دور التعبئة الرقمية في الحشد للحراك الاجتماعي
فئة : مقالات
مقدمة:
شهد العالم خلال السنوات القليلة الماضية، موجة حراك وزيادة مطردة في الاحتجاجات الشعبية، وخروج أعداد من الناس لممارسة حقهم في الاحتجاج والمطالبة بالتغيير والإصلاح الاقتصادي والسياسي، مع دعوات للمراجعة الشاملة للسلطات التنفيذية والاعتراض على رفع أسعار سلع أساسية، وأسعار تذاكر المترو والاحتجاج على سياسات الحكم، ومكافحة التدهور البيئي.
بداية من تونس ومصر ودول الربيع العربي وما حدث فيها من صور متعددة للتعبئة والاحتجاج، مرورا بشوارع هونغ كونغ، ولاباز، وكيتو، وبرشلونة، وبغداد، وبيروت، وسانتياغو، والجزائر والخرطوم، كانت مظاهر الاحتجاج - ولازالت - في مقدمة نشرات الأخبار وعلى مرأى ومسمع مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تتواصل الاحتجاجات في بعض البلدان، مثل الجزائر ولبنان، وهونغ كونغ على مدى فترات زمنية طويلة نسبيًا، كان القاسم المشترك في هذه الاحتجاجات التزامن اللافت في حدوث الاحتجاجات والحراك بعد تناول إعلامي داخل الفضاء الرقمي، ودعوات للخروج والحشد والتعبئة الرقمية.
تحوّل الانتباه نحو الحشد والتعبئة الرقمية على مواقع التواصل الاجتماعي، باعتبارها المصبّ الوحيد - نسبيًا- للتعبير الاجتماعي الحرّ، حيث أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي تسيطر على المشهد الإعلامي والاجتماعي، إلى حدّ بناء واقع موازٍ للواقع الفعلي.
مع تحول تلك الوسائل إلى وسائل ذكية رقمية، مثل أجهزة الكمبيوتر المحمولة والهاتف الذكي، ظهر مستوى جديد من الطرق التي تتم بها تعبئة التحالفات
يسعى هذا المقال إلى الكشف عن مفهوم التعبئة الرقمية، وطبيعة العلاقة بين التعبئة الرقمية والحراك الاحتجاجي في الشارع، ومدى إمكانية أن تتطور هذه الدعوات وصور التعبئة الرّقمية إلى حراك أوسع نحو التغيير أو العصيان المدني.
أولاً: التعبئة الاجتماعية... مقاربة المفهوم
كان التواصل الداخلي والخارجي للحركات الاجتماعية ولازال، يعتمد بشكل كبير على التفاعل المباشر بين الأشخاص الحاضرين جسديًا، ومع ذلك، على مدار مئتي عام على الأقل استكمل التفاعل المباشر بوسائل مختلفة مثل المنشورات والكتيبات، والرسائل الإخبارية للوصول لأعداد كبيرة من الناس، وفي الفترات اللاحقة، غطت الصحف والإذاعة والتليفزيون بعض الحركات الاحتجاجية، وظهرت المقولة الشهيرة (العالم كله يشاهد The whole world is watching)، بالتأكيد لم تحدث ثورة من قبل عن طريق الهاتف أو آلات وأجهزة الفاكس، لكن مع تحول تلك الوسائل إلى وسائل ذكية رقمية، مثل أجهزة الكمبيوتر المحمولة والهاتف الذكي، ظهر مستوى جديد من الطرق التي تتم بها تعبئة التحالفات، وإعلامها، وممارسة الضغوط، والتواصل مع الحركات الاحتجاجية وغيرها.[1]
ويشير مفهوم التعبئة إلى أنها كسب التأييد، وتقديم الالتماس، والإجراءات التي تهدف إلى إقناع الآخرين بوجهات نظر معينة، واستراتيجيات مرتبطة بوضع المجموعة الاجتماعية، مما يؤدي إلى اتخاذ إجراءات ومواجهة شخصية بشكل مباشر، مثل أشكال الاحتجاجات، أو العصيان المدني، أو التخريب أو الحصار[2]، كما تُعرف بأنها الإجراء الذي يحشد من خلاله التجمع، وتتمّ تعبئة الموارد، ويضعها تحت السيطرة الكلية لسببٍ ما، ولدعم مصالح مجموعة اجتماعية من خلال العمل الجماعي[3]، تبرز التعريفات السابقة بعدًا يجسّد التمييز بين الإجراءات التي تتطلب مشاركة العديد من أعضاء المجموعة الاجتماعية (النزاعات العمالية، المظاهرات، والتضامن الجماعي) مقابل الإجراءات التي يمكن أن تؤخذ تحت الحراك الانفرادي نسبيا (التخريب، والعصيان المدني، والحصار)، باعتبار هذه الأشكال الفردية لا يمكن اعتبارها توجها جماعيا، عندما لا يكون المقصود منها وسيلة لتحقيق نتيجة جماعية.
ما يفعله الإنترنت بالتأكيد هو السماح بالتعبئة الفورية في جميع أنحاء العالم، قد يعمل أيضًا كأداة لتوفير المعلومات التي تقمع بواسطة الوسائط الإعلامية الأخرى الأكثر رسوخا
هناك أيضا، تعاريف متنوعة تناولت التعبئة من منظور سياسي بوصفها نشاطًا تفاعليا على الإنترنت، يبرز من خلالها دور المجموعة الاجتماعية في تحسين المسارات والفرص السياسية المأمولة لأعضائها، وروابط الحركات الاجتماعية بالتجمعات والجماعات الأخرى، وطلب الدعم من المجتمع الدولي العالمي، فإذا ما اعتبرت التعبئة نشاطا سياسيا، فهي تشير إلى "العملية التي يحفز بها المرشحون والأحزاب والنشّطاء والجماعات أشخاصا آخرين على المشاركة في العملية السياسية، بهدف الفوز في الانتخابات، أو تمرير قوانين أو تعديل أحكام، أو التأثير على السياسات القائمة"[4].
كما يشير مانويل كاستيلز (2012 - 2015) إلى أن وسائل الإعلام الاجتماعية تولد "نوعا جديدا من الحركات الاجتماعية"[5]، توضّح إشارة (كاستيلز) كيفية استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في تعبئة وتنظيم وقيادة حركات الاحتجاج، ويبرز من خلاله ارتباط مفهوم التعبئة بمفهوم الحركات الاجتماعية، حيث يعرّف كاستيلز Castells الحركات الاجتماعية "بأنها منظمات تحمل منطقًا يتعارض مع المنطق الرّسمي المهيمن على مؤسسات الدولة، وأن الحركات الاجتماعية التي تمت تعبئتها من خلال التدفقات المفتوحة لوسائل الإعلام والاستجابة العاطفية المشتركة التي حدثت في وسائل التواصل الاجتماعي، ساعد على ظهور وفهم مصطلح التعبئة الرقمية التي وفرتها منصات الإنترنت".[6]
ومن هنا نطرح تأثير التعبئة داخل البيئة الافتراضية على الحراك الاجتماعي والسياسي، وهل ظهور فاعلين جدد على الساحة يجعلنا نتوقع كسر الجمود السياسي، أم إننا نبالغ في تقدير نتائج مسبقة خاصة وأن هناك عوامل أخرى تتداخل معها، مثل تصورات الاستجابة الاجتماعية لدعوات الحشد أو القمع المحتمل من قِبل السلطات، ولا بد من التأكيد أن هناك جهدًا واعيا لمعالجة الخصوصية والسياقات الاجتماعية الخاصة بكل دولة، حيث تمثل التعبئة الرقمية العملية طويلة الأجل التي تنعكس على التغييرات في كلا المجالين: (الإعلام والمجتمع).
تلمس الكثيرون طريقهم إلى النشاط والحراك من خلال دعوات مباشرة للمشاركة في وقفات واحتجاجات، أو مظاهرات، عبر روابط الفيديو والهاشتاغات والمنشورات التي يطلقها الأصدقاء والأقران
ثانيُا: الاحتجاجات الرقمية... رؤية تفسيرية
إن سهولة التعبئة الرقمية وخصائصها غير الهرمية والمرنة، قد تقلّل من أهميتها كمورد سياسي تعبوي يجذب انتباه الجمهور، بالإضافة إلى ذلك، قد يتم تخفيض قيمة التعبئة الرقمية من قبل النشطاء أنفسهم، لأنها تفتقر إلى جاذبية تجربة المجموعة و"عامل المتعة" و"المغامرة" المصاحبة لبعض أشكال الاحتجاج الفعلي، ما يفعله الإنترنت بالتأكيد هو السماح بالتعبئة الفورية في جميع أنحاء العالم، قد يعمل أيضًا كأداة لتوفير المعلومات التي تقمع بواسطة الوسائط الإعلامية الأخرى الأكثر رسوخا، كيف إذن تتجسد الحركات الاجتماعية خارج حدود الشّاشات الرقمية؛ فالميل إلى إنشاء مثل هذه التعبئة في المقام الأول، يعكس صفات محددة على الأقل لصانعيها: (عمليات الهوية والموارد التعبوية الجديدة التي يتخذها العديد من النشطاء مسارًا لهم)، هناك طرق عدة تتجسّد بها الحركات الاجتماعية فيما بينها، وبين القوى الاجتماعية التي تسعى للتأثير عليها، وإذا أردنا فهم استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لهذه القوى الاجتماعية في تجسيد الاحتجاجات، علينا أولاً معالجة الصورة الأوسع، وتقديم نظرة عامة على آليات التعبئة الإلكترونية.
لا يمكن فهم التعبئة الرقمية دون النظر في المعتقدات الإيديولوجية، والحاجة لإنشاء هوية جماعية، ومحاولات الإقناع والتعبئة والحشد تجاه القضايا ذات صلة بالبيئة الأوسع
في تفسيرهم للسلوك الاجتماعي، قدم علماء النفس نظرة عامة على نظريات الحركات الاجتماعية، أشار دالتون (1994) Dalton لعدة نظريات، كان أهمها نظرية تعبئة الموارد، ونظرية هيكل الفرص الأساسية، والمنظور الأيديولوجي، ومنظور البناء الاجتماعي (مثل إنشاء نخبة رقمية كالنشطاء والمدوّنين)، كما قدم هيلمان (1998) Hellman طرحًا مشابهًا، ولكنه ركز على الهوية الاجتماعية، وجمع بين نظرية تعبئة الموارد، ونظرية هيكل الفرص الأساسية، بالإضافة إلى نظريات علم النفس، حيث قلّل من دور الحركات الاجتماعية، ليضعها في حيز قرارات فردية للمشاركة في العمل العام، مثل عامل البطالة الذي يغذي الإحباط لدى الجمهور[7].
ويمكن أن نفسر الحركات الاجتماعية من خلال المفاهيم التالية، وهي: (الهوية الاجتماعية، وتعبئة الموارد)، عبر تقاطعها مع تكنولوجيا وسائل الاتصال مثل الإنترنت، و"التي تسهم في إنتاج ثنائية: (الواقعي وغير الواقعي)، (المحسوس والافتراضي)، حيث لا وجود لفواصل بين الافتراضي والواقعي، لا لأن الافتراضي في طريقه إلى أن يحلّ محل الواقع فقط، بل لأنه يعمل على توسيعه وإغنائه ليصل في النهاية إلى تغييره أيضا. ولهذا، فإن العالم الافتراضي، هو عالم اجتماعي بالدرجة الأولى؛ لأنه يتأسس على التفاعل بين الأفراد والجماعات وحتى المؤسسات، وبلورة طرائق جديدة في التفكير وقواعد للسلوك الاجتماعي، وذلك عن طريق ما يتلقاه الأفراد من معلومات وأفكار عبر التفاعل الذي يحدث من خلال أجهزة الاتصال المحمولة مثل (الهاتف الذكي، التابلت، الحاسوب المحمول). "[8]
ثالثًا: الهوية وجوانب الإقناع في التعبئة الرقمية
تلمس الكثيرون طريقهم إلى النشاط والحراك من خلال دعوات مباشرة للمشاركة في وقفات واحتجاجات، أو مظاهرات، عبر روابط الفيديو والهاشتاغات والمنشورات التي يطلقها الأصدقاء والأقران، فيتم استغلال اهتمام الأفراد وفضولهم للدعوة إلى الانضمام، هذا النشاط السياسي غير الرسمي من خلال التعرض غير المباشر للأخبار، من خلال مجموعات العمل أو الأصدقاء أو العائلة، يمكن أن يفتح حراكا اجتماعيا يكون كقوة دافعة للانخراط في الحراك، وجذب التضامن وتشكيل المواقف ودعوة مشاركين جدد، خاصة إن وجد التعاطف الإيديولوجي أو الفئوي لدى المشاركين، أو كان الطرح مرارا وتكرارا من أصدقاء وأقران داعمين.
حقيقة أن مفهوم الهوية يتداخل مع مفاهيم أخرى مثل الإثنية، والقومية، والقبلية، بحسب المنظور والرابط الجامع للجماعة الاجتماعية، ويرى باري بوزان Barry Buzan)[9]) وباقي فريق جامعة كوبنهاغن للدراسات الأمنية، أن صراعات القرن الواحد والعشرين ستكون صراعات هوية في المقام الأول، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وحركات الانفصال في دول كثيرة آخرها انفصال جنوب السودان، وما أطلق عليه بوزان "إشكالية الأمن" هو نتيجة صراع الهوية المجتمعية؛ الفكرة الإشكالية هي أن الهوية عامل لاستقطاب النزاعات والخلافات المعاصرة، وهو ما نراه على مواقع التواصل الاجتماعي حاليًا من تزكية للنزاعات وتزايد الخلافات التي تلعب دورا مهمّا في التعبئة الرقمية.
وباستخدام تشبيه مستوحى من لغة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، يمكننا أن نشير إلى أهمية المحتوى، ووفقًا لهذا الرأي لا يمكن فهم التعبئة الرقمية دون النظر في المعتقدات الإيديولوجية، والحاجة لإنشاء هوية جماعية، ومحاولات الإقناع والتعبئة والحشد تجاه القضايا ذات صلة بالبيئة الأوسع، ووفقًا لهذا المنظور؛ فالأهداف والمحتوى مسألة واحدة، يقول دالتون Dalton على سبيل المثال، إن اختيار الأهداف والبرامج المحددة يعتمد بشكل أساسي على القيم والمبادئ الإيديولوجية للحركة الاجتماعية، بدلا من توقع هيكل الفرص الأساسية، وفي رأي دالتون، فإن الحركات المدعومة ماليا من قبل حكومتها أقل ميلاً لاستخدام الوسائل الراديكالية والتعبئة الأيديولوجية للتأثير السياسي، بدلا من توحيد الرأي العام على هوية واحدة[10].
كيف يمكن إذن، أن تكون أصوات مجموعات متعدّدة ذات معانٍ متباينة، واهتمامات وتعاملات بدون مبادئ ثابتة للهوية مفتاحا للحركات الاجتماعية؟ للإجابة عن هذا السؤال، يشير كاستيلز (2012 - 2015) إلى قوة التأثير المشترك، حيث يقول: "إن الحركات الاجتماعية تحشد أعضاء جدد من خلال (العدوى) العاطفية، وتشجيع الشعور بالهوية المجتمعية بين الأفراد، باستخدام الوحدة العاطفية، تتأثر الجماعات الجديدة التي ترغب في الانضمام إلى الحركة، مع تجنب الخلافات الأيديولوجية المحتملة؛ فالهوية المماثلة تساعد الحركة على الجمع بين المؤيدين المتعددين، وتسمح للمجموعات على الويب بالتأثير من خلال التغلب على التنافسات والاختلافات الأيديولوجية المتأصلة[11]. وعليه، نستطيع تفسير رد الفعل المنقسم على مقتل (قاسم سليماني) كمثال على ذلك، فبعد تأكيد إدارة ترامب من أن (قاسم سليماني) هو من أعطى الضوء الأخضر لاستهداف السفارة الأمريكية في العراق، كان رد الفعل الحاسم في اتخاذ القرار النهائي بتصفيته، وهو ما كشف عن انقسام حاد ما بين من اعتبروه الخبر السعيد في بداية عام (2020) من أصحاب الهوية السنية، وبين آخرين مطالبين بالثأر للشهيد من أصحاب الهوية الشيعية، وفي النهاية استكشاف التوترات بين مصدري الهوية، وهو أمر له تداعياته على أمن وسلامة وتماسك الدول. لذا، يبدو أن الإنترنت يعتمد اعتمادا كبيرا على السياق الاجتماعي والهوية؛ على حد تعبير كاستيلز: "الإنترنت عبارة عن تقنية قابلة للتكيف بشكل خاص، وهي عرضة للتغيير بعمق من خلال ممارستها الاجتماعية، وتؤدي إلى مجموعة كاملة من النتائج الفعلية"؛ فالهوية تصبح مشروعا انعكاسيا لما يحدث داخل الحياة الواقعية، وتحلّ قصص الهوية الشخصية محلّ النصوص الاجتماعية، كأساس للنظام الاجتماعي، فيروي الأفراد قصص الظلم والتهميش، وتصبح هذه الروايات روابط شخصية مع التنظيم الشبكي ككل، بما فيها من روابط سياسية، وقد أوضح كاستيلز (1997) كيف أن تلك القصص الفردية تجد شكلاً للتمكين الشبكي من خلال الإنترنت، وتجعل من الشبكات الاجتماعية مدارا إلكترونيا للتقارب السياسي[12].
من الناحية النظرية، نتلمس خيوط ودلائل لتأثير الإنترنت على قابلية التغيير في السلوك والهوية الاجتماعية؛ وذلك عن طريق الحدّ من قابلية المستخدمين للمساءلة والملاحقة، خاصة في ظل وجود سياقات اجتماعية ذات علاقات قوية بين المجموعات، في هذه الحالة يمكّن الإنترنت أعضاء تلك المجموعة الأقل قوة من التعبير عن الآراء التي قد تتم مساءلتهم أو معاقبتهم من قِبل الأطراف الأكثر قوة. لذا، الميزة التصنيفية الأكثر بروزًا هي "التجميع أو التجمهر"، وتصبح الآثار المعرفية لبروز هوية معينة (شخصية كانت أو جماعية) مورد رئيس لتوليد وتصعيد الحراك الاجتماعي والسياسي.
رابعًا: التعبئة الرقمية وتعبئة الموارد
يرى مؤيدو نظرية تعبئة الموارد، أن مواقع التواصل الاجتماعي بمثابة مورد للتعبئة والتنظيم، للدفع بقضية كان من الصعب المضي بها قدما خارج الإنترنت، ويضم مفهوم تعبئة الموارد بمفهومه الأوسع العديد من أفراد الطبقة الوسطى، بما فيهم من مثقفين ومهنيين، كحركات الستينيات - حركة الحقوق المدنية للسود مثالاً -[13].
اقترح أيضًا منظرو تعبئة الموارد مفاهيم مثل (صناعة الحركة الاجتماعية) و(رواد الحركة الاجتماعية)، مثال ذلك قدرة الشركات الصغيرة والمتوسطة على جمع واستخدام الموارد، مثل المال ووقت النشطاء والمعرفة، وعند استعراض مسارات الحركات الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية، على مدار فترة زمنية طويلة، يمكن أن تكون الموارد (مادية أو غير مادية)؛ فالمال والوقت والمهارات التنظيمية وبعض الفرص السياسية لأعضاء الحركة، والقوى العاملة والتكنولوجيا كلها موارد وسلع ذات قيمة لإحداث التغيير في المؤسسات الاجتماعية والسياسية[14].
شبكات التواصل الاجتماعي كمورد للتعبئة، يمكنها إحداث التغيير بأربع طرائق: تحفيز العمل الجماعي المثير للجدل، الحدّ من آليات قمع الدولة، التأثير على الدعم الدولي للنظام، التأثير والسيطرة على المجال العام
أشار لينش Lench بأن شبكات التواصل الاجتماعي كمورد للتعبئة، يمكنها إحداث التغيير بأربع طرائق: تحفيز العمل الجماعي المثير للجدل، الحدّ من آليات قمع الدولة، التأثير على الدعم الدولي للنظام، التأثير والسيطرة على المجال العام، بالتالي يمكن القول إن الإنترنت مفيد لزيادة الوعي حول أحداث العمل الجماعي، مثل تنظيم الاحتجاجات والمظاهرات الجماهيرية، وتصبح موردًا سياسيًا للتعاون بين المجموعات والتنسيق فيما بينهم، ومكافحة العزلة الاجتماعية[15]، كما يصف برنارد سورج، في فصله المعنون "المتصل/ وغير المتصل بالإنترنت، الموجة الجديدة من المجتمع المدني وتحول المجال العام" (2015)، بأن التعبئة الاجتماعية في أمريكا اللاتينية أصبحت كنظام ديناميكي يتواصل فيه عالم الإنترنت المتصل وغير المتصل بطرائق مختلفة ومبتكرة، يسمح بأن تصبح الشكاوى الشخصية جزءا من المجال العام، اتفقت معه سمر هارلوSummer Harlow (2012) في مقالها بعنوان: "تعليقات المستخدمين وعلاقتها بالاحتجاجات والجهات الفاعلة على الفيسبوك"، وأنه من الممكن تنظيم احتجاجات حاشدة تطالب بالعدالة والتغيير، وبالتالي يمكن للنشاط السيبراني أن يولد اتصالاً اجتماعيا يتجاوز الأبعاد المكانية، نذكر احتجاجات 27 يناير 2017، حيث اندلعت مظاهرات في مطار جون كينيدي (JFK)، والمطارات الأمريكية الأخرى، اعتراضا على حظر الرئيس ترامب دخول مواطنين من سبع دول ذات غالبية مسلمة إلى الأراضي الأمريكية، هذه الاحتجاجات كانت عقب تغريدات على تويتر تحت هاشتاج #JFK #deletuber، في هذا السياق، كانت احتجاجات الأرجنتين وشيلي وكولولمبيا وأورغواي وغواتيمالا والمكسيك، مدفوعة في المقام الأول بعوامل سياسية (الفساد، العنف من قبل الشرطة، عدم الشفافية، قصور المساءلة القانونية)، وحقوق المرأة (التحرش، العنف ضد المرأة، حقها في الإجهاض)، وتصاعدت مع هذه الاحتجاجات ما يطلق عليه "التعبئة الجنسانية"، نذكر ثلاثة أمثلة للتعبئة الجنسانية البارزة التي حدثت في أمريكا اللاتينية في السنوات الأخيرة: حملة (المرأة ليست أقل) Ni Una MenosK في الأرجنتين عام 2015، وحملة (مسيرة الفاسقات) La Marcha De Las Putas في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية عام 2014، وحملة (إذا كنت مقتولة) Si Me Matan في المكسيك عام 2017[16]، من الأمثلة المشابهة تعري فتاة التحرير إبان حكم المجلس العسكري عام 2012، واندلاع احتجاجات رمزية تندد بالعنف المفرط ضد المرأة، وحركة النسويات والناشطات، وغيرها من الاحتجاجات التي تنقل رسائل رمزية عن ضرورة تمكين المرأة.
خلاصة القول، إن الوسائط الرقمية ليست محركا ثوريا، ولا هي سبب الاحتجاجات، ومع ذلك، فإن توافر الكمّ الهائل من المعلومات على تلك الوسائط الرقمية يزيد من وعي الأجيال الشابة بكيفية الظهور ضد أصحاب السلطة الراسخين، وتتجلى كمورد مهم غير خاضع للرقابة في معظمه.
خاتمة:
عند النظر في أسباب التعبئة وتأثيراتها، نفترض أن تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات وثيقة الصلة بعالم اليوم غير المستقر، والعنيف، من خلال عرض أسباب الاحتجاج والتمرد السياسي، يبدو أن التعبئة الرقمية تمنح الحركات والناشطين صلاحيات الاتصال الجماهيري، وتعطيها ظهورا موازيا للثقافة والهويات الاجتماعية الفرعية، في مساحات شبيهة بالحكم الذاتي.
ألقى المقال نظرة على أكثر المفاهيم المؤثرة في التعبئة الرقمية والتحولات اللاحقة في المجال العام، كما ألقى الضوء على الأبعاد الخطابية لبناء الهوية، وجذب الاهتمام لخلق تكوينات جديدة، وإضفاء معنى على هذه التكوينات التي قد يكون لها دور في تقديم الدعم الاجتماعي والثقافي والسياسي، للجهات الفاعلة، بالإضافة إلى دراسة مفهوم الموارد في سياق الإنترنت في محاولة لفهم كيف يمكن لمحتوى منتج من قبل المستخدمين، من تعليقات على الأخبار، وتضمين علامات التجزئة (الهاشتاجات)#، واستخدام تقنيات الوسائط الاجتماعية على الفيسبوك وتويتر ويوتيوب، التأثير في ظهور جيل جديد قادر على تجاوز وسائل الإعلام التقليدية وتعبئة الجمهور.
حقيقةً أن الحكومات والأنظمة حشدت إجراءات مواجهة أو مضادة ترد على مثل هذه التعبئة الرقمية، ومقارنة بالنفوذ المتفشي الذي مارسته التعبئة الرقمية، فإن تلك الإجراءات بشكل عام غير فعالة وغير واضحة، مؤخرا، وفي الحديث عن التعبئة المضادة التي تبنتها الحكومة المصرية، لا ندّعي أن هذه التعبئة أنتجت نتائجا مماثلة للتعبئة الرقمية، إلاّ أنه وفيما يتعلق بالنتائج على المدى القصير (بما في ذلك العواقب الأمنية والاجتماعية)، واجهت الحكومة المصرية ومعظم وسائل الإعلام الرسمية عمليات التعبئة الرقمية بسرعة كبيرة بـ "التعبئة المضادة"، واستخدمت شخصيات عامة وفنانين، منحتهم وسائل الإعلام الرسمية ظهورا قويا على قنواتهم، بالتماشي مع خطة الحكومة في التصدي لدعوات التعبئة والحشد، وفي حديثهم عن الطابع غير الديمقراطي، والعنف المتوقع للاحتجاجات، حاولت الحكومة من جانبها التقليل من أهمية ما يحدث على مواقع التواصل الاجتماعي، وتأكيدها الدائم أن هذه التعبئة ماهي إلاّ دعوات للتخريب، الغرض منها العودة بالدولة إلى نقطة الفوضى من جديد، وفرض الترهيب لعدم الانصياع لمثل هذه الدعوات، وإجبارها على التوقف عند حدودها الرقمية.
المصادر والمراجع
[1] Van de Donk, Wim, et al. Cyberprotest: New media, citizens and social movements. Routledge, 2004, p: 1
[2] Postmes, Tom, and Suzanne Brunsting. "Collective action in the age of the Internet: Mass communication and online mobilization." Social science computer review 20.3 (2002), p: 291
[3] Abdullah, Farhad Hassan. "Revolution in Egypt: Political Movements and Mobilisation of Resources." Insight on Africa (2019): 0975087819848914, p: 4
[4] Krueger, Brian S. "A comparison of conventional and Internet political mobilization." American Politics Research 34.6 (2006): 759-776
[5] Castells, Manuel. "Urban renewal and social conflict in Paris." Information (International Social Science Council) 11.2 (1972), p: 93
[6] Hill, Tim, Robin Canniford, and Peter Millward. "Against modern football: Mobilizing protest movements in social media." Sociology 52.4 (2018), p: 689
[7] Van de Donk, Wim, et al, op cit, p: 6
[8] عبد الإله فرح، "العالم الافتراضي ونظرية الممارسة"، موقع مؤمنون بلا حدود، عدد أكتوبر، 2019، متاح على: https://www.mominoun.com/articles.
[9] باري بوزان: أحد أبرز المتخصصين في الدراسات الأمنية، استاذ فخري في جامعة كوبنهاغن وكلية لندن للاقتصاد، وعضو في الأكاديمية البريطانية.
[10] Van de Donk, Wim, et al, op cit, p: 6
[11] Hill, Tim, Robin Canniford, and Peter Millward, op cit, p: 698
[12] Van de Donk, Wim, et al, op cit, p: 112
[13] Van de Donk, Wim, et al, op cit, p: 6
[14] I bid, p: 6
[15] Abdullah, Farhad Hassan, op cit, p: 8
[16] Martínez, María Paula. "Latino/a gender mobilizations in times of social media." Journalism & Communication Monographs 20.2 (2018), p: 161