الطبيعي والإنساني في بناء معتقداتهم على نحو يتمتعون فيه بحريتهم كاملة؛ فهي لا تفعل ذلك محبة في الدين أو شعورًا بالحنين إلى صفاء عقيدة المواطنين، وإنما تقوم بذلك لأنه أفضل ضمانة لتكريس هيمنتها وتأبيد استبدادها.
وهكذا انتبه فلاسفة الأنوار إلى أن النواة الصلبة التي يقف عليها الاستبداد، هي تجريم حرية الاعتقاد، فإذا ما تم اختراق هذه النواة ببيان تهافتها ومعارضتها لصريح الوحي الإلهي ولمقتضيات العقل الإنساني، فسيكون ذلك فتحًا عظيمًا لعهد يرتقي فيه الإنسان إلى مرتبته الطبيعية كإنسان، يسترجع فيها كافة حقوقه الإنسانية التي أهدرتها شرائع التسلط والاستبداد.
إن أي حديث عن التجديد الديني والتصحيح الفكري لن يكون مجديًا ومفيدًا إن لم يتخذ من فك الناس من قيود الاستبداد العقدي مطلبًا عزيزًا، لأنه حينئذ سيكون قد سد باب الذريعة الأولى التي ينفذ منها المستبدون بسهولة، وهي فرض الوصاية على الأمة باسم حماية عقيدتها، بينما العقيدة بريئة من ذلك براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام.
إن جماح الأوصياء على عقائد الناس لا تقف عند حد؛ فهم لا يكتفون بتحريم حرية الاختلاف في الدين وتجريم الحق في المروق عن معتقد الجماعة المهيمنة، بل يجرمون حق الاختلاف داخل الدائرة الدينية الواحدة، حيث يكفرون المارق عن طائفتهم، والمخالف لمذهبهم، ويستبيحون دمه ويستحلون ماله.
هكذا نجد في تاريخنا، وفي تاريخ غيرنا من الأمم والشعوب، الكثير من المجازر التي اقترفت باسم الدين، والدماء التي سالت على مذابح التكفير الديني والطائفي والمذهبي؛ بل ما بالنا نذهب بعيدًا، ونحن نعاين في زمننا هذا، وفي مدننا هذه، الجرائم التي ترتكب يوميًا باسم الدين أو المذهب في إقليمنا العربي، حيث الشيعي يقتل السني، والسني يقتل الشيعي، باسم الدفاع عن "دين الله" ودين الله الحنيف بريء منهما معًا.
إن إشكالية حرية المعتقد شكلت العقبة الكبرى التي افتعل حولها نقاش مغلوط خلال مرحلة ما بعد الربيع الديمقراطي، مما ساهم في هدر وقت ثمين من زمننا السياسي، حال بيننا وبين تحقيق الانتقال المنشود إلى الديمقراطية في أقصر مسافة زمنية ممكنة.
وقد عجز إسلاميو الربيع، تجاوز هذه العقبة الفكرية، مما وفر لخصومهم عددًا من المبررات والأسباب لإفشال تجربتهم وتخويف الناس منها، وما ذلك إلا بسبب تماهي ما يعرف بـ"التيار الوسطي الإسلامي" مع عدد من الأطروحات "السلفية" التي تشد الأمة إلى الوراء، مما يطيل من أمد ديكتاتورية حكم القوة والغلبة.
لقد نسي الإسلاميون أن الصناديق التي حملتهم إلى مربع السلطة كانت نتيجة لثورات شعبية، قامت في ميادين التحرير وساحات التغيير، داعية إلى الحرية الإنسانية والعدالة الاجتماعية، ومطالبة برحيل قوى القمع والفساد والاستبداد، ولم يكن مطلبها في أي وقت من الأوقات تطبيق الشريعة، أو الدفاع عن شرع الله، فهي؛ أي جماهير الناس، تعرف كيف تحمي معتقداتها وتمارس شرائعها الدينية، بعيدًا عن وصاية هذه الجهة أو حماية تلك.
وقد اختارت الإسلاميين انتخابيًا تيمنًا بـ"عذريتهم" السياسية، وأملهم في أن توقع أياديهم على قرارات تاريخية تعيد للسياسة نبلها القائم على القيام على الشيء بما يصلحه. وهل هناك إصلاح أشد إلحاحًا من إصلاح مؤسسة الحكم نفسها، وتحويلها من مؤسسة أمنية قمعية، قائمة على الاحتكار الاقتصادي والفكري، بما في ذلك احتكار الدين نفسه، إلى مؤسسة قائمة على الحكم الرشيد لكافة قضايانا السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟
إن مثل هذا الإصلاح المنشود لن يتحقق بمنطق يختزل الديمقراطية في بعدها التقني الأداتي، وينبذ وراء ظهره بعدها الأخلاقي والقيمي الذي يرتكز على الإنسان بما هو كائن يجمع بين حكمة العقل ونعمة الحرية، وفي مقدمتها حرية اختيار عقيدته الدينية والسياسية.
لقد كانت تونس سباقة إلى ثورة الربيع، وها هي تسجل سبقًا آخر على طريق التأسيس الديمقراطي لدولة ما بعد الربيع العربي، بنص دستورها صراحة على حرية المعتقد. ومن دون أن ندخل في تفاصيل النقاش الطويل الذي استغرقته هذه النقطة، وجرأة وشجاعة إسلاميي السلطة في تونس، فإننا نعتقد أن هذا البند الدستوري، يعتبر مدخلاً أساسيًا لبناء دولة عربية حديثة لا تفرض وصايتها وهيمنتها على عقائد الناس، ولا تحتكر بمفردها حق تفسير النص الديني وتأويله بحسب مصالحها وأهوائها.
أما الإسلاميون المتوجسون من مثل هذه القرارات المؤسسة للحرية العقدية، فعليهم أن يستوعبوا جيدًا تجربة الانقلاب العسكري على الديمقراطية في القطر المصري الشقيق،والتي وظف فيها خصومهم السلطة الدينية، لا الإسلامية فقط، ولكن الكنسية أيضًا، بالإضافة إلى انتهازية التيارات "السلفية" المعادية لكل ما هو عصري وحداثي وديمقراطي باسم الدفاع الزائف عن "شرع الله".
إن الدفاع الحقيقي عن العقيدة يقترن اقترانًا عضويًا بالدفاع عن حرية اختيار العقيدة، وحرية ممارسة الطقوس المترتبة عنها، بعيدًا عن كل ألوان الإكراه، وهو الأمر الذي لا يمكن تحقيقه إلا في إطار دولة تتخذ موقف الحياد الإيجابي من اختيارات الناس الدينية، وتخفف إلى أقصى حد ممكن من التدخل في شؤونهم العقدية، ويقتصر دورها على توفير الضمانات القانونية والفعلية لممارستهم لشعائرهم ومعتقداتهم في أجواء من الحرية الفردية والسلم الأهلي والتسامح الإنساني.