روح الحوليات والحاجة إلى تجديد الكتابة التاريخية: قراءة في كتاب "الصحافة والتاريخ" للمؤرخ الطيب بياض
فئة : قراءات في كتب
أولا- استهلال في ما بين الصحافة والتاريخ من اتصال:
"تبدو العلاقة بين الصحافة والتاريخ محكومة في بعض الكتابات بالتمايز والمفاضلة حينا، وبتنازع الاختصاصات وسؤال المشروعية والأحقية أحيانا أخرى، في صورة مشهدية يتراءى فيها الصحافي والمؤرخ يستلّان سيفيهما في ساحة الوغى، فيتطاير النقع قبل استجلاء من يظفر بغنيمة الخبر...". هكذا يبتدئ المؤرخ الطيب بياض مقدمة كتابه "الصحافة والتاريخ، إضاءات تفاعلية مع قضايا الزمن الرّاهن" محاولا رصد الصراعات الزائفة، والمصطنعة بين التاريخ والصحافة في بعض الكتابات، التي تجعل من الخبر غنيمة ومفازة، وهي تصورات لا يمكنها أن تصدر إلا من أولئك الذين لم يبرحوا كهف المؤرخ الإخباري التقليدي، ولم يتحرّروا من عبادة الأصنام، أصنام قبيلة المؤرخين على حد تعبير السوسيولوجي الفرنسي فرانسوا سيميان François Simiand، الذي دعا المؤرخين إلى ضرورة التخلص من بهرجهم وتجديد أنفسهم، ليتمكنوا من العبور من المفرد إلى الظاهرة المنتظمة (التحرر من الصنم الفردي)، وإلى العلاقات الثابتة التي تسمح باستنباط قوانين علمية ومنظومات السببية (التحرر من صنم التسلسل التاريخي)، وتحويل ملاحظاتهم من الفردي إلى الاجتماعي (الاهتمام بالاجتماعي والتحرر من صنم التاريخ السياسي)، وهي الدعوة نفسها التي يوجهها المؤرخ الطيب بياض للمؤرخين من قبيلته في هذا الكتاب، لفهم عمق العلاقة التي تربط بين الصحافة والتاريخ. فالمؤرخ المجدد لا يجد أية حاجة للتبرم من مزاحمة الصحافي لحقل اشتغاله. "إذ الانفتاح المنتج على مختلف مجالات المعرفة الإنسانية يشكل أحد مرتكزات فهمه المجدد للكتابة التاريخية، ومن معايير نجاحه التملك الرصين لأدوات صنعته الكفيل بجعل المعارف التي تنتجها باقي التخصصات في خدمة الكتابة التاريخية التي يتصدّى لها، مع التشديد على مركزية أحد أهم أدوات هذه الصنعة؛ أي نمط الكتابة وأسلوب التعبير ولغة إيصال المعنى؛ فالأسلوب الأدبي الشيّق لا ينقص من علمية المعرفة التاريخية، بل يضمن لها حفاوة الاستقبال والوقع الحسن في نفوس القراء"([1]).
هذا الأسلوب الأدبي الشيّق هو بمثابة المعبر أو طقس مرور التاريخ نحو الصحافة؛ فهو يضمن له حفاوة الاستقبال، ويزيل التكلس عن قلم المؤرخ، فتصير لغته ناعمة غير متخشبة، وأسلوبه سلس ينفذ إلى النفوس والأذهان، ويرفع من درجة اللذة والمتعة عند القراءة، فيجعل بذلك بضاعة المؤرخ رائجة في سوق الحَرْف، غير كاسدة، أو مثيرة للاشمئزاز والنفور. ولعمري، إن من يقرأ كتابات الطيب بياض، وخصوصا كتاب "الصحافة والتاريخ" ليقف على جمالية أسلوبه وأناقة تعبيره ودقة مفاهيمه وانسيابية لغته، بشكل يجعلك تقرأ التاريخ، وكأنه فن أدبي رفيع. وهذا أمر قلّ نظيره عند المؤرخين، إلا الكبار منهم، الذين لا يعتقدون أن في سلاسة الأسلوب خطرا على الدقة والموضوعية. يقول جورج دوبي: "أرى أن التاريخ هو فن في المقام الأول، وفن أدبي خصوصا. لا وجود للتاريخ إلا بواسطة الخطاب، ولكي يكون التاريخ جيّدا لا بد للخطاب من أن يكون جيّدا"([2])، متمنيا في ذلك للمؤرخ أن تكون له موهبة أدبية تجعله قادرا على تطويع معرفته النظرية والتعبير عنها بلغة سلسة تخترق الأذهان وتبسط الأفهام. فالتاريخ كما يقول المؤرخ الهولندي يوهان هويزنكا Johan Huizinga ليس فرعا من فروع المعرفة فحسب، بل هو أيضا نمط فكري لفهم العالم.
انطلاقا من هذه القناعة، سيكتب الطيب بياض في موضوع الصحافة والتاريخ. ولعلّنا نعتبره في ذلك من بين المؤرخين الأوائل في الوطن العربي الذين طرقوا هذا الباب الذي ظل موصدا عبر تاريخ البحث التاريخي العربي. فالرهان عنده ليس صدّ من يتطاول على طهرانية التاريخ ويخترق حدوده، خاصة من قبل الصحافيين الذين ينعتون بمؤرخي اللحظة، بل الرهان، وكل الرّهان على الحاجة إلى تجديد الصنعة التاريخية لفهم العطب الذي تعاني منه المجتمعات العربية، والمجتمع المغربي على وجه الخصوص، خاصة بعد فترة ما عرف بثورات الربيع العربي. فكيف إذن، بنى الطيب بياض معمار هذا الكتاب؟
ثانيا- معمار الكتاب وهندسته:
جاء كتاب "الصحافة والتاريخ، إضاءات تفاعلية مع قضايا الزمن الراهن"، الصادر عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر، في 175 صفحة من القطع المتوسط. شغل فيها تقديم الكاتب والصحفي "إدريس كسيكس" للكتاب صفحتين (9-10)، ثم مقدمة للمؤلف شغلت ثلاث صفحات (11-12-13) أراد فيها تقويض أسس الصراع المصطنع بين الصحافة والتاريخ. أما قسم البيبليوغرافيا، فشغل أربع صفحات (من الصفحة 164 إلى الصفحة 166)، ثم فهرس ألفبائي بأسماء الأعلام المضمنة في الكتاب، شغل تسع صفحات (من الصفحة 167 إلى الصفحة 175). باقي الصفحات ستتوزع على قسمين: الأول نظري-منهجي، والثاني تطبيقي. خاض المؤلف في القسم الأول، نقاشا إبستيمولوجيا عميقا لترسيم موقع التاريخ على خريطة العلوم الاجتماعية، وذلك عبر خلق حوار جدلي ومنتج بين حرفة الصحافي وصنعة المؤرخ. أما القسم الثاني، فجعله المؤلف محلالا لاختبار مدى صلاحية العدة النظرية والخطة المنهجية التي تبناها في مقاربة وفهم العديد من المواضيع والأحداث التي شكلت مجالا لتجربته في مجال الصحافة ضمن مجلة "زمان" في نسختها العربية ضمن عمود "للتاريخ إضاءة".
"التاريخ والصحافة: تبادل خدمات، تقاطع غايات واختلاف آليات" هو عنوان القسم الأول من الكتاب (من الصفحة 15 إلى الصفحة 61). اشتمل على أحد عشر محورا، سرت في جسد مواضيعها روح مدرسة الحوليات، وذلك من خلال استدعاء أعلامها الكبار أمثال: مارك بلوك، لوسيان فيفر، فرناند بروديل، جاك لوغوف وآخرون. استهل المؤلف حديثه في هذا القسم بالتساؤل عن جدوى التاريخ، وهو التساؤل الذي طرحه مارك بلوك في كتابه "دفاعا عن التاريخ أو صنعة المؤرخ"([3]) في أعقاب الهزيمة المريرة التي عرفتها فرنسا أمام ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية، حيث سيعود المؤلف الطيب بياض في المحور الرابع لتحليل حدث هذه الهزيمة الغريبة([4]) التي لم تكن فقط هزيمة عسكرية متعلقة بتفاوت العدة والعتاد والأعداد على طول جبهات القتال، بل إلى إفلاس الفكر والإدارة.
إن فهم الأسباب الحقيقية للهزيمة في نظر مارك بلوك مشروطة بتجاوز الظرفي إلى البنيوي وإدراك تمفصلاتهما، والبحث في الأسباب السياسية والثقافية والاقتصادية التي لا يمكن استيعاب مفعولها، إلا إذا تم النظر إليها على المستوى الأمد المتوسط والطويل. هذا يعني أن طرح سؤال ما جدوى التاريخ لم يكن يروم من ورائه مارك بلوك إيجاد تفسير للهزيمة بقدر ما كان يروم من ورائه الدفاع عن صنعة المؤرخ بالدعوة إلى تجديدها. ولئن كان موضوع التاريخ هو الإنسان حسب مارك بلوك، مقتفيا في هذه القناعة أثر العظام أمثال ميشلي وفوستيل دو كولانج، فإن المؤرخ الطيب بياض لم يفوت الفرصة في كتابه هذا للاحتفاء بالتجربة الإنسانية، خاصة تجربة الحب التي لا تؤمن بلغة الإيديولوجيا أو الحدود السياسية أو البروتوكولات الدبلوماسية، فجاء المحور الخامس معنونا بـ "الحب في زمن الحرب الباردة" تناول فيه المؤلف قصة الحب التي جمعت المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف بزوجته الطبيبة البولدنية هانكا.
"إضاءات في النوفيل أوبسرفاتور"، "التاريخ بأقلام صحفية"، "جون لاكوتير: الصحافي المؤرخ المرجع"، محاور ضمن هذا القسم الأول من الكتاب أراد من خلالها المؤلف تقديم أشكال راقية من الحوار الفعال والمنتِج الذي جمع بين الصحافة والتاريخ، ومن ثمة، تقديم تجارب ناجحة لمؤرخين خاضوا تجربة الكتابة الصحفية دون أن تحترق صورتهم أو يفقدوا رصيدهم الأكاديمي، كما هو حال فرانسوا فوريه François Furet، خاصة وأن "فهم الأحداث اليومية يستدعي إضاءة إضافية وأسئلة غميسة من لدن المؤرخ"([5]). أو لصحافيين خاضوا غمار الكتابة التاريخية كما هو حال الصحافي/ المؤرخ فانسون كيفي Vincent Quivy الذي يعتبر الصحافة تاريخا بلا مؤرخ، ينبغي لها تجديد صنعتها كما جدد المؤرخون من صنعتهم، إذ "على الصحافي الاقتداء بالمؤرخ المجدد في الاشتغال على ذاته للرفع من مستوى تكوينه وتطوير مهاراته وأدوات عمله"([6])، وهو الأمر نفسه الذي سيحصل مع الصحافي المصري الشهير "محمد حسنين هيكل"، دون ادعاء تملك القدرة على كتابة التاريخ أو التطاول على آل الصنعة من المؤرخين، بقدر ما كانت هذه التجارب نوعا من الكتابة المنفتحة على حقول معرفية مختلفة، كما يقول المؤلف الطيب بياض. كما لا يمكن تمثل هذه التجارب على أنها نوع من صراع الديكة المفترض بين الصحافة والتاريخ كما يقول جون لاكوتير Jean Lacouture مؤكدا على تقاربهما، خاصة وأنه راكم من الخبرة والتجربة والتكوين في مجال الكتابة الصحفية ذات النفس التاريخي، ما جعله مرجعا في كل حديث عن علاقة الصحافة بالتاريخ تنظيرا وكتابة([7]).
في الحقيقة من يطلع على كتابات المؤلف الطيب بياض، ويلمس تشبعه بفكر مدرسة الحوليات ونظرتها للتاريخ وآليات الكتابة التاريخية، يوقن بأن دفاع الرجل عن علاقة الصحافة بالتاريخ في هذا الكتاب، ومن خلال هذه المحاور تحديدا ليس أمرا جديدا ولا فتحا مبينا بالنسبة إليه؛ فهو جد مقتنع بضرورة الانفتاح على مختلف التخصصات والحقول المعرفية لتجديد الصنعة وتطوير أدوات الكتابة التاريخية وجعلها كتابة منفتحة، غير منكفئة على ذاتها، ناسكة متعبدة لأصنامها، بل لابد للمؤرخ خاصة في زمن التقنية وثورات الإعلام والاتصال أن ينخرط في شروط عصره، ويغترف من خيرات هذه الثورة الإعلامية، ويمدّ جسور التواصل مع رجالات الإعلام ومؤسساته الصحفية بما يضمن لبضاعته نوعا من الاحتضان والترويج. لذلك، فالرسالة التي يود المؤلف إيصالها إلى القارئ من بني جلدته على نحو خاص، هي أن الصراع الحقيقي ليس مع الصحافيين، والصحافة لا يمكنها أن تشكل خطرا على التاريخ، بل هو مع العلوم الاجتماعية الأخرى التي تسعى إلى التهام التاريخ ومهاجمة قلعته كما استشعر ذلك في السابق، رائدا مدرسة الحوليات "لوسيان فيفر" و"مارك بلوك" من طموح السوسيولوجيا الدوركهايمية في توحيد كل العلوم الإنسانية بما فيها التاريخ تحت رايتها من خلال مفهوم السببية الاجتماعية، وهو صراع أيضا ضد التصورات الوضعانية التي ما زالت تحكم منطق البحث والكتابة التاريخية لدى العديد من المؤرخين اليوم. هذه الرسالة جاءت في المحور الثاني تحت عنوان: "المؤرخ يعيد الاعتبار لصنعته ويجيد التموقع". لذلك، فلا بد من تجديد الصنعة التاريخية حتى يستطيع المؤرخ بسط سلطته وإعادة الاعتبار لحرفته وتحصين موقعه في مختلف مراكز السيطرة العلمية والسلطة المعرفية خاصة بالجامعات، التي شكلت الركيزة الأساسية لقوة التاريخ الجديد([8]).
إذا كان هذا التاريخ الجديد الذي حملته مدرسة الحوليات لا يعترض على النهل من مختلف الحقول المعرفية، حتى الأدبية منها. معتبرا أن الأدب تاريخ بلغة أخرى تحتم على المؤرخ المجدد أن يجيدها، ويحسن استعمالها، حتى يتملك القدرة على تجويد صنعته، وجعلها أكثر تداولا واستهلاكا، فإن المؤلف في المحور التاسع جعل من متعة قراءة التاريخ وفن كتابته مع الصحافي المغربي اللامع "محمد باهي حرمة" مناسبة للاحتفاء بالرجل وبجمالية الكتابة التاريخية عنده. مستدلا مرة أخرى لأهل التاريخ، على حسن الجوار الذي يربط الصحافة والتاريخ، قاطعا الطريق على كل محاولة تروم التشكيك في صفاء هذه العلاقة، أو تسعى إلى اختلاق صراع بينهما، هامسا في أذنهم بضرورة التخلي عن تلك الطريقة القديمة في الكتابة التي تحنط المعرفة التاريخية، وتجعل لغة المؤرخ خشبية تخلق النفور، مع السعي إلى اكتساب لغة جميلة وانسيابية تغري القراء كما يغري الشلال المنساب بالنهل من معينه، ومطمئنا إياهم بأن الأسلوب الأدبي الشيق لا ينتقص من قيمتهم ولا من علمية إنتاجاتهم، ولا يزدري من مكانة صنعتهم في سوق الصناعات العلمية والثقافية.
ولئن كانت الحاجة إلى إقناع المؤرخين المغاربة بالتعالق والتفاعل الحاصل بين الصحافة والتاريخ في إضاءة العديد من قضايا الزمن الراهن، حاجة ماسة. فتجربة مجلة زمان، شاهدة على الوصل بين الصحافة والتاريخ في المغرب، ضاربا في ذلك المؤلف عبر المحور العاشر العديد من الأمثلة على صحافيين أبدعوا في مجال الكتابة الصحفية التي تنهل من معين التاريخ كما هو حال "محمد العربي المساري" أو مع مؤرخين استثمروا رصيدهم العلمي وخبرتهم الأكاديمية في كتابة تاريخ المغرب كما هو حال المؤرخ "المصطفى بوعزيز" والمؤلف نفسه من خلال تجربته الصحفية في مجلة زمان عبر عموده الشهري "للتاريخ إضاءة". هذا الأخير، جعله المؤلف عنوانا للمحور الحادي عشر، الذي بين فيه الغرض من عموده الشهري بمجلة زمان، والمتمثل في "محاولة فتح زاوية لفهم الظرفية من خلال البنية المفسرة لها؛ أي جعله في خدمة أهم وظائف التاريخ المتمثلة في إقامة علاقة تفاعلية بين الحاضر والماضي، بما يجعل فهم الحدث الظرفي لا يستقيم إلا بوضعه في سياقه الشارح؛ أي البنية الممتدة في الزمن"([9]).
بالنسبة إلى القسم الثاني من الكتاب (يمتد من الصفحة 63 إلى الصفحة 162)، فتم توقيعه بعنوان: "إضاءات وتفاعلات". اشتمل على حوالي تسعة وعشرين فصلا موزعة على موضوعات تهم التاريخ الاقتصادي (مجال تخصص المؤلف) والاجتماعي والسياسي والدبلوماسي والفني والأدبي... وهي في الحقيقة موضوعات شكلت أهم انشغالات المؤلف كمؤرخ/ صحافي في مجلة زمان التي عمرت زهاء ثلاث سنوات (ما بين 2013 و2016)، إضافة إلى مقال بنفس زاوية المعالجة التفاعلية التي طبعت تجربة عمود "للتاريخ إضاءة" نشر في صيف 2018 بمجلة "النهضة" تحت عنوان: "من البوعزيزي إلى داعش، محاولة في فهم أسباب الانزياح".
حاول المؤلف في هذا القسم اختبار القدرة التحليلية للخطة المنهجية والعدة النظرية التي تم تبنيها في القسم الأول من الكتاب في قراءة وفهم العديد من الأحداث التي تفاعل معها المؤلف كمؤرخ وصحافي جعل من الإعلام منصة لإسماع صوت المؤرخ الذي لا يقف عند الظرفي كما يفعل الصحفي أو رجل السياسة والاقتصاد أيضا، بل يبحث عن جذور الحدث في الزمن البعيد، ليعيد حبكة الحدث بربطه بسياقه التاريخي وبنيته الشارحة، وهو في ذلك يقتفي أثر رواد مدرسة الحوليات أمثال: مارك بلوك، لوسيان فيفر، فرنان بروديل...، فلماذا الحاجة إذن إلى روح الحوليات؟
ثالثا- روح الحوليات والحاجة إلى تجديد الكتابة التاريخية:
"لقد استيقظ متأخرا جدًّا، كبومة مينرفا". هكذا وصف المؤرخ الفرنسي بول فاين Paul Veyne الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر Martin Heidegger في معرض إدانته لتصور هيدغر للتاريخ على أنه ليس إسقاطا للحاضر في الماضي يقوم به الإنسان، بل إسقاط للجزء الأكثر تخيلا لماضيه، وإسقاط للمستقبل الذي اختاره على الماضي؛ أي إنه تاريخ/ سرد خيالي، تاريخ/ رغبة بشكل معكوس([10]). أما المؤلف، فيرى في الكثير من بني جلدته من المؤرخين، أنهم ما يزالون يغطون في سباتهم العميق، وأمر استيقاظهم ولو متأخرا، كما هيدغر ضرب من المحال. لذلك نجده منذ مقدمة كتابه عازم على تكسير الجرة فوق رؤوسهم، لعلهم بذلك يستيقظون من سباتهم، ويخرجون من كهوفهم المظلمة، ليبصروا المسارات التي فتحها التاريخ الجديد، وليشدوا العزم على تجديد صنعتهم ورد الاعتبار إليها، وتغيير أدوات اشتغالهم، وتحصين مواقعهم بفتح آفاق جديدة للبحث والكتابة التاريخية، على نحو يجعلها قادرة على تقديم تفسيرات أعمق للحياة الاجتماعية في مجملها، غير أن هذا الأمر لن يحصل إلا إذا امتلك المؤرخ القدرة على السير بحرية بين الماضي والحاضر دون السقوط في غواية أحدهما، وبالتالي فقدان الخيط الناظم بين الواقع والحدث من جهة، والسياق والبنية من جهة ثانية. فما الجدوى من التاريخ إذا لم يضمن للمؤرخ أولا امتلاك هذه القدرة؟ وما جدوى الكتابة التاريخية، إذا لم تسعف في فهم ما يجري وربطه بالماجرى، خاصة إذا علمنا مع عبد الله العروي "أن الحدث التاريخي بالمعنى الدقيق غير موجود. الموجود بالفعل هو الماجرى، الواقعة العابرة العارضة البالغة التجريد، التي ترى ولا تنظر، والواقعة المتواترة التي تصبح قانونا. الحدث التاريخي هو في الواقع حدث المؤرخ وللمؤرخ؛ أي نتيجة بحث ونظر وتحقيق"([11])؛ أي ما جدوى هذه الكتابة إذا لم تمكننا من إدراك البنيات المفسرة للواقع كبناء، لا كمعطى جاهز، مكتمل في الوثائق والأرشيفات وسير الرواة؟
ما جدوى التاريخ؟ سؤال يطرحه المؤلف الطيب بياض على منوال مارك بلوك، وهو في الحقيقة سؤال في إبستيمولوجيا التاريخ، يروم البحث في شروط إمكان معرفة تاريخية موضوعية، ويسائل مصادر مشروعيتها. لكن الملاحَظ أنه نادرا ما يكتب المؤرخ في شروط إنتاج معرفته، فذاك أمر يضطلع به فيلسوف العلم. وبالرغم من ذلك، فهذا لا يعفي المؤرخ من أن يكون له اهتمام بما يقع في حقول معرفية أخرى، واطلاع بنتائج الدراسات النقدية للعلوم والمعارف بما فيها التاريخ نفسه. غير أنه لما يضطلع المؤرخ بالتساؤل عن شروط إمكان صنعته، فلابد من الأمر أن يكون جللا، كأن يستشعر المؤرخ خطرا داهما قد يحطم قلعته، أو زحفا لعلوم أخرى آخذة في التطور والتوسع قد تمحي أثره من على خريطة العلوم الاجتماعية (مثال خطر زحف السوسيولوجيا الدوركهايمية على التاريخ)، أو قد ينبع من استشعار المؤرخ لوهن ما قد نال من صنعة المؤرخين، يقتضي الدفاع ورد الاعتبار إلى الصنعة بالسعي إلى تجديدها وشحذ همم أصحابها، مثلما قد يكون نابعا من إحساس المؤرخ بخيبة الأمل تجاه فشل كل المشاريع التنموية ببلده وتوالي الانتكاسات الحضارية لأمته. لكن إذا كان مارك بلوك قد طرح سؤال ما جدوى التاريخ في أعقاب الهزيمة الغريبة لفرنسا أمام ألمانيا النازية، مدافعا عن التاريخ وصنعة المؤرخ، فما هي الظروف التي آلت بالمؤلف إلى أن يسير على هوى بلوك، ويطرح سؤال جدوى التاريخ؟
الجواب عن هذا السؤال يقتضي أولا في نظر السوسيولوجي المغربي "جمال فزة"، فهم وجه الغرابة في هزيمة فرنسا، حتى نفهم بعد ذلك لماذا ينصرف المؤرخ إلى الانهمام، في غمرة الهزيمة، بسؤال في ابستيمولوجيا الصنعة التاريخية؟ أليس في الأمر ترف زائد عن الحد المعقول، أم هو وفاء غريب للصنعة يفرض علينا الوقوف على الأمر وقفة جادة؟
ليست فرنسا المعني الوحيد بالهزيمة، في نظر مارك بلوك، وإن كان قد رأى في حقيقة أمر هزيمتها إفلاسا للفكر والإدارة، رغم تخصيصه الحديث عن سببها المباشر المتمثل في عجز القيادة؛ بل هي في العمق هزيمة للحضارة الغربية برمتها، اندحرت فيها أوروبا المستقبل أمام أوروبا الماضي، أو قل أوروبا القيم الكونية أمام أوروبا العرق. ولعل ما يضفي على الهزيمة غرابة ويزيد الغرابة حدة، تجذر فكرة التقدم في العقلانية الغربية، حتى صارت من بداهتها، فسار التاريخ بها مسيرة تتجه نحو المستقبل بثبات، مخلفة وراءها كل مظاهر التوحش والبدائية والتعصب([12]).
ولعل القارئ لكتاب "التاريخ المفتت" للإبستيمولوجي والمؤرخ الفرنسي فرانسوا دوس François Dosse ليجد فيه أثرا كبيرا لهذه القراءة العميقة لحدث الهزيمة الغريبة لفرنسا أمام غريمها الألماني؛ فقبل الحرب كانت أوروبا مركز العالم، وكان الخطاب الأوروبي- المركزي للمؤرخين متناسبا مع عالم وحدته الرأسمالية وهيمنت عليه لندن وباريس، غير أنه بعد الحرب (المقصود الحرب العالمية الأولى والثانية أيضا) ستخرج أوروبا منهكة من جراء النزيف البشري، حيث الضحايا بالملايين، والدمار المادي كبير جدّا. بالمقابل، ستبرز قوى جديدة أكثر حيوية مثل اليابان، وبنوع خاص الولايات المتحدة الأمريكية، مشكلة بذلك لعالم جديد صارت فيه أوروبا تابعة، بعدما كانت هي مركز العالم ومنارته. لقد كانت طبول الحرب تَقرع في الحقيقة نهاية "الزمن الجميل" لأوروبا التي نرى بوادر أفولها أو انحطاطها([13]). هذا الأفول كان بمثابة خريف الحضارة الغربية الذي بدأت أوراقه تتساقط مع هبوب رياح مطلع القرن العشرين كما بين ذلك العديد من الفلاسفة والمفكرين، أمثال: أوزفالد شبنغلر في كتابه "أفول الغرب" (1920) وألبرت دمنجيون في كتابه "أفول أوروبا" (1920).
يبدو إذن، من تحليل مارك بلوك للأسباب الحقيقية لهزيمة فرنسا، أن الحدث لا ينبغي فهمه في فرادته والنظر إليه منعزلا عن باقي شروط إنتاجه؛ فالظرفي العابر هو في الحقيقة ممتدّ في الزمن الماضي، ومن ثمة فالحاضر منغرس في الماضي، وصورة هذا الأخير لا تكتمل إلا وفق شروط الحاضر ورهاناته. فالحاضر والماضي يضيء كلاهما الآخر بنورهما المتبادل كما يقول فرنان بروديل Fernand Braudel. ولعل العبارة التي ظلّ يرددها لوسيان فيفر خلال السنوات العشر الأخيرة من حياته: "التاريخ علم الماضي وعلم الحاضر"، توجز بقوة وعمق هذا الفهم الجديد لتحليل الأحداث والوقائع التاريخية الذي يقوم على ضرورة وجود علاقة تفاعلية بين الماضي والحاضر بما يجعل فهم الحدث الظرفي لا يستقيم إلا بوضعه في سياقه الشارح؛ أي البنية الممتدة في الزمن كما يقول المؤلف الطيب بياض؛ "فلكم تبدو حقا فكرة اعتبار التاريخ علما للماضي أمرا سخيفا"([14]).
لاشك في أن الأزمة التي خلفتها الحرب قد مثلت للمؤرخ إفلاسا للتاريخ - المعركة الذي لم يعرف كيف يمنع البربرية([15])، غير أن أزمة التاريخ هذه لم تكن مرضا خاصا فتك بالتاريخ وحده. لقد كانت أحد المظاهر، بل الظاهرة التاريخية البحتة لأزمة كبرى في الفكر البشري([16]). لذلك، لابد من الاستعاضة عن تاريخ ثبت تورطه في الهزيمة، تاريخ قومي صرف، متعصب، كان عقيدة لجيل كامل من الشباب منذ هزيمة فرنسا أمام الألمان سنة 1870، وخسارتها لإقليمي الألزاس واللورين. تاريخ يغذي الذاكرة الجماعية ويشتغل على ماضي الأمة حتى في انكساراتها وهزائمها، ويقدم نفسه بلسما شافيا لجروحها، "فمن سيعترض من أسلافنا على فائدة التاريخ وجدواه، فهو يوضب لهم موتا كريما، ويقيم لهم جنازة لائقة، ولا خوف عليهم، حتى وإن نال منهم الأعداء وانهزموا، فإن للتاريخ سحرا يحول غبن الهزائم النكراء إلى اعتزاز بأمجاد سلف يشفع لهم، عند الهزيمة، أنهم قاتلوا حتى النهاية من دون استسلام"([17]).
كشف عيوب هذا التاريخ السردي، التاريخ السائد أو التاريخ الوضعاني، ونسف أسسه، ثم السعي نحو إضفاء الصبغة العلمية على التاريخ، وهي الصبغة التي كان يفتقدها آنذاك؛ إذ اعتبر التاريخ في صيغته التقليدية غير جدير بلقب العلم، لافتقاده العديد من أدوات اشتغال العلوم التجريبية([18]). مع العمل أيضا على تحصين قلعة التاريخ ضد الزحف الذي مثلته العلوم الاجتماعية والسوسيولوجيا الدوركهايمية على وجه الخصوص. كانت من أبرز رهانات رائدي مدرسة الحوليات (لوسيان فيفر ومارك بلوك). وباختصار، يمكن القول، إن الرهان ارتبط أساسا بالسعي نحو تجديد صنعة المؤرخ بتجديد المنظورات وآليات العمل، حتى لا يصير التاريخ آلة للتبرير وإضفاء المشروعية على الهزائم والانتكاسات، ويصير المؤرخ صانعا للارتكاسات. فما هي، بالمقابل، رهانات المؤلف بياض في طرح سؤال جدوى التاريخ؟ وأين يمكن القبض على روح الحوليات في كتابه "الصحافة والتاريخ"؟
لا مراء في أن انحطاط الحضارة العربية الإسلامية، وتوالي هزائم وانكسارات الدول العربية منذ معاهدة سايس بيكو (1916) ووعد بلفور (1917)، وتردي أوضاع شعوبها التي ثارت مؤخرا ضد حكامها وأنظمتها الفاسدة مطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ضمن ما سمي إعلاميا بثورات الربيع العربي، والتي انزاح فيها هذا الربيع المزهر نحو صيف حارق بنيران البنادق والمدفعيات الثقيلة وفتاوى داعش الدموية، فصار الأمن أعز ما يطلب بدل الحرية والكرامة، إضافة إلى فشل المشاريع التنموية بالمغرب منذ الاستقلال إلى اليوم، وما رافق هذا الفشل من احتباس في الحياة السياسية والاقتصادية وتردّي الأوضاع الاجتماعية لأسباب كافية لدفع المؤلف/المؤرخ للتساؤل عن جدوى التاريخ والدعوة إلى تجديد آليات اشتغاله، خاصة إذا كان هذا التاريخ لا ينتج سوى الأوهام، ويدفع نحو الانغلاق ورفض الآخر، ويتبرم من التجديد باسم الحفاظ على التراث وعلى الهوية الوطنية، ويمنع كل إمكانية لفهم الحاضر وإعادة بناء وترتيب الأحداث والوقائع التاريخية الماضية وفق رهانات هذا الحاضر وإكراهاته أيضا.
هذا الوعي بضرورة تجديد حرفة المؤرخ، وبث روح جديدة في جسد التاريخ، وفتح مسالك وآفاق رحبة للبحث التاريخي بالمغرب على وجه الخصوص، بما يمكن من إعادة بناء الماضي وترتيب أوراقه المبعثرة، وفهم الحاضر بأحداثه المتسارعة ومشاكله المعقدة، قد بدا واضحا منذ الكتاب الأول للمؤلف. فكتابه "المخزن والضريبة والاستعمار" يعكس بقوة تشبع المؤلف بياض بهذه القناعة، ومغالبة التوجه العام الذي وسم الكثير من الدراسات التاريخية بالمغرب التي ظلت مرتهنة من حيث الزمن ضمن حدود القرن التاسع عشر، ومن حيث الموضوعات ضمن مجال التاريخ السياسي والعسكري والديني مع بعض الإحاطة بالجوانب الاجتماعية عبر مونوغرافيات مخصصة لهذه القبيلة أو تلك، كما يقول المؤرخ المصطفى بوعزيز في معرض تقديمه للكتاب (المخزن والضريبة والاستعمار). وإذا شئنا أن نقدم صورة معبرة وموجزة لحصيلة الكتابة التاريخية المغربية منذ الاستقلال إلى منتصف الثمانينيات، فهذه الصورة يمكننا النظر إليها من زاويتين: زاوية "التاريخ الوطني" الذي ساد خلال العشرينية الأولى الموالية للاستقلال (1956-1975)، وزاوية "التاريخ الاجتماعي" الذي طغى ما بين 1975 و1986([19]). خلال المرحلة الأولى، تميز الإنتاج الإسطوغرافي المغربي بالقلة من حيث الكم، والرد على الأطروحات الكولونيالية والدفاع عن الهوية الوطنية من حيث المضمون. وكان طبيعيا أو يؤدي الحماس الوطني المتأجج، والذي انعكس على التأليف التاريخي إلى المبالغة في عكس الصورة الاستعمارية لتاريخ المغرب، فرفضنا كل ما قام به المؤرخون الكولونياليون جملة وتفصيلا، وحملنا الأوروبيين مسؤولية مصائبنا([20]). أما مرحلة "التاريخ الاجتماعي"، فقد ارتبطت كما ذكرنا سابقا، بكتابة مونوغرافيات لبعض القبائل المغربية خلال القرن التاسع عشر. هذه الكتابة المنفتحة على التاريخ الاجتماعي كشكل من أشكال الرغبة في تجديد الكتابة التاريخية، ابتدأت محتشمة، لكنها في ما بعد ستتطور على نحو أعمق مع إسهامات مؤرخين وازنين أمثال عبد الأحد السبتي، محمد حبيدة، المصطفى بوعزيز، عبد الرحمان المودن، حليمة فرحات، عبد الرحيم بنحادة، لطفي بوشنتوف... غير أن ما ظل غائبا عن هذه الحركية في تجديد الكتابة التاريخية هو التاريخ الاقتصادي الذي يعمل من خلاله المؤلف على سد هذه الثغرة، ومواكبة هذه الحركية التي يشهدها حقل التاريخ بالمغرب، فدراسته لمالية المخزن المغربي في عهد الاستعمار، انطلاقا من ضريبة الترتيب خلال الفترة الممتدة ما بين 1880 و1915 جاءت لتؤكد أن القرن التاسع عشر لم يستوف بعد حقه من الدراسة الأكاديمية في مختلف جوانب البحث التاريخي، ولتكسير تلك القاعدة المتداولة في كتابة التاريخ، والمستندة على مبدأ التحقيب ودراسة كل مرحلة على حدة([21])، في حين يقتضي الأمر بحسبه، تقديم تفسير شامل للعديد من القضايا التي ظلت منسية أو مجزأة في أحسن الأحوال.
وهكذا، سيضعنا الطيب بياض في مؤلفه الأول في قلب الظرفية التي رافقت حدث فرض ضريبة الترتيب على أفراد المجتمع المغربي خلال أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وذلك بالبحث في البنيات الاقتصادية والاجتماعية لمغرب ما قبل الاستعمار، حتى يتسنى رسم صورة أوضح عن الأسباب الكامنة وراء فشل ضريبة الترتيب؛ أي ربط الحدث الظرفي ببنياته الشارحة التي تقتضي ضرورة العودة إلى الزمن الماضي والأخذ بمنطق المدة الطويلة. ولعل في هذه المنهجية التي اتبعها الطيب بياض استلهام واضح لمنهجية مدرسة الحوليات في دراسة الوقائع والأحداث التاريخية، حيث كان عنوان مجلتها "حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي" معبرا عن هذه المنهجية الجديدة في دراسة شمولية للمجتمع.
هذه المنهجية ستظل مستمرة في كتابات الطيب بياض، وستشكل محور تحليلاته لمختلف الأحداث التي تفاعل معها ضمن عموده الشهري "للتاريخ إضاءة" بمجلة زمان، والتي ستشكل عصب القسم الثاني من كتابه "الصحافة والتاريخ"، ليؤكد لنا أن التاريخ الاقتصادي هو من بين العناصر المحورية لتجديد الكتابة التاريخية، وتجاوز التاريخ السياسي العسكري الكلاسيكي وإعادة الاعتبار للمجتمع من أجل فهم مكوناته وشروط عيشه وديناميته وذاكرته وشروط حاضره ورهانات مستقبله. فتوظيف المؤلف بياض للتاريخ الاقتصادي ولفكر مدرسة الحوليات، لم يكن الغرض منه إضافة عربة جديدة لقطار الدراسات التاريخية بالمغرب، ولكن من أجل دمج عناصر تفسيرية مهمة لدراسة المجتمع المغربي في ماضيه وحاضره، "لأن المقاربة الاقتصادية تنصهر في مقاربة أوسع من المقاربة التاريخية الصرفة كما تنصرف في مجهود عقلنة النظام الاجتماعي"([22]).
لن نستغرب إذن، من أن يفتتح المؤلف بياض القسم الثاني من كتابه "الصحافة والتاريخ" بمحور "الاقتصاد والسيادة"، الذي يسعى فيه إلى التدليل على عمق الرابط بين السيادة والاقتصاد. فضمان سيادة الدولة على أراضيها ومؤسساتها ليس مشروطا فقط بوجود مؤسسات عسكرية وأمنية على كل التراب الوطني، بل بتقوية الاقتصاد الوطني وتحصينه ضد كل أشكال التبعية والوصاية التي تفرضها المؤسسات الدولية المانحة، والتي غالبا ما تنتهي بتهديد سيادة الدولة والتدخل في شؤونها الداخلية. ولفهم السياق الذي جاء فيه حدث زيارة لجنة خاصة تابعة لصندوق النقد الدولي للمغرب مرتين في ظرف زمني لا يتجاوز الستة أشهر، بين بداية سنة 2013 ومنتصفها، حيث اعتبرت أن الاقتصاد المغربي في وضع حرج يستدعي تدخلا عاجلا لإصلاح الصناديق الكبرى، خاصة المقاصة والتقاعد، مع ضرورة تقليص حجم الاستثمارات العمومية، إن هو أراد الاستفادة من خط السيولة الائتماني، لابد في نظر المؤلف من العودة بالزمن إلى الوراء، وربط هذا الحدث بأمور وقعت منذ أزيد من قرن ونصف، حيث لغة "الإصلاحات الاقتصادية" تحت التهديد ليست وليدة اليوم، بل انطلقت عمليا منذ التاسع من شهر دجنبر سنة 1856، حين وجد المغرب نفسه مجبرا على توقيع معاهدة مع بريطانيا أصابت سيادته على اقتصاده في مقتل، من خلال إجباره على الانخراط في منظومة اقتصادية دولية بنفس استعماري لم يكن مهيئا لها، والتحكم في تجارته الخارجية وسقف عائداته الجمركية([23]). لتتوالى بعد ذلك، سياسة الاقتراض منذ سنة 1904 إلى اليوم، حيث سيستمر مسلسل التبعية والإملاء الخارجي، ضمن سياق تراكم شارح للكيفية التي انتهت بها اللجنة التابعة لصندوق النقد الدولي برئاسة كريستين لاغارد، المكلفة بتقييم الاقتصاد المغربي، إلى الضغط على الحكومة للقيام بإصلاحات هيكلية، والذهاب إلى حد التهديد بتجميد القروض في حالة عدم أخذ المبادرة([24]).
هذه العودة إلى الماضي المتوسط أو البعيد في قراءة أحداث ومجريات الحاضر التي تفاعل معها المؤلف ضمن تجربته كمؤرخ وصحافي بمجلة زمان، تؤكد سعيه الدائم إلى خلق جسر تواصل وحوار بين الماضي والحاضر، وإقامة علاقة تفاعلية بينهما، وستشكل صلب منهجية اشتغال المؤلف على مختلف محاور القسم الثاني من الكتاب، وهي في الحقيقة منهجية تقوم على ما يسمى بالتشريح المتواصل للظواهر الذي يقصد به فرانسوا سيميان الملاحظة المتواصلة لظاهرة ما عبر الزمن من وجهة نظر تاريخية، وبالتالي القطع مع تلك الطريقة التقليدية في الكتابة التاريخية التي تعتمد على قاعدة التحقيب التاريخي للوقائع المدروسة، بل انطلاقا من مشكلات يتم إبرازها والبحث عن حلول لها([25])؛ فلا وجود لحدث تاريخي إلا داخل تاريخ مشكلة([26]). من أجل ذلك، لابد من التحرر من سلطة الوثيقة، والكف عن النظر إليها على أنها حمالة للحقيقة دون إخضاعها للفحص والمساءلة والنقد، انطلاقا من فرضيات عمل. "إن الوثيقة التاريخية تُستنطق وتُقوَّل لكي تبوح بالأسرار والخفايا... وسيكون من غير المجدي تصور أن كل إشكالية تاريخية، تتطلب في تحليلها نوعا خاصا وفريدا من الوثائق"([27]). وهذا الموقف الذي يتبناه المؤلف لَيعبر بقوة عن رفضه للتاريخ الوضعاني الذي تشكل فيه الوثيقة قانون الإيمان الأساسي للتاريخ، فإذا لم توجد وثائق، فلا يمكن لأي تاريخ أن يوجد. ولو بقي المؤرخون على هذه الحال، لما كان بإمكاننا اليوم الحديث عن تاريخ للذهنيات على سبيل المثال لا الحصر.
في الحقيقة، هذه المنهجية التي يتبناها المؤلف في تفسيره لمختلف الأحداث، والتي تقوم على التفاعل بين الماضي والحاضر يروم من خلالها المؤلف إضفاء صبغة اجتماعية على الماضي. فلوسيان فيفر يسمي هذه العلاقة التفاعلية بـ "الوظيفة الاجتماعية للتاريخ". يقول فيفر: "بناء على الاحتياجات الحالية، فإن التاريخ يجني الحوادث الماضية بانتظام، ثم يصنفها. وبناء على الحياة يسائل التاريخ الموت: أي ينظم الماضي استنادا إلى الحاضر، وهذا ما يمكننا أن نسميه الوظيفة الاجتماعية للتاريخ"([28]).
على سبيل الختم:
إذا كان ظهور مدرسة الحوليات قد ارتبط بأزمة الحضارة الغربية من جهة، وبأزمة الاقتصاد العالمي (الأزمة المالية لسنة 1929) من جهة ثانية، والتي حكمت على التاريخ آنذاك بالإفلاس، وهو ما حدا برواد هذه المدرسة إلى السعي نحو تجديد الكتابة التاريخية وفق شروط تساير التطورات الجديدة لحقل العلوم الإنسانية والاجتماعية ضدًّا على التوجهات الوضعانية، مع العمل على تبني منهجية جديدة في معالجة الأحداث التاريخية تقوم على ربطها بالأنساق والبنيات العامة، عوض كتابة تاريخ حدثي سردي كرونولوجي، كما دعت إلى تجديد مواضيع البحث التاريخي عبر إعطاء الأولوية للتاريخ الاجتماعي والاقتصادي بدل السياسي الذي أوصت بضرورة تناوله من زوايا نظر أخرى من قبيل "رمزية السلطة وتمثلها في المتخيل الجماعي"([29])، فإن استلهام المؤلف الطيب بياض لروح هذه المدرسة وتشبعه بأفكار رجالاتها بدا واضحا في كتاباته، خصوصا كتاب "الصحافة والتاريخ" الذي سعى من خلاله إلى طرق باب جديد في حقل الدراسات التاريخية بالمغرب، وتكسير إطار تلك الصورة النمطية عن الصحافة على أنها تقف على طرف نقيض من التاريخ، حيث لا يمكن أن يكون هناك حوار مثمر بين الصحافي والمؤرخ. داعيا في ذلك إلى تجديد الحرفة وإعادة بنائها انسجاما مع ما تطرحه ثورة الإعلام والاتصال والتكنولوجيات الحديثة من جهة، وما تفرضه العولمة من أنماط عيش، وطرائق تفكير، وأساليب مختلفة للصراع وممارسة السلطة عما كانت عليه من قبل. فصارت الحروب والنزاعات مشتعلة في كل مكان. يغذيها اقتصاد ليبرالي متوحش لا يؤمن إلا بالربح ضدا في مصلحة الإنسان وبقائه، ويوظف كل شيء من أجل هذه الغاية حتى لو كان التاريخ نفسه، فنجده يسعى جاهدا إلى قلب الحقائق ومحو التاريخ بإعلان نهايته. لذلك؛ فالصراع الحقيقي ليس مع الصحافة، إذ لا يعدو أن يكون ذلك أمرا مصطنعا، بل الصراع الحقيقي هو الدفاع عن التاريخ ضد كل أشكال التوظيف والهيمنة وطمس الحقائق بغرض التزييف والاستغلال وممارسة الوصاية.
من أجل ذلك، لا مناص في نظر المؤلف من أن يمتطي المؤرخ صهوة الإعلام لبسط سطوته، ونشر معرفته، وإعادة الاعتبار لصنعته، بتجديد آليات اشتغاله والقبض على المعنى الذي صار في زمن التقنية متشظيا، خاصة وأن الوثيقة لم تعد لوحدها كافية لإنتاج هذا المعنى. الأمر الذي يحتّم على المؤرخ اليوم، أن يكون قادرا على ممارسة التأويل، انطلاقا من ذلك الحوار المنتج بين الماضي والحاضر من جهة، وانطلاقا من ضرورة انفتاحه على مختلف العلوم والحقول المعرفية الأخرى من جهة ثانية؛ أي السعي إلى إقامة برنامج مشترك بين العلوم الاجتماعية كما كان يدعو إلى ذلك فرنان بروديل.
إن تأويل الأحداث والوقائع وليس فقط تفسيرها هو ما ظل يسعى إليه المؤلف الطيب بياض في هذا الكتاب خاصة ضمن القسم الثاني منه، ولم يقتصر على التحقيق. وكأنه يرى في الأفق طلائع فجر تاريخ تأويلي أشرف على البزوغ، وهو حقّا ما دعا إليه المؤرخ والمفكر المغربي الكبير عبد الله العروي في آخر ندوة له بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط(*)، لما أوصى بأن يحمل كرسيه اسم "الترجمة والتأويل"؛ فالتأويل الذي لا ينفصل عن الترجمة، هو الأفق الذي يتيح للباحث القبض على المعنى المنفلت في زمن الثورة الرقمية، وانحلال الدولة القومية وعودة العرق وتفجر الهويات القاتلة على حد تعبير أمين معلوف، وذلك بما يسمح بتوحيد المفاهيم، وتقريب الرؤى، وتعزيز الفهم، وتجنب النقاشات المغلوطة التي تذهب بالجهد وتخلق الصراعات التي لم يعد عالم اليوم يتحمل منها الكثير.
المراجع المعتمدة:
باللغة العربية:
- الطيب بياض: الصحافة والتاريخ، إضاءات تفاعلية مع قضايا الزمن الراهن، تقديم إدريس كسيكس، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2019
- بياض الطيب: المخزن والضريبة والاستعمار، ضريبة الترتيب (1880-1915)، افريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2011
- دوس فرانسوا: التاريخ المفتت، من الحوليات إلى التاريخ الجديد، ترجمة: د. محمد الطاهر المنصوري، مراجعة: د. جوزيف شريم، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت، 2009
- العروي عبد الله: مفهوم التاريخ، المركز الثقافي العربي، ط 4، الدار البيضاء، 2005
- فزة جمال: في الحاجة إلى تجديد صنعة المؤرخ: قراءة في كتاب "الصحافة والتاريخ" للمؤرخ الطيب بياض، مجلة أسطور، العدد العاشر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر، يوليو 2019
- لوغوف جاك: التاريخ والذاكرة، ترجمة: جمال شحيّد، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2017
- لوغوف جاك: التاريخ الجديد، تحت إشراف جاك لوغوف، ترجمة: محمد الطاهر المنصوري، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2007
- المنصور محمد: الكتابة التاريخية بالمغرب خلال ثلاثين سنة (1956-1986): ملاحظات عامة، ضمن البحث في تاريخ المغرب: حصيلة وتقويم، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 1989
باللغة الفرنسية:
- Bloch Marc, Apologie pour l’Histoire ou métier d’Historien, édition critique préparée par Etienne Bloch, Arman Colin, Paris, 1993
- Bloch Marc, L’étrange défaite, témoignage écrit en 1940, Gallimard, Paris, 1990
- Coutau-Bégarie Hervé, Le phénomène nouvelle Histoire, grandeur et décadence de l’école des annales, Ed, économica, Paris, 1989
- Duby George & Guy Lardreau, Dialogues, Flammarion, Paris, 1980
- Lucien Febvre, Combat pour l’Histoire, économies, sociétés, civilisations, Armand Colin, Paris, 1953
- Furet François, Un itinéraire intellectuel, L’historien journaliste, de France-Observateur au nouvel Observateur (1958-1997), édition établie et préface par Mona Ozouf, Calmann-Lévy, Paris, 1999
- Quivy Vincent, Le journalisme: une Histoire sans Historien, in Communication et langages, N.102, 4éme trimestre 1994
[1]- الطيب بياض: الصحافة والتاريخ، إضاءات تفاعلية مع قضايا الزمن الراهن، تقديم إدريس كسيكس، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2019، ص 12
[2]- George Duby & Guy Lardreau, Dialogues, Flammarion, Paris, 1980, P. 50
[3]- Marc Bloch, Apologie pour l’Histoire ou métier d’Historien, édition critique préparée par Etienne Bloch, Arman Colin, Paris, 1993
[4]- الهزيمة الغريبة في الحقيقة عنوان لكتاب المؤرخ الفرنسي الشهير مارك بلوك.
- Marc Bloch, L’étrange défaite, témoignage écrit en 1940, Gallimard, Paris, 1990
[5]- François Furet, Un itinéraire intellectuel, L’historien journaliste, de France-Observateur au nouvel Observateur (1958-1997), édition établie et préface par Mona Ozouf, Calmann-Lévy, Paris, 1999, p.9
[6]- Vincent Quivy, Le journalisme: une Histoire sans Historien, art. cité, pp. 81-83
[7]- الطيب بياض، نفسه، ص 53
[8]- الطيب بياض، نفسه، ص 30
[9]- نفسه، ص 61
[10]- جاك لوغوف: التاريخ والذاكرة، ترجمة: جمال شحيّد، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2017، ص 184
[11]- عبد الله العروي: مفهوم التاريخ، المركز الثقافي العربي، ط 4، الدار البيضاء، 2005، ص 78
[12]- جمال فزة: في الحاجة إلى تجديد صنعة المؤرخ: قراءة في كتاب "الصحافة والتاريخ" للمؤرخ الطيب بياض، مجلة أسطور، العدد العاشر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر، يوليو 2019، ص 182
[13]- فرانسوا دوس: التاريخ المفتت، من الحوليات إلى التاريخ الجديد، ترجمة: د. محمد الطاهر المنصوري، مراجعة: د. جوزيف شريم، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت، 2009، ص 39
[14]- Marc Bloch, Apologie, op. cit, p. 81
[15]- فرانسوا دوس: التاريخ المفتت، مرجع سابق، ص 38
[16]- Lucien Febvre, Combat pour l’Histoire, économies, sociétés, civilisations, Armand Colin, Paris, 1953, p.36
[17]- جمال فزة: في الحاجة إلى تجديد صنعة المؤرخ، مرجع سابق، ص 183
[18]- Hervé Coutau-Bégarie, Le phénomène nouvelle Histoire, grandeur et décadence de l’école des annales, Ed, économica, Paris, 1989, p. 25
[19]- محمد المنصور: الكتابة التاريخية بالمغرب خلال ثلاثين سنة (1956-1986): ملاحظات عامة، ضمن البحث في تاريخ المغرب: حصيلة وتقويم، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 1989، ص 43
[20]- نفسه، ص 23
[21]- الطيب بياض: المخزن والضريبة والاستعمار، ضريبة الترتيب (1880-1915)، افريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2011، ص 12
[22]- فرانسوا دوس: التاريخ المفتت، مرجع سابق، ص 115
[23]- الطيب بياض: الصحافة والتاريخ، مرجع سابق، ص 66
[24]- نفسه، ص 68
[25]- فرانسوا دوس، التاريخ المفتت، مرجع سابق، ص 118
[26]- جاك لوغوف: التاريخ والذاكرة، مرجع سابق، ص 188
[27]- الطيب بياض: الصحافة والتاريخ، مرجع سابق، ص 22
[28]- Lucien Febvre, Combat pour l’histoire, op, cit, p, 438
[29]- جاك لوغوف: تقديم الطبعة الثانية، ضمن التاريخ الجديد، تحت إشراف جاك لوغوف، ترجمة: محمد الطاهر المنصوري، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2007، ص 47
*- نظمت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، وبتعاون مع معهد العالم العربي بباريس، محاضرة افتتاحية لكرسي الأستاذ عبد الله العروي، ألقاها هذا الأخير يوم الأربعاء ثامن يناير 2020