دوستويفسكي* رائد السيكولوجيّة الوجودية

فئة :  مقالات

دوستويفسكي* رائد السيكولوجيّة الوجودية

دوستويفسكي* رائد السيكولوجيّة الوجودية

ها أنذا منهمكٌ في طرح الأسئلة الرهيبة على ذاتي: أيهما أفضل، سعادة زهيدة القيمة أم آلام رفيعة المقام؟

دوستويفسكي، من رواية مذكرات قبو، ص204

نشأة الوجودية في أدب دوستويفسكي

من منّا لم تسكنه روح دوستويفسكي المتمردة والطافحة بالشكوك، أو المرهقة في أسئلتها الوجودية الكبرى؟ من منّا لم يتوقف أثناء قراءته لروايات دوستويفسكي ليغوص في أعماق نفسه، وكأنه عاش تلك الأحداث والشخصيات في زمن مضى، أو شعر أنّ دوستويفسكي يقدم تحليلاً باطنياً لهواجسه ومخاوفه المتصارعة. إنّ الإنسان بكامل غموضه وتناقضاته هو سرّ ينبغي فتح مغاليقه عند دوستويفسكي، فهو مشرّح للنفس الإنسانية ومصيرها في عالم تتجاذبه العذابات والرعب والخطايا البشرية.

كانت ذاكرة دوستويفسكي مليئة بالحكايا والأحداث التي عاشها في طفولته وشبابه. الذاكرة وما تحويه من حيوات وتجارب مؤلمة، كفيلة بأن تخلق لنا من الألم صوراً وشخصيات متحركة في دائرة الزمن، لتجسد العالم من منظورها الداخلي ودوافعها اللاشعورية.

ظهرت أولى علامات الصرع على دوستويفسكي أول مرة وهو في الثامنة عشرة من عمره عندما علم بوفاة والده عام 1839، ورافقه هذا المرض في سجنه وفي مراحل حياته المختلفة. عرف دستويفسكي المرض والفقر والمنفى والسجن، وواجه لحظة الإعدام المرعبة في سيبيريا، عندما كان منتمياً إلى رابطة «بيتراشيفيسكي» المعارضة للاستبداد القيصري في روسيا، وكان يصف اللحظات المصيرية في حياة البشر، ويرصد التحولات في عمر الإنسان والوجود بخبرة المتأمل العميق الذي شهد مصائر الحياة وأقدارها المتقلبة.

في رواية «الأبله» -وعلى لسان الأمير ميشيكين- يصف دوستويفسكي لحظات الإعدام والدقائق القليلة التي سيعبرها من الحياة إلى الموت، فتبلغ هذه الدقائق القليلة من المدى والاتساع وكأنها عمر كامل، فيصبح الذهن مكثفاً وغارقاً في التركيز على أدق المشاهد والتفاصيل اليومية، لتنفتح حواس الإنسان على الحياة كما لم يرَها من قبل.

دوستويفسكي والوجودية

يرى البعض أن دوستويفسكي هو المؤسس الأول للوجودية، وأن أفكاره كانت البذرة الأولى لنشوء أهم الأركان التي قام عليها المذهب الوجودي الإنساني فيما بعد. عاش دوستويفسكي في العصر الذي تواجد فيه كيركيغورد مؤسس الوجودية الدينية، إلا أن كليهما لم يقرأ بعضهما لبعض، وربما لم يعرف أي منهما بوجود الآخر.

يذكر الكاتب الأرجنتيني أرنستو ساباتو أن روح العصر التي دفعت الوجودية إلى الظهور في الفلسفة والأدب، تمثلت في الخلق الذي بدأه دوستويفسكي، وقد حصل هذا الأمر بصورة عفوية قبل أن تصبح الوجودية موضة بقرن كامل؛ فالرواية كانت تملك محورها الدائم في الإنسان، واهتمت بانفعالاته العميقة وهي تبحث عن معنى حقيقي للوجود الإنساني خارج سطوة العقل والمادة، لذا فقد عبّر دستويفسكي بصدق ووضوح عن هذه الفلسفة[1].

الإنسان وتناقضاته المصيرية

شغل دوستويفسكي سؤال المصير الإنساني، لكن المصير الفاجع الذي كُتب على البشر كان يعذبه تعذيباً شديداً.

إن الإنسان بالنسبة إلى دوستويفسكي ليس ذلك الإنسان الأحادي النزعة في الأخلاق؛ أي إمّا أن يكون شرّيراً أو خيراً، طيباً أو حقوداً؛ فالإنسان هو خليط من المشاعر المتناقضة والمتصارعة، والإنسان الذي يبدي نزوعاً إلى الشر، دائماً ما يحوي على النقيض في أعماقه. كذلك الإنسان الذي يتسم بفضائل واضحة وانضباط سلوكي داخل المجتمع عادة ما يواجه تمرد رغباته المكبوتة التي تتجلى في أكثر اللذات شراً وانحطاطاً.

إن الحضارة كما يذكر دوستويفسكي لم تستطع تهذيب الإنسان ونوازعه العدوانية، فهي وإن استطاعت كبح جماحه المتوحشة في سفك الدماء، «لكنها في الوقت نفسه جعلت تعطشه للدم يبدو أكثر مكراً ومخاتلة وجبناً ممّا كان عليه في السابق»[2].

«مذكرات قبو» والأبعاد السيكولوجية

تُعد رواية «مذكرات قبو» الأكثر إحاطة بالجوانب السيكولوجية عند الإنسان وبوجوده الفردي المنفصل عن المجموع، ويتجلى ذلك في قول كاتب المذكرات: «إنني واحد متفرد، لكنهم كلٌّ متشابه»[3].

يعد البطل في رواية «مذكرات قبو» خير دليل على الصرخة الممزقة لذلك الفرد الذي يبحث عن معنى لوجوده الفردي من خلال اعتراف الآخرين به وإعطائه أهمية حتى لو كان ذلك في تعرضه للضرب والإهانة والشتيمة.

يقول بطل المذكرات الذي لا نعرف حتى اسمه في الرواية: «شعرت خلال لحظات مرّت علي، بأني لو تعرضت تلك الأثناء لصفعة، لاستطعت بحق أن أكون سعيداً بذلك. سأقوى على اكتشاف ولو شيء من قبيل اللذة الخاصة في تلك الصفعة، لذة اليأس بالطبع، إن أقوى اللذات تأتينا في حالة اليأس»[4].

تدفع المخيلة بطل الرواية إلى رغبات في أحلام اليقظة، والتي تهيء له سيناريوهات مستقبلية محتملة للانتقام من الآخرين تتجلى في محاولة إثبات وجوده من خلال شيء يتميز به كالذكاء أو الثقافة أو فرض القوة، لكن تلك الرغبات لا تخرج عن نطاق المخيلة؛ ففي اللحظات الحاسمة للتنفيذ يتراجع البطل ويسقط في فخ المشاعر المتناقضة التي تسيطر عليه كالخجل والعار، والشعور بالذنب، فيبقى في المنتصف تسيطر عليه نوبات الهستيريا والبكاء والصراخ، ويفشل أن ينال الاعتراف بوجوده حتى من خادمه البسيط أو من فتاة الماخور الليلي، لكننا نرى أن هذا البطل لا يخاف من الموت أو الفشل أو المرض بقدر خوفه من أن يصبح موضوعاً للسخرية أو أضحوكة للآخرين.

تمازج اللذة والألم.. ومأساة الوعي

يتكلم دوستويفسكي عن ثنائية اللذة والألم وتمازجهما، ويرى أن البشر أكثر التصاقاً بالألم وأكثر تذكراً له من اللذة، فلربّما أحب الإنسان العذاب والألم؛ إذ كثيراً ما يتشبث الإنسان بعذاباته ويتعلق بها بكيفية مثيرة للرعب ويجعلها معشوقة حقيقة، لذلك فالناس تحصي كثيراً أحزانها وآلامها، ولا تحصي السعادة التي تكون قد عاشتها.

في أعماق كل ألم إن كان نفسياً أو جسدياً هناك لذة ما، والألم دائماً ما يتخفى بشيء من الادعاء أو المكر، وهذا المكر هو ما يعطي للألم نكهة سرية يفصح عنها المرء بالأنين. هناك لذة خفية تنتاب الإنسان في أشد حالاته يأساً وذلاً ومرضاً، وفي أعمق حالات سقوطه وخساراته، فلو لم يشعر المرء بلذة لما عبر عن ألمه بالأنين أو الشكوى.

لا يتنازل الإنسان عن العذاب والألم؛ لأنهما المحرك الوحيد للوعي، ورغم أن الوعي في نظر دوستويفسكي هو المأساة الكبرى للإنسان، لكن الإنسان يتمسك بالوعي ولا يتنازل عنه مقابل أي طمأنينة أو سكينة[5].

التمرد والحرية

الإنسان عند دوستويفسكي ليس بالكائن العقلاني تماماً، فهو لا يملك الإرادة ولا حرية الاختيار، وإن كافة ما يفعله الإنسان يحدث من تلقاء ذاته طبقاً لقوانين الطبيعة.

تنقلب الرغبة دائماً على العقل وتدخل معه في صراع؛ «فالرغبة هي مظهر الحياة في مجموع تجلياتها ضمن حياة المرء، بما في ذلك عقلانيته وما يستبد به من أهواء»[6].

يضع دوستويفسكي التمرد في خانة الفطرة الأساسية عند البشر؛ فالإنسان في تمرده يسعى إلى التحرر من عبودية الأوهام والأفكار المفروضة عليه من العالم الخارجي.

إن الخطايا والذنوب والرغبات التدميرية التي تلاحق أبطال دوستويفسكي المتمردين وتلتصق بمصائرهم، ماهي إلا تعبير عن نزوع الإنسان إلى الحرية، وهذا التحريم هو الذي يحفز الرغبة إلى تلك الحرية بوصفها سمواً وتعالياً عن تفاهة البشر وضحالة وجودهم اليومي، لكن الوعي العميق بتلك الخطايا هو الذي سيقود الكائن الإنساني إلى ملامسة نوره الأبدي والاستسلام الكامل لهذا العالم.

اكتشف دوستويفسكي، وهو يغرق في هاوية أناه المظلمة أن العالم الروحي للإنسان لا علاقة له بالعقل والمنطق، لذا فقد كان يلمح كثيراً إلى تلك العاطفة الروحية الغامضة التي تسمو فوق المحسوسات والقواعد الأخلاقية، وهذه العاطفة هي حقيقة الأعماق التي لا بد أن تبزع يوماً من ظلام الوجود.

الأب الروحي للرواية النفسية

العودة لقراءة مؤلفات دستويفسكي في فترات متباعدة من عمرنا هي استعادة لجزء كبير من براءتنا المفقودة ولزمن لم يعد ملكنا. عالم دستويفسكي رحلة طويلة وشاقة إلى البواطن المجهولة والخفية، وانعتاق ساحر للذاكرة من كوابيسها وأوجاعها المضنية.

تتميز روايات دستويفسكي بالحضور والتجدد في كل زمان ومكان؛ فهي بالإضافة إلى طابعها الفلسفي والتأملي، تُقدم للإنسان معرفة مقرونة بالعمل، وعلاجاً روحياً يساعد على تطهير النفس ممّا علق بها من شوائب وأمراض اجتماعية، فتساعدنا التجربة على هدم الذات القديمة وبناء ذات جديدة متحررة من الأنا وأوهامها.

يقول الناقد والأديب الروسي فلاديمير دنيبروف: «إنّ قراءة روايات دستويفسكي تُعتبر حدثاً في حياة الإنسان؛ فعندما نقرأ كتبه نلج عالماً شعرياً على درجة عالية من التكثيف والتركيز، حيث يضيء أفق الحياة الفعلية بوهج المعاناة الفنية الهائلة، ولا نعود نرى العالم كما كنا نراه سابقاً»[7].

ويذهب الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث إلى أن تأثير دوستويفسكي لا يقتصر على الأدب وحده، بل يمس نمط الحياة وأسلوب التفكير والعواطف البشرية؛ فأعماله التي تُقرأ على مدى الأجيال يمكن تصنيفها على إنها دراسة للطبيعة الإنسانية[8].

عبقرية مضيئة على مر الأزمان

تكمن عبقرية دستويفسكي، وهو يسبر أغوار النفس البشرية، في أنه يحاول الإجابة عن الأسئلة التي أرّقت الإنسان وأزمة وجوده؛ فمن خلال معاناته مع مرض الصرع كانت رهافة دستويفسكي وإحساسه بآلام الناس وعذاباتهم تزداد، فعدم كمال هذا العالم دفع به للولوج إلى جوهر الشر والخير عند الإنسان، من خلال رسم شخصيات مشحونة بجو من صراع التناقضات والثنائيات: كالمثالية والمادية، والأخلاق الثورية والمسيحية، والإيمان والإلحاد، والعقل والعاطفة، وما يرافق هذا الصراع من أقدار ومصائر.

دستويفسكي الذي فاق سيغموند فرويد عمقاً وتحليلاً في نظرياته النفسية، والذي علّم نيتشه أن يكون سيكولوجياً، يعلمنا أنّ المحبة في كل ذرة من ذرات الكون وفي كل حركة دؤوبة في هذا العالم. المحبة عند دوستويفسكي هي أن تنتقم بقوة التسامح، أن يكون قلبك ينبوعاً طاهراً يغسل صليب الخطايا التي تناسلت في أوهام عدوك، أن تبلغ روحك ذروة الكمال والخلود، لكي تتحرر من وطأة الزمن ويتمثل فيك الإله على هذه الأرض.

[1] - إرنستو ساباتو، الكاتب وكوابيسه (في قضايا الرواية المعاصرة)، ترجمة عدنان المبارك، دار أزمنة، عمان، ط1، 1999، ص37-38 (بتصرف).

[2] - دوستويفسكي، مذكرات قبو، ترجمة أحمد الويزي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط1، 2014، ص40

[3] - دوستويفسكي، مذكرات قبو، مصدر سابق، ص71

[4] - المصدر نفسه، ص16

[5] - المصدر السابق نفسه، ص 24-25-56-57-153. (بتصرف).

[6] - ينظر المصدر نفسه، ص47

[7] - ينظر: دوستويفسكي، المراهق (الجزء الأول)، ترجمة سامي الدروبي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء وبيروت، ط1، 2010، ص7 (مقدمة بقلم لودميلا سراسينكا).

[8] - المصدر نفسه، ص7 نفسها (مقدمة بقلم لودميلا سراسينكا).يرى بعض النقاد والمفكرين أن نيتشه هو أول فيلسوف ما بعد حداثي، لما تتضمنه فلسفته من نقد وتفكيك للميتافيزيقيا والدين والأخلاق وغيرها من المورثات والقيم السائدة والمركزية في حياة البشر. اتسمت حياة نيتشه بطابع مأساوي وحزين. فقد عانى الكثير من الأمراض والعلل في حياته. وقضى العشر سنوات الأخيرة من عمره في مصح نفسي بعد حادثة الحصان الشهيرة إلى أن توفي فيه. لم تلق كتاباته وأفكاره في حينها ذلك الرواج والاهتمام الذي نعرفه اليوم. ويرى البعض أن نيتشه لو عاش حياة سليمة ومتوازنة لتغير مسار الفلسفة ومصيرها في عصرنا الحديث.