رشيد بوطيب و"مديحُ الضعف".. تحية لروح العالم
فئة : مقالات
يمكن لعبارة "الضعف" أن تختصر الجهد في مناقشة أفكار الباحث رشيد بوطيب داخل كتابه "رسالة إلى مفكر هرم"، لكنّه اختصار ليس بالاختزالي، وإنّما تضمين للكل في الكل بعيدًا عن أوهام المركز والهامش والأساسي والثانوي. فالضعف ومديح ظله العالي يحضر في كل مواضيع مقالات الكتاب، حيث يروم صاحبنا بهذه اللازمة التبئير على إنسانه الضعيف، وعلمانيته الضعيفة، وحداثته الضعيفة، ودينه الضعيف، وإلهه الضعيف...إلخ. بلغة الخلاص يعبر رشيد عن رغبته الجارفة هذه "إنسان ضعيف فقط هو الذي يمكنه أن يخلصنا!".
ويقصد بوطيب بالضعف – حسب إساءتي في القراءة - ذلك الخُلق الذي لا يتجرد عن الوعي لكنّه لا يقوم عليه فحسب، وإنّما يعلوه كي يؤكد الانتماء لدائرة الاعتراف، إنّه التواضع الإنساني، واجب التواضع كي نمنح أنفسنا ونمنح الآخرين حوارًا يؤسس للتعلم، للتبادل، للتعارف، للإنسانية.. الخ. الضعف كما يصوره يجردنا من الانغلاق، من الانتفاخ، من الأنانية، يجعلنا نتجاوز دناءات الامتلاء بـ"النحن" في اختزاليتها المرضية، فيفتحنا على التعلم الذي ما يبيت يجيء في كل حين، دونما اكتفاء ذاتي موهم.
لتقريب تصور باحثنا أكثر، يمكن المجازفة في ربط كتابه وما تضمنه من أفكار بروح صاحبه التي تمت في اعتقادنا لجيل كُتّاب جدد، يمكن مع المبالغة أن نصفه بجيل الثورة أو لحظتها، وحسب تعبيره الجيل القادر على "التحول الذاتي" والقادر على التعلم، فأي تعلم وتحول هذا الذي قد يرتبط بالضعف؟. قد نستوعب الوصفة التي يوصي بها باحثنا عبر تركيبنا المفترض بين "الضعف" و"التمثل" الذي قد نصوغه لشخصه المفكر داخل كتابه، هذا الذي تجاسر على مخاطبة "المفكر الهرم"، أو الذي قد نصوغه لشخص أفكاره، قصد أن ندرك لماذا كل هذا الاحتفاء بموصوف "الضعف"؟.
في سياق انشغاله كغيره من المثقفين والباحثين في منطقتنا بهموم مستقبلنا ومستقبل الخروج من التيه، نجده صريحًا في التعبير عن تصوراته دون أن يتوارى تحت يقينية حضارية منتفخة ومعبرة أشد التعبير عن اكتفائها المرضي بالذات، لهذا فرفض التقليد عنده رفض للآخر، ولا سبيل إلى التحول والاندماج في العالم إلا بالتقليد، هي صورة أخرى للتقليد غير تلك التي كونتها عنه نظريات كتابنا المهووسين بفكرة الخصوصية وهوية الأمة، والتي لا تعني عند كاتبنا غير رفض الاعتراف، ورفض العلاقة، ورفض الحوار. ولكي يتجاوز نقود من قد يصفونه بعبارات ترتصف تحت مفاهيم "إيديلوجيا الكفاح" المنافحة دومًا عن الخصوصية يدعو في انتباهة نقدية مزدوجة - من وحي صاحب النقد المزدوج - إلى ما أسماه بـ "الضيافة النقدية".
ما الذي يعنيه الاعتراف، والحوار؟، ومن هذا "النحن" الذي سيعترف؟، لماذا – يعلق بوطيب – نختصر العالم في ذواتنا وتمركزنا حولها؟، لماذا لا نعبر بعقلية براغماتية سلسة أنّنا نقلد لا لنقلد وإنّما لنتعلم، ولا تقليد ولا تعلم إلا عندما ندرك أنّ اعترافنا ليس لأنّنا "نحن" ولكن لأنّ الثقافة فينا هي هبة للقاء حسب عبارة صاحبنا، للقاء بالآخر والحوار والهجنة. فلا اعتراف إلا في ظل علاقة ولا علاقة يكون الحوار فيها منبنيًا على الحقيقة والتبشير بها، وإنّما الحوار أخلاق قبل أن يكون معرفة إنّه تعلم في ذاته ولغاية التعلم ذاتها. هكذا نعود لنقطة أن لا إمكان لكل هذا إن لم يكن إنساننا "الإنسان" مدركًا لضعفه خلقًا فيه لن يمنحه إلا خصال ذلك "المتعلم المتواضع".
ضمن كل هذا الجدل، تحضر جلية روح بوطيب الباحث الشاب ابن لحظة الثورة وعنفوانها، وابن روح القدرة على التحول الذاتي، عبر كل نماذجه الراهنة التي يناقشها داخل مجتمعاتنا أو داخل المجتمع الأوروبي أو الغربي بصفة عامة. لذلك يرفض – في تجاوز لروح كل مفكرينا الهرمين - أن تتحول العلمانية إلى مقابل للدين، لأنّها تتجاوز بذلك قيمتها الإجرائية فتستحيل "رؤية للعالم" وحقيقة ضد الدين، فبدل أن تسهم في التمييز، الذي هو الغرض منها، تتحول إلى مشكلة، كما يدرك جيدًا أبعادها علينا ولماذا يتموقف الكثير من الإسلاميين منها باعتبارها معادية للدين ليس إلا، بالرؤية نفسها لا يمكن للديمقراطية إلا أن تكون ضعيفة، لأنّها بذلك لن تقصي إسلامييها من المشاركة والتعبير كما لن تقصي غيرهم وليس ذلك هو دورها، هذه الرؤية التجاوزية تنبني على كوننا لا نحاول، ولا ينبغي لنا التطلع لتغيير العالم كما اعتقد الكثيرون، بل التطلع لإمكان اقتسامه مع الآخرين فحسب بعيدًا عن كل رغبة في التسلط والسيطرة، فأول العلاقة بيننا والآخرين شكر وآخرها شكر حسب وصف صاحبنا.
إنّ الحرية حسب الفيلسوف الألماني آكسيل هونيث حرية من لحم ودم، في تجاوز لتأثيلات المفاهيم وتقعيرات التفكير النظري البعيدة عن المجتمع ومؤسساته وأسئلته، أي البعيدة عن الراهن والمحايثة. يستحضر كاتبنا هونيت قصد أن يمنح الحرية ضعفها، ليجاوز من خلاله فهوم "المفكر الهرم" وتحليلاته ووعيه حول الحرية نفسها كما المفاهيم السابقة من علمانية وديمقراطية ..إلخ، وتجاوز كل التركة الإيديولوجية التصادمية في صراعيتها المنبنية على التاريخ والحقيقة، وعلى اللا اعتراف واللاحوار.. على النحن والاكتفاء بها. ليعاود تأكيد انتمائه إلى جيل القدرة على التحول الذاتي وبإصرار ضعيف - متواضع - يقر بضرورة النضال المستمر واليومي من أجل هذه الحرية. بل سيجازف على الرغم من مدحه الحرية إلى ضرورة تجاوزها "الحرية" من حيث هي حقيقة، وإنّما العبور إلى الحرية بوصفها علاقة، سيصاحب في سبيل توضيح ذلك الفيلسوف الفرنسي ليفيناس في اعتباره الحرية هي الآخر فالآخر حريتي، فلا وجود للحرية إلا في العلاقة. ليفيناس ".. الذي انتصر للغة على الوعي، اللغة باعتبارها علاقة، وللوجه على العقل، للوجه كصمود ضد منطق الشبيه، كضيافة لا نهائية".
بُعد "العلاقة" هذا، تحضر جاذبيته الإجرائية والمعرفية كذلك في تلك الالتفاتة التي حاول من خلالها كاتبنا أن يبين ما الدين، ليجده إيمانًا وعملاً، نعم بعد أن نقر بأنّه الإيمان والعمل في تلبسه بلحظتنا ووعينا التاريخيين، لكن الأهم في المسألة أنّ العمل هو من يهب الإيمان قيمته لأنّه لا عمل دون افتراض للعلاقة، ولا علاقة دون افتراض للآخر، فالإيمان علاقة، بل الدين نفسه علاقة حسب مؤمن هذه الرسالة الضعيفة.
ليس في مديح الضعف أي خنوع أو استسلام، ولا ينبغي أن يفهم الأمر كذلك، ليس في التواضع أي انعدام للقدرة على النقد والتحول، فوحده طريق النقد حسب كانط مازال مفتوحًا، ووحده النقد المزدوج حسب الخطيبي سبيلنا في التقليد والقدرة على التحول، ووحدها الضيافة النقدية حسب رشيد بوطيب القادرة على الانتقاد بفعالية إجرائية في عالم اليوم وفي لحظتنا الراهنة هذه. فالإنسان الضعيف هو الذي لا يستغل إلهه كإله للثقوب، فيقحم الدين في كل قضية وفي كل حدث، حتى اغتصبت من الدين دينيته. وليس مجتمع الحداثة ما سنطلبه حسب ضعفنا، وإنّما مجتمع التعدد، فالحداثة مارست من العنف ما يدعونا لامتداح التعدد دون أن نبدي أي تحرج في الدفاع عن ذلك، لأنّ الحداثة كالحرية والعلمانية لا يمكن أن تنبني على حقيقتها من حيث هي حقيقة، لذا، تجنبًا أن نتموضع في موقف دوغمائي كهذا ينبغي أن نؤسس لرغبة في مجتمع التعدد ينبني على الاعتراف والحوار والعلاقة بالآخر والقدرة على التحول والضيافة النقدية ..إلخ. إنّها باختصار سياسة "مديح الضعف" التي أعلى كعبها باحثنا دون مواربة، متجاوزًا - قصدًا - انشغالات العديد من مفكرينا الهرمين ونقاشاتهم.
قد تنطبق عبارة الحداد على الكثير من مثقفينا؛ بأنّ الشارع حررهم وفتح المجال أمامهم للتعبير، لكنّها لا تصدق مع أمثال جيل رشيد الذي يحاول ليس الآن فحسب، بل منذ أن بدأ يقيّم نهجه في الكتابة والتحليل، أن يقول وجهة نظره من زاوية لا تعني ولا يمكن لها أن تعني شيئًا في مُفَكَّرَاتِ مفكرنا الهرم، لذا، فلحظة الثورة ليست إلا جاذبًا لقيمة هذه الأفكار، ومبينًا عن جدواها الإجرائية، ورغبتها الملحاحة في الراهنية والمحايثة، بعيدًا عن تقعيرات التفكير والتنظير، وبعيدًا عن أوهام مفكري الأمة العربية، والقومية العربية، والامتداد الحضاري للأمة الإسلامية.. الخ، ليس في الأمر نسيان للذاكرة أو تقول عليها أو جنون بالحاضر حسب أحد تعليقات الكاتب، وإنّما هو التواضع خُلقًا لابد أن يميز هذا الجيل إن أراد أن يتحول ذاتيًّا نحو غده الأفضل ويعانق الإنسانية معترفًا لها بالفضل ومكتشفًا لما يمكنه أن يسهم فيه عبرها من قرب أكبر تجاه ضعفنا؛ أي تجاه الحوار والاعتراف والتعدد، قربنا من تراثنا الإنساني لا وهم تراثنا الخصوصي الذي لا داخل له والذي لم يكن له يومًا ذلك الداخل لأنّه انفتاح منذ لحظة الاعتراف الأول.