دور الصدفة في صناعة التاريخ
فئة : مقالات
عندما انفجرت الثورة الفرنسية عام 1789 للميلاد، اعتبر بعض المؤرخين أن ما حدث يشبه الخرفان التي هاجمت أسداً غضنفراً فافترسته، وجرت العادة أن الأسود هي التي تَفترس ولا تفترس. وكان لينين في بعض لحظات اليأس عنده، يظن أن حكم عائلة رومانوف سيسحب عبر الزمن ثلاثة قرون أخرى؛ فطالما حافظ على نفسه ثلاثة قرون، ما المانع أن يمتد ثلاثمائة سنة جديدة بنفس النظم والإيقاع الرتيب؟ واعتبرت الاستخبارات الأمريكية عام1978 م،أن الوضع في إيران أكثر من مستقر، وكانت كل تحريات الكمبيوترات تشير إلى أن إيران ليست حتى ولا في مرحلة ما قبل الثورة[1] ولكن خلافاً لأدمغة الكمبيوتر انفجرت الثورة. وكانت الامبراطورية العثمانية تعتبر الرجل المريض على ضفاف البوسفور، ولكن صدفة وجود شخص من نوعية كمال أتاتورك كان لها الدور المحوري في القضاء على امبراطورية عريقة ضربت جذورها عبر الزمن خمسة قرون، ويقوم على رأسها رجل محنك، على درجة عالية من الدهاء والمكر السياسيين، وفهم الأوضاع العالمية، من نوعية السلطان (عبد الحميد الثاني) الذي استطاع أن يقنص ثورياً من طراز جمال الدين الأفغاني في القفص الذهبي عنده، على الرغم من كل عنفوان الأفغاني وحيويته وتمرده الذي لا يعرف الحدود.
أنف كليوباترة:
يعتبر بعض المؤرخين أن أنف (كليوباترة) الجميل أغرى الامبراطور الروماني (أنتونيو) فورطه في حب عاصف، والدخول لاحقاً في معركة (آكتيوم) تحت الافتنان بهذه المرأة فائقة الجمال ليخسر لعبة الصراع على الحكم في روما في العصر القديم، على الشكل الذي طرحه المؤرخ المؤرخ البريطاني (بوري)(BURRY)[2] في مقالة له عن الداروينية في التاريخ، وعنصر المصادفة في صنع أحداث التاريخ.
زوغان أحداث التاريخ من أسار القانون:
يدرس التاريخ اليوم في الجامعات الراقية في أمريكا الشمالية من نوع جامعة (مكجيل)(Mc. GIL) مونتريال ـ كندا، على أن الأحداث التي جرت يمكن أن يتحدث المؤرخ فيها بكثير من القوة والتحليل، وسرد الأحداث وتعليل الانعطافات الضخمة في أحداث التاريخ، ولكن السيناريو المحتمل على وجه الدقة لا يستطيع أحد أن يحزر عليه، كما لا يتجرأ أحد على التنبؤ، ولا يستطيع أحد أن يستبعد حدثاً هامشياً يلعب فيما بعد دوراً أساسياً في ولادة أحداث التاريخ؛ فشخصية نصف مجنونة من نوعية تيمورلنك، حطمت قوة عثمانية على أهبة الاستعداد لاجتياح أوربا، ورجل مهووس من نوع كولمبس رُكب عقله على ضرب كبير من الخرافة، فعل باكتشافه انقلابا كونيا لم يعرف هو بذاته أبعاده التاريخية الرهيبة اللاحقة، وصعود رجل عصابي مهيج (AGITATOR) شوفيني متطرف إلى منصة الحكم في ألمانيا من نوعية (هتلر) عام1933 مكان سبباً في إشعال فتيل الحرب الكونية الأخيرة، وعضة قرد مدلل لملك اليونان ألكسندر في خريف عام 1920م أودت بحياة الملك ونصف مليون من السكان في حرب أهلية طاحنة، وإصابة السلطان العثماني (بايزيد) بداء النقرس أوقفت حملته العسكرية في مطلع القرن الخامس عشر للميلاد، وأنقذت مصير أوربا، ومرض (تروتسكي) برحلة صيد للبط في فصل الخريف المفاجيء لعب الدور الحاسم في لحظات حرجة من الثورة البلشفية، في حسم الصراع مع مجموعة زينوفيف وكامينيف وستالين عام1923 م، عندما اختفى لينين فجأة من مسرح الأحداث، بوفاة مبكرة بعمر الرابعة والخمسين، وشخصيات هامشية في الثورة الإسلامية الأولى من طراز عمرو بن العاص ومعاوية حرفت مسيرة الخلافة الراشدة 180 درجة، وجزار من طراز الحجاج يهدم الكعبة، ويصلب أبناء الصحابة، يغلق الطريق في وجه أي إصلاح للخرق الأموي في نظام الحياة الاسلامية، بعد أن تحولت الخلافة الراشدة إلى دولة بيزنطية، ويتبعها تحويل الجماهير إلى جموع خرساء لا تعرف سوى الأوامر، حيث أن تغيير باب الخروج في المسجد خلاف التوجيهات يكلف رؤوساً إلى النطع، وحماقة موسوليني في الحرب العالمية الثانية باختراقه البلقان، قادت إلى تدخل هتلر لإنقاذ صديقه، وتأخر حملة (برباروسا) لاجتياح الاتحاد السوفيتي بحملة خمسة ملايين جندي في إعصار عسكري لم يعرفه الجنس البشري من قبل، ليغرق لاحقاً بثلوج وبرد روسيا في خطأ نابوليوني مكرر، وشخصية من نوعية (جورباتشوف) وبحركات إصلاحية غير مقصودة، قادت إلى انهيار امبراطورية الاتحاد السوفيتي صريعاً لليدين والجنب، بدون أي هجوم خارجي، ومعه كل أسلحة التدمير الكوني الشامل، وتبخر حلم الشيوعية بالوصول إلى المجتمع اللا طبقي، حيث (كل يؤدي واجبه وكل يأخذ حاجته) وانتهت العقيدة الماركسية كنظام ودولة، وتحولت إلى سطور في كتب التاريخ للعظة والعبرة، ولقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، على التحول والتغير، وأن كل نظرية تحاول وضع (التفسير النهائي) و(الحل النهائي) لمشاكل الإنسان، تصل في النهاية إلى طريق مسدود وتتحطم عند قدمي الإنسان، في نظام تاريخي تصاعدي يضيف خبرة جديدة وتطوراً جديداً عن فهم الإنسان، وتعقيد الإنسان، وجدلية الإنسان. وكان الإنسان أكثر شيءٍ جدلا.
السببية في التاريخ:
هل كل هذه النماذج تصيبنا بالدوار التاريخي، فنحذف قانون السببية من الأحداث؟ ونلغي فكرة القانون؟ ونشطب كل إمكانية لرؤية مستقبلية؟ ونعتبر أن التاريخ كومة من الاتفاقات وتلفيقة من المصادفات، لا يصل الفهم إلى قرار فيها، وتترنح أية نظرية تحاول سبر غوره والإمساك بآلياته الخفية؟
إن القضية ً حيوية جدا، لأن الوجود لا يقوم على الفوضى والعبثية، بل على السنة والبرمجة والغائية. وكشف السنة يمنح قدرة السيطرة عليها، وهو أبرز ما في الفكر التنويري الجديد منذ أن دشنه بيكون وديكارت منذ مطلع القرن السابع عشر، ولتتغير معه صورة العالم بشكل انقلابي، كما حدث في تسخير الكهرباء الذي أمكن مسكه في سلك، وتطويعه في مفتاح، ونقل مستوى طاقته بوشيعة من نحاس، ويفيدنا القرآن في هذا الاتجاه كثيراً، عندما يعتبر أن الكون مبني على سنة الله في خلقه، وأن هذه السنة أو القوانين لا تخضع للتبديل والتغيير (ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا)، التبديل بقلب القانون واستبداله بآخر، والتحويل حرف القانون في انسيابه في مجراه، فيعمل بصورة فوضوية.
القرآن منحنا فهماً جديداً لفكرة ثباته، وعدم تبدله وانحرافه في مجراه، وشموليته في الزمان والمكان الكوني، ونوعيته في تدرج شرائح الوجود وتراكيب قوانين الخلق؛ ففي تركيبه الأساسي مقاومة لا تصدأ، وقوة لا يعتريها البلي في أي مستوى أو وقت، ولكن المشكلة هي كيف يمكن الاقتراب من فهم هذا السر المغيب وكشف اللثام عن كيفية عمله، وكيف نجد مخرجاً فلسفياً لمزج فكرة السببية بالصدفة والقانون بالاتفاق؟
كون نيوتن المادي:
في الوقت الذي كان العثمانيون عام1683 ميحاصرون فيينا بجيش لجب قوامه ربع مليون جندي ويتحرقون على اجتياح أوربا والسيطرة على مقاديرها، وربما الحلم في إدخالها إلى ظلال الإسلام، كان (إسحق نيوتن) يفكر في ماهية الضوء وما هي طبيعته، وفي الكون ونوعية القوانين التي تنتظمه، وفي المادة وتركيبها، وفي الحركة وسننها، ليصل في النهاية إلى اكتشاف قوانين الحركة الثلاثة وقانون الجاذبية الذي يعتبر أحد القوى الرئيسة الأربعة التي تحكم الوجود[3] ووضع كتاب يعتبر تحولاً نوعياً في التفكير الإنساني هو (المبادئ الرياضية لفلسفة الطبيعة) (PRINCIPIA MATHEMATICA PHILOSOPHY NATURALIS)، مما دعى صاحب كتاب أعظم مائة شخصية في التاريخ الإنساني إلى وضعه ضمن حزمة العشرة الأوائل الذين غيروا التفكير الإنساني، وهذا التفكير (النيوتوني) عندما انتشى بهذا الفتح العلمي، وبلورة فكرة القانون الفيزيائي، واكتشاف الطاقات والقوى والسنن التي تسير الوجود، وقع في وهم فهم كل العالم على هذه الطريقة، وإمكان نقل هذا التصور إلى فهم السلوك الإنساني، طالما كان تكوينه يخضع لنفس قوانين الطبيعة مع فارق التعقيد لا أكثر ولا أقل ـ فببذل مزيد من الجهد، يمكن فك تعقيد قوانين الآلة، كما لو فتحت ساعة قد خرب فيها جهاز الإنذار أو ترس تسيير الوقت للثواني. ففهم الإنسان أصبح قاب قوسين أو أدنى، ومن هذا الفهم يمكن السيطرة عليه، ففهم القانون يمنح السيطرة عليه.
رياضيات للسلوك الإنساني:
وهذا التوجه في التفكير سيطر حتى وقت قريب،[4] حتى أن القائد الشهير نابليون عندما جاء إلى مصر، كان برفقته الفلكي الشهير (سيمون لابلاس) وكان نابليون يحب أن يسمع منه شرحه للنظام الشمسي وتركيب الكون، وعندما استفاض بالشرح تحت ضغط فكرة الآلية في الكون، وأن الوجود يعمل مثل ساعة بيج بن كبيرة لا أكثر، وفق قوانين منتظمة، سأله نابليون في إحدى الأمسيات: إذا كان ما تقوله بهذه الدقة، فكيف نفهم علاقة الخالق بهذا الكلام ؟ كان جواب سيمون لابلاس أنه كون أزلي أبدي يمشي لوحده وفق قوانينه الخاصة. هذا الجمود في فهم الكون ومحدوديته سيطر على الفكر الإنساني، ليأخذ منحى جديداً مع تفجر الثورة الداروينية، حيث انتقلت فكرة القانون إلى البيولوجيا. القانون هذه المرة ليس على شكل فيزيائي أو كيميائي، بل هو معقد بدرجة أكثر على الصورة البيولوجية، ومن الرؤية الداروينية للعالم قام العالم البريطاني (هربرت سبنسر) (HERBERT SPENCER) لينقل المفهوم البيولوجي إلى المستوى الاجتماعي، فوضع كتابه المنشور عام1851م(السكونيات الاجتماعية) (SOCIAL STATICS)، مما جعل الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) يؤرخ لهذه الحقبة، أن منحى العلم في تلك الأيام كان بهدف إيجاد رياضيات للسلوك الإنساني توازي الرياضيات المستخدمة في تسيير الآلات)[5]، وهذا ما قاد إلى نشوء الفلسفات التي عرفت بالمادية؛ فالإنسان لا يزيد عن آلة معقدة، وهو يمشي مثل الروبوت المعقد وفق آليات ديناميكية يمكن فهمها، ومعرفة القوانين التي تنتظمها، ومن ثم تسخيرها والسيطرة على الإنسان، وظهر في هذا الصدد أفلام من هذا النوع عرضتها السينما الأمريكية من نماذج سوبرمان والترمنيتر (TERMINATOR) ويد من حديد (HANDOF STEEL) كلها في محاولة رسم مخاطر تطويع البشر لمحاولات من هذا النوع.
ثبات القانون وعشوائية المصادفة:
أما أن الإنسان يخضع ويمشي لآليات فيزيولوجية وميكانيكية يمكن فهمها فهذه تمثل نصف الحقيقة، ويبقى أن نعرف النصف الثاني. فالكون سواء الوجود المادي أو العضوي يقوم على كيانين، ويسبح في حقلين، ويتردد بين عالمين، بين ثبات القانون وعشوائية الصدفة، وبين عمليات الهدم والبناء، والتحلل ظاهرة لا يتملص من قبضتها الجبارة أي مستوى في الوجود، وصلت إليه قوانين الديناميكا الحرارية، وهناك نظائرها فهي المعروفة بالتآكل في البناء الهندسي، والشيخوخة في البيولوجيا، والانحطاط في المجتمع، والانهيار في الحضارة، ولكن ماهو هذا القانون الذي كشفه العالم الفرنسي كارنو، ليصل إلى فكرة خطيرة في الشيخوخة الكاملة للنظام الكوني الذي لم يكن صحيحاً في جملته.
قانون كارنو في الديناميكا الحرارية:
وهو قانون قام باكتشافه وصياغته العالم الفرنسي (سادي كارنو) (SADI CARNOT) عام1829م[6] ويعرف بالقانون الثاني للديناميكا الحرارية (THERMODYNAMICS) الذي يعتبر أن أي نظام مغلق يميل إلى أن يأخذ الصورة الأكثر احتمالية، وهو نظام الفوضى بعينه، من خلال مبدإ الصدفة الذي يحكم الوجود، ولا يمكن التكهن على وجه الدقة بما سيتولد منه أو يصدر عنه.
جدلية اليقين والمصادفة:
لا يمكن فهم أحداث الوجود بأفضل من نموذج إلقاء القطعة المعدنية؛ فهي تجمع بين فكرة اليقين والصدفة، فبقدر يقيننا أن قطعة النقد التي نطرحها أرضاً ستسقط على الأرض ولن ترسو على سطح القمر، ولا يختلف في هذا اثنان لتواتر العادة. بقدر سيطرة العشوائية وعدم اليقين بمصير الوجه الذي سيرسو عليه وجه القطعة المعدنية، والسؤال لماذا كان اليقين مرافقاً لسقوط قطعة المعدن إلى الأرض بهذه الصورة الحتمية، ولم تكن هذه الصورة من صرامة الحتمية ودقتها ويقينها في معرفة الوجه الذي ستسقط عليه قطعة النقد؟ للإجابة على مثل هذا التساؤل الذي يحتاج للفك ينفعنا مثل صغير ننطلق منه للإمساك بمفتاح المشكلة، وهو الجرس الكهربي، فعندما نرن الجرس هل نتوقع أنه سيرن أم لا؟ إن هذا سيقودنا إلى جذر المشكلة، وهو عدد العناصر التي تشترك في توليد هذه الظاهرة، وهي هنا بشكل قياسي اثنان الجرس والدارة الكهربية، فعندما نأتي لنرن الجرس يمكن أن نقول بشكل مؤكد أنه سيرن عندما نعلم بشكل مؤكد أن الدارة الكهربية تعمل. وهكذا، فاشتراك عنصرين يجعلنا نتصرف حيالهما بشكل قريب من اليقين بسبب كم المعلومات عنهما، في حين أن قطعة النقد المرمية يشترك في تقرير مصيرها ما لا يقل عن أربعة عناصر، يد الرامي. هل صاحبها متوتر أو قلق أو خائف ؟ هل رماها بعصبية أم هدوء؟ هل طرحها بعنف أم بهدفية. ونوعية المعدن الداخل في تركيب القطعة المعدنية هل هي نحاس أو حديد؟ ذهب أم فضة؟ والوسط الذي طارت فيه. هل كان هواء جافاً أم كان الجو غائماً ممطراً رطباً؟ هل كان الجو هادئاً أم عبثت فيه الريح ؟ وأخيراً السطح الذي اصطدمت به القطعة فتدحرجت حتى رست على وجه بعينه. هل كان سطحاً خشناً أم أملساً؟ صخرياً حجرياً أم رملاً ناعماً؟ فكلها عناصر تلعب دوراً في المصير الذي ينتهي عليه هذا الحدث البسيط، لنعرف قطعة النقد هل هي طرة أم نقش؟ أي في تحديد واحد من أمرين فقط، ويجب أن نضيف أن كل عنصر من العناصر الأربعة مرتبط بدوره بعناصر أخرى لانهائية، فكيف إذا كانت العناصر المتدخلة في مصير أمر ما يشترك فيه مليون عنصر أو يزيد؟ إذا كان مصير وجه القطعة المعدنية هو نقش أم طرة بهذا التعقيد من الاحتمالية والعشوائية، فهل يمكن معرفة مصير بلد تحول إلى أنقاض، مثل أفغانستان، أو آخر مثل الصومال الذي لم يبق من البنية التحتية فيه شيء؟
إذا كان مصير وجه القطعة المعدنية بين احتمالين بهذه الصورة الخطيرة من التحدي، فهل يمكن تحديد السيناريو السياسي لبلد يعج بخليط متنافر متباغض من العرقيات والإثنيات، غير متفاهم على إرساء صياغة عهد للثقة والأمن الاجتماعي؟
المصادفة تعبير عن لا توقعية جهلنا لا أكثر:
إن تحليل عنصر المصادفة من عنصر اليقين أساسي في بناء الكون، والمصادفة هي في عمقها تعبير عن جهلنا بقوانين الوجود ؛ فعندما ضربنا مثل الجرس ورنينه، كنا نقترب من يقين عمله بقدر إحاطتنا بالمعلومات، ومن هنا فإن الله كلي المعرفة ليس مكان عنه للصدفة، فهو (أحاط بكل شيء علما) وبالتالي إذا قال لشيء كن فيكون، فهو يجمع بين العلم الشمولي المحيط والقدرة اللانهائية، في حين نحن البشر مركبين على الضعف والجهل والقصور، وهذا شيء أساسي لماذا نعيش في عالم الصدفة، فهذه النقطة هي أحد اسرار المشكلة.
جدلية عالم الغيب والشهادة:
إننا نسبح في اللحظة الواحدة بين الصدفة واليقين بين القانون والعشوائية، بين عالمي الغيب والشهادة، ونحن نستخدم الدعاء لمواجهة عالم الغيب. أما عالم الشهادة، فيقابل بالجهد الواعي، ونظراً لتشابك العالمين في اللحظة الواحدة، فنحن ندعو الله في كل تقلباتنا والعلاقة بين العالمين كم ديناميكي متطور نامي، فما كان في يوم من الأيام من عالم الغيب يصبح بعد فترة من عالم الشهادة، كما في معرفة الجنين وجنسه؛ فالناس قديما كانوا لا يعرفون ما في الأرحام من ذكر أو أنثى، في الوقت الراهن نحن نعرف ليس فقط جنس الجنين، بل الكود (الشيفرة الوراثية) ويمكن إجراء جراحات متطورة على الجنين، وهو في هدوء الحياة الرحمية، ولن يكون ذلك اليوم بعيداً عندما نتدخل في تصليح الخلل الجيني، والتخلص من مالا يقل عن 800 مرض وراثي مشوه، مثل المنغولية وصغر الرأس وشفة الأرنب، بل حتى التخلص من الاستعداد لظهور بعض الأمراض الخطيرة، مثل احتشاء العضلة القلبية والسكري والضغط، فكلها سيشق العلم الطريق إليها في المستقبل.
ينابيع الصدفة وعلم التحكم:
تنبع المصادفة في الحقيقة من أربعة ينابيع رئيسة:
(1) أولها ـ تركيبنا البشري، فنحن مركبون على الجهل والضعف والهوى والقصور، فهي عوالم تتحكم فينا، ولكن هذا الوضع يمكن التخلص منه، أو التحرر النسبي منه، وذلك بواسطة العلم فطالما كانت المصادفة هي تعبير (لا توقعية جهلنا) كما أشار إلى ذلك عالم (السيبرنتيك) (CYBERNETICS) الروسي (ليونارد راستريغين) (LEONARD RASTRIGIN) أن المصادفة هي مقياس جهلنا، فكلما قلت المعلومات التي لدينا حول أي موضوع كلما كان سلوكه سلوك مصادفة، وبالعكس كلما توفرت المعلومات التي نعرفها حوله، قلت سلوكيات المصادفة، وازدادت قدرتنا على توقع سلوكه المستقبلي[7] (2ـ ثانياً) تعقيد الكون اللانهائي الذي لا يعرف النفاد، وما عندكم ينفذ وما عند الله باق، وهذا يعني أن الاحتمالية تتسرب إلى كل المقاييس التي يقوم بها الإنسان، ومن المستحيل سبر ما لا قاع له، والبحث الكوسمولوجي والذري اليوم قد وقع اليوم في مطب من هذا النوع، حتى أن الولايات المتحد ة الأمريكية ألغت مشروعاً بكلفة 11 مليار دولار لبناء نفق لتسريع الجزيئات دون الذرية، على أساس أنه لا يوجد قاع في بحث الذرة، يمكن أن يتوقف عنده البحث العلمي والنهم المعرفي، فنظرية ديموقريطس القديمة في البناء الذري التي أوحت إلى الخيال اليوناني وضع لفظة (الآتوم) (ATOM) ليشغل العقل الإنساني في بحث لا ينتهي عن الجزء الذي لا يتجزأ. وصل البحث العلمي اليوم إلى أن الذرة ليست نهاية المطاف، بل هناك رحلة إلى المستوى دون الذري، ومع كل كشف لغطاء صندوق، يكتشف العلماء أن الصندوق يحوي في داخله صندوقاً أصغر حجماً وأشد تعقيداً في رحلة لا تعرف النهاية، وهذا يذكرنا بالاختراق الفلسفي الذي قام به الفيلسوف باسكال الذي تحدث عن اللا نهايتين؛ فالعالم من وجهة نظره، سواء العالم الذري أو الكوسمولوجي لا يعرف النهاية، والإنسان يسبح في اللحظة الواحدة بين اللا نهايتين، وهو لاشيء إذا قيس باللانهاية، وهو كل شيء إذا قيس بالعدم؛ فهو يسبح في اللحظة الواحدة في منتصف المسافة بين اللا نهايتين[8] (3و4) أما العنصر الثالث في هذه اللعبة فهو لا محدودية مقاييسنا، فكل حقل يحتاج إلى أدواته الخاصة، بما فيه الحقل المعرفي الفكري، ولكن الدخول إلى العالم الذري يدخل الاضطراب إلى كل كومة العمل التي نمارسها، فمع كل الحرص الذي يمارسه المراقب، يجعل كل حركة جديدة واقتحام إضافي، زيادة إضافية، وعنصر جديد في إدخال التشوش إلى مجمل نتائج البحث خلافاً لعقلية عصر نيوتن، الذي كان يرى أن الكون يقوم على الدراسة والملاحظة واكتشاف القوانين، الثابتة الهادئة، وهذا يقودنا إلى العنصر الرابع الذي دشنته ميكانيكا الكم، عام1928 معلى يد كل من (بول ديراك) البريطاني (وفيرنر هايزنبرغ) الألماني، اللذين وصلا إلى قناعة مزلزلة في فهم الكون، فهو يقوم في بنائه الذري ليس على الثبات واليقين ولكن على الاحتمال واللا يقين، وهو المبدأ المعروف بالارتياب (UNCERTAINTY PRINCIP) وهكذا فطبيعة الكون الذي نعيش فيه مازالت الصدفة تعشعش فيه، بسبب جهلنا المطبق في أشياء لانهائية، وبقدر تحررنا من الجهل، بقدر اقترابنا من فهم نواميس الكون، والسيطرة عليها على اعتبار أن الكون مسخر بشكل كموني، والتسخير هي الخدمة المجانية.
حق الخطأ أن يعيش:
وهذا يفتح الطريق إلى ثلاث أفكار رئيسة (حق الخطأ أن يعيش) و(الاحتمالية والمغامرة) و(فهم الخوارق). فطالما كان إدراكنا للكون سيبقى في حدود (النسبي)، لأن ارتفاع مستوى العلم يقربنا من التحكم واليقين وفهم القانون وتسخيره، ولكنه يبقى في إطار النسبية، ومعناه أن ليس هناك من يقنص الحقيقة الحقيقية النهائية، والعلم المطلق، والإحاطة الشاملة سوى الله سبحانه وتعإلى، وإذا كنا البشر على هذه الشاكلة ؛ فيسمح لمن نعتبره على خطأ أن يبقى على قيد الحياة، فلا يقتل الإنسان من أجل أفكاره، باعتبار أننا لا نمسك بمفاتيح الحقيقة النهائية المطلقة. وطالما كنا نسبح في عالم الاحتمالات والبدائل فهذا يفتح الطريق على المغامرة، فليس هناك من معرفة نهائية في الحياة، والإنسان يواجه البدائل والخيارات في كل لحظة وتنمو خبرته مع الزمن، وهذا يجعل الحياة مقترنة بالمغامرة والمجهول والجديد، وهو سر متعتها وجاذبيتها والتعلق بها. وفي النهاية ندرك روح القرآن بتكريس العلم والعقل وتحييد وتهميش الخارق والأسطوري والخلاَّب، لقناعته الكاملة أنه حدث يسبق زمانه لا أكثر. إن الفاكس لو نقل إلى البشر قبل ألف سنة لاعتبروه خارقاً بمستوى عصرهم، كما أننا لو استطعنا أن نقفز عبر الزمن إلى المستقبل فسوف نصعق بمفاجآت من هذا النوع. استطاع العقل الإنساني أن يتجاوز مرحلة الاسطورة لتثبيت قواعد العقل الاستدلالي، واكتشف القوانين التي تسود الوجوه، ولكنه عرف أنها احتمالية، ومن أجل تجفيف أقرب كمية ممكنة من روح الاحتمالية فيها ليذوق برد اليقين، مازال الطريق طويلاً أمامه، ومن هنا فإن التاريخ سوف يبقى يستحم في غابة من الضباب حتى تخترقه أشعة العقلانية والسننية، من أجل دفعه إلى خطى أكثر تقدمية.
[1] يراجع في هذا كتاب (الانقلاب في إيران) المنشور باللغة الألمانية (UMBRUCH IM IRAN) للمؤلف أولريش تيلجنر (ULRICHTILGNER) نشر دار رورو (RORO)، وقد جاء في ظهر الكتاب أهم فقرة عن تقرير نشرته وكالة الاستخبارات الأمريكية، المعروفة بمختصر الحروف سي آي ايه (CIA)، وقد اختصر التقرير تحليلاته بهذه الجملة: (لا يتعبر الوضع في إيران لا في مرحلة ثورة ولا في مرحلة ماقبل ثورة) وما يهمنا من ذكر هذه الواقعة ليس الخلفية الإيديولوجية لثورة ما، بل تأمل البعد الإنساني في الحدث، بعيداً عن حساسيته الخاصة وإشكالياته المذهبية والطائفية، فالبشر يخضعون لسنة الله في خلقه، كيفما كانت الأيديولوجيات والعقائد التي يعتنقونها، أو الأديان التي ينتمون إليها، أو الأعراق التي ينتسبون إليها.
[2] كتاب ( ما هو التاريخ؟)، تأليف إدوارد كار، ترجمة ماهر الكيالي وبيار عقل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، فصل السببية في التاريخ، ص 109: (وتتلخص تلك النظرية في أن التاريخ وإلى حد بعيد عبارة عن فصل من المصادفات، وعن سلسلة من الأحداث التي تتوافق بالصدفة، والتي لا تنسب إلا إلى أكثر الأسباب عرضية. وهكذا، فإن معركة آكتيوم لم تنجم عن نوع الأسباب التي يفترضها المؤرخون عادة، وإنما عن افتنان انطوني بكليوباترة).
[3] تسيطر على الوجود خمسة قوى رئيسة هي قوة الجاذبية والكهرباء والمغناطيس وقوى النواة القوية والضعيفة، وأمكن لماكسويل في القرن الفائت اختصار قوة الكهرباء والمغناطيس في قوة واحدة تخضع لمجموعة مشتركة من القوانين اعتبرت القوة الكهرطيسية، وحلم العلماء هو في دمج جميع القوى في قوة كونية توحيدية واحدة.
[4] يراجع في هذا كتابي (العلم في منظوره) الجديد للعالمين في فلسفة العلوم روبرت آغروس وجورج ستانسيو ـ وكتاب الثورات العلمية العظمى في القرن العشرين، تأليف انطوان بطرس.
[5] كتاب: صور من الذاكرة، برتراند راسل، ص 20
[6] كتاب: مملكة الفوضى، تأليف ليونارد راستريغين، ترجمة د. عبد الهادي عبد الرحمن، نشر دار الطليعة بيروت، ص 24
[7] كتاب (مملكة الفوضى) (THIS CHANCY, CHANCY, CHANCY WORLD) للعالم الروسي (ليونارد راستريغين ) (LEONARDRASTRIGIN)، ص 8
[8] يراجع في هذا كتاب (باسكال) سلسلة نوابغ الفكر الغربي، تأليف نجيب بلدي، نشر دار المعارف بمصر، وكذلك ماجاء عن هذه النقطة في قصة الحضارة لويل يورانت.