زحزحة الديمقراطية
فئة : مقالات
أفرزت الأزمة المالية العالمية الأخيرة، ومنذ اندلاعها سنة 2008، اضطرابات سياسية واجتماعية شملت معظم دول العالم، سواء دول العالم الثالث أو السائرة في طريق النمو، وحتى الدول الغنية. فإلى جانب تضرر العديد من اقتصادات هذه البلدان بفعل ارتباطاتها المُعَولَمة، فإن الاحتقان الاجتماعي، والتوتر السياسي، وظهور ثورات الشعوب، كانت من أبرز المخلفات الحساسة لتراجع الاقتصاد العالمي وتباطئه. هنا تُمتحن الديمقراطية بين مطرقتين: الأولى هي مطرقة الثقة في المؤسسات والحكومات؛ والثانية هي مطرقة العنف الناتج عن التفاوتات الطبقية والدينية والإثنية.
في تقريرها الخاص لهذا الشهر، نشرت مجلة "دي إكونوميست" عددها الخاص حول تكهناتها للعالم في سنة 2014، وهو التقرير الذي تصدره المجلة كل سنة على التوالي، ويشمل توقعاتها لمستقبل مجملالمجالات والقطاعات الحساسة. وفي ملف خاص بعنوان التوتر الاجتماعي، ذكرت المجلة أن ثورات الطبقات المتوسطة سوف تستمر على المستوى العالمي، بسبب استمرار بواعثها المختلفة؛ ففشل اقتصادات دول، مثل إسبانيا واليونان وإيطاليا، واستمرار سياسات التقشف التي تنتهجها الحكومات مع استمرار الفساد السياسي، سوف يُفاقم من بواعث الاحتقان والتوتر الاجتماعي. ومع تقهقر جل انتفاضات الربيع العربي نحو الحرية والديمقراطية، في مختلف دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بسبب نسف جل هذه الانتفاضات بقوة السلاح، كما يقع في سوريا ومصر، ونجاح الثورات المضادة لتطلعات هذه الشعوب، واستمرار سياسات الدول العميقة. كل هذه الأسباب، سوف تجعل الوضع اَيِلًا للانفجار من جديد. نفس الشيء، سوف يستمر مع كبح تطلعات الطبقات المتوسطة المتصاعدة في دول الاقتصادات الناشئة، كالبرازيل وتركيا، وفي الدول الشمولية، كالصين التي سوف تعرف سنة الاحتجاجات بامتياز، كما تنبأت المجلة دائما.
وحدة الذكاء الاقتصادي العالمية - المرتبطة مع مجلة دي إكونوميست- قامت بقياس نسبة خطورة التوتر الاجتماعي في 150 دولة، حسب سلم مكوَّن من خمس نسب مختلفة، وهي: منخفض جدا، منخفض، متوسط، مرتفع، ومرتفع جدا. وطبقا لهذا القياس، فإن 65 دولة سوف تصل فيها خطورة التوتر الاجتماعي ما بين سلم مرتفع ومرتفع جدا، وستكون دول الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا، ودول جنوب الصحراء، وأوروبا الشرقية، ودول البلقان، أكثر الدول تمثيلا في سلم الخطورة القصوى، بينما 54 دولة، سوف تكون نسبة الخطورة في المتوسط، و31 دولة بين المنخفض والمنخفض جدا. استقراء هذه النتائج، يبيِّن أن ضعف النمو الاقتصادي وتراجعه يؤثر بشكل كبير جدا على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وخصوصا – وهذا هو الأهم – في الدول غير المهيكلة بشكل مؤسساتي، أو الدول التي تتوفر على مؤسسات صورية وهشة، وبالتالي فإن وتيرة تفاقم الأزمات والتوترات الاجتماعية تكون عميقة وقوية. ولكن عندما ينضاف إلى هذه العوامل تراجع أو عدم وجود الثقة في المؤسسات والحكومات بسبب السياسات المتبعة أيام الأزمة، أو بسبب تفشي الفساد السياسي، فإننا نكون أمام أزمة ديمقراطية. النتيجة الحتمية لوجود أزمة ديمقراطية، بسبب إخلال المنتخبين بتعهدات قواعد اللعبة الديمقراطية، هي ظهور التصدعات الاجتماعية والسياسية، وتفشي العنف، وغياب ضوابط السلم الاجتماعي، والتنافس السياسي الشفاف.
كتب "روبرت شيلر" - الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد لسنة 2013- مقالة في مجلة "بروجيكتسانديكايت" تحت عنوان: "اللامساواة وما تولده من استياء"، وطرح سؤالا عريضا كالتالي: هل اللامساواة وضعف المساهمة في النمو الاقتصادي يؤديان إلى تنافر اجتماعي؟ ولقد بين أن الثقة بنوايا الآخرين هي أحد العوامل الأساسية في تفعيل الاقتصاد، وأن الثقة في المؤسسات هي ما يؤدي لتحقيق العدل. وبالتالي، فإن غياب الثقة في أحدهما يؤدي إلى انهيار اقتصادي واجتماعي. وأكد أن تقوية الثقة والتعاون، حتى مع وجود اقتصادات سريعة التغيير، وذلك ببناء سياسات وقوانين محفزة لذلك، هو ما يقلص من التوتر واللامساواة الاجتماعية.
وفي كتابه بعنوان" الديمقراطية"، بحث " شيلر" فيالعمليات المسببة لإقامة الديمقراطية والإطاحة بها، حيث حدد ثلاث عمليات أساسية: أولا، دمج شبكات الثقة بين الأشخاص في السياسة العامة. ثانيا، إبعاد السياسة العامة عن اللامساواة الطبقية. ثالثا، إضعاف مراكز سلطة الإكراه ذات الاستقلال الذاتي، مما يؤدي إلى زيادة نفوذ الناس العاديين في السياسة العامة، وتنامي إشراف السياسة العامة على أداء الدولة. ومن ثم خلص إلى نتيجتين مهمتين: الأولى، هي أن دمج شبكات الثقة، وإبعاد السياسة العامة عن اللامساواة الطبقية، وإضعاف مراكز السلطة ذات الاستقلال الذاتي، تتضافر جميعا لإقامة الديمقراطية التي لا تحصل في غيابها. الثانية، هي أن إبطال أية عملية من هذه العمليات أو كلها يطيح بديمقراطية أنظمة الحكم. هذا يعني أن نظام الحكم يكون ديمقراطيا، بقدر ما توفر علاقات المواطن-الدولة من مشاورات واسعة، ومتساوية، ومحمية، وذات التزام متبادل. وبناءً على ذلك، تنطوي الديمقراطية على تحرك النظام نحو ذلك النوع من المشاورات، بينما تنطوي إطاحة الديمقراطية على تحرك النظام بعيدا عنها.
تُمتحن الديمقراطية إذن، أمام كل تلك العوامل التي ذكرناها؛ فإما أنها تهتز بفعل التراجع الاقتصادي، وهذا الاهتزاز يختلف من دولة لأخرى، حسب قوة المؤسسات السياسية، وحسب ترسب المبادئ الديمقراطية داخل المجتمع. وإما أنها تهتز بسبب فقدان عناصر الثقة بين الفرقاء الاجتماعيين والسياسيين، وفي مؤسسات الدولة المختلفة. وإما أنها تهتز بفعل تضافر جل الأسباب السالفة.
عندما يسقط ذلك الالتزام المتبادل الذي تفرضه الديمقراطية على كل من الفرد والدولة، حول حدود كل واحد منهما، وحول حجم المشاورات بينهما، ومسؤولية كل واحد منهما، تبدأ بوادر الإكراه والاستبداد في الظهور، وتنتهي علاقات الانضباط للسياسة العامة في التلاشي، وتبرز اللامساواة والعنف، وننتظر إقامة شروط الديمقراطية لكي تعود علاقة الالتزام بين المواطن والدولة، وبين المواطنين فيما بينهم، إلى سابق عهدها. وقد تكون هذه الشروط مرهونة بثورة سياسية وانتفاضة اجتماعية، كما يقع في دول الاستبدادات السياسية، أو أنها مرهونة بانتقال ديمقراطي حقيقي، وتوافق سياسي، من أجل إصلاح نُظم عمل الديمقراطية، كما يقع في دول الفساد السياسي.