رمضان بين ثقافتين؛ حية ميتة
فئة : مقالات
رمضان بين ثقافتين؛ حية ميتة
عندما تتحول تعاليم الدين إلى فعل إنساني في الواقع، تدخل حيز الزمن والتاريخ، وتمتزج بالثقافة، هذه الأخيرة متنوعة ومتعددة بتعدد سياق الزمن والمكان والجغرافيا والإنسان والثقافة نفسها؛ فمفهوم الثقافة استخدم بدلالات ومعانٍ مختلفة، إلا أن هناك شبه إجماع بين الدارسين على أن علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية هو المجال المعرفي الأول والأساس الذي نشأت فيه دلالة المفهوم المعاصرة في أوروبا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولذلك ندين لعالم الأنثروبولوجيا البريطاني إدوارد تايلور (1832-1917) بأول تعريف للثقافة وضعه في كتابه (الثقافة البدائية) سنة 1871م، فالثقافة[1] «ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في مجتمع»[2].
تؤثر تعاليم الدين وتتأثر بهذا الكل المركب، فعندما نتحدث عن الصلاة أو الصيام أو الحج وغيرها من تعاليم الدين الإسلامي، فهي تعود لقيمة واحدة نابعة من المرجعية الدينية، وهي مرجعية واحدة وخطاب واحد، يتجلى في القرآن الكريم، ولكن على مستوى الثقافة فمختلف هذه الشعائر متعددة ومتنوعة، بتعدد الثقافات والأزمنة، كما أنها متعددة على المستوى النفسي والوجداني، فكل فرد له تجربته الخاصة والفريدة، في تفاعله وتجسيده لمختلف تلك الشعائر. وهذا المعطى الأساسي والمهم في فهم الدين وعلاقته بالكل المركب؛ أي الثقافة.
ومن ثم، فالإسلام متعدد من جهة روافده الثقافية والاجتماعية والتاريخية، رغم وحدته المرجعية. فهناك إسلام مغاربي (دول شمال إفريقيا) وإسلام إفريقي، وإسلام مشرقي، وإسلام آسيوي (الباكستان، أذربيجان...) وهناك إسلام صيني...وقد نتحدث عن إسلام الغرب. ولأن اللغة جزء لا يتجزأ من الثقافة فبالإمكان الحديث عن إسلام فارسي وإسلام تركي وإسلام عربي...فكل قومية تطبع فهمها للإسلام بطابع اللغة التي تتحدث بها، كما أن كل قومية تنظر إلى نفسها بأنها أقرب إلى الإسلام من غيرها.
وفقا لهذا المقدمات، فالصيام والصلاة والحج...يسري عليها قانون التنوع والتعدد، وقد لعب الفقه دورا أساسيا في تقريب، مختلف أوجه الفهم، إلا الفقه نفسه، يحضر فيه ثقافي اجتماعي؛ ففي الثقافة الإسلامية، لا نجد مذهبا واحدا، بل نجد عبر التاريخ فرقا ومذاهب ومدارس واتجاهات كثيرة في فهم الإسلام. فهذا التنوع الفقهي والمذهبي في الثقافة الإسلامية، جعل منها أهلها وعيا كبيرا بأهمية الاختلاف وتنوع التجارب والاجتهادات في فهم تعاليم الإسلام، وقد ركز مختلف الفقهاء على أن المسلمين يعودون لأصل واحد يجمعهم ويوحدهم، وهو وحدانية الله جل وعلا. فكلمة الله، هي الكلمة التي اكتسبت في الحقل الدلالي القرآني المكانة المركزية العليا في التعبير عن وحدة الخالق، ولا تفوقها كلمة أخرى في المكانة والأهمية.[3] ولا يخفى على كل دارس لتاريخ الإسلام أهمية وحدانية الله جل وعلا، فأهم فكرة ومبدأ انصهرت بداخله مختلف الثقافات التي بلغها الإسلام، هي فكرة التوحيد. وقد ذهب بعض الفقهاء إلى القول إن سورة الإخلاص تعادل ثلث القرآن.
نعود لموضوع الثقافة، وهي تنقسم إلى قسمين:
الأولى: ثقافة ميتة جثة من دون روح، إما بكونها ثقافة تدور في دائرة كل ما هو شيئي وجسدي، دون مراعاة أي قيم أخلاق متعالية؛ فكل همها يدور في إشباع مطالب الجسد من أكل وشرب وغريزة...ولو كان ذلك على حساب، قيمة الإنسان ذاته ومكانته. ولهذا، فهي تعتني بالجسد ولا غذاء النفس والروح. وإما أنها ثقافة لا زمن لها، فإن نظرت إلى الحاضر أو المستقبل تنظر إليه بعين الماضي، فهي تخشى من الجديد، ولا قدرة لها من التحرر من إرث الآباء والأجداد، فالماضي بالنسبة لها مكتمل، فليس بالإمكان إبداع مما كان، فالسابقون لم يتركوا أمرا إلا وقالو فيه بقول ورأي. فلا فائدة من السؤال وربما أن السؤال من الشيطان، فعلى الإنسان أن يتبع ويقلد كل ما هو موجود وجاهز ومكتمل.
والثانية: ثقافة حية متحركة وفاعلة ومأثرة، فهي تدرس الماضي وتقيم الحاضر، وتستشرف المستقبل، وتحتاط من مختلف الأخطاء، وتحرص على جلب المنعة العامة، فالثقافة الحية ثقافة تتغذى من السؤال، وأسئلتها أسئلة جريئة جدا تبدو أحيانا غريبة ومشاكسة، ويظهر فيما بعد أنها أسئلة مشروعة ومفيدة، كما أنها تعتني كثيرا بغذاء النفس والروح، فتعتني بمختلف الفنون الراقية، وترى في الشعائر والعبادة، طريقا للمقاصد والغايات الإنسانية النبيلة، وفي علاقة الإنسان بأخيه الإنسان وبالوجود وبمختلف الكائنات.
في مختلف المجتمعات، هناك ثقافة ينبغي القطع معها؛ فهي جثة من دون روح، وينبغي أخذها إلى مثواها الأخير؛ فلا فائدة من الأفكار الميتة التي استنفذت كل أغراضها، إلا من باب فهمها في سياقها التاريخي والدور الذي قامت به، وطبيعة ما تولد عنها من أفكار حية. المجتمعات الحية والمتحضرة، تكون على وعي بأن تاريخها وحيزها الزمني، يجمع بين أفكار ميتة فاقدة للروح، وبين أفكار حية ينبغي العناية وتعميق النظر فيها والعمل من أجل بسطها وتعميمها بين الناس، بهدف أن تنعم حياتهم بالاستقراء والرقي الفكري والروحي.
من داخل القرآن الكريم نلامس هذا التقابل بين الثقافة الميتة والثقافة الحية؛ فكل هم القرآن الكريم هو الدفع في اتجاه الثقافة الحية. الحديث حول الصلاة في القرآن يشمل الحديث حول نموذجين من الثقافة، ثقافة ميتة وثقافة حية، هدف القرآن من الصلاة يرتبط بغاية الاعلاء من الثقافة الحية لكل مجتمع، فالغاية من الصلاة هي انبعاث مختلف الأفكار والقيم الإنسانية الفاضلة، التي تجعل من الإنسان يعيش حياة الطمأنينة والسعادة لا حياة الضنك والضيق والشقاء، حياة البر والخير والتعاون على الصالح العالم، لا حياة الأنانية بتغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة. لنقف عند قوله تعالى: "اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)"(العنكبوت) الصلاة هنا جاءت مقتربة بالوحي والكتاب، ومن أهم غايتها الإعراض عن الفحشاء والمنكر؛ فالفحشاء والمنكر وجه من وجوه الثقافة الميتة، بينما ذكر الله بصناعة ما فيه خير للعباد، ثقافة حية، قال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)﴾ (الماعون). فالتكذيب بالدين هنا يجد مفعوله في دعّ اليتيم وما يلحق ذلك من تبعات اجتماعية وانسانية؛ وفي احتكار الطعام في فئة محدودة من الناس وما يترتب على ذلك من حرمان الفرد والجماعة، ويكمن كذلك في الامتناع والإحجام عن تقديم المعونة لعامة الناس، وهذا وجه من وجوه الثقافة الميتة التي حذر القرآن منها.
غاية القرآن من الصلاة إذن، ليست هي الصلاة ذاتها، ولكن ما يترتب عنها، وهي مسألة واضحة داخل القرآن؛ فمشركو قريش كانوا يصلون، ولكن هل صلاتهم تدفع في اتجاه الثقافة الحية، أم هي صلاة تكرس الثقافة الميتة، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)﴾ (الأنفال) هذه الآية قاعدة في الاجتماع الثقافي، فأحيانا بفعل الثقافة الميتة، لا يترتب عن الشعائر أو مختلف التشريعات والقوانين أثر إجابي في واقع الناس، قد تأتي الحقائق...بعكس مقاصدها، ووفق تعبير مالك بن نبي، فكل حقيقة لا تؤثر على الثالوث الاجتماعي: الأشخاص والأفكار والأشياء هي حقيقة ميتة، وكل كلمة لا تحمل جنين نشاط معين هي كلمة فارغة، كلمة ميتة مدفونة في نوع من المقابر نسميه القاموس؛ لأن الثقافة الميتة تلقي بظلالها على الشعائر ومختلف التشريعات والقوانين، وتأتي النتائج حينها هزيلة، إن لم نقل من دون معنى.
ما قلناه في موضوع الصلاة، ينسحب بشكل كلي على موضوع، الصوم وشهر رمضان، فمن غاية الصيام الإعراض عن الإسراف في الأكل، وقد تحول رمضان إلى شهر للطعام ليلا بشكل وفير. رمضان شهر للتأمل الهادئ، وقد تحول إلى شهر غلب عليه الرياء باسم العبادة، بالإقبال الكثيف على المساجد وسماع القرآن، كأن الأشهر الأخرى، لا فائدة فيها من قراءة القرآن ومن الحضور في المسجد. لا نقلل هنا من مختلف العادات والتقاليد الاجتماعية التي تشكلت حول شهر رمضان، وقد بينا سابقا طبيعة التداخل بين الثقافي والديني، وبأن الديني لا حضور له إلا من خلال الثقافي، ومن المفيد هذا التنوع في العالم الإسلامي في التعاطي مع مختلف الشعائر من بينها صيام شهر رمضان، في آسيا وإفريقيا وكل بقاع العالم، قد نجد ما لا يعد ولا يحصى من أوجه العادات والاعتقادات وأوجه الفرحة والاحتفال... وهذا كله لا يعفينا من التمييز بين صيام رمضان بين ثقافة حية وثقافة ميتة؛ لأن الثقافة الحية هي التي تضمن لنا المعنى والغاية والقصد من الصوم، في بعده الكوني والحضاري. فالصيام مسألة تأخذ قيمتها من وجود الانسان، فهو فلسفة تذكر الإنسان بمحدوديته وبحاجياته من أجل البقاء، وبضعفه، فإحساسه بالضعف والحاجة، سيجعل منه إنسانا يؤمن بالأمن والسلام والرحمة، من أجل غاية البقاء. والبقاء لله أولا وأخيرا.
[1] المرابط، مصطفى، مفهوم الثقافة بين الفكرين الغربي والعربي: من التباس المفهوم إلى أفق البناء الحضاري (2/3)، مقال منشور بتاريخ: 15/10/2014 في موقع مركز نماء للدراسات والأبحاث: http://www.nama-center.com/Default.aspx
[2] نقلاً عن: المرابط، مصطفى، مقال: مفهوم الثقافة بين الفكرين الغربي والعربي: من التباس المفهوم إلى أفق البناء الحضاري (1/3)، الموقع نفسه، نشر بتاريخ: 24/9/2014
[3] إيزوتسو توشيهيكو، الله والإنسان في القرآن، ترجمة محمد الجهاد، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط.1، 2007م، ص. 157