دوائر الثقافة الإسلامية المدونة الرسمية والتدين الشعبي
فئة : مقالات
دوائر الثقافة الإسلامية (1)
المدونة الرسمية والتدين الشعبي
-1-
حسب التاريخ الكتابي عمومًا، تسفر ممارسات التدين في الجيل الثاني عن تراكمات إضافية تنضم إلى منطوق الديانة الأصلي الذي تركه المؤسس. بدءًا من هذه المرحلة، يجري تجميع "النص" التأسيسي، واعتماده في صيغته النهائية، وتستحدث صيغ نصية جديدة تنسب إلى المؤسس ذاته، وتظهر الأشكال الأولى من "العلوم" التي تدور حول النص وتاريخه. وعند انتهائها تكون الديانة قد تحولت عن خصائصها المبكرة ذات الطابع الشفهي والبسيط نسبيًا، إلى منظومة أو منظومات واسعة مكتوبة ومدعمة بتأصيلات نظرية مركبة.
معنى ذلك، أن الديانة الكتابية لم تكن تمر بمرحلة تأسيس واحدة كما توحي أدبياتها المدرسية، بل بمرحلتين تأسيسيتين: مرحلة "التدشين"، ومرحلة "التدوين"، قبل أن تبدأ المرحلة الثالثة والأخيرة، وهي مرحلة "التجميد"، حيث تٌفرض الديانة- في شكل مدونة مذهبية- كنسق تدين جماعي "مغلق" (لا يقبل الإضافة أو التعديل)، ومحصن بسلطة ذات طابع مؤسسي. عبر هذا التقسيم تنكشف الطبيعة التاريخية "للديانة" بوصفها تمثلًا اجتماعيًا لفكرة "الدين" المطلق؛ أي بوصفها صيغة من صياغات ممكنة للتدين تنشأ وتطور داخل الاجتماع، وتنطوي بالنتيجة، على شق زمني يعكس ثقافة البيئة التي تشكلت فيها.
بدءًا من مرحلة التجميد، تطرح المدونة المذهبية نفسها، لا بوصفها نموذجًا مثاليًا للتدين فحسب، بل النموذج الملزم حصريًا على المستويين الفردي والجماعي، وتعتمد المدونة عمومًا على قابليات الامتثال التسليمية الكامنة في فكرة المقدس، لكنها تستمد نفوذها المباشر من سلطة المؤسسة، وهو ما يكسبها وصف الرسمية. في الإسلام- الذي لم يعرف الكهنوت المؤسسي اليهودي المسيحي- تقمصت الدولة السنية دور المؤسسة الدينية كحارسة للدين بمساندة الفقه. وعندما بدأت هذه الدولة مرحلة التفكك كان الفقه قد تحول إلى "مؤسسة معنوية" واسعة، ظل نفوذها يتفاقم تدريجيًا، حتى عادت للالتحام بالسلطة في إطار جديد في ظل الدولة الوطنية الحديثة.
-2-
تقليديًا، تهيمن المدونة بصياغتها المدرسية على الديانة، ومع ذلك فهي لا تستغرق المساحة الكلية للثقافة الدينية، التي تتشكل تلقائيًا وبشكل تدريجي، كي تتسع لممارسات وتيارات تشتغل على هامش المدونة أو تفكر من خارجها. فعلى الدوام، تظل هناك مسافة مرئية أو مضمرة بين مادة المدونة وأنماط من التفكير الديني تضم الكلام، والتصوف، والفلسفة، إضافة إلى أنماط التدين الشعبي الدارج.
على المستوى السني، حيث يهمين الفقه على المدونة، يظهر التشدد واضحًا ضد أشكال التفكير الفلسفي والصوفي، وبدرجة أقل نسبيًا ضد أشكال التفكير الكلامي. وقد اتسعت المدونة السنية بالكاد لتيار الكلام الأشعري بما هو تيار وسطي توفيقي يتناغم إلى حد كبير مع وسطية الشافعي الأصولية التي تنزع إلى النقلية. وتتوجس المدونة بوجه عام من ممارسات التدين الشعبي التي تميل بغريزتها إلى التساهل.
وعلى المستوى الشيعي، حيث تكونت المدونة أساسًا في سياق كلامي، ومن موقع المعارضة، وحيث ظل الكلام يهيمن نسبيًا على الفقه، تبدو المدونة أقل تشددًا حيال التصوف والفلسفة، وأقل توجّسًا من ممارسات التدين الشعبي، التي حافظت على نوع من التواصل أو الاندماج معها، من خلال نظام مؤسسي رابط، يسمح باستمرار الاجتهاد عبر الفقيه الحي.
-3-
يحتوي التدين الشعبي مادة المدونة الرسمية، لكنه يتمثلها بطريقته الخاصة. وفيما يبدو منصاعًا لها في الظاهر بشكل كلي، يقوم بعملية إعادة بناء لمفرداتها، حيث تتلون التصورات اللاهوتية والممارسات الفقهية بروح الشعب لتأخذ طابع المعطيات الدارجة، التي ترجع إلى مخزونات الثقافة التقليدية الموروثة، ومنتوجات الثقافة الجديدة الناجمة عن الاحتكاك بالواقع المعاصر، وهي مخزونات ومنتوجات متنوعة بحكم التنوع الجغرافي والتاريخي.
الفارق بين المدونة الرسمية والتدين الشعبي هو الفارق بين الدين في النظرية والدين في الواقع
قارن مثلًا بين ملامح التدين السني المصري وملامح التدين السني السعودي أو الأندونيسي أو الألباني/ وبين التدين الشيعي اللبناني ومثيله في البحرين/ وبين التدين الإباضي في عمان وفي شمال إفريقيا/ وفي السياق السني المصري قارن الفروق التفصيلية بين ممارسات التدين في الصعيد ومناطق الوجه البحري.
الفارق بين المدونة الرسمية والتدين الشعبي هو الفارق بين الدين في النظرية والدين في الواقع: بما هي نص مكتوب، تظل المدونة نموذجًا معياريًا مثاليًا؛ أي فكرًا، فيما يشتغل التدين الشعبي من داخل الواقع الفعلي، محكومًا بالغرائز الطبيعية وقوانين الاجتماع. وهو ما يكفي لخلق منطقة ضرورية "ثالثة" تشير إلى فارق طبيعي بين حالة التدين العملي وفكرة الدين المكتوب. ليس ثمة نموذج معياري (أي ثابت بطبيعته) قابلًا للتحقق حرفيًا في الواقع (أي المتحرك بطبيعته). في مقابل المدونة الرسمية كنسق نظري مغلق ينتمي إلى الماضي، يعبر التدين الشعبي عن الدين في تجليه الآني الحي، وهو ما يعطي التدين الشعبي خصائصه المميزة:
1- في مقدمة هذه الخصائص، يبرز الطابع الاحتوائي التعددي الذي يمكنه من استيعاب التعددية، خلافًا للمدونة الرسمية ذات التكوين الأحادي الحصري. تتجاهل المدونة الطبيعية التعددية للاجتماع على مستوى الشعوب والجماعات والأفراد، في حين أن الفعل الشعبي يمضي في اتجاه الطبيعة التعددية في استجابة مباشرة لغريزة الاجتماع. متجاوزًا توجهات المدونة (التي تنفر من التصوف بما هو تفكير في الدين بالحدس المباشر أو بالتجربة الذاتية، وتنفر من التفلسف بما هو تفكير في الدين من خارج النسق النقلي على مستوى الموضوع والمنهج، وتنفر من الكلام بما هو تفكير في الدين من خارج النسق على مستوى المنهج) يتسع التدين الشعبي لجميع هذه الأشكال من التفكير الديني ويتفاعل معها من خلال مخزونه العفوي الأقرب بطبيعته إلى منابع الوعي الروحي المباشرة، ومن هذه الزاوية يظهر تجاوبه الخاص مع مضامين وآليات التدين الصوفي، رغم كراهية المدونة.
من هذه الزاوية، يظهر التدين الشعبي قادرًا على استيعاب ما يمكن تسميته "بثقافة الاجتماع الخام"، وهي الثقافة العامة التي تصدر عن منابع الوعي والتفكير الاعتيادية، أو هي الثقافة كمجال كلي مقابل للمجال الديني. دائمًا ومنذ البداية كان ثمة فضاء اجتماعي لا يتطابق مع الفضاء الديني، لكن وعي الفضاء الاجتماعي بذاته مقابل الفضاء الديني لم يكن حاضرًا بنفس الدرجة من الوضوح لفترات تاريخية طويلة سابقة على المراحل الحديثة، حيث ظل الدين يفرض هيمنته الواسعة على المجتمع عبر التحالف المتواصل بين المؤسسة الدينية والدولة، خصوصًا بعد تأميمه لوظيفة القانون وتحوله إلى نظام شمولي يحتوي على شريعة قابضة (بدءًا من النموذج العبري بشكل واضح).
ومنذ هذه الزاوية أيضًا، يبدو التدين الشعبي أقدر على التسامح مع الآخر الديني من موقع المشاركة التي يفرضها الواقع قياسًا إلى المدونة الفقهية التي تنطلق من أرضية نظرية حصرية، والتي تكونت بامتداد عصر التدين في سياق اجتماعي أحادي على وقع الانتصار السياسي للدولة.
يمكن قراءة العلاقة بين التدين الشعبي الاعتيادي والتدين الأصولي المتطرف كعلاقة نفور متبادل في صميمها
-4-
كخاصية بارزة- أيضا- يُظهر التدين الشعبي على الدوام مرونة أكبر واستجابة أسرع حيال حركة التطور الاجتماعي قياسًا إلى التدين الرسمي، حتى في صوره الأكثر اجتهادًا. تقوم المدونة على فكرة التأبيد النهائي للشريعة كجزء من بنية الدين المطلقة، وهو ما يفضي إلى صدام ضروري مع حركة الاجتماع الخام بما هي متغيرة بالضرورة. وهي في هذا الصدد، يمارس الفعل الشعبي قدراته التجاوزية حيال المدونة من خلال "عمليات" متنوعة من الالتفاف، أو الانتقاء، أو التحوير، أو التبرير، أو الترحيل، أو التجميع بقصد الموازنة بين فكرة الإلزام التي تطرحها المدونة، وحاجاته الطبيعية التي تحركها الغرائز وضرورات الاجتماع الواقعية.
في هذا السياق العام، يمكن قراءة العلاقة بين التدين الشعبي الاعتيادي والتدين الأصولي المتطرف كعلاقة نفور متبادل في صميمها، رغم أنها ملتبسة من بعض الزوايا. تنظر الأصولية إجمالًا إلى الممارسات الشعبية كنمط تدين فج متساهل، أو منحرف عن النموذج المكتوب، وتابع دائمًا للسلطة العلمانية الخارجة غالبًا عن الدين. فيما يشعر الشارع الاعتيادي بالطبيعة الأحادية المتزمتة للأصولية، وإيقاعها التكليفي الخشن النافر من العفوية والتعدد (تفترض الأصولية إمكانية إلغاء الفجوة الطبيعية بين المدونة والممارسات الاعتيادية).
بوجه عام، ورغم تسرب بعض التصورات المغلقة من ثقافة المدونة بفعل التفاقم الأصولي، لا تزال الممارسات الشعبية في مجملها أوسع انفتاحًا على المضامين الدنيوية، أو أكثر تصالحًا مع فكرة الحياة من أدبيات المدونة التقليدية المنحدرة من تراث ديني متشائم بطبعه.
كيف يمكن العمل على إحياء وتنشيط خصائص التدين الشعبي في موجهة الحالة الأصولية التي تستدعي إلى المجتمع أسوأ ما في تراث المدونة: الشق الشكلاني الجاف والخشن على حساب جوهر الدين وقيمه الكلية المطلقة ذات المضمون الروحي الإنساني.