روسّو.. نصوص ما قبل العزلة: مقالات في العُلوم والفنون والاقتصاد واللّغات
فئة : قراءات في كتب
في كُل عام يتجدَّد لقائي مع نصوص الفيلسوف الفرنسيّ جان - جاك روسّو (1712 - 1778م)، منذ تعرُّفي إلى خطابه الفلسفيّ - في مطلع ثمانينيات القرن العشرين - أيّام الدّراسة في قسم الفلسفة - جامعة بغداد، وفي السّنة الفائتة؛ قرأت (هواجس المتنزِّه المنفرد بنفسه) لروسّو، بترجمة: الرّاحل بولس غانم؛ الذي ارتقى إلى روح ما يريد قوله هذا الفيلسوف عن أواخر أيّامه، بعد أن لفظه أصدقاء له كان يحسبهم ممنْ يدفعون عنه أزمته المتشابكة مع عصره، لكنّهم مالوا إلى عدائه، فراح يعتزل الحياة معهم إلى هواجسه وتأمُّلاته، وحيدًا للفترة بين من 1776 - 1778م، ولم ير هذا الكتاب نوره منشورًا إلّا بعد أربع سنوات على رحيله؛ أي في سنة 1782م.
أمّا في هذه السّنة (2017)؛ فكنتُ ضيفًا لدى روسّو عبر قراءتي كتابه - مُركَّب التّأليف - من حيث الموضوعات؛ فنحن إزاء مقالات/ كتب تحت عنوان واحد نهض بترجمتها إلى العربيّة كُل من الفيلسوفَين التّونسيَين: جلال الدّين سعيد ومحمَّد محجوب، وهما من أساتذة الدّرس الفلسفيّ الشّهير بعطائه في تونس والوطن العربيّ، وذلك عندما قدَّما منتوجًا ترجميًّا لافت الإنجاز؛ بنقل عدد وافر من المتون الفلسفيّة الأوروبيّة إلى لغة الضّاد، خصوصًا، تلك الّتي لم يتهافت على نقلها إلى العربيّة أيُ أحدٍ من المترجمين العرب، لفتور الهمّة وضَعف الدّربة.
مقالات:
لقد صدر هذا الكتاب عن مؤسّسة "مؤمنون بلا حدود" للدّراسات والأبحاث في المغرب، بالتّعاون مع "معهد تونس للتّرجمة"، تحت عنوان (مقالات في العُلوم.. في الاقتصاد السّياسيّ.. في أصل اللّغات)، ما يعني أنّها ثلاثة أعمال لروسّو تعود إلى مرحلة ما قبل العزلة؛ بل هي النّصوص الّتي أثارت الثّوائر ضدّ هذا المفكِّر؛ الّذي قدّم رؤىً نقديّة لعصره لم يسبق لأحد غيره أن قدّمها بجرأة فيلسوف شفّاف وصريح، جاءت عليه بالوبال والكراهيّة المضنية.
يهتمّ الدّكتور سعيد بترجمة "مقال في العُلوم والفنون" الّذي نُشِر في سنة (1751م)، وكذلك "مقال في الاقتصاد السّياسيّ" الّذي صدرَ منشورًا في سنة 1755م، ضمن المجلّد الخامس في (موسوعة الفنون والعُلوم والحرف)، بإشراف وتحرير الفيلسوفَين الفرنسيَّين: دنيس ديدرو (1713 - 1784م)، وجان دالامبير (1717 - 1783م).
ويوضِّح سعيد - في تقديمه للمقال الأوّل - حيثيّات كتابته، ضمن مناسبة تنبّه لها روسّو بحذق من دون حساب نتائجه على حياته؛ ففي معرض زيارته المعتادة إلى صديقه المسجون دينس ديدرو، لفت نظره ما هو مكتوب في إحدى الصّحف حول "مناظرة أقامتها أكاديميّة/ مجمّع ديجون للإجابة عن سؤال: هل ساعد النّهوض بالعُلوم والفنون على تهذيب الأخلاق؟ فانتابه الحماس للمشاركة"(ص 5)، وهو ما فعله في شباط/ مارس سنة (1750م)، ليكتب "مقال في العُلوم والفنون"، ويدخل مرحلة من حياته أقلّ ما توصف بأنّها مرحلة "النّقد الجذريّ" لأفكار امتاز بها عصره، ولم يكن راضيًا عن أدائها وأثرها في المجتمع، ومنها فكرة التّقدّم والحضارة، والوصاية، والتّشيّع إلى الطوائف والطّبقات، ونسيان الإنسان والطّبيعة، وبدأ فيها بتعرية العُلماء والمثقّفين والسّاسة، وهو ما أثار أحقاد هؤلاء ليبدؤوا حملة شعواء ضدّه، ستتفاقم يومًا بعد آخر، حتّى اعترف بأنه أصبح مُستهدفًا بعد مشاركته بهذه الورقة الّتي أراد لها متنًا إصلاحيًّا، لكنّه فهم بأهواء الكراهيّة والعداوة والتّعصُّب.
تبدو ترجمة هذا النّصّ الفلسفيّ - النّقديّ ذات أهميّة كبيرة للكشف - عمليًّا ومن ناحية فكريّة - عن صورة ما كان يجري في القرن الثّامن عشر؛ فأفكار التّنوير لم تكن تسير دون اختلافات وقطائع وتوقّفات نقديّة مارسها فلاسفة ذلك العصر؛ فهذا النّصّ يصحّ وضعه - من النّاحية الأنطولوجيّة - في مرتبة النّصوص الجوانيِّة لخطاب التّنوير الظّاهر؛ نصوص القاع التّفكُّريّ لعصر التّنوير والثّورة الفكريّة، فلا بدّ لنا من الإيمان - مع فريدريش نيتشه (1844 - 1900م) - بأنّ اللّآلئ توجد في الأعماق دائمًا، وها هو روسّو يغوص في بحر الثّقافة الفرنسيّة المتلاطم في حينه، يغوص بمعوله النّقديّ حتّى يلامس السّطح بهذه اللّؤلؤة النّقديّة الّتي ينقلها لنا - نحن القرّاء العرب - الدّكتور جلال الدّين سعيد كدرس في التّفكير النّقديّ الذي نحتاجه في راهن حالنا الفكريّ والثّقافيّ، خصوصًا، أنّ المُترجم بدا حريصًا على نقل النّصّ النّهائيّ مع "التّوطئة" الّتي كتبها روسّو نفسه - بعد تقديم المقال - إلى اللّجنة الّتي منحته، تاليًا، جائزة المجمع الّتي أكَّد فيها - التّوطئة - بأنّ رؤاه في المقال لن تغفر له بعدما جابه كُلّ ما يعجب النّاس بالنّقد والتّفكيك، حتّى تلقّى توبيخًا وعزلًا لا يخلوان من كراهيّة الآخرين له على ما كتب، حتّى إنّه - في "التّنبيه" الّذي سبق "التّوطئة" - نراه يصف ما كتبه بأنّه "الكتاب المشؤوم"!
لقد كانت عمليّة ترجمة هذا المقال وفرة طازجة للقارئ العربيّ، لكنّها الوفرة الّتي امتدّت إلى ترجمة نصّ آخر لروسّو، ألا وهو "مقال في الاقتصاد السياسيّ" الّذي يكشف عن جانب مهمّ من اهتمامات هذا الفيلسوف بالفكر الاقتصاديّ، يقول جلال الدّين سعيد في التّقديم للتّرجمة: "يقدِّم روسّو في هذا المقال تصوّرًا دقيقًا وفهمًا مميّزًا للاقتصاد السّياسيّ، وفي سياق الجدل الّذي كان قائمًا في القرن التّاسع عشر، لا سيّما على إثر ما شهدته فرنسا من هيجان وشغب بسبب ارتفاع القمح، وما ترتّب عنه من ارتفاع مشطٍّ للضّرائب"، لقد زاد سعيد أيقونة روسّو هذه بمزيد شرح وتوضيح في هوامش عدّة وصل تعدادها إلى عشرين هامشًا أنارت عتمتها، وبيّنت خطابها، وفكّت لبس الغامض فيها، رغم قدرة روسّو التّعبيريّة الواضحة في إدلاق أفكاره، ليس في هذا المقال فحسب؛ إنّما في كُلّ كتاباته راقية التّصوير والتّعبير.
موسيقا ونغم:
إلى جانب ذلك؛ يضمّ هذا الأثر الفلسفيّ النّصّ الكامل لما دوَّنه روسّو تحت عنوان "محاولة في أصل اللّغات"، وقد يبدو الأمر بعيد الشّأن عندما يتحوَّل هذا الفيلسوف إلى البحث في اللّغة، وهو الّذي كتب في الاقتصاد السّياسيّ، لكنّ الفيلسوف الباحث عن الأعماق - أيّنا تكون اللّآلئ متاحة لغوصه في الأعماق لا تحدّه حُجب ما لإخراجها إلى حيّز النّور القرائيّ، لا سيّما أنّ العودة إلى اللّغات - في منظور روسّو - هي العودة إلى أصل المؤسّسات الإنسانيّة في خضمّها الموسيقيّ وأنطولوجيّتها النّغميّة الشّائقة.
لقد كتب روسّو "محاولته في أصل اللغات" بين سنتي (1754 - 1761م) - وذلك حسب اجتهاد الدّكتور محجوب - واستنادًا إلى ما يقوله المتخصّصون بشأن النّصّ الرّوسّوي، إلّا أنّ هذا الكتاب لم ير النّور منشورًا إلّا في سنة (1781م)، ضمن نشرة الأعمال الكاملة "المجلَّد 3"، فكان من خيارات الدّكتور محجوب أنّه رجع إلى طبعات النّصّ الفرنسيّ الّتي صدرت تباعاً منذ سنة (1968، 1990، 1993م)، وهي وفرة مفيدة بدت أمامه في مَهمة نقل هذا الأثر الفلسفيّ إلى العربيّة، وزاد صنيعه التّرجميّ هذا دربة؛ أنّه تسنّى للدّكتور جلال الدين سعيد مراجعته ليكون بأحسن رتبة وتخريج، على أنّ لمحجوب بن هاشم رؤيته في صناعة التّرجمة؛ فكُلّ ترجمة - والقول له في الصّفحة 96 - هي؛ "محاولة لإنطاق النّصّ في لغة غير لغته، لكن انطلاقًا من شيء يظلّ شيئهُ هو لا شيئًا آخر"، ولهذا التّركيز على خاصيّة الشّيء، يؤكِّد محجوب بن هاشم ضرورة "الحفاظ على المناخ الأسلوبيّ، وعلى العوارض التّعبيريّة الّتي قد لا يكون لها كبير أثر في المعنى المباشر، لكن ما أعظم ما يكون أثرها، وما أعظم ما تكون مناصرتها لمجهودات النّفاذ إلى بنية النّصّ العميقة لذلك"، وهذا التّواضع نحو حرفة النّصّ الأنطولوجيّة وصوب طاقته الأسلوبيّة؛ هو الولاء الحقيقيّ لمكانة النّصّ، ومهما قال المعترضون على توخّي المترجم الأمانة في نقل النّصّ بعمقه؛ الّذي له ولبنيته الأسلوبيّة والتّعبيريّة خاصّته، والارتقاء إلى لغته الّتي له؛ فإنّهم - ولا شكّ - يتشدّقون بما لا يعلمون، فللضرورة يجب - والقول لمحجوب نفسه - ألّا نغالي في "إخضاع روسّو لمقتضيات عصرنا"، وتلك مزيّة دأب محجوب على السّير في دروبها في كُلّ ترجماته لنصوص فلسفيّة متواترة الصّدور، على أنّ الأمر لا يختلف مع ترجمات أستاذنا جلال الدّين سعيد، الّتي أغنت المكتبة الفلسفيّة بالغالي والنّفيس من لآلئ المتن الفلسفيّ الأوروبيّ.
وإذا كان صنيع الدّكتور سعيد في نقل مقالات روسّو امتاز ببراعة الحفاظ لغة روسّو الفلسفيّة نفسها، لكن بالعربيّة، فإنّ ما تمتاز به هذه الطّبعة من "محاولة في أصل اللّغات"؛ أنّ محجوبًا أبلى بلاء حسنًا عندما تلافى فيها "بعض الهنّات" الّتي ابتُليت بها طبعات سابقة لهذا الكتاب، لا سيّما أنّني - شخصيًّا - قرأت ترجمة هذا الكتاب، وللمترجم نفسه، في بغداد "الطّبعة الثّانية" يوم أثارت ترجمته الّتي صدرت هناك اهتمام المعنيّين بفلسفة روسّو وبخطابه الفكريّ، خصوصًا، أنّ دفء العبارة ورونقها البلاغيّ لدى روسّو حطّا برحالهما عند ذائقة المتلقّي لعبارة هذا الفيلسوف الكلاسيكيّة، الّتي ازدانتها ذائقة محجوب - كما جلال الدين سعيد - بلاغة عربيّة يستسيغها عصرنا الحاليّ.
ومثلما ازداد الدّكتور سعيد متن المقالات بهوامش تضيء المبهم فيه، كذلك فعل محجوب عندما أضاء المتن بهوامش تعريفيّة وتوضيحيّة؛ فعزّز، كلا المترجمين، متن ما ضمّه هذا الكتاب بمسرد عربيّ - فرنسيّ لجُملة المصطلحات والحدود والألفاظ الّتي وردت فيه، إن هي إلّا معجميّة جان حجاك روسّو نفسه، لكي يكون القارئ العربيّ على بيّنة من أمر اقتباله على هكذا متن فلسفيّ، مضى على ظهوره أكثر من ربع ألفيّة مضت ولا زال مؤثّرًا في راهننا الفلسفيّ والفكريّ والجماليّ.