رمضان الصباغ: أزمة الإبداع الفلسفي في العالم العربي؛ الأسباب والحلول


فئة :  حوارات

رمضان الصباغ: أزمة الإبداع الفلسفي في العالم العربي؛ الأسباب والحلول

د. رمضان الصباغ؛ مفكر وشاعر وناقد مصري، ويشغل، حاليًّا، وظيفة أستاذ الفلسفة المعاصرة بكلية الآداب - جامعة سوهاج، وقد قدم للمكتبة العربية العديد من الإسهامات المهمة؛ في مجال علم الجمال، وفلسفة الفن، وفلسفة القيم، ومن بين مؤلفاته الحديثة: (فيلسوف الموسيقى فاجنر؛ الأوبرا - الفلسفة - الأدب).

د. حمدي الشريف: السيد الأستاذ الدكتور: رمضان الصباغ، نرحب بسيادتكم على منبر مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" للدراسات والأبحاث، وأشكركم لإتاحة الفرصة لتبادل الحوار والآراء معكم، حول موضوع مهم يُؤرق كثير من الدارسين والباحثين في العالم العربي.

د. رمضان الصباغ: أهلًا وسهلًا بكم، واسمح لي أن أتقدم بالشكر لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود"، لإتاحة الفرصة لظهور هذا الحوار، وللجهود التنويرية الكبيرة، التي تبذلها في مجال نشر الفكر المستنير والثقافة الجادة، كذلك؛ فإن السعادة تغمرني، لأن المحاوِر؛ هو تلميذ لي، أعتز كثيرًا بما يكتب، وإني لأُعلق آمالًا كبيرة عليك، أنك ستكون واحدًا من المفكرين المستنيرين؛ فأنت بحق، وكما لمست فيك كثيرًا، لديك من القدرات والإمكانات، ما تساعدك أن تكون متميزًا بين زملائك، في مجال الفلسفة، والنقد، والثقافة.

د. حمدي الشريف: أولًا، وفي البداية: من المعروف أنكم قدمتم عددًا من دواوين الشعر والروايات، بالإضافة إلى دراسات عن الشعر والرواية؛ فهل كانت هناك صلة بين هذه المجالات واهتمامكم بالفلسفة والسياسة؟

د. رمضان الصباغ: في الغالب؛ إن معظمنا يبدأ بالشعر، ولكن هناك من يواصل كتابة الشعر مع اهتمامات أخرى، والبعض يتخلى عن الشعر، ويركز على المجالات البحثية الأخرى، أما بالنسبة إلي؛ فقد بدأت الاهتمام بالشعر، وفي نفس الوقت؛ كان اهتمامي بالفلسفة، والنقد الأدبي، والسياسة، وغيرها من المجالات، وقد ظل اهتمامي بها، جميعًا، حتى الآن، وكان الشعر عندي متنوعًا؛ ففيه الشعر السياسي، والفلسفي، والغزل، وغير ذلك، والشعر، بالنسبة إلي، تعبير عما يجول في خاطري ونفسي، وقد درست مدارس الشعر والفن، خاصة، الشعر الغربي (الإنجليزي والأمريكي والفرنسي والألماني)، بالإضافة إلى الشعر الروسي والعربي بالطبع؛ فاستفدت كثيرًا من اطلاعي على هذه المدارس المختلفة، وقد قدمت ست دواوين من الشعر الحر (شعر التفعيلة)؛ أحدها من قصائد النثر سريالى الطابع، كما قدمت دراسة مستفيضة عن الشعر العربى المعاصر (الشعر الحر)، درست فيها، بالتفصيل، مفهوم الشعر وتطوره، والتجربة الشعرية، واللغة الشعرية، وموسيقى الشعر، والمؤثرات الغربية على الشعر، والإيقاع، والتضمين، والتدوير، والتكرار، كما درست الخيال والصورة وتطورهما، والتناص مع الأسطورة والتراث، هذا بالإضافة إلى كتابة روايتين؛ إحداهما منشورة، وأيضًا، وعددًا من الدراسات عن الرواية، وأنا، بشكل عام، في الشعر والرواية، أميل إلى التجديد، وذلك من خلال متابعتي للأدب الغربي المعاصر، كما أنني مهتم بالفنون التشكيلية، والموسيقى الكلاسيكية، والأوبرا، والباليه، ولكن على مستوى الدراسة والنقد والتذوق.

د. حمدي الشريف: ننتقل نقلة، قد تكون غير مشروعة؛ من عالم الأدب والفن، إلى عالم الفلسفة، على اعتبار أنكم من المهتمين بدراسة الفكر الفلسفي المعاصر، تحديدًا؛ فإني أود أن أسأل حضرتكم، عن رؤيتكم العامة للمسار التاريخي للفكر الفلسفي الحديث والمعاصر؟ وهل ثمة انقطاع بين الفلسفات الحديثة والفلسفات المعاصر؟ أم أن الفلسفات المعاصرة تشكلت وترعرت في ظل الفلسفات الحديثة؟

د. رمضان الصباغ: إنني أعتبر، مع كثيرين، أن الفلسفات الحديثة: فلسفات نسقية، بمعنى؛ أن كل فيلسوف يشكل مذهبًا بعينه، وعلى سبيل المثال؛ هناك المذاهب المادية، أو أنساق الفلسفة المادية؛ التي أسس لها هوبز وهولباخ، مثلًا، وهناك المذهب العقلي؛ الذي أسس له ديكارات، وهناك المذهب المثالي؛ الذي أسس له كانط وهيجل، على سبيل المثال، أما الفلسفات المعاصرة؛ فهي فلسفات لانسقية، وقد غاب عنها البعد (الشمولي)؛ الذي كانت تتسم به الفلسفة الكلاسيكية والحديثة؛ فظهرت نزاعات، وتيارات، واتجاهات.

فالفلسفة الوجودية، مثلًا، هي: اتجاه فلسفي، وليست مذهبًا بالمعنى الدقيق، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الفلسفات الوضعية، والبراجماتية، والتحليلية؛ فهي أقرب ما تكون إلى النزاعات والتيارات الفلسفية، منها إلى المذاهب والأنساق الفلسفية الشاملة.

د. حمدي الشريف: بحكم التخصصات الأكاديمية الموجودة في أقسام الفلسفة في مصر والعالم العربي؛ ما رؤيتك لمستقبل الدراسات الفلسفية؟ وما أهم مشكلة تقف ضد الإبداع الفلسفي في جامعاتنا؟

د. رمضان الصباغ: في الحقيقة؛ إن نظرتي لمستقبل الدراسات الفلسفية في عالمنا العربي، هي نظرة قاتمة؛ فبعد جيل من المؤسسين للفلسفة في العالم العربي، أخص بالذكر على عبد الرازق وطه حسين، ثم جيل الرواد، مثل: عبد الرحمن بدوي، وتوفيق الطويل، ويوسف كرم، وزكريا إبراهيم، ومحمد علي أبو ريان، وغيرهم، نلاحظ اضمحلال في حركة الفلسفة في الوطن العربي. وتواجه دراسة الفلسفة في العالم العربي مشكلات كثيرة، لعل أهمها؛ مشكلة انغلاق الباحث على تخصصه، وفي كثير من الأحيان، تقوقعه على كتابات فيلسوف أو اثنين فقط، هذا يؤدى إلى تحجر الفكر والفلسفة وموت الإبداع.

د. حمدي الشريف: وهل يمكن أن يُبدع دارس الفلسفة وهو منغلق على تخصصه؟

د. رمضان الصباغ: في الحقيقة، إن سؤالك ذا شقين: إجابتي على الشق الأول منه: تتمثل في أنه لا يمكن للباحث أن يُبدع، وهو منغلق على مجال تخصصه؛ فالأفضل أن يضيف الباحث إلى جانب تخصصه الدقيق، اهتمامه باتجاهات الفلسفة الأخرى؛ بل ويجب أن يكون لديه علاقة وثيقة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، كقارىء بشكل عام؛ لأن كل هذه العلوم تثري الباحث عند تناوله لأي موضوع، مهما كان متخصصًا، وثمة نقطة مهمة، هنا، وتتمثل في أن دراسة بعض مجالات الفكر الفلسفي، تتطلب استيعاب مجالات فكرية وبحثية أخرى. خذ، مثلًا، الفكر العربي الحديث والمعاصر؛ إن الباحث في هذا المجال، لا يمكن أن يفهم أطروحات المفكرين العرب، ولا أن يقدم جديدًا في هذا المجال، دون دراسة الفلسفات الغربية، الحديثة والمعاصرة، دراسة متعمقة. أولًا: لأن العديد من المفكرين العرب (شبلي شميل، وفرح أنطون، والطيب تيزيني، وطه حسين، على سبيل المثال)، متأثرين، بشكل أو بآخر، بأفكار ومناهج غرببة أساسًا. وثانيًا: لأن كثير من المناهج والأفكار الغربية الحديثة، ذات قيمة مهمة في معالجة قضايا الفكر العربي، وقد طبق العديد من المفكرين العرب الأفكار والمناهج البحثية الغربية على قضايا الفكر العربي، وخرجوا بنتائج جديدة.

وإجابتي على الشق الثاني من السؤال: تتمثل في أن الباحث يحتاج في دراسته لبعض فروع الفلسفة، على سبيل المثال؛ فلسفة العلوم إلى دراسة العلوم الطبيعية والرياضيات، إذا أراد أن يقدم بحثًا ذا قيمة، ويرجع الضعف في بحوث هذا المجال إلى عدم دراسة الباحث، أو بمعنى أدق؛ هروبه من دراسة هذه العلوم، بدءًا من المرحلة الثانوية، كذلك الباحث في علم الجمال، يجب أن يكون مستوعبًا جيدًّا للفنون، وينطبق هذا على كل التخصصات الدقيقة الأخرى؛ كفلسفة التاريخ، وفلسفة السياسة، وفلسفة اللغة، وغيرها، أعني؛ أنه يجب أن يكون الباحث على دراية بما يحتاجه في مجال بحثه، وإلّا كان مجرد مردد لآراء الآخرين والسابقين، وللأسف الشديد؛ فإن هذا البعد وهذه النظرة الشمولية، غائبة، تمامًا، في معظم جامعاتنا، إن لم يكن كلها، ومستقبل الفلسفة مرهون بتحقيق هذه المتطلبات.

د. حمدي الشريف: في كتاباتك الفلسفية وحواراتك الثقافية، كثيرًا ما تؤكد على ضرورة إعادة قراءة الفلسفات، القديمة والحديثة، في ضوء اللحظة التاريخية التي انبثقت فيها. هل يمكن أن توضح لنا ما هي أبعاد القراءة التاريخية والاجتماعية للنصوص الفلسفية؟

د. رمضان الصباغ: أُحييك كثيرًا على طرحك لهذا السؤال؛ فغياب القراءة التاريخية والاجتماعية للنصوص، الفلسفية والفكرية، عمومًا، من أهم أسباب غياب الإبداع الفلسفي في جامعاتنا، وينبغي على الباحثين، عمومًا، أن يقرؤوا النصوص الفكرية، في ضوء اللحظة التاريخية التي ظهرت فيها؛ لأنهم سيكتشفون الكثير، عندئذ، والكثير مما لا يمكن الوقوف عليه دون مثل هذه القراءة، وما أُعنيه بالقراءة التاريخية للنصوص؛ هي القراءة التي تضع في حسبانها الظروف التاريخية، والاجتماعية، والسياسية، التي عاش في ظلها المفكر أو الفيلسوف، وبعبارة أخرى؛ دراسة الفيلسوف أو أفكاره في إطار العصر الذي نشات فيه هذه الأفكار، بكل ما يعتمل فيه من صراعات سياسية وفكرية واجتماعية، وفي ضوء الفكر السائد في عصره، والوقوف على كافة المؤثرات الأخرى التي شكلت في واقع الأمر فلسفته.

والحق: أن كثيرًا من الفلسفات القديمة والحديثة، تم إساءة فهمها وتشويهها، بقصد أو دون قصد؛ لأنه لم يتم التعامل معها من منطلق أنها بنت عصرها، وأن هناك مؤثرات تاريخية واجتماعية، هي التي أفرزت هذه الفلسفات، وعلى سبيل المثال؛ فإن فلاسفة كثيرين في حاجة ماسة إلى إعادة القراءة، في ضوء اللحظة التاريخية التي أفرزت فلسفاتهم: أفلاطون، ومكيافيلي، ورسل، وهيدجر، على سبيل المثال. وكثيرًا ما يتم تشويه أفكار هؤلاء الفلاسفة؛ بسبب عدم مراعاة الدارسين والباحثين للواقع التاريخي، والاجتماعي، والسياسي، الذي أفرز فلسفاتهم.

د. حمدي الشريف: ولتسمح أن توضح لنا أبعاد القراءة التاريخية والاجتماعية للنصوص الفلسفية بمثال؟

إن أفلاطون، على سبيل المثال، تتم دراسته كمجرد نصوص معزولة عن سياق عصرها، والصحيح أن يُقرأ في ضوء الصراع السياسي الكبير؛ بين أسبرطة وأثينا، ثم هزيمة أثينا، ومحاولة أفلاطون الاستفادة من رؤية وممارسات العدو في التربية، والرقابة على الفن، وكذلك، سفره إلى مصر، وتأثره بالفن المصرى القديم، ورفضه للديمقراطية، وغير ذلك من المؤثرات، وقد شاع التفسير الذي يقول: إن أفلاطون رفض الديمقراطية؛ لأنها تقوم على الحرية التي تؤدي إلى الفوضى، وكذلك؛ لأنها تقوم على المساواة بين الناس، والناس بطبيعتهم غير متساوين، وخاصة في أمور الحكم، وبالتالي؛ تؤدي الديمقراطية إلى استبداد الأغلبية؛ لأنها لا تعرف التمايز الطبيعي بين الناس، وتعطي للعبيد نفس الحقوق التي تعطيها للنبلاء والأشراف.

وإذا كان هذا التفسير صحيحًا، بالنسبة إلى موقف أفلاطون الرافض للديمقراطية، إلا أنه تفسير قاصر؛ لأنه يتعامل مع نصوص أفلاطون، بمعزل عن السياق التاريخي الذي كُتبت فيه، والأسباب الحقيقية لرفض أفلاطون للديمقراطية، تتمثل، أولًا، في رغبته في تعزيز جمهوريته الفاضلة؛ التي تقوم على التفاوت الطبقي. وثانيًا: كونه مواطن أثيني، يحمل همًّا سياسيًّا، يحاول تجاوزه بطرح نظام سياسي مثالي، يتجاوز الواقع إلى أفق ما ينبغي أن يكون. أما الديمقراطية؛ فإنها تتعارض مع نظريته في (المثل)، التي هي (أي المثل): نموذج ينبغي الاقتداء به في تنظيم الفلاسفة للعالم الاجتماعي والسياسي.

كذلك، نقد أفلاطون للديمقراطية، نابع، أساسًا، من بنية مذهبه الفلسفي ككل، تلك البنية؛ التي تؤسس لمذهب مطلق في الوجود، والمعرفة، والأخلاق، والسياسة، وتقول بوجود نموذج محدد للحياة الخيرة، والذي ينبغي على الأفراد والدول، كليهما، أن يسعوا إلى تحقيقه على أرض الواقع، وكذلك؛ فإن فكرته التي تقول: إن الفلاسفة، بحكم كونهم الأشخاص الذين يمتلكون المعرفة بالتصورات العقلية، وبحقائق الأشياء في ذاتها، ومن ثم؛ المؤهلين لإرشاد البشر إلى الحياة الخيرة، هم، وحدهم، الذين ينبغي أن يتقلدوا زمام الحكم، وقد نبعت هذه الفكرة، أساسًا، من مذهبه الميتافيزيقي الأكبر.

لقد أدت مثالية أفلاطون، إلى رفضه للواقع الاجتماعي والسياسي القائم في دولة المدينة، والتي كانت الديمقراطية سببًا رئيسيًّا في تدهوره واضمحلاله، وثمة سبب آخر من الأسباب التي دفعته إلى رفض الديمقراطية، ويتمثل: في أنها كانت سببًا مباشرًا في اتهام وإدانة، أستاذه ومعلمه، سقراط، بتهمة إفساد عقول الشباب، وإعدامه بعد ذلك. وسبب ثالث: يتمثل في نشأته الأرستقراطية، ورفضه للنسبية؛ التي هي أخص خصائص الروح الديمقراطية. إذن، العلاقة بين السياسة والميتافيزيقا، عند أفلاطون، وفي الفكر اليوناني، عمومًا، هي: علاقة عضوية.

وثمة سبب رابع مهم، من الأسباب التي دفعت أفلاطون إلى الهجوم على الديمقراطية، ويتمثل: في أنها كانت سببًا أساسًا من أسباب إشعال الحرب بين أثينا وإسبرطة (صاحبة النظام العسكري الصارم)، في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد، (من عام 431 إلى 404 ق. م)، وما صاحب ذلك من هزيمة دولته أثينا وإذلال مواطنيها، وتداعي الإمبراطورة الأثينية بعد ذلك.

لقد كان السفسطائيون يمتلكون نزعة ثورية، ويؤمنون بالتغير والحركة، والنسبية في نظم الحكم والاجتماع والقانون؛ فالنظم السياسية والاجتماعية والقانونية ليست ثابتة؛ بل هي، حسب السفسطائيين، قابلة للتغير، وبالإمكان تغييرها بالفعل، إذا لم تتفق ومطالب الناس، وبالتالي؛ كانوا من أنصار الديمقراطية ومروجيها، في حين أن أفلاطون كان النصير الأكبر لفكرة الثبات والاستقرار، وبالتالي؛ كان عدوًّا لدودًا للديمقراطية، التي تنفي وجود حقائق مطلقة وثابتة.

ويمكن دراسة هيجل، ونيتشه، وهيدجر وغيرهم، بنفس الطريقة، في إطار عصرهم، وعندئذ، سيتضح الكثير والكثير من أفكارهم بشكل دقيق.

د. حمدي الشريف: في دراستك الأخيرة: الأصول الفلسفية والسياسية للنازية عند هيدجر (والتي صدرت في 1 نوفمبر 2016م، ضمن منشورات مؤسسة "مؤمنون بلا حدود")، كشفت من خلالها عن "الوجه الآخر لهيدجر"، فهلّا تطلعنا على ما تعنيه "بالوجه الآخر لهيدجر"، وكيف توصلت إلى هذه القراءة للفيلسوف الذي عُدَّ أكبر فلاسفة الألمان المؤثرين في القرن العشرين؟

د. رمضان الصباغ: كما قلت لك؛ فإني أدرس الفلسفات القديمة والحديثة، على حد سواء، من منطلق اللحظة التاريخية التي انبثقت منها، وتعد دراستي لهيدجر؛ امتدادًا لهذا النهج، الذي أسير عليه، وكنت قد لاحظت، منذ سنوات كثيرة، أن دراسة هيدجر تتم بعيدًا عن الإشارة إلى دوره السياسي، هذا إذا دُرس؛ لأن العديد من الأساتذة لا يخوضون في مثل هذه الأمور الشائكة، ويفضلون الطرق الآمنة، وقد كان لنشر عدد من الدراسات عن هيدجر في السنوات الأخيرة، الفضل في كشف المسكوت عنه بالنسبة إلى فكر هيدجر، خاصة، أن هناك من عملوا على إخفاء علاقة هيدجر بالنازية لفترة طويلة، ولذا؛ فقد آليت على نفسي، البحث في هذه القضية الشائكة؛ لفتح الباب فيها، وتقديمها في صورة بحث، كبداية للقارىء العربي المهتم بالفلسفة.

د. حمدي الشريف: كثيرًا ما تتردد عبارة "العلاقة بين الفلسفة والإيديولوجيا"؛ فما حقيقة العلاقة بينهما؟

د. رمضان الصباغ: الفلسفة هي بمثابة تعبير عن رؤية للعالم الذى نعيش فيه، ومحاولة لتقديم معرفة منظمة عن عالم مشوش وغير منظم، وتقوم الفلسفة بتنظيم رؤية الفيلسوف أو المفكر في نسق عقلي منطقي متماسك، وتتم صياغته في عبارات لغوية منضبطة، وبذلك، يسهل التعامل مع الواقع والتأثير فيه، وعندما تتبنى طبقة معينة، أو فئة، أو جماعة، فلسفة معينة، وتجعلها برنامجًا للمارسة العملية تنتج الإيديولوجيا؛ فالإيديولوجيا: هي التعبير عن الانتقال من عالم الفلسفة المجرد، إلى الواقع والممارسة العملية، ويتم التأثير المادي على وقائع الحياة، وشروطها، وتغييرها. وبما أن الإيديولوجيا تُعَدُّ تعبيرًا عن طبقة أو فئة أو جماعة، لذا؛ فهي انتقال من التعبير عن الرؤية الفردية (الفلسفة)، إلى التعبير الجماعي أو عن الجماعة، وتعتبر الفلسفة الماركسية، عندما تتبناها طبقة البروليتاريا: هي التعبير الإيديولوجي عن مصالح وتطلعات هذه الطبقة، وكذلك، تعدّ الفلسفة الليبرالية تعبيرًا عن الحرية الفردية، والمصالح الإيديولوجية للطبقة البورجوازية، وبذلك؛ تعتبر الإيديولوجيا: تطبيقًا خاصًّا لفلسفة أو فكر محدد.

وتنبع مشكلة الصراع بين الفلسفة والإيديولوجيا، أساسًا، من محاولة تحريف الفلسفة أو الفكر، وفقًا لمصالح وتطلعات الفئة أو الجماعة، مما يجعلها تخرج عن إطار النسق الفلسفي أو تتعارض معه، وذلك يكون وفقًا لتفسير محدد لهذه الفلسفة أو ذلك الفكر، يراه آخرون تحريفًا، ويقوم على تنفيذ الإيديولوجيا جماعة سياسية، تعتقد بها، وتعمل من أجل ترسيخها في الواقع، ويشعر جميع المنضوين تحت لوائها، أن مصالحهم المباشرة ورغباتهم، سيتم تحقيقها ضمن الممارسة العملية للأهداف التى تنطوي عليها الإيديولوجيا، وكل إيديولوجيا تحاول إلغاء التناقضات الفردية، وتوحيد الأفراد المنضوين تحتها، في سياق عملية الاندماج ضمن شعاراتها العامة؛ فالإيديولوجيا تجيد الإيهام في أنها هي فقط: الحق، والحقيقة، والخير، والأخلاق، وأنها بعيدة عن التطلعات الأنانية؛ بل لابد أن نضع في اعتبارنا، القائمين عليها ومصالحهم؛ فقد تكون الشعارات زائفة، وتتناقض مع الممارسة العملية.

د. حمدي الشريف: أخيرًا؛ أتقدم بخالص الشكر لسيادتكم على هذه المعلومات، المفيدة والمهمة للباحثين والدارسين، وأتمنى أن تكون هناك فرصة أخرى للحوار، بشكل أكثر تفصيلًا واتساعًا. أشكركم جزيلًا، الأستاذ الدكتور: رمضان الصباغ.