دولة الخلافة التقدّم إلى الماضي
فئة : قراءات في كتب
تمهيد:
«داعش» مثلما يسميّها خصومها، أو "تنظيم الدولة الإسلاميّة" مثلما يدعوها أنصارها والمتعاطفون معها هي من أكثر المواضيع التي شغلت الباحثين خلال سنوات تمدّد هذا التنظيم. وإنّه لمن العسير إحصاء ما كتب في هذا الموضوع، منذ أن أصبح محلّ اهتمام أغلب دول العالم الإسلاميّة منها وغير الإسلاميّة. ويكفي أن نذكر بعض ما أحصاه الكاتب فالح عبد الجبّار في سياق عرضه للدراسات المتاحة حول «داعش»؛ فقد بلغت نتائج البحث عن مدخل «داعش» مئة وستّة وخمسين مليون نتيجة بحث سنة 2015. وبلغ عدد نتائج البحث باستخدام مدخل "ISIS" مئتين وستّة وعشرين مليونا. وقد استعرض المؤلّف الدراسات الرصينة ذات الطابع المنظّم أكاديميّا[1]، والكتب التي ألفت باللغة الإنجليزية.[2]
والكتاب الذي نقدّمه هو في الحقيقة تأليف جماعي جمع بين البحث الميداني والمقاربة التحليليّة والنقديّة اعتمادا على مناهج علم الاجتماع. وقد صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات سنة سبع عشرة وألفين.
وكاتبه: فالح عبد الجبّار، وهو عالم اجتماع عراقيّ ولد ببغداد سنة ست وأربعين وتسعمائة وألف. وتوفي يوم السادس والعشرين من شهر فبراير سنة ثمانية عشرة وألفين، غادر العراق سنة ثمان وسبعين وتسعمائة وألف. وعمل سابقًا مديرا للبحث والنشر في مركز الدراسات الاجتماعية للعالم العربي التي يوجد مقرها في "نيقوسيا" و"بيروت" بين سنتي ثلاث وثمانين وتسعمائة وألف وسنة تسعين وتسعمائة وألف. وعمل محاضرا في جامعة لندن الحضرية، ثم أستاذًا وباحثًا في علم الاجتماع في جامعة لندن، مدرسة السياسة وعلم الاجتماع في كلية "بيركبيرك"، والتي كان قد حصل فيها على شهادة الدكتوراه. ومنذ سنة أربع وتسعين وتسعمائة وألف، قاد مجموعة بحث المنتدى الثقافي العراقي. وتخصّص في دراسة الفكر السياسي والاجتماعي في الشرق الأوسط، وتناولت أعماله: الدين، ودور القانون، والصراع الديني، والمجتمع المدني؛ من أهمّ مؤّلفاته:
- Ayatollahs, Sufis and Ideologues: State, Religion and Social Movements in Iraq.
- Tribes and Power: Nationalism and Ethnicity in the Middle East.
وهذا الكتاب اشترك في تأليفه الكاتب هشام داود.
- The Shi'ite Movement in Iraq
وله كتب بالعربيّة، منها: الدولة والمجتمع المدني العراقيّ، الديمقراطيّة المستحيلة: حالة العراق، معالم العقلانيّة والخرافة في الفكر العربي، المادّية والفكر الديني المعاصر، بنية الوعي الديني والتطوّر الرأسمالي (أبحاث أوليّة)، فرضيّات حول الاشتراكيّة، المقدّمات الكلاسيكيّة لنظريّة الاغتراب.
وله من الترجمات: الاقتصاد السياسيّ للتخلّف، موجز رأس المال، رأس المال، نتائج عمليّة الإنتاج المباشرة.
بيد أنّ فضل الكتاب لا يتمثّل في مجرّد اطلاع صاحبه على ما أُلّف حول «داعش» بالعربيّة وبغيرها من اللغات، وإنّما في اعتماده بحوثا ميدانيّة ضمّت فريقا من الباحثين الذين قدّموا نتائج دقيقة من الناحية العلميّة لاعتمادها على أحاكم من داخل التنظيم وليس من خارجه. فقد تسبّبت المواقف الإيديولوجيّة المختلفة في غلبة الأحكام المسبقة على الدراسات العلميّة. وقد تأثّرت وسائل الإعلام بتلك النزاعات، وانخرطت بدورها في أحكام تخدم أطرافا معيّنة، فتحوّلت بعض التقارير الصحفيّة إلى هجاء أو مدح سياسيّين.
وإنّ اختيارنا لهذا الكتاب لهو نتيجة ما تميّز به من وضوح منهجيّ في طرح المسألة ودقّة في الأحكام عمادها رصد كاتبه ومن شاركه البحث أهمّ وقائع الحياة اليوميّة في "دولة الخلافة" وقيامه بمقابلات ميدانيّة واعتماده على وثائق رسميّة يعسر على غيره من الباحثين الحصول عليها. فكانت تلك العدّة المنهجيّة سبيل المؤلّف إلى النأي بعمله عن التعميم والأحكام المسبقة. فقد قام بحثه على فرضيّة علميّة واضحة ظلّت تشدّ فصول الكتاب بعضها إلى بعض وتركّزت حول سؤال: هل إنّ صعود «داعش» مرتبط بالقبول الضمنيّ للحاضنة الشعبيّة؟ وهل هي أزمة ناشئة عن سوء إدارة تعدّد الهويّات في المشرق العربي وفي عبور منطق تغالب الهويات؟
لقد أفضت تلك الإشكاليّة بصاحبها إلى اتجاهين في البحث: يُعنى الأوّل بتحليل الدولة الفاشلة. أمّا الثاني، فيدرس تاريخ فكرة الخلافة بوصفها تيّارا إيديولوجيّا، وهو ما يمكن أن تبيّنه من خلال بنية الكتاب.
القسم التحليلي:
بنية الكتاب:
إنّ فضل هذا الكتاب في كونه يعرض خطّته المنهجيّة في الفصول الأولى منه. وقد تميّز تقديمه لتلك البنية بالدقّة والوضوح، إذ يُقسَّم الكتاب إلى مقدّمة وعشرة فصول، مع خاتمة وملحق وتقارير ووثائق وصور. وينطلق المؤلّف في المقدّمة بدراسة مخيال[3] المجتمع العراقيّ تحت سيطرة «داعش» في العراق تحديدا، وهو يدحض الرأي السائد الذي يسلّم بوجود حاضنة شعبيّة. ويحيل الظاهرة إلى إطارين أساسيين: الأوّل "هو إخفاق الدولة في بناء مجتمع تعدّدي وفي قبولها الفعلي- المؤسساتي بالتعدّد، والثاني هو وجود تيّار اجتماعيّ يحمل إيديولوجيا الخلافة في المجتمعات العربيّة الإسلاميّة –ومنها العراق- منذ أمد بعيد، بل إنّ انتقال التيّار التكفيريّ من لحظة العنف إلى لحظة إعلان "الدولة"/ "الخلافة" مرهون بإخفاق الدولة العراقيّة في سياق احتجاج المجتمع المحلّي عنها."[4]
إنّ صعود «داعش» بحسب هذه المقاربة هو نتيجة طبيعيّة لوجود عاملين متعاضدين: إخفاق الدولة وانتشار تيّار تكفيريّ يؤمن بفكرة دولة الخلافة. ونتيجة لهذين العاملين، فقد خُصِّص الفصل الأوّل لدراسة الدولة الفاشلة التي أسهمت في انتشار الحركات التكفيريّة ووهبتها الشرعيّة من خلال فشلها في ضمّ شتات المختلفين وترسيخ سلوك المواطنة. أمّا الفصلان الثاني والثالث، فيتناول المؤلّف فيهما إيديولوجيا التيّار التكفيريّ وتحوّلها من التنظير إلى التطبيق، ويفسّر أسباب انتقال الظاهرة من فكرة تاريخيّة إلى فكرة صار لها رواجها في الجماعات التكفيريّة. وتهتمّ سائر الفصول بدراسة مخيال المجتمع المحلّي وتفاعلاته مع الدولة الفاشلة وإزاء الحركة التكفيريّة قبل إعلان "دولة الخلافة" وبعده.
ويتناول المؤلّف في الفصل الرابع مخيال المجتمع المحلّي السنيّ قبل استيلاء "الدولة الإسلاميّة" على المدن السنيّة الكبرى وبعده. وقد أطلق فالح عبد الجبّار على هذه الفترة فترة "تقلّبات المخيال"، وقد مثّلت حقبة انقلاب في الرؤى تدحض الرأي السائد بثبات المواقف والتصوّرات، وهو ما تؤكّده الفصول اللاحقة.
في الفصل الخامس، يدرس المؤلّف مخيال المجتمع المحلّي في علاقته بالدولة الفاشلة، ويركّز على فترة "نوري المالكي"، فقد تشكّل مخيال سنيّ باحث عن المخلّص نتيجة الحكم الطائفيّ.
في الفصول الباقية، يقوم المؤلّف بمعاينات ميدانيّة ووثائقيّة للمجتمع المحلّي الذي مثّل حاضنة «داعش» وأطلق عليها تسمية "مستعمرة العقاب" ووسمها "بدونيّة المرأة"، وبيّن قيام حكمها على خلافة ريعيّة أساسها "حَلْب الموارد"، وهي سياسة أضرّت بمصالح الطبقة الوسطى ورجال الأعمال على حدّ سواء، ثمّ بحث تواتر دولة الخلافة مع المجتمع المحليّ العراقي، مثل شيوخ العشائر ورجال الدين وتواترها مع المجتمع الحديث أفرادا ومؤسسات. وأخيرا، يتناول موضوع إحياء "دار الإسلام" و"دار الحرب". ومقولة "أهل الكفر" و"أهل الذمّة" إزاء المسيحيين والإيزيديين.
أمّا في الخاتمة، فيعرض المؤلّف تحوّلات المخيال المحلّي في إطار الحرب الدوليّة على الإرهاب، وتدخّل القوى العظمى والقوى الإقليميّة مثل إيران وتركيا؛ فقد تعلّقت بهذه القوى مخاوف فئات وآمال فئات أخرى.
ليس العمل في حقيقته مجرّد جهد فردي بذله المؤلّف، وإن كانت المواقف التي احتواها ملزمة له دون سواه، وإنّما هو نتيجة بحث جماعي اشترك فيه فريق عمل لإجراء المقابلات، بل إنّ بعض فصول الكتاب كانت من تأليف غيره مثل الفصل المتعلّق بدار الإسلام ودار الحرب أو المتّصل بأهل الكفر وأهل الذمة.
أهم الإشكاليات التي يطرحها الكتاب:
لقد قامت الإشكاليّة الرئيسة في الكتاب على بحث التفاعل بين مفهوم "الخلافة الإسلاميّة"، باعتباره يمثّل تيّارا إيديولوجيّا والحاضنة الشعبيّة العراقيّة. ولم تنشأ هذه الحاضنة إلا لوجود أسباب موضوعيّة لعلّ من أهمّها إخفاق الدولة؛ فقد مكّن من تحوّل الحركة من مكامن السريّة إلى العلن.
إنّ فشل أنماط التحوّلات الأساسيّة في تفكيك الأنظمة التسلّطيّة، وإحداث تغيير ديمقراطي سلمي منشود من جهة أو قيام أطراف خارجيّة بتفكيك قسريّ للنظام القديم بالقوّة العسكريّة وإخفاق القوى الاجتماعيّة والسياسيّة في التوافق على بناء نظام جديد من جهة أخرى، هما العاملان الأساسيّان اللذان هيّآ «لداعش» التحوّل من الانحسار إلى التمدّد.
لقد شهدت المنطقة ثلاثة مشاريع لبناء العراق الجديد بعد الغزو الأمريكيّ لسنة ثلاث وألفين. "الأوّل هو المشروع الأمريكيّ الداعي إلى إنشاء نظام ديمقراطيّ على قاعدة اقتصاد السوق، والثاني هو مشروع الحركات الإسلاميّة الشيعيّة الهادف إلى إنشاء دولة شيعيّة، سواء على قاعدة ولاية الفقيه أو من دونها، والثالث هو المشروع الجهاديّ السنيّ الذي يدعو إلى العودة إلى النظام المركزيّ التسلّطي القديم، على قاعدة جهاديّة سنيّة."[5]
وكان كلّ طرف يؤسّس لمشروعه بمعزل عن الآخر. فنشأ عن هذه المشاريع صراع ضمنيّ ومعلن بين هذه الأطراف التي حاولت أن تستمدّ مشروعيّتها من الشعب، ولكن على قاعدة انقسامه الطائفيّ وصراعه السياسيّ والاقتصاديّ على المصالح. وقد سهّل ذلك الانقسام تدخّل أطراف خارجيّة لها مصالحها الاقتصاديّة والإقليميّة لدعم الجماعات التي تخدم مشروعها، وهو ما جعل المتخيّل العراقيّ يتحدّث عن تحكّم إيران في الأرض وتحكّم أمريكا في السماء. وفي المجتمع المحلّي، كانت بوادر الحرب الأهليّة تنضج وتجد أسباب قوّتها.
اكتملت أسباب انتشار «داعش» بفشل دولة المالكي في خلق مفهوم المواطنة والتقليص من النزعة الطائفيّة؛ فقد اعتمدت سياسة "تغالب الهويّات" وأضحت الدولة تتّبع نظاما ريعيّا أساسه الإمساك بمقاليد السلطة وبموارد الثروة وبآليّات توزيعها واحتكار الموارد الماديّة والرمزيّة، وهو ما أقيم على أساس إذكاء سياسة الهويّة بوصفها أداة تعبئة جماهيريّة لضمان أكبر نصيب ممكن في السلطة والموارد، إلاّ أنّ المنطق الجدلي لمفهوم الهويّة أذكى الصراع داخل المجموعات جماعة الهويّة الواحدة المتخيّلة سياسيّا، وهو صراع على تمثيل الجماعة وزعامتها. فانتهت الدولة الفاشلة إلى تفكيك الهويّات وفتح باب الحرب الأهليّة وانهيار أجهزة الدولة وإفقادها الشرعيّة.
لقد كانت الأزمة التي قضت بفشل الدولة نتيجة "إخفاق في بناء الأمّة من خلال احترام التعدّد الذي يعني انفتاح النظام السياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ على المشاركة."[6]
وليس فشل الدولة وحده المسؤول عن انتشار «داعش» وتحوّلها من مجرّد تنظيم معارض إلى دولة، فقد تأسّست «داعش» على أرضيّة إيديولوجيّة. ولم يكن إعلان أبي بكر البغداديّ في التاسع والعشرين من شهر حزيران/ يونيو سنة أربع عشرة وألفين الخلافة سوى نتيجة حلم ناشئ في اللاوعي السنيّ بتحقيق هذا المشروع. فالخلافة مكوّن من مكوّنات الأيديولوجيا الإسلاميّة، والحلم بإقامة دولة الخلافة في الفكر السنيّ فكرة قديمة وحلم متكرّر. ويلخّص الكاتب نشأة فكرة «داعش» في المجتمع المحلّي العراقيّ بقوله: "هي فكرة عراقيّة ولدت وترعرعت في الوسط التكنوقراطي العراقيّ: العسكريّ والاستخباراتيّ والمدنيّ، وهي تعكس آمال التكنوقراطيين والبيروقراطيين العراقيين الذين انخرطوا في العمل المسلّح بعد عام 2003 ورغائبهم، بصرف النظر عن منحدراتهم الأيديولوجيّة، بل إنّ من الحصافة الافتراض أنّها تمثّل رغائب قطاعات أوسع من المجتمع المحلّي. وانتقلت عدوى الافتتان بفكرة الدولة "الإسلاميّة" إلى السلفيّين المحلييّن."[7] فكان إعلان الدولة ثمرة تزاوج اللحظة العراقيّة والموروث الثقافي لفكرة الخلافة.
بيّن الكاتب أنّ البناء الإيديولوجيّ «لداعش» قد مرّ بمراحل مختلفة، من أهمّها مفاهيم الأسلمة والجاهليّة والتوحّش. ويرتبط مفهوم الأسلمة بالجاهليّة في مستويات عدّة أدناها التوعية والتثقيف وأقصاها الاغتيال والترهيب، وهو مفهوم تطوّري يبدأ بالوعظ والدراسة والتعليم وينتهي بالتمكّن والسلطة والتنفيذ. ولذلك، فقد كان مفهوم التوحّش نتيجة مسار تطوّري متشابك لفكرة الحاكميّة والجاهليّة والتكفير والجهاد. وقد قامت إيديولوجيا الدولة الإسلاميّة على معمار فقهي أساسه كتاب "فقه الدماء" وهو دستور الدولة، وإدارة التوحّش. وخلاصة الكتابين تمجيد للعنف الخالص وجعله فضيلة، وهما الأرضيّة التشريعيّة لاستراتيجيات التنظيم اللذان يمتزج فيهما الطابعان الإسلاميّ والقوميّ، فيولّدان تعصّبا وكرها للأجانب وحقدا طائفيّا وطهرانيّة دينيّة ورغبة في الثأر، والحصيلة أيديولوجيا الهيمنة باسم المقدّس.
وقد كان لذلك المقدّس رموزه مثل اللون الأسود والعمائم والراية ورموز الظفر، مثل الراية الخفّاقة على المدرّعات والمباني والمواكب ورموز القوّة والجبروت كالعروض العسكريّة للأسلحة والغنائم بالرايات والملابس السوداء ورموز سلطة الدولة ورموز العقاب السياسيّ، مثل الرداء البرتقالي للضحايا خصوصا في طقوس الذبح إلى جانب الإعدام حرقا والإعدام بالرصاص ورموز الترهيب، مثل التمثيل بالجثث أو تعليق القتلى على الأعمدة ورموز التجييش والتعبئة كالأناشيد ورموز الردع الخلقي، مثل إغراق اللوطيّين وربط المفطرين بأعمدة الكهرباء تحت الشمس اللاهبة ورموز التدمير الطُّهرانيّ، مثل استهداف المزارات والمواكب الشيعيّة والرموز التاريخيّة، مثل استعمال اللغة التراثيّة والرموز الإيروسيّة كالإماء والجواري والسبايا. أمّا رموز الشرعيّة، فتحيل على النسب المقدّس (القرشيّ) والتاريخ العبّاسيّ وانتزاع لرموز الشرعيّة الشيعيّة من خلال الإحالة على الصراع الطائفيّ. فتكون خلاصة تلك الشرعيّة، القدسيّة والانتماء السنّي والتضادّ إزاء الشيعيّ.
لقد بيّن الكاتب في الفصل الرابع المسألة المركزيّة التي قام عليها مؤلّفه، وهي تقلّبات المخيال المجتمعيّ من المخيال العدميّ والعجائبيّ إلى بداية الحملة الإيمانيّة وصعود السلفيّ المحارب وتسلّل المهاجرين الداعمين للمشروع. وقد ولّد ذلك هويّة مذهبيّة سياسيّة أنتجت "العروبة الطائفيّة المتأسلمة" القائمة على تكفير الشيعة والعنف المسلّح. فكان التقارب بين البعث والتكفيريين لبناء هويّة طائفيّة سنيّة محاربة، "تعطّل المسعى السياسيّ لباقي القوى السنيّة كما تمهّد لتنامي الآمال بظهور مخلّص جديد بعد تنامي الأزمات."[8]
تقود مسارات تحليل الدولة الفاشلة والمخيال الإيديولوجي إذن إلى تشعّب خيوط الأزمة في المجتمع العراقيّ والبحث عن مخلّص. ولم يكن ذلك المسار واضحا إذ اصطدم بعوائق جمّة لعلّ من أهمّها تخيلات البحث عن هويّة سنيّة فقيرة تتحدّد بحسب صراعاتها الطائفيّة والأهداف النفعيّة. إنّها هويّة جريحة يشعر أصحابها بالخسران المتواصل جرّاء فقدان ملكيّة الدولة واستهداف رموزها الثقافيّة ودورها التاريخيّ. وهو شعور أذكته دولة المالكي باحتكارها السلطة وتسلّطها وحكم "حزب الدعوة" باسم الطائفيّة؛ فقد خرق المالكيّ أربعة أسس للدولة/ الأمّة: مبدأ المشاركة في الموارد السياسيّة والاقتصاديّة والإداريّة والثقافيّة. ومبدأ الحكومة الائتلافيّة. ومبدأ النظام البرلماني لا الرئاسي المقرّر في الدستور. ومبدأ حلّ النزاعات ومكافحة التمرّد الذي يوجب زجّ المجتمعات المحلّية في العمليّة السياسيّة. فأضحت الدولة عاجزة عن حماية مواطنيها.[9] وكثرت الاعتقالات والمداهمات التعسّفيّة. وظهر التباين الطقوسيّ في المجتمع، فَسَادَ يأس مطبق. وانتشر في الموصل وفي بعض مدن الأنبار نبأ قرب نشوب ثورة شعبيّة يقودها البعث وشيوخ العشائر والعسكريّون السّابقون وبعض الوجهاء. فقد كان المجتمع المحليّ يتطلّع إلى ثورة جماهيريّة لا علاقة لها بالإسلام بحسب رأي المؤلّف. وصار الوضع في الموصل أسوأ من الصومال، ما بين مطرقة الحكومة الفاسدة وسندان "الدولة الإسلاميّة" التي تبنّت شعار الحرب الطّائفيّة، وقدّمت وعودا بمنح المناطق السنيّة حكما ذاتيّا، واستغلّت ضعف القبضة الأمنيّة لتحشد المقاتلين على الحدود. فبدأ التجمّع العسكريّ في المثلّث الصحراويّ بين الموصل والأنبار وتكريت. وبدأت حملة تحرير سجناء الدولة الإسلاميّة وسائر المعتقلين وجرى احتلال المدن على دفعات وبأساليب شتّى تراوحت بين المفاوضات السلميّة والحروب العنيفة.
لم يكن فضل الكتاب في كشفه دور المتخيّل السنّي في توفير الظروف الملائمة «لداعش»، وإنما فضله في كسر الحدود الحقيقيّة والرمزيّة التي حصّن بها «داعش» دولته. فكانت معسكرا منغلقا على ذاته يصعب النفاذ إلى معلوماته وإدراك حقيقته. فالبحث في حدّ ذاته مغامرة في معسكرة العقاب ودولة القوانين القروسطيّة التي لا يتردّد حماتها في الحرق أو النحر أو الإلقاء من فوق الأماكن المرتفعة أو الرمي بالرصاص...
لقد كان ذلك السجن الكبير بكلّ قوانينه مصدر خوف لسكّانه، ولكلّ من يفكّر في دراسته من الداخل. ولقد توهّم العراقيّون أنّهم وجدوا مخلّصا من أزماتهم، ولكنّهم كانوا كالمستجير من النار بالرمضاء. وأمام قتامة المشهد وقساوته لم يجد الكاتب غير حلّ تغيير وجهة الخطاب نحو المضحكات المبكيات أو التراجيكوميديا من خلال سرديّات الخوف والتدخين المحرّم، ولكنّها تظلّ كنقطة ضياء وسط عتمة الحقائق الصادمة. ففي دولة الإسلام تلك جثث معلّقة على أعمدة الكهرباء بسبب إفطار شهر رمضان، وإعدامات علنيّة لرجال الشرطة والجنود بتهمة التجسّس لحساب الغير، وقتل للأطباء والممرضين والقضاة، وفرض لقوانين الفصل الجنسي وسياسات متوحّشة زرعت الرعب في قلوب العراقيين. فأدّت إلى حركات هروب جماعيّ، وتحوّلت كثير من المناطق إلى مدن أشباح، وأضحت الدولة الإسلاميّة وبالا على المسلمين.
لم تكن الإيديولوجيا التي مثّلت الأسس التشريعيّة «لداعش» سوى استعادة للأشكال التقليديّة للدولة. فقد قامت الخلافة الريعيّة التي شرعنت نهب الأموال وجمعها. وفرضت ضرائب على رجال الأعمال والطبقات الوسطى، وهو ما أدّى إلى نهب منظّم للثروات وقيام دولة الغنيمة أو الرأسماليّة البدئيّة. فكان عاملا آخر للهروب من دولة الجحيم الضريبيّ. وأُفْرغ المجتمع من قواه الحيّة وضعفت تراكماتها. وعاش أصحاب رؤوس الأموال بدورهم انهيارات متتالية أدّت إلى توقّف الأعمال الكبرى. وفشلت «داعش» في استقطاب شخصيّات عشائريّة مرموقة، بل اقتصر أنصارها على شخصيّات مغمورة. وباختصار لم تستطع الدولة الفاشلة إحياء القبليّة، وإنّما أحيت القبليّة الثقافيّة والقبليّة الاجتماعيّة، وهو ما أدّى إلى تصادم بين نثار الشبكات القبليّة والدولة الإسلاميّة في العراق. وأصبحت حركات الصحوة مضادّة للسلطة التكفيريّة. فقد كشف المؤلّف أنّ بين القبليّ والإسلاميّ التكفيريّ فجوة يصعب ردمها في مجال المصالح الحياتيّة وفي المجال الثقافيّ، وانقلب الانقسام حول التعاون مع «داعش» إلى إجماع على رفضها وطردها.
لقد أوهمت «داعش» بأنّها ستتجاوز أخطاء الدولة الإسلاميّة التي قادها أبو عمر البغداديّ؛ وذلك بتشريك المجتمع المحلّي في إدارة أموره. ولكنّ تركيبتها وهيكليّة أجهزة دولتها أثبتت خلوّها من وجوه المجتمع المحلّي، بل إنّها ضيّقت على الحريّات العامّة في الإدارة والتعليم وفرضت قوانينها الخاصّة على القضاء. ومنعت الاختلاط، حتّى داخل الإطار الطبيّ. وحصل التصادم الثقافي مع شباب العراق بسبب منع وسائل الاتصال الحديثة وحملات التفتيش في المدارس واعتماد التلقين وفرض الرقابة على المدرسين والمتعلمين. وقد قدّم المؤلّف كثيرا من الوثائق حول بعض المناشير الدينيّة والوثائق الرسميّة والكتب التي كانت «داعش» تروّجها. وقد استخلص من مسارات تحليله للحياة اليوميّة في العراق ما سمّاه "دروب المخيال السنيّ الوعرة". فاعتبر أنّ الأزمة الوجوديّة للدولة المشرقيّة وإخفاقها في الإقرار بتعدّد الهويّات وإرساء الدولة على أساسه هو الذي كان مسؤولا عن انتشار «داعش». فقد تفاعلت أسس ثلاثة لتضمن لها الظهور والانتشار: الدولة الفاشلة وانقسام العراق إلى ثلاث دويلات والمجتمع السنّي بكلّ مقوماته ومخياله، ودولة الخلافة التي وقفت بين أساسي الدولة الفاشلة وأزمة المجتمع السنّى، إلاّ أنّ تلك العوامل التي مثّلت أسباب النشأة لم تكن لتثبت، لأنّ الدولة الإسلاميّة كانت دولة أفشل من سابقتها، ولم تستطع تمثيل دور المنقذ الذي حلم به العراقيّون، وحوّلت حياتهم إلى جحيم. فكانت تحوّلات المخيال ومسارات الانهيار. ولعلّ ذلك ما جعل المؤلّف يستخلص أنّه لا مستقبل «لداعش»، لأنّها أوّلا اعتمدت سياسة الجماعة النقيّة التي أنزلت العقاب بالسنّة في مناطق سيطرتها. ففقدت أساس قاعدتها الاجتماعيّة التي تفترض الدفاع عنها وباسمها. وثانيا لأنّها استعدت ثاني أكبر مجموعتين إثنيتين وعرقيتين، وهما الأكراد والشيعة الذين يمثلان ثمانين بالمائة من السكّان. فكان عزلهم انتحارا سياسيّا «لداعش». وقد زاد الطابع الريعيّ الطّاغي على موارد الخلافة والطابع الحربيّ الدولة هشاشة.
الخلاصة أنّ هذا الكتاب –إذ يتفحّص قصّة إخفاق الدولة وقصّة إخفاق المجتمع المحلّي ويستبطنها- يهيّئ لقصّة إخفاق ثالثة: قصّة موت الخلافة المعلن. بيد أنّ سقوط «داعش» لا يعني نهاية الأزمة. فمقوّمات الدولة الفاشلة من شأنها أن تعيد إنتاج الظّاهرة بأشكال أخرى وأفكار أخرى، والسياسة القائمة يمكن أن تزيد الانقسام الطائفيّ استفحالا.
القسم النقدّي:
لعلّنا نميل في القسم النقديّ إلى تثمين قيمة هذا الكتاب الذي أقيم على أسس علميّة واضحة، عمادها فرضيّة قام الكاتب بدحضها وكشف البدائل التي بيّن فيها أسباب نشأة الدولة الإسلاميّة، ولم يكتف بمسارات التشكّل والبناء، وإنّما درس من خلال الوثائق والمقابلات مسارات التفكّك والانهيار. فكان اعتماده على تلك الأسانيد علامة دقّة ومؤشّر موضوعيّة من خلال تناول الجوانب السياسيّة فالاقتصاديّة والاجتماعيّة. ولا تخفى صعوبة البحث في التاريخ الآنيّ. فقد كان المؤلّف يدرس دولة في طور التشكّل، وهي لا تزال قائمة زمن كتابته، وهو يتابع نسقا سريعا من التحوّلات التي لا تقف عند حدود ما يجري داخل مستعمرة العقاب، وإنما في تفاعل تلك الدولة/ المعسكر مع المجتمع المحلّي العراقيّ والمجتمع الدوليّ. ويطرح مجال الدرس في حدّ ذاته صعوبة لتعقّد التركيبة الإثنيّة والطائفيّة في العراق، وواقع الحرب الذي تخوضه تلك الجماعات، إذ لم يكن من السّهل تحصيل المعلومات وإجراء المقابلات في ظلّ القصف وصرامة القوانين التي تفرضها «داعش» على الواقعين تحت سلطتها؛ فهي أرض تكثر فيها الإعدامات العشوائيّة، وإنّ من أكثر التّهم شيوعا تهمة التجسّس والخيانة والتعامل مع الأعداء، وكم هم كثر أعداء «داعش».
إلاّ أنّ دراسة «داعش»، باعتبارها إنتاجا محليّا استثمر في فشل الدولة وإيديولوجيا الخلافة، لا يمكن أن يحجب عن الدارس الدور الإقليميّ والدوليّ في تزويد التنظيم بالمقاتلين أو السلاح، إذ ثبت أنّ «داعش» كانت تستعمل أحدث الأسلحة المتطوّرة، فضلا عن أنّ مقاتليها ليسوا جميعا من العراق، وإنّما هم خليط من جنسيات مختلفة يحتاج الأمر نتيجة ذلك إلى بحث في أسباب انضمامهم إلى التنظيم وطرائق تسفيرهم والأطراف التي تدخّلت لتيسّر لهم سبل الوصول إلى ساحات القتال. فتفسير ظاهرة «داعش» لا يمكن أن يظلّ حكرا على المجتمع المحلّي العراقيّ، وإنّما يجب أن يُنظر إليه من زاوية التدخّل الأجنبيّ الأمريكيّ منه والروسيّ. فالحسم في القضاء على «داعش» وتسريع انهياره لم يكن فقط نتيجة تحولات المخيال السنّي. والدليل على ذاك، أنّ المخيال الشيعيّ عانى الكثير من سياسة صدّام حسين، ولكنّه لم يتمكّن من إزاحته عن الحكم. وضعف «داعش» وانهيارها لا يمكن أن يفسّر بانقلاب المخيال السني، وإنما أيضا بتدخّل أطراف دوليّة طمعت في استثمار «داعش» ثمّ يئست من تغيير النظام السوريّ، وانتهت بالنسبة إليه مهمّة التنظيم في المنطقة. فكان لها دور بانسحابها (أمريكا) أو بحربها (روسيا) في إضعاف «داعش» وانهياره. ولا يمكن أيضا أن نغفل عن دور الجيش النظاميّ السوريّ الذي مثّل بتماسكه حاجزا أمام تمدّد التنظيم، فتمكّن من تقليص نفوذه وإيقاف تمدّده وتوجيه ضربات قويّة أضعفت من قوته العسكريّة.
يمكن القول أيضا، إنّ الملاحق التي وردت في آخر الكتاب واتصلت بأهل الذمّة والكفّار، أو موضوع الراعي الشبكيّ أو موقف الحركات السلفيّة في إقليم كردستان من «داعش» أو الوثائق المتعلقة بنشيد «داعش» وهي من إنجاز فريق بحثيّ، إنّها ذات أهميّة لاتّصالها بالمواضيع التي تناولها الكاتب في فصول كتابه. ولكن يبدو من الأنجع منهجيّا دمجها في نسيج الكتاب، حتّى تكون فائدتها العلميّة أكبر؛ فهي لا تخرج عن إطار الفرضيّة التي دافع عنها المؤلّف. ولئن استطاع المؤلّف صهر المقابلات والوثائق، رغم تنوّعها في نسيج الكتاب، فإنّه يمكن صهر تلك الملاحق، فقيمتها الفكريّة تصير أضعف حين ترد بعد الاستنتاجات والخاتمة.
في الختام يمكن القول، إنّ هذا الكتاب يمثّل وثيقة تاريخيّة مهمّة بكلّ ما احتواه من مقابلات ووثائق نادرة قد يطويها النسيان وتحرقها الحرب، فضلا عن كونه يمثّل بحثا علميّا رصينا. واضح الرؤية، مساراته المنهجيّة دقيقة، وهو عمل جماعيّ يقدّم تصوّرا موضوعيّا «لداعش» اعتمادا على مقومات علميّة دقيقة، رغم أنّ صاحبه لا يعتمد في مدخل كتابه نظريّات علميّة حديثة يمكن أن تقدّم له مفاتيح فهم وقراءة لتفاعلات المجتمع العراقيّ مع «داعش». فكأنّ غزارة المعطيات وسرعة التحوّلات التي شهدها الواقع حالت دون اعتماد تلك المنطلقات، وجعلت جهود المؤلّف منصبّة على الدراسة الميدانيّة بدل البحث عن المداخل النظريّة.
[1] يذكر من هذه الكتب: كتاب "السلفيّ اليتيم" للكاتب والإعلامي حازم الأمين، وكتاب "تنظيم الدولة الإسلاميّة" الذي ألّفه حسن أبو هنيّة ومحمد أبور رمّان، وكتاب "الدولة الإسلاميّة، الجذور، التوحّش، المستقبل" لعبد الباري عطوان، وكتاب "عالم «داعش»" لهاشم الهاشمي، وكتاب "«داعش» ومستقبل العالم" لعبد الرحمان البكري، وكتاب "إعلام الأنام بميلاد دولة الإسلام" لعبد الرحمان التميمي...
[2] يذكر منها مثلا:
- Micheal Weiss, Hassan Hassen, ISIS: Inside The Army of Terror (New York; Regan Arts, 2012).
Patrick Cockburn, The Rise of Islamic State: ISIS and the new Sunni Revolution (London; New York: Verso, 2015).
- Jessica Stern, J. M. Berger, ISIS: The State of Terror (London: Harper Collins Publishers, 2015).
- Ed Husain, The Islamist: Why I Became an Islamic Fundamentalist, What I Saw Inside, and Why I Left (London: Penguim Books, 2007).
- Edwin Bakker, Jihadi Terrorist in Europe (Netherlands: Netherlands Institute of international Relations (Clingendeal), 2006).
- Joseph Spark, ISIS Talking Over the Middle East: The Rise of Middle Eastern Supremacy, ISIS/ ISIL (New York: Conceptual Kings, 2014).
- Charles River (ed), The Islamic State of Iraq and Syria: The History of ISIS/ ISIL (New York: Charles River Editors, 2014).
- Jay Sekulow, Rise of ISIS: A Threat we can’t Ignore (New York: Howard Books, 2014).
[3] آثرنا أن نعتمد المصطلح الذي استعمله فالح عبد الجبّار، إلاّ أنّ مصطلح "المتخيّل" أدقّ من الناحية العلميّة.
[4] فالح عبد الجبّار، دولة الخلافة التقدّم إلى الماضي: «داعش» والمجتمع المحلّي في العراق، ط1، قطر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017، ص 28
[5] المرجع نفسه، ص 40
[6] المرجع نفسه، ص 49
[7] المرجع نفسه، ص 71
[8] المرجع نفسه، ص 129
[9] انظر: المرجع نفسه، ص 143