رواية الآفة لعبد الله العروي، والإصلاح: قراءة في رواية الآفة
فئة : قراءات في كتب
رواية الآفة لعبد الله العروي، والإصلاح: قراءة في رواية الآفة
(أو في توضيح زيف السؤال: التراث أم الحداثة؟)
تقديم:
هناك فرق في الحقيقة، بين علاقة كتب المفاهيم بالإصلاح وعلاقة رواية الآفة بالمسألة نفسها. لا بدَّ من أنَّ كتب المفاهيم التحليلية توضح لنا الداعي إلى ضرورة الإصلاح، من خلال محاولة عكس ما يسميه العروي "حقيقة التاريخ" عبر تلك التحليلات، أمَّا رواية الآفة فوضعها وموضعها مختلفان - رغم أنَّها صدرت قبل السنَّة والإصلاح ودين الفطرة -، وكأنَّها آخر ورقة يمكن أن تلعب في هذا الإطار ((إطار ضرورة الإصلاح))، من خلال الدفع بالأمور إلى أقصاها، وكأنَّ العروي يقول: من لم يفهم الآن فلا يمكن أبداً أن يفهمᴉ
لكن بإحالتنا على كتب المفاهيم ونحن نتحدث عن رواية الآفة، ألا نكون قد أغفلنا ما يتغيَّاه كلُّ فن، إذ سقطنا في التاريخ بربطنا إيَّاها بالإصلاح، حيث حاولنا فكَّ رمزيتها المفرطة من خلال توضيح ما تحيل عليه في الواقع؟ أبداً، كلّما عدنا إلى الرواية فيما بعد ونحن نتأمل في اختيار الألفاظ والمفردات، طريقة الكتابة والوصف، نحت الشخصيات والخيال الخلاق...، ظلَّ إعجابنا بالرواية هو هو. إنَّ رواية الآفة فعلاً قطعة فنية. فإذا كنت هنا أربطها بمسألة الإصلاح، فذلك لأنَّني أربطها بتلك القدرة التي طالما تميز بها الروائيون الكبار - خاصة وأنَّ الرواية تختلف عن باقي روايات العروي التي تدور في جزء كبير منها عن ذاته، لا يعني أنَّ الأمر منعدم في هذه (ما تجده شخصية هلال كروم في الرواية مثلاً لا يمكن أن يحدث إلا لمن تشبَّع بتجريدية الإسلام ((التعالي))) - أي قدرة الروائيين الكبار على رسم ملامح الفترات اللاحقة للواقع الذي يعيشونه، تلك الفترات التي تولد من رحم ما هو كائن...، فيقوم الأستاذ العروي من خلال مجاله المفضل (الرواية)، وبلغة وصفية دقيقة ورائعة تمسك الموجود وترفعه حتى نستطيع إدراكه في أدقِّ تفاصيله، ومن خلال خيال خلاق تنفك له أسارير وجوهنا، يصحبنا في آلة زمن تتنقل بين الماضي الغابر والمستقبل الدَّاهم لنرى ما كان وما سيكون، عالقين في جو من الحيرة بين التحسُّر على ما كان ولم يعد موجوداً، وبين استحضار ضرورة الإقدام لمواجهة ما سيكون...، فيعكس لنا من خلال رواية خيالٍ علمي موقعنا وعلاقتنا مع الآخر/الغرب بالحكي عنه من منظور المستقبل...، فتكون الرواية بهذه الطريقة - أو على الأقل من خلال قراءتنا لها - أكثر تعبيراً عن المرحلة (بداية الألفية الثالثة)، حيث خطت التقنية خطوات عملاقة، وحيث لم يعد الأمر بأيدينا، فلم يعد السؤال هو "التراث أم الحداثة"؟ (لم يكن كذلك يوماً بالنسبة إلى العروي، إلا أنَّه يجعلنا هنا نلمس النتائج المخيفة لتردُّدنا)، وأمامنا بعد ذلك الدَّهر بأكمله لكي نختار، بل أصبحنا أمام خيارين "إمَّا المستقبل أو الاندثار" وشتَّان بين الأمرينᴉ
فما ندعيه لهذا المقال من إسهام، يتجلى في محاولة توضيح، من خلال قراءتنا في رواية الآفة، لزيف السؤال "التراث أم الحداثة؟" الذي مازال يتسلى به الكثيرون. وإن كان له من فائدة، فهي في تنبيه الغافلين إلى ما هو محيق بهم لا محالة.
(1)
صدرت رواية الآفة* لعبد الله العروي في طبعتها الأولى عن المركز الثقافي العربي (الدار البيضاء- بيروت)، سنة 2006. وتنتمي كما يقول عنها العروي إلى نوع قصص الخيال العلمي، متحدثاً عن رواية الآفة: «..الصيف الماضي أمام أساتذة فاس صرَّحت أنَّ القصَّة ستكون من نوع الخيال العلمي كما كانت "غيلة" من نوع الرواية البوليسية».[1] وتدور الرواية حسب العروي دائماً، حول قوة الذاكرة أو الحافِظة "Mémoire" (الصفحة نفسها). ويقول العروي في تقديمه للحوار التلفزيوني رجل الذكرى، [2] إنَّ لفظة الذاكرة التي تدور حولها رواية الآفة، كما لفظتي ذِكر وذِكرى اللَّتين يدور حولهما كتابا السنّة والإصلاح ورجل الذكرى، ألفاظ تشير إلى ظاهرة أو سمة تميز الإنسان العربي بين معاصريه وتمثل في الوقت نفسه ((الموضوع)) الذي قال عنه إنَّنا نجري وراءه ولا ندركه. وتمثل رواية الآفة آخر أعمال العروي الأدبية وخاتمتها، أي خاتمة رواية طويلة[3] مؤلفة من سبعة أعمال ما بين قصة ورواية (رجل الذكرى، الغربة، أوراق، الفريق، غيلة، اليتيم).
هذا في ما يخصُّ الرواية. لكن في ما يخصُّنا نحن، أين تتجلى أهميتها بالنسبة إلينا؟ في ماذا تهُّنا، خاصة وأنَّ العروي يميز بين نوعين من أعماله، تلك التي يكون موضوعها كل ما يندرج تحت العقل (المجتمع والتاريخ)، وهي مؤلفات المفاهيم التحليلية التي تعالج مسألة التأخر التاريخي أو التخلف، وتلك التي يخصصها لما لا يقوله في هذه الأولى، أي لما هو وجداني، وهي القصة والرواية، التي عادة ما يتضايق من محاولة ربطها بالواقع الذي تعالجه المؤلفات التحليلية؟ ألا يجب علينا والحال هذه أن نقرأ الرواية، تماماً كما نشرب فنجان قهوة، للتلذذ والاستمتاع، أن نعتبرها إشراقة تقذف بنا إلى أقاصي الكون لنعانق المطلق، فتعيننا على مواصلة الحياة؟ وهكذا، لماذا إقحامنا لفظة "إصلاح" في العنوان - الموضوع - الذي هو "قراءة" في رواية الآفة؟ أليس الإصلاح من نصيب مؤلفات المفاهيم؟ وماذا نقصد بالقراءة؟ هل نقصد تأملاً ومحاولة للحديث عن الأسلوب والشكل...إلخ، كما يفعل النقاد الأدبيُّون؟
في الحقيقة، إنَّ القراءة هنا تتعلق بمحاولة تأويل لتلك الرمزية التي تطفح بها رواية الآفة، واستجلاء ما وراء التورية والإيحاء التي ميَّزت طريقة صياغتها، رهاننا من وراء ذلك أن نكشف عن موضوع الرواية، وبالتالي عن مغزاها البعيد، وستتضح بعد ذلك للقارئ وهو يرافقنا، الأهميَّة التي تكتسبها بالنسبة إلينا هذه الرواية؛ أهمية قد تفوق فيها قوة ما بني على الحدس والخيال[4] قوة ما بني على العقل والجدال في مشروع العروي.
***
الرواية من نوع الخيال العلمي إذن، فهل يمكن أن تكون عن "الأنا"/العرب والمسلمين، ونحن نراهم يجافون العلم؟ هل يمكن أن تدور أحداثها في قُطر عربي إسلامي؟ إذا أجلنا محاولة الإجابة عن هل الرواية عن "الأنا" أم لا، فإنَّها على الأقل ومن حيث المجال، وبما أنَّها رواية خيال علمي، فقد كان من الضروري أن تدور أحداثها في أكثر البلدان تقدماً على المستوى العلمي والتكنولوجي، وهو فعلاً ما نجده في الرواية، فالأحداث تدور في أرض المغيب/ أمريكا؛ إنَّ طبيعتها تفرض ذلك.
من طبيعة الحال، هناك مجموعة من الأحداث التي تدور في المجال الجغرافي لِـ "الأنا" (المغرب، العراق، اليمن، ساحل الأحابيش)، لكنَّ الأمر هو أنَّ تلك الأحداث، وحتى حينما تدور في تلك المناطق، فهي تدور في فلك العالم الأول/الغرب ولأجله، إن اتفاقاً أو بأمر منه، فهي داخلة في تاريخه؛ أضف إلى ذلك أنَّ الرواية كلها حديث عن علوم اكتشفت في إطار الغرب (علم الأعصاب، البيولوجيا، البيولوجيا العضوية، الأنثروبولوجيا والباليوأنتروبولوجيا paléoanthropologie) وتطوَّرت في أحضانه، حتى لنتساءل هل الرواية فعلاً عن "الأنا" أم عن "الآخر"؟ وما يعزّز الإصرار على التساؤل، هو أنَّ العروي نفسه يتحدث مرَّة عن رواية الآفة كونها تعالج الموضوع الذي يسم ويميز الإنسان العربي، كما أشرنا إلى ذلك أعلاه، ومرَّة بما يفيد أنَّها تتعرض لمشكلات إنسانية عامَّة، أي حول ما ترتب عن فشل الشيوعية الروسية من أجواء تشاؤم عمَّت المعمورة، وإلى حيرة الغرب الناتجة عن توازن القوى العالمية.[5]
إنَّ المفارقة التي يجب إيجاد حل لها هي: لماذا الرواية كلها حديث عن الآخر في حين يقول العروي إنَّها عن "الأنا"؟ كيف تكون عامَّة بهذا الشكل، وتكون في الوقت نفسه عنّا؟
يبدو أنَّ محاولة الإمساك بموضوع الرواية، هو في الوقت نفسه، محاولة لإذابة هذه المفارقة. لكن قبل ذلك، نريد أن نطرح مزيداً من الأسئلة، أن نتلمس الطريق التي سنسلكها.
يقول الأستاذ العروي إنَّ ذِكر، ذِكرى، وذاكرة، ألفاظ تشير إلى ظاهرة تميز الإنسان العربي، وهذه الظاهرة تشكل ((الموضوع))، أي موضوع كتابته الروائية بالأخص. فالألفاظ إذن ليست هي الموضوع، هي تشير إلى الموضوع فقط. لفظة "ذاكرة" مثلاً، تشير إلى الموضوع، وليست هي الموضوع. لكنَّ موضوع رواية الآفة الذي تشير إليه لفظة "ذاكرة" - بما أنَّ رواية الآفة تدور حول الذاكرة-، هل هو الذي تشير إليه كل من لفظة ذِكر في السنّة والإصلاح ولفظة ذِكرى في رجل الذكرى؟ وإن كان، هل يمكن أن نعبر عنه بالطريقة نفسها وبالعبارات نفسها في كل مؤلف على حدة؟
(2)
للكشف عن موضوع الرواية ننطلق من تصريح العروي الذي يفيد بأنَّ رواية الآفة تدور حول "قوة الذاكرة".
إنَّ الذاكرة ملكة وقدرة إنسانية مهمة جدَّاً، حتى أنَّه لا يمكننا أن نتصوَّر كيف يمكن أن يكون الإنسان إنساناً بدونها. المهم أنَّ هذه الأخيرة قد أصبحت مهدَّدة، من خلال حبكة الرواية، بالضمور والاختفاء (ص 103 إلى 156)، ما يشكل خطراً حقيقياً على الإنسان كنوع، أو على الغرب كفصيلة تمثل قمَّة هذا النوع.
تنقسم الذاكرة (في الرواية) إلى مستويين: مستوى الذاكرة المتأنية ومستوى الذاكرة اللحظية، وكلاهما يشكلان مستويين للملكة نفسها. بما أنَّ ذهنية الغرب استكشافية إبداعية (عقلانية)، فما يميزه هو الذاكرة المرافقة للعمل والإنجاز، أي الذاكرة القصيرة المدى (الذاكرة اللحظية)، فالتركيز على عمل تحت النظر ومحدد بهدف بغاية إنهائه يستدعي الاستعانة بالذاكرة اللحظية التي تصلح وحدها لهذا الغرض، ما يؤدي مع الوقت إلى إهمال الذاكرة الطويلة المدى (أو المتأنية) فتضمر وتأخذ في الاضمحلال، ذلك أنَّ الاستكشاف والابتكار الناتج عن هذا التوجه (العمل والإنجاز) لا ينتهي، وبالتالي فإنَّ التطور الناتج عنه لا يقف عند حد، تطور على مستوى المخترعات والمفاهيم والمفردات التي تصف وتعبّر عن هذا التغيُّر، ما ينتج عنه كثرة في المعلومات، فيضطر الإنسان إلى التخلي عن بعض مواهبه للآلة، منها موهبة الحفظ والتذكر، وهذا سبب آخر موازٍ للأول في تنامي آفة النسيان التي أخذت تنتشر بين أفراد أرض المغيب (أو لنقل إنَّ أحدهما يستدعي الآخر، من متطلبات الإنجاز والابتكار والنسيان والإهمال). لقد أدى هذا إلى فقدان الغرب بالتدريج للذاكرة طويلة المدى (الذاكرة المتأنية)، مع احتفاظه بالذاكرة اللحظية التي تميزه، أي تلك المواكبة للعمل والإنجاز، لمُباشرة الموضوع.
والذاكرة أيضاً قد تتقوى إذا ما كان محيطها قاراً بطيء التغير. يقول "برغسون": «تتقوى الذاكرة بقدر ما يكون محيطها قاراً غير متطور» (ص 125). هذه هي العبارة التي يصدِّر بها العروي الفصل الذي يعالج هذه الموضوعة والمعنون بِـ"روس والذاكرة". لكن ما أصل هذا الثبات في المحيط؟ إنَّه ناتج أيضاً عن توجُّه مُعيَّن، عن سلوك يميزه التقوقع على الذات ونبذ كلّ نشاط هادف[6] قد يؤدي إلى الانفتاح على غير المعروف، أي على الجديد حقاً، والذي يمكن أن يغير محيطه، لذلك فإنَّ اللغة التي تصف المعروف في المحيط والمتعارف عليه في المجتمع تحتفظ بمعانيها ودلالاتها عبر الزمن، فتصبح هذه الأخيرة بديلاً لتجربة الفرد الحسيَّة، وتتقوى الذاكرة المتأنية - في ظلّ بهوت الذاكرة اللحظيَّة المواكبة للعمل والإنجاز - حتى لدى الأحفاد الذين لم يعيشوا في المحيط نفسه، وظلت لغتهم هي لغة الأجداد الذين عاشوا فيه، فالموروث الثقافي الذي ظلت تحتفظ به هذه اللغة يصبح بديلاً لما يجرّبونه هم في الواقع، فيحتفظون بموهبة القدرة على استدعاء واسترجاع المحفوظ في الذاكرة عبر اللغة، هذه القدرة التي فقدها الغرب. إنَّ الذاكرة في هذه الحالة هي التي تشير بهذا وذاك، لا يفعل الفرد إذ يفعل، بل هو موجّه، إنَّه الإنسان الذي يتذكر.
الآفة إذن آفتان، كلُّ واحدة منهما تصيب مستوى معيَّناً من الذاكرة. والسؤال المطروح على الغرب في ظلِّ هذه الآفة والذي يجب أن يجدوا له حلاً هو: إذا ما حصل ونسينا بسبب آفة النسيان، حتى ما يمكننا من الولوج إلى المعلومات التي تحفظها الآلة، أي الرموز والشيفرات، ماذا يكون مصير الجنس الذي ننتمي إليه؟
لكن قبل هذه الآفة، آفة النسيان، كانت قد طرقت آفة أولى جعلت مسؤولي أرض المغيب يفكرون في مغادرة هذا الكوكب: «.. بيد أنَّ الآفة، هذه المرَّة، لم تخصّ بلداً دون سواه، عمَّت الأقطار كلها، الصغيرة مثل الكبيرة...، جاءت الأحداث مخالفة للتوقعات، منافية لما صار معهوداً بعد أن لم يكن. تقلصت فترات البرد والشتاء، تضاعفت نوبة الحرّ والقيظ. اختفت الخضرة من مشاهد الأرض وغلبت ألوان الدكنة منذرة بقرب عموم الظلام. تُنوسيت الضوابط وبدأ التقاتل على المأكل والملبس..» (ص 31). يبدو أنَّ الأمر إذن، أمر الرحيل عن الأرض كان مبرمجاً منذ البداية، فمن خلال المقطع نفهم أنَّ الأمر يتعلق بكارثة/آفة مناخية، فالأرض لن تعود صالحة للسكن في وقت معيَّن، بسبب دورة مناخية قاسية غير مسبوقة أدت إلى انتشار الفوضى في جميع البلدان (ص 12، 13، 32)، وقد كان مشروع مغادرة هذا الكوكب سارياً، إلا أنَّ الآفة التي أصابت الذاكرة جعلت الغرب يتريث، يحاول إيجاد حلِّ لهذه الآفة قبل المغادرة، تحسباً لشروط عالم جديد ربَّما يحتاجها فيه؛ ما يسميه العروي "العمل بمبدأ الاحتراس". (ص 132)
أطلق الغرب مشروعاً ضخماً، مشروع المباحث الخمسة في إطار الأكاديمية، يستهدف من خلاله دراسة مميزات كلّ خصيصة يمتاز بها جنس معيَّن من شعوب الأرض وتنقصهم، (انظر ص 207)، يحتفظون بها عن طريق براعتهم بشكل يستطيعون معه الرجوع إليها متى دعت الضرورة... هناك.
الخصيصة التي تميز سلالة هاجر (العرب) هي قوة الذاكرة، وبالضبط الذاكرة المتأنية، انكبَّ الباحثون على دراستها في إطار مشروع المباحث الخمسة من خلال إجراء تجارب على هلال كروم وزكي خليفة؛ شخصيتين في الرواية، وينتميان إلى جنس الذاكرة المتأنية. يصل هؤلاء الباحثون إلى نتائج، يستطيعون التحكم في الذاكرة، ثم ينتزعونها في شكل روح، (ص 215 إلى 226)، ويعيدون جثماني هذين إلى بلدهم مدَّعين من خلال القيّم أنَّهما ماتا في حادث اندلاع النار في الفندق الذي كانا يقيمان فيه.[7]
(3)
الذاكرة وعلاقتها بتوجُّه/سلوك معيَّن يميز كلَّ جنس على حدة، ونتائج ذلك على مستوى محيط ومستقبل كلّ جنس. هذا لبُّ ما أوردناه أعلاه حول ما تشير إليه لفظة ذاكرة في الرواية، وقد نستنتج الكثير من الإشارات من خلال تجميع أجزاء ما تشير إليه هذه اللفظة، أي من خلال علاقتها بالسلوك واللغة، فنقول مثلاً إنَّها تشير إلى مسألة التَّعاقل التي عالجها في مفهوم العقل، وبالتالي إلى تنكُّب الفرد المسلم المستمر بسبب ذلك التوجه إلى الواقع الموضوعي. أو قد نقول من خلال التمعُّن فيها، إنَّ ما يميز الإنسان العربي/المسلم هو رفضه لأن ينسى، وبالتالي لأن يقطع مع ذكرى معينة؛ ويكون ((الموضوع))، ذلك الذي يقول العروي إنَّنا نجري وراءه ولا ندركه هو هذا: الإنسان العربي/المسلم هو من يرفض أن ينسى، وبالتالي لأن يقطع مع ذكرى معينة.
هذا هو ((موضوع)) العروي بشكل عام، لكن هل هو موضوع الرواية؟ لقد لاحظ القارئ أنَّنا لم نتوقف أعلاه عندما كشفنا عن علاقات الذاكرة في الرواية واستنتجنا، لم نقل هذا هو الموضوع، بل تابعنا الحديث وأتينا على الآفة الأخرى (المتعلقة بالمناخ)، وعلاقتها بالآفة الأولى وتطلّع الغرب إلى تجاوزهما والنجاة. وفي الحقيقة فإنَّ ذلك ناتج عن الإحساس بمدى سوء إهمال مكونات الموضوع الأخرى، وما ينتج عن ذلك من اختزال لغنى الرواية إن نحن قلنا إنَّ هذا هو الموضوع. لذلك فلفظة ذاكرة لا تشير إلى موضوع الرواية، هي جزء منه فقط، ذلك أنَّ الوصف المتعلق بهذه الأخيرة في الرواية، هو لأجل إبراز أصل ما يؤدي لدى كلّ جنس على حدة (العرب، الغرب) إلى تفوق مستوى معين من الذاكرة على الآخر، فهي بالتالي (عقدة) داخلة في حبكة الرواية، لذلك نجد أنَّ الأحداث كلها تدور حولها: إطلاق مشروع ضخم للبحث في الآفة، استدعاء هلال كروم وزكي خليفة ليخضعا للتجربة، إرسال فراد ݒالمر إلى العراق وسبأ وساحل الأحابيش كمُخبر وعميل ثمَّ تعيينه في المغرب، جمع الرسوم والرموز (أوشام النساء) من قبل أدريانا فنيش.. كلُّ ذلك من أجل إيجاد حلٍّ للآفة التي لحقت الذاكرة على المستوى المتأني، قبل مغادرة هذا الكوكب الذي لن يعود صالحاً للسكن. هذا الهدف كان مسطراً سلفاً. طرقت آفة فكان يجب إيجاد حلٍّ لها قبل المغادرة، وخصيصة الذاكرة التي تميز أبناء هاجر، توجد خصائص تميز باقي الأجناس ربما تكون في أهميتها نفسها، لا يبحث الغرب فيها وفي غيرها إلا تحسباً لشروط معينة قد تفاجئه هناك وتقضي عليه، يقول العروي على لسان الدكتور روس أحد شخصيات الرواية: «ما لدينا الآن لا يؤهلنا للفصل والتأكيد أنَّ ما طرق هنا لا يطرق هناك في قلب الفضاء» (ص 149).
ولنلاحظ كذلك أنَّ "الأنا" ليست هي من تحاول إيجاد حلٍّ لآفة الذاكرة (العقدة)، وهو ما يجعلنا نتردد في القول إنَّ موضوع الرواية يدور حول "الأنا" بشكل مباشر، وأن نعبر عنه بما تشير إليه لفظة ذاكرة أعلاه، بحيث نلاحظ أنَّه يغيب ((كل)) تعبير جماعي عن إرادة "الأنا" في الرواية.
المهم أنَّنا نقرأ الرواية على طولها على هذا الأساس، أساس موضوع الذاكرة والمغامرات والأحداث التي تدور لأجل التغلب على مشكلها، ثمَّ تتسارع الأحداث في نهاية الفصل قبل الأخير (198 إلى 209)، وكذلك في الفصل الأخير المعنون بِـ"نورا والفلك" خاصة في الصفحتين الأخيرتين (225 و226)، نقرأ الفقرات الأخيرة وننهي الرواية، فنتأكد أنَّ كلَّ الأحداث كانت موجَّهة إلى هذه النهاية بالضبط. والنهاية تؤثر في فهمنا للقصة، تنقلب رؤيتنا لها رأساً على عقب، خاصة وأنَّه كان هناك غموض وضبابية، بسبب التقطيع الذي اختاره العروي للرواية. النهاية (الفصل الأخير) بمثابة الضوء الذي ينير الفصول الأخرى، بتأثير منه نبدأ في التأويل، في العودة لقراءة مقاطع مغالية في التورية والإيحاء، مررنا عليها ولم نتبين معناها. من هنا الرمزية التي تحدثنا عنها.
نقرأ في النهاية: «انتصر من سار على هدي الكوكب الذهبي. أدركوا المنتهى فلا خيار لهم سوى الإقلاع والتحليق لمعانقة النور الساطع. لا انكفاء، لا عطف، لا حنين. لا نصطحب أحداً ممَّن يندم أو يستدرك. وليبقَ الكوكب المظلم بيد الزواحف، يفعلون به ما يشاؤون، يتجهون أين يحبُّون، إلى الأمام، إلى الخلف، مرتدِّين على أعقابهم، دائرين في حلقة. ننتخب منهم عينات، نحتفظ بها محنطة، لا حيَّة ولا ميتة، تحمل في خلاياها آثار المغامرة التي كادت تفشل. ننعش البعض، عند الحاجة، إذا عرض هناك عارض غير متوقع». (ص 225)
إنَّ للكوكب الذهبي هدياً، أي له طريقة، سلوك...، انتصر لأنَّه سار عليه، ومن الواضح أنَّ عبارة الكوكب الذهبي هي عبارة لوصف الغرب، فالرواية كما قلنا تدور حوله، والأحداث حتى حينما تدور في سبأ أو في العراق فهي تدور في فلكه إن اتفاقاً (لقاء أدريانا بِرحمة زرهوني التي تحمل أوشاماً لها علاقة بالمشروع مصادفة، ص 14) أو بأمر منه، فهي داخلة في تاريخه. إنَّ تاريخ المعمور صار تاريخه.
إنَّ هذا السلوك هو الذي مكَّنهم من بلوغ هدفهم الذي كان هو محاولة فكّ لغز الذاكرة: «تحكموا في الحافظة. يؤخرون ويقدمون، يحضرون ويصرفون، يسكنون ويحركون، متى أرادوا، متى دعت الضرورة، متى ألحَّت غريزة الاستبقاء...» (ص 226). وهكذا انتصروا.
هنا نطرح سؤالاً: ألم تكن الذاكرة مجرَّد عقدة للحديث عن شيء آخر، هو بالضبط سلوك الغرب - إن روياً أو وصفاً - كما يتضح من العبارة أعلاه «انتصر من سار على هدي الكوكب الذهبي»، وكما يتضح من فصول الرواية؟ وسلوك الآخر/الغرب هل هو الموضوع؟ هو أحد جوانب الموضوع، لكنَّه ليس الموضوع.
أقصد بالموضوع ذلك الطيف الملازم للرواية، الذي نكاد نتحقق من وجوده ولا نراه - وراء كلِّ سطر وبين كلِّ جملة وجملة - لكنَّه لا يتضح، مع أنَّه يظلُّ طيفاً، إلا حينما ننهي الرواية ونقوم بالتأويل واستحضار أعمال العروي بإيعاز من بعض العبارات والألفاظ. الموضوع هو ما يعلق بالذهن بعد أن نغلق الرواية، إنَّه ما نستنتجه.
عبارة زواحف إذن، في الفقرة أعلاه، لوَسم من؟ ومن الواضح أنَّ العروي يُضمنها معنى سلبياً (للتحقُّق من مضمون هذا المعنى السلبي، انظر تعليق شخصية إيمي وليمز ص 206). من هم هؤلاء الذين ترك لهم المنتصرون هذا الكوكب ليفعلوا به ما يشاؤون، أليست كلُّ تلك المجتمعات التي ظلت مُمانِعة (في شخص عدد من مثقفيها؛ ينعت العروي ممانعتهم بالممانعة الغبية في محاضرة عوائق التحديث)،[8] وقالت إنَّ ما لديها يكفيها ويغنيها ورفضت ما هو "آخر"، أي رفضت أن تستفيد من علومه وتجربته ومن بينها/أو خاصة المجتمعات العربية الإسلامية (خاصة وأنَّها في العمق استمرارية بمعنى ما لتجربتنا)؟
"الأنا" حاضرة إذن، لكنَّنا لا نقصد الحضور من خلال الأسماء (هلال كروم، زكي خليفة)، أو التجربة التاريخيَّة الثقافيَّة (الطرب، قوة الذاكرة)، أو الأماكن (العراق، المغرب...)، هذا حضور سلبي، "الأنا" لا تُبادر، لا تُقدّم، وهذا ما حاول العروي عكسه من خلال صورتي زكي وهلال، فهما اللذان يستدعيهما الغرب من أجل إجراء اختبارات مخبرية عليهما، لقد أصبحت "الأنا" مجرَّد موضوع للآخر (وهذا عن حق أحد جوانب "الأنا" في العصر الحالي)، وهذا نتيجة تحكُّم سابق ليبدو "الآخر" في قمَّة سطوته، لذلك نجد تركيزاً على سلوك الغرب في إطار الغرب، دون مقارنته بسلوك "الأنا"؛ هذه المقارنة التي طبعت أعمالاً أخرى كـ"مفهوم العقل" ورواية الفريق. نعني بحضور "الأنا"، الحضور كموضوع.
إنَّ الرواية، إذن، عن علاقتنا بالآخر من منظور المستقبل، عن مرحلة يكون الغرب قد تفوَّق فيها نهائياً، وذلك للفت أنظارنا إلى نتائج تردّدنا وعدم حسمنا في مصيرنا. هذا هو الموضوع.
***
بعد التعبير عن موضوع الرواية بهذه الطريقة، عندها فقط يمكن استدعاء مسألة الذاكرة والموضوع الذي تشير إليه كأصل في المستقبل: ((الإنسان العربي/المسلم هو الذي يرفض أن ينسى، وبالتالي لأن يقطع مع ذكرى معينة مع ما يترتب على ذلك من نتائج)). ذلك أنَّ العروي إذا كان يقول إنَّ لفظة ذاكرة تشير إلى الموضوع الذي هو ظاهرة تميز الإنسان العربي، فإنَّه يقول كذلك إنَّه لا يفتأ يُفكِّر باستمرار في مآلها وما يتولد عنها (النتائج).[9] بهذا المعنى نفهم كيف تكون رواية الآفة آخر جزء في الرواية الطويلة المكونة من سبعة أجزاء/ألوان، أي كخاتمة لها، بوصفها تعالج مسألة النتائج المترتبة عن الموضوع نفسه.
وعن كون الرواية كلها حديثاً عن الآخر كونه هو من ينتج العلم اليوم، ومن منظور المستقبل (الخيال العلمي) حيث يكون قد خطا خطوات عملاقة، بحيث نصبح مجرَّد موضوع بين يديه قبل أن يغادر هذه الأرض ويتركها ليفنى الآخرون معها، فهذه هي الطريقة الأكثر ملاءمة للغرض من القول، أي للفت انتباهنا إلى ذلك الخطر المرتسم في الأفق،[10] وهذه هي كذلك الطريقة (الحديث عن علاقتنا بالآخر من منظور المستقبل؛ وقد لعب التضخيم المرتبط بالخيال العلمي دوره بشكل ممتاز) التي تكون من خلالها الرواية أكثر تعبيراً عن المرحلة - ولا تعود تكراراً -، حيث لم يعد الأمر بأيدينا، وحيث لم يعد السؤال هو "الحداثة أم التراث"؟ - لم يكن كذلك يوماً بالنسبة إلى العروي، إلا أنَّ الأمور هنا أكثر وضوحاً إذ يتطرَّق لنتائج التردُّد - وحيث أمامنا بعد ذلك الدَّهر بأكمله لكي نختار، بل أصبحنا أمام خيارين: "إمَّا المستقبل أو الاندثار"، وشتّان بين الأمرين.
(4)
في الواقع، إنَّ فهم الرواية يستدعي من القارئ ويفترض فيه أن يكون على معرفة بأعمال العروي السابقة، انشغالاته ورهاناته، فالرواية لا تُفهم إلا من خلال استحضار ما قيل في تلك الأعمال، بل تستدعي فهماً عميقاً لها.
تبدأ الرواية بالحديث عن "زكي خليفة"، بوصف أصله وفصله، ثم تُذكِّر بأنَّ هذا الأخير التحق "بالمعهد النموذجي" الذي أسَّسه "المشير" (ص 8). زكي ابن المغرب، نكتشف ذلك من خلال إشارة العروي إلى أصل فرقته «...أصل الفرقة، عين الساقية، نهر أم الربيع الذي يصبُّ في بحر الظلمات» (ص 7). لكن من هو "المشير"؟ نتقدَّم في القراءة فنكتشف أنَّ الخليفة أو السلطان هو الذي استقدم هذا الأخير لأجل القيام بإصلاحات «..انحاز الخليفة إلى قصره تاركاً المسؤولية للمشير الذي كان مُصمِّماً على أن يغير كلَّ شيء في الآفاق وفي النفوس» (ص 30). فنتساءل، أليس "المشير" في الرواية هو المقيم العام الفرنسي في المغرب (ليوطيmaréchal Hubert Lyautey )[11]؟ إنَّه كذلك، يقول الشاب التركي عنان رستم لِـ هلال كروم «بيننا فرق وبيننا مماثلة. كان عندكم مشير من غير أنفسكم وكان عندنا مشير من أنفسنا» (ص 70). يقصد بالمشير/المصلح من أنفسهم، أبا تركيا الجمهورية مصطفى كمال، والمشير الذي عندنا ومن غير أنفسنا هو ليوطي. إلا أنَّنا يجب أن ننتبه إلى أنَّ العروي يُضمِّن أسماء الشخصيات معاني معينة، تشير إلى مواقف من التاريخ، وبالتالي من المجتمع؛ هي ليست أسماء فقط.
"المشير" لا يحيل إلى المقيم العام فقط، لنلاحظ أنَّ اللفظة أكثر قابلية للتجريد؛ "مُشير". المقصود هو المعنى المجرَّد.
إنَّه يشير إلى لحظة تداخل المجتمعين الغربي والإسلامي وفقدان هذا الأخير لانسجامه، نظراً للتغييرات التي أدخلها عليه "المشير"، أي نظراً للتكسير الذي تعرَّضت له بنياته الأصلية لتخلفَها أخرى، ونظراً كذلك للقوانين الجديدة التي ألغت القديمة (ص 29). هذا أحد أسباب ذيوع النسيان في عهد المشير، وهو نسيان من نوع آخر عمَّ بلاد زكي وهلال (ص 29، 30). إلا أنَّ هذا المستوى هو الأقل تجريداً ممَّا يرمز إليه "المشير"، إنَّه أحد أشكال تجليه فقط، أقصد أحد أشكال تجلي "الزمن"، "المشير" يرمز إلى "الزمن".[12] وهو ما يمكن أن نستنتجه بسهولة من العبارة التالية «كان الناس فيما خلا يعرفون، كالخيل والجمال، بالوصف...، كان ذلك قبل عهد المشير الذي أمر، بغية التبسيط والتفريد، بإبدال الأوصاف والأسماء بالأرقام» (ص 7). وهناك المستوى الأكثر تجريداً ممَّا يرمز إليه "المشير"، والمعنى الذي يحمله هذا المستوى هو الأكثر مطابقة للمعنى الذي يستعمل به العروي "الزمن"، هذا المارد الذي أخذ يشير بهذا وذاك، والذي جعلنا نلحظ ما لم نكن نلحظه. وهذا المعنى الأخير هو الذي يهمُّنا أكثر.
إنَّ لفظ "المشير" يشير إلى فرق بين حقبتين، بين نظرتين، وإلى أفق في المستقبل. وهو ما نفهمه أو نتأكد منه حين يقرن العروي الإصرار على إدراج الموسيقى (الطرب)، في البرنامج التعليمي داخل المعهد النموذجي بشخصية المشير «... هو الذي ألحَّ على إدراج المادة، بجانب الخط والرقص والرياضة البدنية، في البرنامج. بل ذهب إلى حدِّ الادعاء أنَّها محور الإصلاح، بل إنَّها رمز تفوق النظام الجديد على القديم، الشمس على القمر كما كان يحلو له أن يقول أحياناً بقصد الافتخار أو الاستفزاز» (ص 46). لماذا ذهب المشير إلى حد اعتبار الموسيقى محور الإصلاح؟ نفهم ذلك من خلال باقي فصول الرواية حيث ندرك، وحيث يحاول العروي أن يوضح لنا بطريقة فنية، كيف أنَّ الموسيقى، التي تبدو وكأنَّها مجرَّد ترف، و"نمتلك" حولها نظرة قيمية داخل ثقافتنا، يمكن أن تؤثر بشكل كبير في باقي الفعاليات الإنسانية الأخرى (الفيزياء كمثال) وتساهم بالتالي في التقدم ككل، «تتجوَّل المفاهيم والنظريات من مبحث إلى آخر. تستعير الفيزياء بعض تصوراتها الرائدة من الموسيقى، الكيمياء من الفيزياء، الفن من الكوسموغرافيا..» (ص 227). لذلك يصدّر العروي الفصل المعنون ِبـ"عنان وحربة الزمن" (وهو الفصل الذي يشير فيه إلى علاقة الموسيقى بباقي التخصصات كالرياضيات واللغة) بسؤال جدّ دال، يقول: من قال إنَّ الطرب ردَّة؟ (ص 157). إنَّ الأمور تؤخذ من منظور مغاير كليَّاً، إذا ما نظرنا إليها من الناحية الإبستيمولوجية. تختلف النظرة باختلاف المنظور، ثقافي في حالة، إبستيمولوجي في أخرى. هذا هو الأصل وراء عبارة المشير الاستفزازية، إنَّه يرى ما لا يراه من يخاطبهم. إنَّ هؤلاء غير قادرين على أن ينفصلوا عن أنفسهم حتى يروا ما يراه. إذا ما نظرنا إلى الموسيقى هذه النظرة، نظرة المشير إليها، يكون ذلك دليلاً على قطعنا مع تصوُّر واعتناق آخر بعد إدراك الفرق بينهما، فتكون الموسيقى بهذا المعنى وعن حق محوراً للإصلاح. ولنسجل هنا تردُّد ثنائية "الأنا" و"الآخر" من جديد في العبارة أعلاه: «تفوُّق النظام الجديد على القديم، الشمس على القمر...»، الشمس ترمز هنا للغرب (التقويم الشمسي غربي) والقمر للمسلمين (التقويم القمري إسلامي)، وإذا ربطنا كلَّ تصوُّر مُعيَّن للموسيقى بجانب مُعيَّن بان المعنى: إنَّ تصوُّر/ذهنية الآخر هي أصل تفوقه.
مثال آخر عن هذه الأسماء التي تلتصق بشخصيات في الرواية وتحمل معاني تشير إلى مواقف معينة، نجد شخصية "وضَّاح الصابونجي" - وتأويل هذه الشخصية والاسم، سيعطي الدليل في الوقت نفسه، على صحَّة ما ذهبنا إليه من تأويلات سابقة.
يحكي الصابونجي لهلال كروم (ص 54) أنَّ الاسم محرَّف عن صبَّان (وهو الاسم الذي كانت تحمله أسرته عند مغادرتها الأندلس ضمن من غادر الجزيرة لاجئاً إلى أرض السلطنة العثمانية. استقرَّت الأسرة في صالونيكا حيث مكثت عدة عقود قبل أن يحملها المدُّ العثماني إلى أنطاكيا ثم حلب ثم دمشق وأخيراً إلى الإسكندرية).
ونفهم من خلال مجريات الرواية، أنَّ الصابونجي معلم الموسيقى نقيض المشير. يهزأ منه، يحقد عليه، يعاديه، وهو من يهدِّد إصلاحاته «أهمُّ ما توصل به كوون مفكرة مكتوبة بخط المشير يعرض فيها لاحتمال تعثر برنامجه الإصلاحي بعد أن تجاوز مرحلة التجريب ودخل طور التطبيق، بل تنبَّأ بحتمية فشله إذا لم يضع حدّاً لنشاط الصابونجي ومن يحميه في الخفاء. الإشارة إلى حاشية الخليفة التي كانت حسب المشير وراء رفض طلبه بطرد الصابونجي من المعهد» (ص 49). كيف ينشط الصابونجي؟ بالتأثير في تلامذة المعهد وخاصَّة تلميذه هلال كرّوم الذي تأثر به وأخذ يردِّد أفكاره «..ما إن لاحت في الأفق بوادر الشقاق حتى جرى في عروق هلال كرّوم دم والده الشهيد.غادر في الحين مقرَّ عمله وتطوَّع ليقود إحدى فيالق الثوار. عندها عزا زملاؤه تصرفه هذا، تنكره الكامل لمبادئ المشير، حرصه على هدم كلّ ما شيّد، إلى ارتباطه بالمعلم الصابونجي الذي لم يخفِ قط حقده على المشير ومقته لتعاليمه» (ص 48). والسؤال هنا هو: لماذا إلصاق هذا الاسم بالذات (الصابونجي؛ المحرَّف عن صبَّان) بهذه الشخصية المخالفة للمشير/المصلح، المعارضة لإصلاحاته؟
نقرأ في أوراق المعلم الصابونجي: «ثمَّ جاء عهد المشير. استقدمه الخليفة من بلد مجهول وسلّمه مقاليد الأمور. قال له: إنّي أسوس وحوشاً ضارية فاجعل منها، إن استطعت، بالحكمة والنظام، أناساً عقلاء. فأقبل على كلّ معروف ليردَّه منكراً وعلى كلّ منكر ليحوّله إلى معروف. ومع ذلك دانت له البلاد وأطاعه الجمهور. قيل إنَّه ألقى في الآبار حبَّة أتى بها من أرض الخصاص، لم يصفها أحد من الأفاقين. والصحيح أنَّه غيَّر الحَرْف فانقطعت بذلك السلسلة. الحبَّة، إن كانت، فهي حبَّة السهو والغفلة». (ص 75)
هذه الشخصية المخالفة والمعاندة تعزو قدرة المشير على تمرير إصلاحاته، إلى سهو وغفلة الناس. وهنا نتنبه إلى العلاقة بين هذه الشخصية واستنتاجات العروي في مؤلفات مثل السنّة والإصلاح ومفهوم العقل، والتي يخلص خلالها إلى أنَّ التجديد/الإصلاح بالمعنى الذي يوجد في تاريخنا - والذي كان يقوم به في كلّ حقبة معينة أحد أعلام المسلمين (من نسميه الفقيه المجدّد) - لا يعدو أن يكون نوعاً من الإحياء، أي تشذيباً للسنَّة ممَّا علق بها من بدع (منكر)، فيكون التجديد والإصلاح بذلك إحياء للسنن المعروفة، أي استحضاراً وتذكراً لها، ويكون الانحطاط نسياناً لهذه الأخيرة وجهلاً بها وغفلة عنها.[13]هذا هو المعنى الذي يُضمِّنه العروي لهذه الشخصية، المعنى الذي يفيد معاندة التاريخ، وبالضبط شخصية من يحاول تقمُّص دور المجدّد (الفقيه أو الفيلسوف الكلامي) في القرن الحادي والعشرين الميلادي بالحفاظ على الذكر والتذكر من خلال المحافظة على معاني مفردات اللغة رغماً عن الواقع (فلننتبه إلى ما يقوله في العبارة عن المشير: "... والصحيح أنَّه غيَّر الحَرْف فانقطعت بذلك السلسلة").
أشرنا على لسان الصابونجي أعلاه إلى أصل الاسم، والاسم ليس متخيلاً، حملته في الواقع مجموعة من العائلات في شمال أفريقيا والشرق الأوسط وما تزال، إلا أنَّ العروي يستعمله لغرض ويلصق به معنى معيَّناً من خلال إضافة مميزات معينة لشخصية حامله. والاسم "صبَّان"، أو محرَّفاً الصابونجي، من الأسماء التي تتصل بالحِرف التي تخصَّص فيها الأجداد ولازمت الأحفاد (كحدَّاد ودبَّاغ وصبَّاغ، وصبَّان... إلخ). والصَّبَّان لغة هو صانع أو بائع الصابون، فمثل هذا الأخير بالنسبة إلى الثوب كمثل الفقيه المجدد المشتغل بمنهجه على السنَّة. فالتجديد المرتبط بهذه الشخصية على الدوام، ليس تجديداً بمعنى اكتشاف غير المعروف (الإبداع)، أي الجديد فعلاً، بل بمعنى تنظيف القديم، فمعنى تجديد السنَّة هو إعادة جدَّتها لها بإقصاء المبتدَع (البدعة)، تماماً كما أنَّ وظيفة الصابون أو الصبَّان بالنسبة إلى الثوب هي إعادة جدَّته له بإزالة ما علق به من أوساخ.
(5)
لوحة غلاف رواية الآفة، تفصيل من كاندنسكي، تمثل رجلاً عملاقاً ومهيباً، يحمل في يده منزلاً وهو يتطلع ببصره نحو السماء/الفضاء، وعند قدميه أفواج من البشر (مشوهي الخلقة) يتطلعون إليه. حينما ننظر إلى اللوحة فإنَّنا لا نفهم، ورغم المحاولة المتكررة، المعنى من ورائها. لا نفهمها حقاً إلا بعد قراءة الرواية ونربط اللوحة بمضمون هذه الأخيرة. لكن إذا عدنا إلى لوحة كاندينسكي مكتملة، [14]وهي من أعمال سنة 1911 بعنوان القديس فلاديمير Saint Vladimir، نرى مجموعة من المناظر والرموز التي لا نجدها في التفصيل على غلاف الرواية؛ صليب ضخم في اليد اليمنى للقديس فلاديمير وآخر فوق رأسه وشمس خلف رأسه مباشرة، وأشجار ونار ضخمة بعيداً خلفه. كلُّ هذه الأشياء استعملها كاندنسكي في اللوحة ليضمِّن هذه الأخيرة معنى خاصاً به. أتخيل العروي، وهو يقف أمام هذه اللوحة مع ذهنيته العلمية، يقول لنفسه بعد أن يؤول لنفسه ما أراده كاندينسكي من ورائها: لو أزلنا عنها الرموز الدينية (وهو فعلاً ما قام به بالنسبة إلى اللوحة على غلاف الرواية) لانطبقت على أحوالنا اليوم، كان الإنسان فيما مضى يأمل بورعه وتقواه في مسكن في السماء ويتطلع إليه، واليوم يتطلع من خلال علمه وبحثه المستمر إلى نقل مسكنه إلى الفضاء. ودون أن نعدّد أسباب هذا التطلع الجديد، نكتفي بربطه بالسبب المضمَّن في الرواية ذاتها، وهو دخول الأرض في دورة مناخية قاسية نتج عنها اضطراب أحوال البشر وقد تعصف بالجميع، لذلك سيحاول الغرب بعد التأكد من أنَّه لم يغفل شيئاً لم يضعه في الحسبان أن يقلع إلى الفضاء لإنقاذ نفسه من هذه القلاقل التي نتجت عن هذه الآفة، وبالتالي إنقاذ مغامرة الإنسان في الكون بوصفه يمثل قمَّتها.
هذه المحاولة، محاولة إنقاذ الغرب لنفسه وبالتالي لمغامرة الإنسان بالرحيل عن الأرض، من يمكن أن تضم فعلاً؟ لا بُدَّ أنَّها ستضم نخبة معيَّنة ذات خصائص مختلفة، إذ لا يمكن أن تشمل جميع البشر. ستضم أولاً جنس/فصيلة الغرب التي تمثل نخبة بالنسبة إلى باقي الفصائل البشرية الأخرى، ثم ضمن هذه، ستضم المحظوظين الأكثر قرباً من مراكز القرار في الفترة التي يتمُّ التخطيط فيها للمغادرة، وأصحاب الثروة والخبراء الذين سيقودون المغامرة إلى جانب كلِّ الموهوبين أصحاب الكفاءات الذين يفيدون بدورهم في السهر على هذه المغامرة بعد الرحيل، ... إلخ. بالإضافة إلى أنواع الحيوان والنبات والمعادن. يمثل الرجل العملاق في اللوحة هذه النخبة، بينما تمثل جحافل البشر عند قدميه باقي البشر ممَّن يريدون النجاة ويشكلون خطراً في الوقت نفسه على النخبة. هذه صورة مكرَّرة شاهدناها مراراً في أفلام الخيال العلمي، إلا أنَّ العروي يزيدها تدقيقاً، حيث يفترض عدم قدرة تلك النخبة نفسها والتي تنتمي لفصيلة معينة على مقاومة ظروف معينة تكون السبب وراء فشل المغامرة ككُل، وهذا التدقيق، الذي يجعله العروي موضوعاً للنقاش بين شخصيات الرواية (خاصة ص 144 إلى 153)، قد يبدو عاديَّاً للبعض، إلا أنَّه جوهري، فهو قائم على استثمار مبدأ التّكيف، والرواية كلها استثمار لهذا المبدأ في مجموعة من المواضع، ولا يمكن أن يطرح هذا السؤال، سؤال أيّ فصيلة ضمن البشر هي الأكثر قدرة على تحمل ظروف غير ظروف الأرض، وهل بإمكانها ذلك أصلاً، إلا من يفكر بطريقة شموليَّة؟
(6)
قلنا إنَّ العروي يفترض عدم قدرة تلك النخبة على مقاومة ظروف معيَّنة، ممَّا يؤدي إلى فشل المغامرة، وفي الواقع فإنَّ هذا تأويلنا الخاص لنهاية الرواية، وهي نهاية غريبة، غامضة جدَّاً وغير منتظرة، وذات غاية فنية في الوقت نفسه.
لماذا غامضة وغريبة وغير منتظرة؟ يكون الاختلاف حول مستقبل الفصيلة التي أهَّلها نبوغها إلى ريادة العالم (صاحبة الذاكرة اللحظيَّة) بين فئتين: فئة ترى أنَّه يجب التخلي عن موضوع التجربة الذي هو زكي خليفة بما أنَّ الوقت الذي بقي لمغادرة الأرض غير كافٍ لإتمام التجربة والتمكُّن بالتالي من التحكم في موضوعها، الذي قد يشكل خطراً عليها في المستقبل إذا ما قبلت اقتراح اصطحابه معها لإتمام التجربة عليه وذلك بسبب انتمائه. يقول هؤلاء رداً على "كوون" الذي يوصي بمواصلة التجربة باصطحاب موضوعها لأخذ كلِّ التفاصيل بعين الاعتبار لتجنّب أيَّة مفاجأة: «العيب واضح، العيّنة التي تتكلمون عنها ليست من قبيل عيّنات المعادن أو الأشجار أو الحيوان. عن هذه نعرف كلَّ شيء، فلا خطر منها علينا. أمَّا تلك فنجهل عنها الكثير. تجاهلنا وجودها طول تاريخنا الطويل...، منها كنا نحترس. والآن ونحن على أبواب المغامرة العظمى نصحب معنا ما كنا نحترس منه، كيف يستقيم هذا المنطق؟ حصلت الآفة هنا، دون أن نتوقعها، وقد تحصل هناك. لو تحكمنا فيها، ولو جزئياً، لقبلنا أن نغامر. لم نتمكن من ذلك بسبب ضيق الوقت. فكيف نجزم أنَّنا سنتحكم فيها هناك، حتى ولو ملكنا الدَّهر كله، ... تكفي دقيقة واحدة وتغشانا الآفة...». (ص 152)
ثم نفهم من خلال الصفحتين الأخيرتين وبعبارات واضحة أنَّ الغرب استطاع التحكُّم في موضوع التجربة، أي خصيصة الذاكرة التي تميز فصيلة أبناء هاجر التي كانوا يحتاطون منها «تحكَّموا في الحافظة، يؤخّرون ويقدّمون، يحضرون ويصرفون، يسكنون ويحركون، متى أرادوا، متى دعت الضرورة، متى ألحَّت غريزة الاستبقاء» (ص 226). ومباشرة بعد ذلك نقرأ: «ظنُّوا أنَّهم ملكوا سرَّ الخلود إذ مزجوا الحبَّة بالسفّة، ما اخترعوا في مخابرهم وما جادت عليهم به أرض الخصاص. سور مختوم، حماية وافية، من الأمام ومن الخلف. إذا كذبت هذه صدقت تلك. مخاطرة مضبوطة، في ظنهم. هيهات، هيهات. ركنوا إلى وعود روس وأهملوا تحذيرات كوون، فدهمهم القدر». (ص 226)
لكن ما هي تحذيرات كوون التي أهملوها حتى دهمهم القدر، أي حتى فشلت المغامرة؟
كان كوون يدعو إلى إكمال التجربة التي نجحت على هلال كروم، بإخضاع عنان رستم أو زكي خليفة لها، أو حتى اصطحاب موضوع التجربة لإكمالها، ويحذِّر من مغبة إهمال الأمر (151 إلى 153). لكنَّنا نفهم أنَّهم أكملوا التجارب وتحكَّموا في الحافظة قبل مغادرة الأرض، فلم يعد هناك مسوِّغ لادعاء أنَّ السبب وراء فشل المغامرة هو إهمال تحذيرات كوون، أي عدم إنهاء التجربة أو التحكم في موضوعها.
هل أهمل العروي هذا الأمر؟ رغم عدم تأكدي، يذهب بي الظن إلى أنَّه تعمَّد إنهاء الرواية بهذا الشكل الغامض، وهنا يأتي الدور على القارئ ليترك مخيلته تسرح، ليفترض سبباً معيَّناً أدَّى إلى فشل المغامرة؛ وبالتالي أدَّى إلى تأويل معيَّن لنهاية الرواية، من هنا الغاية الفنية من وراء غموض النهاية. مثلاً، هل كانت ظروف أخرى غير منتظرة هي التي أدَّت إلى فشل المغامرة؟ هل كانت ظروف عمل الخصائص المفترضة هناك غير تلك التي تعمل فيها هنا على الأرض؟
(7)
أوَّل ما يلفت انتباهنا في الرواية، هو خلوُّها من أيِّ نوع من أنواع ما يُسمّيه العروي بـ "الحصر"، فالنظرة الفلسفية التي تميزها تتأصل في نظرية التطوُّر والتكُّيف الداروينية - تقول إيمي وليمز وهي تردُّ على عنان رستم: «نعم، النجاة بأصحاب الفضل، بالنخبة التي تستطيع وحدها إنقاذ أكبر مغامرة جادت بها الطبيعة، أي الإنسان» (ص 207) -، وهذا أمر عادي بما أنَّ الرواية رواية خيال علمي، بل إنَّها لم تكن لتتناسب إلا مع هذه النظرة، لكن خاصة لأنَّ العروي يستثمر هذه المبادئ في صياغة أحداث الرواية وموضوعها، بل يدفع بهذه النظرية التي أثبتت فقط صلاحيتها لتصبح حقيقة نهائيَّة، تقول إيمي وليمز في حوارها مع عنان رستم حول زكي خليفة: «له أن يسأل وليس عليَّ أن أجيب ...، عليه أن ينقِّب حتى يكتشف متى استقرَّ مفهوم الأجناس، وما نتج عن ذلك من نقاش مستعر» (ص 207). لذلك نجد في الرواية أنَّ جنس أبناء هاجر يتميَّز بالذاكرة الطويلة المدى، وجنس أرض المغيب بالذاكرة اللحظيَّة، والمنطقة التي أتى منها الدكتور إيطاكا لدى أفرادها عجز وراثي عن التقاط بعض الأصوات كهدير الموج (ص 145).
في هذا الإطار تدخل شخصية هلال كروم الذي ينتمي إلى فصيلة أبناء هاجر، وهلال هو الذي أصبح في لحظة معيَّنة ينفصل عن نفسه ويحكي عن أحداث غابرة من الزمن لم يعشها، [15] ومعنى ذلك أنَّ العروي يفترض إلى جانب الذاكرة الشخصيَّة للفرد، تلك التي تسجل أحداث حياته التي يعيشها، وجود ذاكرة أعمق تورَّث جينياً، وتحفظ قصة الأحداث التي مرَّ بها الأسلاف من كوارث طبيعية وحروب...إلخ. من هنا حاجة الغرب لإجراء التجربة على هلال أو زكي، فبما أنَّ الأرض تمرُّ بكارثة مناخية، سيخضعون هلال للتجربة بعد إعطائه حبَّة صنعوها في مخابرهم تدفع هلال إلى التعمق أكثر في ذاكرته (أي أنَّها تزيد حدَّة الأعراض التي تظهر على هلال) للتحقق ممَّا إذا كان الإنسان قد مرَّ بكارثة مثل هذه في غابر الأزمان، وكيف تمكَّن من البقاء وتجاوز الكارثة (ما يُسمّيه كوون بسرّ البقاء)؟ فإذا تمكَّنوا من معرفة ذلك فلا بدَّ أنَّ الأمر سينفعهم في فهم كيف يقاوم الإنسان مختلف الظروف وأقساها، ويستغلون تلك الخصائص المميزة لباقي الأجناس بعد التحكُّم فيها بالتالي في ظروف أماكن أخرى من الكون.
إنَّ البحث عن سرّ البقاء في أقسى الظروف يتخذ وجهتين: الأولى حول ذاكرة هلال وبعده زكي، أي ضدّ الزمن بمحاولة سبر هذه الموهبة والتحكُّم بها قبل فوات الأوان، والوجهة الثانية بالرجوع في الزمن عبر السير في جغرافيا الأرض نحو تلك المناطق التي دارت فيها حكايات الإنسان الأولى (سبأ، ساحل الأحابيش، العراق). وسوف يستطيعون من خلال فحص وتأويل الأوشام على وجوه النساء من الاهتداء إلى مناطق في هذه الأماكن تنمو فيها أعشاب تستعمل في تحضير سفوف يبدو أنَّ له مزايا تساهم في حفظ النوع «توجد رسوم وأوشام تؤكِّدها روايات تدلُّ على أسماء تشير إلى مسالك تقود إلى أوطان تنمو فيها أعشاب تُدقُّ منها مساحق وسفوف. وللسفوف مزايا جرَّبها الراسخون» (ص 148). لهذا تقول أدريانا لِـ"فراد" وهي تحاول فهم الأوشام: «..سأفحص وأدقّق، أخطّط وأنسخ حتى أكتشف ما تُسمّيه أنت سرَّ الاستبقاء». (ص 49)
في إطار الخيال العلمي دائماً، نفهم أنَّ العروي يحاول في الرواية توسيع مفهوم العلم ليشمل أو يدرس الروح (ما هو روحي غير ملموس)، فيجعل حقيقة الفيزياء في الطرب، أو بصورة أدق في تجربة الأشخاص الذين يتذوَّقون الطرب بصورة لا يطمع فيها أحد (ما يسميه الصابونجي "لحن الملائكة")، وكأنَّ مرهفي الإحساس هؤلاء هم من البشر ومفارقون للبشر في الوقت نفسه، فهم لا يرضون بأيِّ لحن ولا بأيَّة لغة كانت (ص 56)، إذ لا يرضيهم الاستعمال الأداتي السطحي المحدَّد بهدف ملموس في الواقع لهذه الوسائل-الغايات.
وليس من المصادفة أن يكون هلال كروم الذي يتذوَّق هذا النوع من الموسيقى (الطرب) هو الأصلح لإخضاعه للتجربة، فالأعراض التي تنتابه قد تكون نتيجة لهذه القدرة (أي لرهافة حسِّه)، ولا من المصادفة كذلك أن يطلب عنان رستم من كوون إخضاع فاتن بيلاك التي تتذوق النوع نفسه من الموسيقى للتجربة، يقول عنان لكوون: «قلت آنذاك ما أقوله اليوم. يدرس ساندروس ظروف الانعكاس على أعلى مستوى. هدفه الوصول إلى معادلة عامَّة تخضع لها الحالات مهما تباعدت واختلفت مظاهرها، ماديَّة كانت أو نفسانيَّة، مرئيَّة أو خفيَّة، فرديَّة أو جماعيَّة، ... إلخ، قناعتي أنا هي أنَّ السّرَّ الذي يبحث عنه منذ سنين وفي اتجاهات متفرقة يوجد في الموسيقى وفيها وحدها، وفي نوع منها أسميه الطرب» (ص 181). إنَّ هذه الأرواح التي تتذوَّق الطرب هي أرواح فريدة من نوعها. لا يفهم هذه الفكرة، فكرة ربط العروي للسِّر (الحقيقة) بضرورة دراسة تجربة هؤلاء الأفراد، إلا من جرَّب الحدود القصوى لما يفعله الطرب بالروح.
كما أنَّ العروي بإقحامه الطرب والذاكرة، التي تميّز التجربة التاريخية للعرب، يكون قد حاول توسيع مفهوم الحقيقة ليشمل تجارب الشعوب الأخرى وألا تبقى حكراً على التجربة التاريخيَّة للغرب.
(8)
ربَّما تتجاوز رواية الآفة محليتها فقط لأنَّها رواية خيال علمي، لكن ليست أيَّة رواية خيال علمي، إذ فيها قدر من التحكم بحيث يمكن القول إنَّها تمثل أوج الصنعة الروائيَّة لدى العروي. لا يمكن إلا أن تُدهش مهما كان. لكن أهم من ذلك، كونيتها تتجلى في استثمار مبدأ التكيُّف المتأصل في فكرة التطوُّر (والذي يتمّمها) والتعامل مع مفهوم العِرق/الفصيلة/الجنس العنصري الذي شغل خطاب العلوم الإنسانيَّة في القرن التاسع عشر ميلادي (الأنتروبولوجيا) والذي لا بُدَّ أن يكون مبنياً على المبدأين السالفين كحقيقة قائمة، استثماره بشكل رمزي للتعبير عن الحالة التي يعيشها العالم اليوم، حالة المصالح المتضاربة، حيث يمكن أن تدمِّر المجتمعات بعضها بعضاً، وكأنَّ الأمر يتعلق فعلاً بمحاولة حفاظ كلٍّ منها على جنسها الخاص من الانقراض، أي حالة غياب الحق والمساواة المؤملة وحضور منطق القوَّة السافرة. لكن كذلك، ومن خلال تأويلنا لغلاف الرواية وربطه بمضمونها، رأينا أنَّ داخل الجنس المسيطر بالنسبة إلى باقي الأجناس هناك النخبة التي تجعل الأمور تسير بشكل عمودي، ومن هنا أيضاً كونيَّة الرواية؛ إنَّ النظام العالمي اليوم لا يضمن إلا مستقبل فئة صغيرة جداً، هذا إن كان الأمر كذلك بالنسبة إليها هي أيضاً حتى آخر لحظة.
(9)
قلنا إنَّ الرواية تحيل ضمنياً على "الأنا"، رغم كونها حديثاً عن الآخر، فهي تعالج في العمق علاقتنا مع الغرب، عن مرحلة يكون هذا الأخير قد تفوَّق فيها نهائيَّاً، وذلك للفت أنظارنا إلى نتائج تردُّدنا وعدم حسمنا لمصيرنا. وكأنَّنا أمام تشاؤم كلّي للعروي من إمكانية الإصلاح واللحاق بالركب، أو على الأقل أمام طيف من اليأس بذلك، عكس ما كان من تفاؤل طبع استشرافه للمستقبل حين إصدار أولى مؤلفاته (الإيديولوجيا العربيَّة المعاصرة، 1967)، حيث ختم قائلاً: «فإذا ما أصبح العقل العربي نقدياً بالفعل، وتوصَّل عندئذ إلى نظرة إنسانيَّة شموليَّة، سيوافي الغرب، حيث يراوح هذا الأخير خطواته منذ القرن الماضي».[16]إلا أنَّ الثورة العلميَّة والتكنولوجيَّة آنذاك كانت في بداياتها، ولم تستغلق بشكل مطلق عن عقولنا، [17] عكس اليوم حيث خطت العلوم الدقيقة والمغرقة في التخصُّص خطوات عملاقة، وهو ما يشير إليه العروي في الرواية من خلال حديثه عن مجموعة من التخصُّصات وتداخلها وتضافرها. هذا التداخل والتضافر الذي حقق ويعد بتحقيق اكتشافات باهرة.
حسناً، الآن، إذا كانت هذه الرواية، رواية الآفة، تستشرف مستقبلاً مظلماً - ونركز هنا على الجانب المظلم بالنسبة إلى "الأنا" - يمكن أن نتحسَّس بوادره منذ الآن، وتوحي حسب قراءتنا لها بنوع من التشاؤم من إمكانية الإصلاح الناتج عن الوعي بانفلات الوقت من بين أيدينا - خاصَّة وأنَّها صدرت في وقت صبغه تشاؤم العروي، وأكبر تعبير عن هذا الأمر هو العنوان الفرعي لكتاب السنَّة والإصلاح «عقيدة لزمن الشؤم» الذي أسقطه الناشر، [18] وكما يمكن أن نستشفَّ الأمر من بعض عباراته. يقول في خواطر الصباح السالف الذكر: «..الأيام تمرُّ، الشعوب الأخرى تتقدَّم، ونحن نلوك الأفكار نفسها...»[19]، فكيف يمكن لهذه الرواية أن تكون حافزاً على الإصلاح؟
لقد قال العروي ذات مرَّة هذه العبارة: "إذا خرج المستعمر لسبب عارض، فما يمنعه أن يعود؟"
فمن فهم الأمر حقاً؟ إنَّنا لم نحقق إلى اليوم طرق تحصيننا كأمَّة، وإذا نسجنا على منوال الرواية وتخيلنا ما الذي يمكن أن يقع مستقبلاً، فربَّما يمكن أن نصبح مادَّة أوليَّة نُستخدم في صناعات الآخر.
إنَّ من يزن الأمور ويعطي الأمور حقَّ قدرها، ويرى أين وصل الغرب، إذا كان مطلعاً على العلوم الغربيَّة المغرقة في التخصُّص من بيولوجيا تطوريَّة وتاريخ طبيعي وكيمياء عضويَّة وفيزياء...إلخ، ولو في صيغتها الأكثر تبسيطاً واختزالاً، وكيف يمكن استغلال نتائجها من جهة ثانية في كلِّ ما هو عسكري مثلاً، ليصيبه الرعب واليأس من إمكانيَّة اللحاق بالغرب، عدا عن التفوق عليه، حتى ليخيَّل إلينا أنَّنا في حاجة إلى معجزة.
إذن، الأمر هو في الوعي بهذا الخطر المحدق الذي تنبِّهنا إليه رواية الآفة، واستغلاله في إيقاظ النّوَّم الذين نسوا من هم ونسوا تاريخهم، وغرقوا في تلك الأشياء الصغيرة والمبتذلة التي ألفوها؛ إيقاظهم لتدارك ما يمكن تداركه (القيام بالإصلاح)، كلٌّ من موقعه، فربما أمكننا تحقيق المعجزة...، فمعدن الأمم يُقاس بمدى قدرتها على تحقيق المعجزات.
المراجع المعتمدة
باللغة العربية:
ـ العروي، عبد الله، "الحداثة واقع اجتماعي ومنهج نقدي"، حوار مع محمد الداهي، النغمة المواكبة: قراءات في أعمال عبد الله العروي، تأليف جماعة من الباحثين، شركة النشر والتوزيع، المدارس، 2015
ـ العروي، عبد الله، الإيديولوجيا العربية المعاصرة (صياغة جديدة)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، 1995
ـ العروي، عبد الله، السنَّة والإصلاح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، 2010
ـ العروي، عبد الله، خواطر الصباح؛ المغرب المستحب أو مغرب الأماني 1999-2007، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، 2014
ـ العروي، عبد الله، رجل الذكرى (صياغة جديدة)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- بيروت، 2014
ـ العروي، عبد الله، مفهوم العقل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، 2005
باللغة الأجنبية:
- La revue ECONOMIA n°4 / octobre 2008 – janvier 2009, p 122.
* العروي، عبد الله، الآفة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، 2006
[1]ـ العروي، عبد الله، خواطر الصباح؛ المغرب المستحب أو مغرب الأماني 1999-2007، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- بيروت، 2014، ص 40
[2]ـ العروي، عبد الله، رجل الذكرى (صياغة جديدة)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- بيروت، 2014، ص 6
[3]ـ العروي، خواطر الصباح، ص 40
[4]ـ يقول العروي، رواية الآفة: «وتستكشف الآفة آفاق مستقبل مظلم. لا دور هنا للعقل، كلُّ شيء مبني على الحدس والخيال». (حوار مع مجلة النهضة: مجلة النهضة، العدد 8، ربيع صيف 2014، ص 11).
[5]ـ العروي، عبد الله، ((الحداثة واقع اجتماعي ومنهج نقدي))، حوار مع محمد الداهي، النغمة المواكبة: قراءات في أعمال عبد الله العروي، تأليف جماعة من الباحثين، شركة النشر والتوزيع المدارس، 2015، ص ص 15-16
[6]ـ بهدف حفظ ما وقع في لحظة معينة من الزمن، المقصود هو ((الوحي)). أنظر الصفحة 155، هذا ما يقصده العروي حين الحديث عن "المشهد الذي يكون أساس التقليد".
[7]ـ يريد العروي أن يشير من خلال هذه النقطة إلى دهاء ومكر الآخر، وتعاملنا معه نحن على أساس حسن النيَّة. وكان قد صوَّر المسألة نفسها، حيث أفرد لها حيزاً في نهاية رواية (أوراق).
[8]ـ عبد الله العروي، عوائق التحديث، سلسلة محاضرات الشهر، الرباط، منشورات اتحاد كتاب المغرب، 2006، ص 23
[9]ـ العروي، رجل الذكرى، مرجع سابق، ص 6
[10]ـ قد يلاحظ القارئ أنَّنا تطرقنا للحديث عن الشكل، إذ ساعدنا على فهم مغزى الرواية. والمغزى رغم أنَّه مستهدف إلا أنَّه الأهم، فيعود وكأنَّه الأصل والغاية، وفي الوقت نفسه يتحوَّل إلى موضوع.
[11]ـ المارشال هيبرت ليوطي، المقيم العام الفرنسي في المغرب بين عام 1912 و1925
[12]ـ الزمن حاضر في أغلب مؤلفات العروي (مفهوم العقل، السنّة والإصلاح، دين الفطرة، خواطر الصباح)، وكأنَّ العروي مجرَّد ناطق بلسان الزمن. حتى يمكن أن نلخص المشروع الإصلاحي للعروي بأكمله في هذه النقطة، فكلُّ من يواجهه العروي من الخصوم (الفقيه، المتكلم) يواجهه من منطلق الزمن، وكلُّ ما يقوله فمن منطلق الزمن. هذه نقطة أساسية إذا أردنا أن نحكم على مشروعه بموضوعية.
[13]ـ يقول في السنّة والإصلاح: «تجديد السنّة يعني بالضبط استحضارها بعد نسيان، استئنافها بعد تعثر، استجلاءها بعد خفاء. السنّة يتمُّ إنعاشها، إبرازها، تبيانها، لا تصحيحها، تطعيمها، تلقيحها» (السنّة والإصلاح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، 2010، ص 170). وفي مفهوم العقل: «... هذا ما يُسمَّى وحدة جوهر العلم وهو ما يميز الذهنية الكلامية. حيثما عمَّت لم يعد معنى لا للجمود ولا للتجديد بالمعنى العادي، إذ يعني الأول بالضرورة الغفلة أو الجهل أو النسيان، والثاني الوعي أو العلم أو الذكر» (مفهوم العقل، الدار البيضاء - بيروت، المركز الثقافي العربي، 2005، ص 104).
[14]. http: //www.wassilykandinsky.net/work-505.php.
[15] ـ نلفت انتباه القارئ إلى أنَّ هذه الشخصية تتضمَّن مميزات (افتراضات) معينة هي نفسها المضمنة في بعض الأسئلة التي يطرحها العروي في السنّة والإصلاح حول شخصية الرسول (ص 115). لقد طرح تلك الأسئلة على العلوم العصبيَّة، وفي أثناء ذلك حاول أن يعطي إجابات (افتراضات خيال علمي) استثمرها في الرواية. وعلاقة هذه الرواية وثيقة الصلة مع السنّة والإصلاح، خاصة وأنَّ العروي كان يشتغل حولهما في الفترة نفسها. قارن مع ما يقوله عن إبراهيم الخليل في السنّة والإصلاح وحديث كوون (ص 110) من الرواية، وكذلك مسألة الذاكرة في الفصل الرابع من السنّة والإصلاح المعنون بـ "التوبة والنداء" ومسألة الذاكرة في الرواية.
[16]ـ العروي، عبد الله، الأيديولوجيا العربية المعاصرة (صياغة جديدة)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-بيروت، 1995، ص255.
[17]ـ ليست قراءتنا هنا قراءة تقنوية (داعية التقنية) صرفة، إذ نعي أنَّه لا بدَّ من توفر مقومات المجتمع الحديث التي هي في الوقت نفسه مقوماتها من علمية وحرية وديمقراطية.. أولاً، إلا أنَّ هذه (التقنية) أصبحت اليوم غاية كلّ تنظيم اجتماعي واقتصادي، بل أصبحت تعود لتتحكم في هذه المجالات (في تنظيم المجال، في إصلاح التعليم، ... إلخ).
[18]. La revue ECONOMIA n°4 / octobre 2008 – janvier 2009, p 122.
[19]ـ العروي، خواطر الصباح، مصدر سابق، ص 80