زمن الكورونا (تونس أنموذجا) المثقّف والتّوجيه الصحّي
فئة : أبحاث محكمة
زمن الكورونا (تونس أنموذجا) المثقّف والتّوجيه الصحّي
الإطار العام:
لم تعد ثنائيّة الصحّة والمرض مبحثا متعلّقا بالمجال الطبّي فقط، بل أضحى مبحثا يُنظر إليه من زوايا متعدّدة؛ فقد يهتمّ المؤرّخ بدراسة الأمراض بهدف تأريخها، فيصنّف كل فترة بالأمراض والأوبئة التّي انتشرت خلالها، فلا يتوسّع في تعريف المرض أو الآثار الكارثيّة المنجرّة عن ظهور بعض الأوبئة. فيكتفي المؤرّخ بذكر تاريخ ظهور الوباء بغية تحديد فترة ظهوره بدقّة، ونذكر على سبيل المثال ما كتبه ابن عذاري في مصنّفه البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب عن الطّاعون: "ودخل جمادى الأولى، وعدمت الأقوات بالجُملة، وهلك النّاس. ولم يبق من ذلك الجمّ إلاّ نزر يسير. وتوالى اليبس، واستحكم الوباء، وبينما الرّجل يمشي، سقط ميتا."[1] ويستغلّ الطّبيب فترة ظهور الأمراض والأوبئة لتكثيف أبحاثه العلميّة وتطوير وسائل العلاج والوقاية، والأمثلة عديدة ومختلفة ولا يسعنا المجال إلى ذكرها كلّها. ولكن، ما أردنا بلوغه هو توضيح ما لهذه الظّاهرة من أثر في المجتمع وأفراده، فمع تعدّد الدّراسات والمقاربات السوسيولوجيّة والأنثربولوجيّة لموضوع الصحّة والمرض، انتقل تشخيص المرض والوباء من مقاربة بيولوجيّة إلى مقاربة اجتماعيّة. ويعود الفضل إلى بروز دراسات تنظر إلى المرض كظاهرة اجتماعيّة إلى دوراي، من خلال تصوّره للمرض، إذ اعتبر: "أنّ الألم لا يقاس بشكل طبيعيّ، فكلّ ألم لم يعترف به اجتماعيّا فهو ليس مرضا".[2] فالجماعة هي التّي تعبّر عن آلامها ومنه تبتكر طقوسا للمرض وتسمي الألم مرضا، فنحن نروم دراسة تمثّلات المجتمع للأمراض والأوبئة، وتحليل سلوك الأفراد والجماعات من خلال تقبلهم هذه الأزمة أو رفضها. وانطلاقا من هذه التمثلات، نتمكن من استقراء المرجعيات الثقافية التي بنيت من خلالها تمثّلات المجتمع لهذه الظّاهرة، وكيفيّة تفسيره لها. ومنه نتمكّن من دراسة وسائل العلاج والوقاية المتّبعة ضمن المجتمع المدروس.
يعدّ هذا المبحث حديثا، فالاهتمام بالمرض كظاهرة اجتماعيّة لم يكن مبحثا دراسيّا؛ فالمرض آفة تهدّد حياة الإنسان، ويهتمّ المعالج بتفسير أسباب ظهورها وتفشّيها، وينتهي بوضع حدّ لها باكتشاف وسائل العلاج والوقاية.
ولكن مع تقدّم الأبحاث والدّراسات والمقاربات السوسيولوجيّة والأنثربولوجيّة، تمّ تجاوز الفصل بين الأبحاث والمقاربات العلميّة والاجتماعيّة، فتبيّن أنّه يمكننا الوصل بين دراسة المرض أو الوباء كظاهرة بيولوجيّة يهتمّ الطبيب بتشخيصها ومعالجتها، والمرض أو الوباء كظاهرة ثقافيّة، يهتمّ الباحث بتشخيص كيفيّة تقبّل المجتمع لهذه الظّاهرة وكيفيّة تفسيرها؛ وذلك من خلال تفكيك المرجعيّة الثّقافيّة للمجتمع المدروس.
وبناء على تفسير المجتمع لهذه الظّاهرة، يتمّ اتّخاذ إجراءات وقائيّة وعلاجيّة تتحكّم فيها المرجعيّات الثّقافيّة ذاتها. لذلك، أصبحت الثّقافة هي المتحكّمة في تفسير المرض وتحديد وسائل العلاج والوقاية. وبالتّالي، يمكننا الإقرار بأنّ الطبّ وحده لم يعد المجال الوحيد لتشخيص المرض وتفسيره وتحديد كيفيّة الشّفاء، فللثّقافة دور مهمّ في رسم ملامح أخرى للمرض.
ولعلّ تاريخ الطبّ يحوي شواهد على الاهتمام بالحياة الاجتماعيّة والثقافيّة ومدى تأثيرها على الصحّة، فخلال القرن التاسع عشر في أوروبا، اهتمّ "شادويك" (1842) في بريطانيا وكورتجان في ألمانيا (1848) و"سيرجيست" (1850) في سويسرا[3] باستقراء تأثير الصحّة والمرض في الحياة الاجتماعيّة.
فقد تبيّن أنّ التّأثير المرضيّ يبرز في شكل اضطرابات نفسيّة وسلوكيّة، وبالتّالي، أضحى المجال الأنثربولوجيّ وعلم الاجتماع ضروريين لاستقراء الحالة المرضيّة وعلاجها.
كما سبق أن أشرنا في بداية البحث، إنّ الاهتمام بتحليل تفسير المجتمع للأمراض والأوبئة ظهر حديثا، والدّراسات[4] المهتمّة بتحليل هذه الظّاهرة قليلة. ولكن في السّنوات الأخيرة، تحديدا بعد ظهور فيروس الكورونا، ظهرت دراسات مختلفة لتفسير هذه الظّاهرة ليس من خلال منظور بيولوجيّ طبيّ فحسب، بل من خلال منظور ثقافيّ واجتماعيّ أيضا. وسعى الباحثون من خلاله إبراز نظرة المجتمع لهذا الوباء الجارف واستقراء كيفيّة تقبّله. ولهذا السّبب، اخترنا دراسة كيفيّة مواجهة المجتمع التّونسيّ لفيروس كورونا، وهدفنا من هذه الدّراسة، أوّلا: استقراء تفسير المجتمع التّونسيّ لهذه الظّاهرة من خلال النّشأة والظّهور وسط المحضن التّونسيّ، وتحديد دور المثقّف في توضيح الرّؤية وتفسير ماهية المرض
ثانيا: استقراء كيفيّة تقبّل المجتمع التّونسيّ لوسائل العلاج والوقاية؛ وبما أنّ المرض حديث الظّهور، فإنّ وسائل العلاج والوقاية ستكون على غير ما ألفه المجتمع، فلن يكون من اليسير تقبّل هذه الأشكال العلاجيّة الحديثة، وهنا ننظر في دور المثقّف التّوجيهيّ لإنقاذ صحّة المجتمع أو بالأحرى إنقاذ حياة أفراد المجتمع.
ونظرا لتشعّب مفهوم المثقّف، وغياب تعريف جامع مانع لهذا المصطلح، تخيّرنا حصر هذا المفهوم ضمن أربع جوانب نظرا لتقاربها مع موضوع البحث:
الأوّل هو المثقّف الدّيني، ويتمثّل في رجال الدّين، وكان حضورهم فترة الأزمة بارزا، واستندوا إلى المرجعيّات الدينيّة لتفسير سبب ظهور الوباء وتحليل كيفيّة تفشّيه.
الثّانيّ، علماء النّفس والاجتماع، ويعتبرون من فئة المثقّف الحامل لهمّ مجتمعه، وهذه الفئة سعت بفضل مرجعياتها الثّقافيّة والعلميّة إلى التّخفيف من شدّة وطء ما حلّ في نفوس أفراد المجتمع من الخوفــ. فالموت يجول في ثنايا العالم تحت اسم فيروس كورونا. وكان لهؤلاء دور كبير في توعية النّاس والتّخفيف من معاناتهم.
الثّالث، الصّحفيّ، إذ ساهمت هذه الفئة في عرض آراء جميع فئات المجتمع ذات الاختصاص والبعيدة كلّ البعد عن المجال الصحّي والثّقافيّ، ومن أهداف هذه الفئة خلال الأزمة الصحيّة هو رفع اللّبس والضّبابيّة عن الإشاعات المتفشّية ضمن مواقع التّواصل الاجتماعيّ، وفي المقابل، تنظيم مقابلات مع الفئة الاجتماعيّة المثقّفة المتمثّلة في علماء النّفس والاجتماع وأطبّاء.
الرّابع، وهم الفئة الأبرز والأهمّ خلال هذه الأزمة، وهم الطّاقم الطبيّ، وسعت هذه الفئة منذ نشأة الفيروس إلى حدود فترة بروز اللّقاح إلى تجنيد نفسها للبحث والتّنقيب العلميّ لإنقاذ البشريّة من الموت.
في المنهج:
اعتمدنا في هذا البحث على المنهج الأنثربولوجيّ للصحّة والمرض والمنهج الأنثربولوجيّ الثّقافيّ. وتكمن أهميّة هذا المنهج في موضوعنا في:
إنّ أنثربولوجيا الصحّة والمرض تبحث في مفهوم التّربية الصحيّة التّي تحدّدها التمثّلات الاجتماعيّة المحدّدة لمفهوم الصحّة والمرض والموت. ويختلف تفسير هذه الظّواهر من مجتمع إلى آخر؛ وذلك باختلاف التصوّرات المحدّدة لملامح كلّ مجتمع. فكلّ مجتمع مرتبط بتاريخه الحضاريّ والثّقافيّ والاجتماعيّ والعقديّ والاقتصاديّ... ممّا يجعله حاملا لتصوّرات تختلف عن مجتمع آخر يختلف عنه بخصائصه المجتمعيّة. فمفهوم الصحّة مرتبط بتصوّرات المجتمع لمسائل الحياة والمرض والموت والصحّة بأبعادها النّفسيّة والاجتماعيّة والجسديّة. فأنثروبولوجيا الصحّة والمرض تعدّ دراسة لكلّ ما هو بيوثقافيّ؛ فهي تهتمّ بدراسة الجانب البيولوجيّ/ الثّقافيّ لسلوك الإنسان، وتهتمّ بتحليل تفاعل كلّ من الجانبين لدراسة مواجهة الإنسان مع الأمراض والأوبئة.
وكان من واجبنا ونحن نحلّل نظرة المجتمع التّونسيّ لوباء كورونا أن نخصّص جانبا مهمّا من دراستنا لاستقراء رؤية المثقّف للوباء وكيفيّة تفسيره له، وكيفيّة تبسيط وسائل العلاج والوقاية إلى عامّة المجتمع. هذا من جهة أولى.
ومن جهة ثانية، استأنسنا بالمنهج الأنثربولوجيّ الثّقافيّ لأهميّته في دراستنا، فمفهوم الصحّة والمرض يختلفان من ثقافة إلى أخرى، ومعيار تحديد مفهوم الصحّة يختلف من محضن إلى آخر ومن تاريخ إلى آخر، إذ تتعرّض هذه المفاهيم إلى تغيّرات طارئة استجابة إلى التحوّلات التّي تطرأ على أنماط الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة ووسائل الرّعاية الصحيّة ضمن كلّ بيئة.
كيف تقبّل المجتمع التّونسيّ هذا الوباء؟ ما هي مختلف تصوّرات النّاس لهذه الجائحة؟ ما هو المحضن الأصليّ للفيروس؟ فيم تمثّل دور المثقّف في تعديل بعض الرّؤى لهذا الوباء؟ ما هي وسائل العلاج والوقاية المعتمدة للحدّ من خطورة هذه الجائحة؟ وكيف تمّ إقناع النّاس بضرورة التّلقيح؟ وما مدى تفاعل النّاس مع ذلك؟
للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا
[1] ابن عذاري المرّاكشيّ، البيان المغرب، تحقيق: ليفي بروفنسالوج.س كولان، الط1، دار الثّقافة، بيروت_لبنان، 1983، ج4، ص39
[2] Durkheim, E (1924), Sociologie et philosophie. Alacan
[3] المكاوي، علي، الأنثربولوجيا الطبيّة وبحوث ميدانيّة، نسخة إلكترونيّة، https://drive.google.com
[4] عبابو، محمد، سوسيولوجيا الصحّة، نسخة إلكترونيّة، http://www.fldm.usmba.ac.ma، 2015