دلالة السياق في النصّ القرآني
فئة : قراءات في كتب
دلالة السياق في النصّ القرآني
- ببداية هذه الأطروحة المتميزة، يقف الكاتب أولاً عند أهمية موضوعها، فيعتبر أنّ هذه الأهمية إنما تأتي من كونها تتطلع للكشف "عن مكنونات كثير من المعاني التي تختفي وراء اللفظ، والذي لا يمكن استنطاقه إلا بمعرفة دلالته في النص. من هنا كان للسياق أهمية في الوقوف عند كل لفظ وموقعه من الكلام".
ويلاحظ الكاتب أنّ الدلالة هي "العلم" الذي يدرس المعنى، وفق قواعد وأسس محددة. وحتى بوجود اختلافات بيّنة في الآراء فيها أو من حولها (بين اللغويين والمناطقة على وجه التحديد)، فإنها "تصبّ في مصب واحد، وهو المعنى. فبالدلالة يفهم قصد المتكلم...وهذا الأمر بعينه يوصل إلى أنّ هناك أموراً لا بدّ أن تتوافر للوصول إلى دلالة اللفظ، وهي الأصل والوضع والبيئة والحالة النفسية والمناسبة". ويؤكد هنا أنّ دلالات اللغة يجب أن تكون واضحة، "إذ يحتاجها العامي والقانوني والمثقف والعالم والفيلسوف وعالم النفس والكلّ للوصول إلى فهم المعنى ومقصد المتكلم".
يقول الباحث: إنّ اللغة وضع واصطلاح، أقامتها المجتمعات البشرية للتعبير عن مكنوناتها، فأوجدت العلاقة بين الأشياء والمعنى، بل وبين اللفظ والمعنى. إذ إنّ "التعبير لا بدّ أن يكون لفظاً، ومن هنا نشأت دراسة الدلالة، فقسمها المنطقيون إلى عقلية ووضعية وطبيعية".
ولعل الدلالة الوضعية هنا هي الأهم والأنجع، إذ تتعلق بالكلام في منطوقه ورموزه وإشاراته ورسومه. والكلام هنا "إمّا أن يساق ليدل على تمام معناه، وإمّا أن يساق ليدل على بعض معناه، وإمّا أن يساق ليدل على معنى خارج عن معناه، إلا أنه لازم له عقلاً أو عرفاً. ولكل قسم منها اسم اصطلاحي:
ـ دلالة اللفظ على تمام معناه الحقيقي أو المجازي (مطابقة)
ـ دلالة اللفظ على بعض معناه الحقيقي أو المجازي (تضمن)
ـ دلالة اللفظ على معنى خارج عن معناه، لازم له عقلاً أو عرفاً (التزام)".
ويسوق الكاتب، في حالة المطابقة، قوله تعالى: "إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة"، إذ لفظ بقرة اسم جنس سيق ليدل على تمام ما وضع له؛ أي إنّ الدلالة هنا تسرع إلى ذهن السامع دون التفكير لصورة أية بقرة. بالتالي، يستفاد من اللفظ هنا تمام هذا المعنى، وقد تم التطابق بين معناه وبين الفهم الذي استفيد منه.
بخصوص التضمنية، يسوق الكاتب مثال قول الطبيب للمريض إنّ عليه تناول الفيتامينات. فقد "تضمن كلامه الفواكه والخضراوات، فجزء المعنى فهم من ضمن المعنى المراد".
أمّا بشأن الدلالة الالتزامية، فيقف الكاتب بخصوصها عند قوله تعالى: "وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإنّ الله غفور رحيم". بمعنى أنّ قوله تعالى "فإنّ الله غفور رحيم" الواقع في جواب الشرط، يدل عن طريق الدلالة الالتزامية على أنّ الله يغفر لكم ويرحمكم إن عفوتم وصفحتم".
ويقرّ الباحث بأنّ فهم واقع التعبير الدلالي يحتاج إلى أمور عدة، لا سيما "التجربة والخبرة والسماع، ووضع المستمع والسامع وحالتهما النفسية، وإمكانية الوعي اللغوي مقارناً بالواقع الاجتماعي أو ثقافة السامع والمستمع. إذ الدلالة عند الطفل غير الدلالة عند الشاب والكبير، والدلالة عند الأمّي غير الدلالة عند المتعلم، والدلالة عند المتخصص غير الدلالة عند غيره..." وهكذا.
2- من جهة أخرى، يلاحظ الكاتب أنّ أهمية الدلالة دفعت علماء الأصول لدراستها، فأفردوا لها باباً واسعاً في الدرس الأصولي أطلقوا عليه "مباحث الألفاظ"، أي ذاك "العلم" الذي يهتم بأصل اللفظ ودلالته ودقة معناه وسياقه.
ويلاحظ بالآن ذاته أنّ علماء الأصول قد قدموا آراء في الدلالة أكثر دقة من غيرهم، و"السبب يعزى إلى دقة ما يبحثون عنه، لعلاقته بعقائدهم وبفروع دينهم التي تتطلب فهم كل لفظ ومناسبته وسياقه. وهذا قد لا يخوض فيه علماء اللغة، لأنّ بعض الآراء لا تكون إلا ترفاً فكرياً. فالفكر الأصولي عادة يفكر في الحلول التي تدفع المشكل الذي يواجه الفقيه، وإن كان أحياناً لا يجد حلولاً كافية".
وقد عمد علماء الأصول إلى تقسيم الدلالة إلى تصورية وتصديقية. دلالة تصورية وهي أن ينتقل "ذهن الإنسان إلى معنى اللفظ، بمجرد صدوره من لافظ، ولو علم أنّ اللافظ لم يقصد، كانتقال الذهن إلى المعنى الحقيقي عند استعمال اللفظ في معنى مجازي، مع أنّ المعنى الحقيقي ليس مقصوداً للمتكلم، وكانتقال الذهن إلى المعنى من اللفظ الصادر من الساهي أو النائم أو الغالط". ودلالة تصديقية: "الدلالة أنّ المعنى مراد المتكلم اللفظ وقاصد لاستعماله".
كلّ هذا عن الدلالة، أمّا السياق، فهو "بناء نصي كامل من فقرات مترابطة، في علاقته بأي جزء من أجزائه، أو تلك الأجزاء التي تسبق أو تتلو مباشرة فقرة أو كلمة معينة. ودائماً ما يكون السياق مجموعة من الكلمات وثيقة الترابط، حيث تلقي الضوء لا على معاني الكلمات المفردة فحسب، بل على معنى وغاية الفقرة بأكملها".
السياق هنا ليس سياقاً لغوياً فحسب، بل هو أيضاً سياق موقف، نزولاً عند ما يُسميّه العرب "لكل مقام مقال". وهذا معناه ميل هؤلاء للدلالة السياقية أكثر من الميل إلى الدلالة اللفظية، لأنّ السياق يعد حجة المحتج ومقصد الفهم في المعنى. فقد لا يجزي اللفظ عن المعنى المقصود إلا بالقرائن أو بالسياق، لأنّ اللفظ يحتمل أوجهاً في التعبير، كما أنّه يصل إلى المتلقي بصور مختلفة، فضلاً عن أنّ الوضع الذي يساق فيه الكلام له أثر واضح".
من ناحية أخرى، فقد أولى علماء الأصول أيضاً أهمية كبرى للسياق، عندما رأوا أنّ اللفظ لا يمكن تفسيره بمفرده. والسرّ في تركيز علماء الأصول على السياق كونهم يعتبرونه من "أساسيات فهم النصوص التي تتعلق بالجانب العقائدي"، وما يتصل بها من أمور الدين المرتبطة بالحياة الاجتماعية والتشريعية وما سواها: السياق عندهم ضروري للوصول إلى المعنى، لا سيما المعنى المتضمن في النصوص الشرعية.
3- ولدى توقفه عند لفظ القرآن، يلاحظ الكاتب أنه عند سماع هذا اللفظ، يتبادر إلى الذهن معنى دلالي قوي، إمّا وجداني أو عقدي. وهنا يقسم اللفظ إلى مفهوم دلالي أولي، أي ما يتفق عليه السامعون، ومفهوم دلالي ثانوي ذي حمولة مجازية ضمنية.
المفهوم الأولي، بنظر الكاتب، "لا بدّ أن يتعرض له المتعرض، لأنّه يأتي الذهن مباشرة، دون التفكير في أصل اللفظ وعمق دلالته، فيشكل في ذهن السامع وفي أية لغة، مفهوماً دينياً أو عقدياً".
لكنّ الكاتب يقرّ هنا بأنّ المفهوم الدلالي الأولي لا يبلغ المقصود، وقد لا يترتب عنه شيء آخر سوى كونه بإزاء "شيء" مقدّس. بالتالي، فإنّ الدلالة هنا لا يحلّ عقدتها إلا السياق، لأنّ المفهوم اللفظي الأوسع الذي يحيل على المراد لا يحدده إلا السياق.
إنّ الألفاظ التي وردت في القرآن الكريم، والتي تدل على القرآن كثيرة، لكن أقواها على الإطلاق ألفاظ "الذكر"، و"الكتاب"، و"الفرقان" و"النور": "ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين"، "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، "تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً"، "فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير". وعليه، فإنّ الأسماء التي ذكرت للقرآن الكريم إنما تدل على القرآن، لكن بالمفهوم الدلالي الأولي، أمّا بالمفهوم الدلالي اللفظي، فلا ترد بهذا المعنى إلا إذا ذكرت في السياق.
أمّا لفظ "الكتاب"، فدلالته تختلف كثيراً عن دلالة لفظ القرآن، لأنّ القرآن حسب الكاتب، لم ترد له إلا تسمية واحدة. بيد أنّ كلمة "مصحف" قد تدل على ذلك، لكنها كلمة مستحدثة ولا دليل عليها في القرآن الكريم، والراجح أنها وضعت بعد جمع القرآن وتصحيفه.
من ناحية أخرى، يلاحظ الكاتب أنّ معظم المعاجم اتفقت على معنى القرآن، "بأنه جمعه وضم بعضه إلى بعض. وهذا أول مفهوم سياقي لغوي اعتمد على فهم العلاقات اللفظية ومجاورتها داخل النص، وإن كان لا يعطي معنى دلالياً يصل إلى المعنى المقصود، ولكن هذا الفهم الدلالي لم يكن مقنعاً لو وضع في روح الدلالة. وقد يكون المعنى الدلالي السطحي الذي اعتمد اللفظ بمفرده أعمق بكثير من هذا المفهوم. وهنا يمكن القول إنّ السياق لا يسعف أحياناً في فهم الدلالة. فكلمة "جمعه" وردت قبل "قرآنه" في الآية المباركة (إنّ علينا جمعه وقرآنه)، فإن فسر لفظ قرآنه بمعنى جمعه وضمه، فما الفائدة المتوخاة من دلالة السياق".
بالمقابل، فلو التمسنا المعاني الدلالية الكامنة في النص (من قبيل قوله تعالى: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون")، نلاحظ أنّ السياق يجعلنا نتأمل في لفظ القرآن، وعلاقاته بالألفاظ التي في السياق ذاته. هذا يعطينا معنى جديداً أدقّ من المعنى الدلالي اللفظي المجرد، لأنّ هذا الأخير أعطانا القدسية فقط.
بيد أنّه لو تأملنا السياق هنا "لوجدنا ألفاظاً ذات علاقة هي (خاشعاً متصدعاً، من خشية الله)، وكل هذه تنطوي تحت معنى أعمق، هو عظمة قدسية القرآن غير المحدودة. إذ تصدّع الجبل وتشققه يعطي هيبة للقرآن ولعظمته...وهذا مضمون السياق وجوهره".
ويستدل الكاتب بآية أخرى، ليبين أهمية ومركزية السياق: "قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً". السياق هنا يشعر بأنّ المعنى أريد به التحدي، كما أنّ "الموقف هنا ساعد في فهم أو تعزيز مفهوم السياق". فالآية هنا قد نزلت للرد على النضر بن الحارث الذي ادّعى أنه يستطيع أن يقول مثل هذا القرآن.
إنّ سياق الموقف هو الذي أوضح معنى الموضوع الذي أريد به التحدي. ولكن "اختلف المعنى على وفق كل سياق في النصوص القرآنية، وقد يتفق الغرض البلاغي مع السياق الدلالي للفظ. فالتحدي على سبيل المثال يمكن أن يُعدّ من الأغراض البلاغية في علم المعاني. والتحدي هو ما دلّ على المفهوم السياقي للفظ القرآن، عندما أخذ بنظر الاعتبار في السياق. ولهذا اتضح المعنى الدلالي اعتماداً على السياق".
بامتداد لذلك، يقف الباحث عند لفظ "الكتاب"، الذي ورد في القرآن الكريم. فعندما نقول "الكتاب" يتبادر إلى الذهن الكتابة وما يتعلق بها. وللكتاب معانٍ كثيرة لا يحلّ عقدتها إلا السياق. أمّا قول كلمة "كتاب" بغير سياق، فلا تشكل إلا المعنى الأولي، على العكس من كلمة القرآن، فهي تعطي معنى دلالياً أولياً، يعني القدسية. وهنا لا بدّ من الالتفات إلى أنّ التفسير أو الفهم دون السياق، لا يمكن أن يعتد به اعتداداً كاملاً".
الشيء نفسه يمكن أن يقال عن لفظة "الذكر"، إذ المفهوم الدلالي، كما يرى في السياق، هو ما يتعلق بالتذكير، وهذا ما قد يوافق الدلالة الأولية اللفظية. النص القرآني هنا جلي في إيراد المعنى الدلالي الذي يدور حوله أمران: الذكر بمعنى الحفظ، والذكر الذي يفسر ما يتعلق بالذاكرة أو التذكير.
وقد ورد في بعض النصوص القرآنية أنّ دلالة لفظ "ذكر" في السياق، تعني ما مرّ في الأمم السابقة، أو ما أنزل على الأنبياء السابقين: فالقرآن الكريم، كما كتاب نوح وصحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى، كلها كتب سماوية مذكورة في القرآن، وكلها ذكر.
أمّا بخصوص تسمية القرآن بـ"الفرقان"، فلا يرى الكاتب أنّ ثمة ترادفاً في المعنى، بل لكل لفظ يدل على مفهوم القرآن معنى قائم بذاته. وما يعزز هذا القول أنّ الفرقان في قوله تعالى: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان" جاء معطوفاً، والعطف دليل على المغايرة.
ويتابع الكاتب قائلاً: وقد تباينت الآراء المتعلقة بلفظ الفرقان، إذ زعم المفسرون أنّ التسمية تحيل على معنى نزول القرآن متفرقاً في الزمن أو مفروقاً بعضه من بعض، لأنّه مفصّل بالسور والآيات، أو تفريقه بين الحق والباطل، بين الشر والخير، بين الحلال والحرام، وهكذا.
ويستفاد من كلّ الآراء الواردة في دلالاتها السياقية، أنّ أسماء القرآن لها "مفاهيم كثيرة من خلال السياقات، ولكن بالدلالة الأولية أو بالدلالة المركزية، يلاحظ أنّ المراد هو القرآن".
لا يقف الباحث عند هذه النقطة، بل يتعداها للبحث عن العلاقة بين سياق الموقف وأسباب النزول، لأنّ ذلك من شأنه أن يوصلنا إلى الفهم الدلالي للآيات المتعلقة بالمواقف أو بالأحداث.
ويؤكد الباحث هنا أنّ أسباب النزول يدخلها الزمن والمكان، و"هذا ما يتفق مع السياق التاريخي وسياق الموقف والحال".
4- ويختتم الكاتب دراسته بالتركيز على النقط الأساسية التالية:
ـ يوجد في كلّ نص عوامل عدة تحيط بظرفه، لذلك وجب دراستها جميعاً "دون ترك أي مفردة أو لفظ أو علاقات دلالية توصل إلى المعنى".
ـ إنّ لكل مفردة دلالة إيحائية أو مركزية أو تصورية أو فطرية. وهذه كلها تقود إلى الدلالة التي يمكن أن تساعد في الكشف عن المعنى. ويُعدّ السياق هنا ركيزة من ركائز الترجيح الأساسية في منهج الفهم والتفسير.
ـ لا بُدّ من استحضار الواقع الثقافي والفكري والنفسي الذي يصاحب كلّ لفظ أو مفردة، لأنّ هذا الواقع هو جزء لا يتجزأ من السياق الذي تولد من بين ظهرانيه.