زهيّة جويرو: الفتوى سلعة يحكمها قانون العرض والطلب
فئة : حوارات
زهيّة جويرو: الفتوى سلعة يحكمها قانون العرض والطلب(*)
عيسى جابلي: صارت الفتوى تحتل مكانة عظيمة في واقعنا المعاصر، تُخصّص لها مساحات إعلاميّة موسّعة ومواقع أنترنيت وأعمدة على الصّحف الجرائد، لنبدأ أوّلاً بالمفهوم وتاريخيّته: ما الفتوى؟ وكيف كان تشكّلها؟
زهيّة جويرو: يبين استقراء تاريخ المنظومة التشريعية الإسلامية أنّ الفتوى أو الفتيا مرت في تاريخها بطورين رئيسيْن يمكن أن نسم الطور الأول بكونه طور الإفتاء المرسل، وقد امتد منذ فترة النبوّة إلى حدود منتصف القرن الهجري الثاني تقريبًا، والمقصود بالإفتاء المرسل هو الممارسة غير المقنّنة ولا المنظمة للسؤال والجواب بشأن مسائل فردية تعرض للمسلم في حياته اليومية لا يملك لها جوابًا شخصيًّا ولا يجد لها جوابًا في ما هو متاح من المعارف المتداولة أو من المراجع التي يفترض أنّها معتمدة في تنظيم حياته وعلاقاته. وبما أنّ هذه الأسئلة كانت في بداية عهد الرسالة على صلة بالدين الجديد، وخاصة بالعقيدة وبفرائضها وطقوسها، فإنّ أكثر المؤهلين لتقديم الأجوبة هو الرسول صلّى الله عليه وسلم، ولكنه كان هو بدوره ينتظر الجواب على ما يطرح عليه من أسئلة ليكون وسيطًا مبلغًا للأجوبة التي تنزّل عليه، ولذلك جاء ذكر الفتوى في أكثر من موقع في القرآن الكريم، منها على سبيل الذكر "ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن..." (النساء4/ 127) ومنها الآية الأخيرة من سورة النساء: "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة..." (النساء 4/176) وفي هذه المواقع جاء ما يدل على أنّ الفتوى تقتضي من جهة سائلاً/ مستفتيًا ومجيبًا/ مفتيًا وعلى أنّ الله هو الذي يتولى الإجابة على الأسئلة التي كانت تطرح على الرسول، فهل يعني ذلك أنّ الله زمن التنزيل قد احتكر لنفسه سلطة الإجابة على أسئلة المسلمين الجدد الذين مازالوا لم يستوعبوا بعد أحكام الدين الجديد؟ ولكن انقطاع التنزيل بوفاة الرسول وختم الرسالة لم يكن مؤذنًا بانقطاع أسئلة المسلمين، بل إنّها كانت تتزايد بمرور الزمن وكان الصحابة يتصدون للجواب دون أن يخضع ذلك لأي قواعد مسبقة، كان الاجتهاد الحرّ في فهم القرآن وفي محاولة تقديم حلول للمشاكل الطارئة هو المعمول به في هذا الطور من تاريخ الإسلام المبكر، وكانت تلك الأجوبة عملية من جهة، وشفوية من جهة أخرى، ما يتعارض مع أي قول بوجود نظام ما يتحكم في تلك الممارسة القائمة على أسئلة يمكن أن يطرحها أي كان من المسلمين وعلى أجوبة يقدمها عادة أكثر الصحابة قربًا من الرسول. وبفعل هذا الاجتهاد الحر الذي تولاه، فضلاً عن الصحابة في المركز، الولاة والقضاة في الأقاليم بدأت تتشكل النواة الأولى من الأحكام العملية المعتمَد فيها على ما كان معمولًا به من أعراف لا تتعارض مع مبادئ الإسلام العامة. وقد احتاج الأمر إلى تهيُّؤ عدد من المعطيات والشروط ليتحول الإفتاء إلى مؤسسة: ظهور المفسّر وتشكل علم التفسير وسائر علوم القرآن بما يحيل عليه ذلك من توسع قاعدة الأحكام المستمدّة من القرآن، ظهور الفقيه وتشكّل الفقه والمذاهب الفقهية بما يعنيه ذلك من توفير قاعدة واسعة من الأحكام ستتخذ مرجعًا في الفتوى، ظهور المحدّث وعلوم الحديث بما يعنيه ذلك من توفر مرجع ثان سيكون بالنسبة إلى المفتين واحدًا من أهم مراجع الأحكام، وكذلك ظهور علم أصول الفقه الذي سيضبط المفاهيم والحدود ويحدد القواعد ويعين طرائق الفتوى ويقرّ مفهوم التكليف الذي أسس مبدأ تكليف العالم بمعرفة الأحكام وتكليف العامي بالعمل بمقتضى الأحكام التي يضبطها العالم، وعلى هذا تمأسست ممارسة السؤال والجواب وعين من يجب أن يكون مفتيًا ومن هو المستفتي. وقد أدى هذا التحديد على المدى البعيد إلى تثبيت التسليم باستئثار فئة معينة بالعلم الشرعي ومن ثمّ بحاجة سائر فئات الناس إلى تلك الفئة في كل ما يتعلق بالشرع حتى عندما تغيرت الأوضاع العامة وانتشر التعليم وصارت المعارف، بما فيها الدينية، متاحة للجميع. وهذا ما يفسر استمرار كثيرين في استفتاء شيوخ يكونون في كثير من الأحيان أقل منهم معرفة حتى في المجال الذي يستفتونهم فيه.
أدت مأسسة الفتوى إلى تنظيم الإفتاء وتقنينه وتحديد شروط المفتي وشروط الفتوى ومنها تخصصها في المسائل التي لا حكم لها في مصادر الشرع المكرسة، وكان ذلك من العوامل التي مكنت هذه المؤسسة من دور هام في تطوير التشريع الإسلامي وجعله مواكبًا للتحولات والمستجدات. ولكن منذ القرن السادس وبفعل التضييق المتزايد للاجتهاد بدأت هذه المؤسسة بدورها تنغلق على الإفتاء المذهبي ثم لم تلبث أن صارت بفعل انغلاق باب الاجتهاد عاجزة عن تهيئة حلول جديدة للمستجدات، وأصبح دور هذه المؤسسة سلبيًّا ووجودها صوريًّا خاصة وقد أصبحت تابعة للسلطان، واستمرت على هذه الحال من الجمود والتراجع إلى حدود الفترة الحديثة. وقد عرفت أغلب الدول الإسلامية في هذه الفترة تحولات هامة على جميع الصعد من بينها الصعيد السياسي والتنظيمي العام، وكان من أهم تجليات هذه التحولات ظهور الدولة الوطنية. وعلى الرغم من أنّ أنظمة الحكم في صلب هذه الدولة مختلفة جدًّا بما يجعل من الصعب الحديث عن مسار واحد لمؤسسة الإفتاء في جميعها، فإنّ هذه الدولة كانت في كثير من البلدان دولة مدنية تعتمد في تشريعاتها القانون الوضعي، ما يعني أنّ الدولة أصبحت مستأثرة بالتشريع بواسطة مؤسسات منتخبة. وهذا يعني أنّ المفتي لم تعد له وظيفة، نظريًّا على الأقل، ولكن هذه البلدان آثرت أن تحتفظ، إلى جانب نظامها التشريعي الوضعي-المدني بوجود قد يكون صوريًّا وطقوسيًّا، "لمفتي الديار" ـ أو "مفتي الجمهورية". وتزامن هذا مع انتشار التعليم وارتفاع نسبة المتعلمين وهو ما كان يهيء، مبدئيًّا ونظريًّا، لمزيد تضييق مجال اشتغال المفتي ومزيد تهميشه. ولكن جملة من العوامل المستجدة أحدثت شرخًا في مسار التحولات التاريخية التي عرفتها مؤسسة الإفتاء وكان ينتظر أن تستمرّ عليها. من بينها ظهور الإسلام السياسي وتحول القطب الخليجي إلى قوة مالية بعد "الانفجار النفطي" وهو قطب إقليمي يحتكم إلى أنظمة تختلف عن نظام الدولة الوطنية المدنية التي تقوم عليها كتلة الدول التي كانت فاعلة في المنطقة ثقافيًّا وسياسيًّا منذ بداية عصر النهضة والممثلة في مصر والعراق وسوريا وكتلة دول المغرب العربي، وسيعمل القطب الخليجي، أما العامل الثالث فهو الثورة الاتصالية الحديثة التي سيتم توظيفها من أجل نشر النسخة المحافظة جدًّا والمسيسة للإسلام فأنشئت القنوات الدينية والمدارس الدينية في كثير من البلدان والجمعيات والمؤسسات الفقهية وتكاثرت مواقع الإفتاء على النيت... وشيئًا فشيئًا عاد المفتي ومؤسسة الفتوى ليكتسبا سلطة أكبر مما كان لهما في أي مرحلة من مراحل الماضي، وشهدنا في العشريتين الأخيرتين "انفجارًا إفتائيًّا" وفوضى، وصار لكل شيخ قناة وموقع وأتباع وأصبح المفتي يفتي في كل المواضيع ما هو خاص وحميمي وما هو عام ومن شؤون الدول، وأصبح المفتي في الواقع عامل اضطراب يهدد استقرار الدولة المدنية ونظامها وخاصة عندما يتدخل في مسائل تدخل في صلب المؤسسة التشريعية المنتخبة ويبدي بشأنها رأيًا أو حكمًا يتعارض مع توجه المؤسسة التشريعية الرسمية.
عيسى جابلي: هل كانت الفتوى حاجة إنسانية للمسلم أم إنّ ظروفًا وعوامل أخرى ساهمت في ترسيخها في الواقع؟
زهيّة جويرو: الأمر نسبي في الزمان وفي المكان، في طور لم يكن فيه للعامة من المسلمين معرفة ولا خبرات تمكنهم من معرفة ما لهم وما عليهم بأنفسهم، وكانت الذهنية السائدة خلالها دينية تجعل الفرد يعتقد أنّ عليه أن يستمد شرعية عمله من المفتي دون أن يلتفت إلى مضمون الحكم ولا إلى ما إذا كان مناسبًا له أو لحكم الشرع، حتى لتصبح عملية الاستفتاء في كثير من الحالات ذات وظيفة نفسية لا أكثر تمدّ المستفتي بحدّ من الطمأنينة الناتجة عن شعور بالانسجام بين أعماله وما يعتقد أنّه أحكام الشرع وما يمليه عليه اعتقاده وضميره الديني. في الزمن الحاضر أصبح التوجه إلى المفتي تصرفًا شخصيًّا في الغالب يحكمه مستوى الوعي بالمسؤولية الفردية والاستعداد لمواجهة نتائج الأعمال والاختيارات الخاصة، وهو مستوى يتفاوت بحسب البلدان والفئات وغيرهما من العوامل، وتحدده أحيانًا المواقف الفردية والضمير الديني الفردي، إذ لا وجود لمسوّغ موضوعي ليتوجه الفرد إلى المفتي بعد أن أصبح له من المعارف الدينية وما أتيح له من الأدوات للوصول إلى تلك المعرفة ما يغنيه عن طلبها لدى طرف ثان قد لا تتوفر له الكفاءة وقد يكون مستواه العلمي دون مستوى المستفتي.
عيسى جابلي: بأي معنى يمكن اعتبار الفتوى صناعة؟ وهل تحوّلت إلى "سلعة" تخضع لقانون العرض والطّلب؟
زهيّة جويرو: الفتوى صناعة ما في ذلك شكّ، وهي كذلك منذ أن تحول الإفتاء إلى مؤسّسة، وهي سلعة يحكمها قانون العرض والطلب منذ أن أصبح الإفتاء "خطة من الخطط الداخلة تحت الإمامة الكبرى" كما يقول ابن خلدون ومنذ أن أصبح المفتي "موظفًا" يحصل على مزايا مادية ورمزية مقابل توليه عمل الإفتاء. ما حصل اليوم هو أنّ البعد "التجاري" والربحي في صناعة الفتوى أصبح أوسع حضورًا وأشدّ تأثيرًا في صناعة الفتوى وحتى المفتي، وفي تصنيع وعي ديني يثبّت سلطة المفتي على الأفراد وعلى الوعي العامّ. يظهر هذا البعد التجاري من خلال مظاهر عديدة: توظيف الأنظمة والأحزاب وجماعات السلطة والمال لمفتين مكلفين بمقابل بإضفاء الشرعية على اختياراتهم السياسية وعلى أعمالهم ونشاطاتهم، وإخراج أحكامهم في صورة أحكام شرعية باستصدارها من المفتي، وتزايد القنوات التلفزية الربحية المتخصصة في الإفتاء والبرامج الدينية، وتزايد مواقع الإفتاء على النيت وتزايد روّادها ومنها مواقع تدرّ على أصحابها أموالاً طائلةً، موقع "إسلام-ويب" على سبيل الذكر، وبداية تشكل فئة اجتماعية ضمن أعلى فئات المجتمع دخلاً تتكوّن من المفتين وشيوخ الدين.
عيسى جابلي: كيف تؤثّر الفتوى في الواقع؟ وما مدى خطورتها؟
زهيّة جويرو: الفتوى في الأصل "إخبار بحكم الشرع في نازلة من النوازل دون إلزام" تمييزًا لها عن القضاء حيث يكون الحكم ملزمًا وواجب التنفيذ. أما الفتوى فهي مجرد إخبار وليس لها أي قوة إلزامية، ومن ثمّ يتوقع أنّ الفتوى ليس لها تأثير مباشر في الواقع ولا في أعمال الأفراد وعلاقاتهم، وأن ينحصر تأثيرها في المجال الفردي والشخصي حيث يحق للفرد أن يسلك ما يشير به عليه المفتي وأن يتقيد به في عباداته وفي معاملاته. ولكن واقعيًّا مارست الفتوى سلطة كبيرة على العقول من خلال ما تقوم به من أدوار في صناعة الوعي وفي توجيهه، ومن الأمثلة على ذلك أنّ الدول، فيما هو معلن رسميًّا، عملت على منع مواطنيها من الانخراط في التنظيمات الإرهابية وفي ما تخوضه هذه من حروب وما تقترفه من جرائم، وعملت الأسر هي الأخرى ما في وسعها لحماية أبنائها من الانخراط في هذه الظاهرة وفي تنظيماتها، وعلى الرغم من ذلك لم يكن لإجراءات الدول ولا لحرص الأسر ما كان لفتاوى أصدرت للإقرار بالطبيعة "الجهادية" لما صنفته دول كثيرة أعمالاً إرهابية من سلطة وتأثير دفعًا ومازالا يدفعان بأعداد من الأشخاص للانخراط في تلك المنظمات والمشاركة في أعمالها.
ومن ثمّ فإنّ خطورة الفتوى تظهر خاصة في أنّها يمكن أن تمثل من جهة منافسًا للدولة في مجال يعتبر من اختصاص مؤسساتها ومن صلاحياتها، كما يمكن أن تمثل عامل اضطراب وفوضى عندما تكون توجهات المفتي أو المؤسسة الإفتائية متعارضة مع توجهات الدولة ومؤسساتها والرأي العام لمواطنيها، فالإفتاء مثلاً بأنّ "إبطال الحاكم العمل بحكم شرعي" يدخله تحت طائلة الكفر حتى وإن كان ذلك "الإبطال" صادرًا عن مؤسسة منتخبة وشرعية، وهذا مما لا يخفى خطره على الدولة وعلى استقرارها.
عيسى جابلي: أيّهما برأيك يصنع الآخر: الفتوى أم الواقع؟ أي هل نحن إزاء صناعة الفتوى أم صناعة الواقع؟
زهيّة جويرو: التأثير بينهما متبادل حقيقة، وما كان بإمكان مؤسسة الإفتاء أن تستمر في أداء وظيفتها على امتداد أكثر من 12 قرنًا لو لم تكن قادرة على أن تصنع لنفسها، حقيقة أو وهمًا، واقعًا غير مهيّإ للقطع معها. لكن وجب هنا التمييز بين صناعة الواقع فعلاً وصناعته على صعيد الوعي. فالأرجح أنّ الفتوى، بحكم حدودها ومفهومها، لم تكن قادرة على الفعل الحقيقي في الواقع، حيث كانت الأحكام الفقهية التي تطبق قضائيًّا في مرحلة، ثم القانون الوضعي في مرحلة أخرى هما اللذان يحكمان الواقع عن طريق قوّة القانون، وفي المقابل كانت الفتوى تصنع الوعي الفردي والجماعي وهذا ما يكشف وجهًا آخر من وجوه خطورة الفتوى في عصرنا، حيث نجد تعارضًا فادحًا بين واقع تشريعي يحكمه القانون الوضعي ومؤسسات الدولة ووعي تشريعي تحكمه الفتوى ويوجهه المفتي، نحن نعيش الآن في دول واقعها التشريعي مدني -وضعي في توجهه العام بينما نسبة لا بأس من الناس مازالت محكومة بوعي تشريعي ديني-فقهي يدفعها إلى معاداة الدولة وتوجهاتها بدعوى عدم التزامها بتطبيق الشريعة.
عيسى جابلي: ألا ترين أنّ وجود الفتوى في حياة المسلم تفترض قصورًا في معرفته الدينية ونظرته إلى الدين ووظيفته في حياته؟ أم إنّه في حاجة دائمة إلى وسيط يدلّه إلى الأحكام الشرعية لأعماله؟
زهيّة جويرو: ما كان يمكن للفتوى أن تشتغل دون التقسيم الذي أشرت إليه أعلاه اعتمادًا على مفهوم التكليف، فبواسطة تفعيل هذا المفهوم قسم علماء أصول الفقه المسلمين إلى مكلفين بمعرفة الأحكام وبتعريف العاميّ بها ومكلّفين بالعمل بتلك الأحكام دون تكليفهم بمعرفتها لأنّهم لو فعلوا ذلك "لضاع الزرع وانقطع الحرث" على حدّ عبارة الغزالي، وهؤلاء هم "العوام"، وتبعًا لذلك كان من الطبيعي أن يكون هناك قصور في معرفة الفئات الاجتماعية الأوسع بالدين وبغيره وأن يظل مستوى وعيها متدنيًا حتى يسهل بذلك التحكم فيها. وكان يفترض أنّ هذا الوضع لم يعد قائمًا اليوم بعد انتشار التعليم وتعميمه، ولكن ظل المفتي من جهة يدّعي احتكار المعرفة بالشرع، وظل عامّة الناس يتوهمون أنّهم لا يملكون الكفاءة لتشكيل معرفتهم الدينية الخاصة ولا للبحث بأنفسهم عن أجوبة لأسئلتهم بدعوى أنّ هذه تحتاج "شيخًا" متخصصًا، لذلك لا نستغرب أن يتوجه الطبيب إلى المفتي بأسئلة طبية، وأن يتوجه عالم النفس والمتخصص في الفلسفة والفيزيائي وغيرهم بأسئلة إلى المفتي في صلب تخصصاتهم العلمية والمهنية طالبين "حكم الشرع" فيها. وفي هذا ما يدل على أنّ النظام المعرفي الأصولي العتيق -والذي لا نطمئن حتى إلى تصنيفه بكونه دينيًّا، ما زال يتحكم في العقول والتصرفات بواسطة مجموعة من الأوهام المؤسّسة تأسيسًا "دينيًّا".
عيسى جابلي: جاء في الحديث أنّ "الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام") رواه البخاري ومسلم)، كيف تقرئين هذا الحديث في علاقته بصناعة الفتوى؟
زهيّة جويرو: من الواضح أنّ هذا الحديث كان واحدًا من الأدلة التي استخدمت في تصنيع الأوهام التي أشرت إليها سابقًا، وهي أوهام تحكمت في الواقع وفي الوعي زمنًا طويلاً ومازالت مستمرة تتحكم في الوعي، فهذا الحديث، على فرض أنّه صحيح على الرغم من كل المآخذ وكل دواعي الشك في صحة نسبة كبيرة من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول، إذ يذكر أنّ كثيرًا من الناس لا يملكون المعرفة الكفيلة بتمكينهم من تبين حكم المتشابهات بنفسه لا يقرّر حقيقة كونية لا زمنية وغير قابلة للتغير، إنّه يصف واقعًا كانت فيه الغالبية العظمى "أمية" بالمعنيين: بمعنى أنّها لا تحسن القراءة والكتابة، ولا تملك- معرفيًّا - "الكتاب" الذي تحتاجه لتنظيم وجودها الاجتماعي ولذلك تولى عنها المفتي أو الفقيه أو "العالم" هذه الوظيفة، وظيفة بيان الشبهات وتحديد أحكامها. وقد اكتسب "العالم" بفعل هذه الوظيفة سلطة ما فتئت تتوسع وتشمل المادي والرمزي، هي سلطة على العقول والوعي وسلطة سياسية-مالية اكتسبها من تضامنه مع السلطان. والمفتي في الراهن، وعلى الرغم من تغير وضع المعرفة ووضع الإنسان إزاء المعرفة وموضوعاتها، بما فيها الموضوع الديني، مازال مصرًّا على الترويج لمبدأ أنّ هذا الحديث غير قابل للمراجعة وأنّه ينطق بحقائق لا تتبدل، ومن ثمّ على اتهام كل من "يتجرأ" على هذه المراجعة الممكنة والمشروعة بشتى التهم، وأقربها وأيسرها عند كثيرين التكفير.
عيسى جابلي: كيف تقيّمين إقبال المسلمين على طلب الفتاوى في مختلف نواحي الحياة؟
زهيّة جويرو: لا أخفيكم أنّه إقبال يظل غير مفهوم في جوانب كثيرة بالنسبة إليّ، لا أفهم كيف يسمح المرء لنفسه بأن يتوجه إلى المفتي على قنوات فضائية أو على مواقع على النيت ليسأله حول كيفية مضاجعته زوجته، أو ما إذا كانت طريقة ما في المضاجعة "شرعية" وغير ذلك من هذا النحو من المسائل الشخصية الحميمة والراجعة في نظري إلى الذوق الفردي وأخلاقيات الشخص وقناعاته، لا أستطيع أن أفهم كذلك سلوك امرأة تستفتي في نتف الحاجب، ولا طبيبًا يستفتي في استعمال وسائل تنظيم الحمل... يكفي أن يتصفح المرء أحد مواقع الفتوى وينظر خاصة في الأسئلة حتى يرى عجبًا ويرى خاصة أنّ مجتمعاتنا، بنسبة هامة منها، مجتمعات "مريضة"... يبدو في حالات كثيرة أنّ الناس يسألون من باب التنفيس أو أنّ الأسئلة غير جدية بالمرة... وفي كل الأحوال تمثل هذه الأسئلة مدونة ثرية ومناسبة لدراسات اجتماعية ونفسية وثقافية.
عيسى جابلي: هل ترين أنّ مقدّمي الفتاوي مؤهّلون لهذه المهمّة؟ وكيف تقيّمين ما يقدّمون من فتاوى بالنّظر إلى واقع المسلم المعاصر؟
زهيّة جويرو: من وجوه فوضى الإفتاء المشار إليها سابقًا انعدام الضوابط والمراقبة، الكثير من المفتين اليوم لا ضوابط تحكمهم من قانون ولا من ضمير ولا من دين، فالشروط المعرفية في الحدّ الأدنى، والشروط الأخلاقية مفقودة تمامًا وظاهرة "تولي الفتوى من هبّ ودبّ" التي جاء الحديث عنها في مصادر تاريخية تعود إلى القرنين الخامس والسادس، بلغت في عصرنا أوجها، ويكفي أن يتصفح أي كان في النيت "غرائب الفتوى وشواذها" التي تتراوح بين إرضاع الكبير ومفاخذة الصغيرة ومضاجعة الميتة وما إلى ذلك، وفتاوى ذات صلة بقضايا عامة سياسية وأمنية حتى يتبين أنّنا إزاء ظاهرة مرضية خطيرة يجب التفكير المعمّق في كيفية معالجتها والحد من آثارها الخطيرة. ويبقى دور الفرد ووعيه أساسيين في هذه المعالجة في فضاء إعلامي مفتوح أصبحت مراقبته صعبة.
* نشر هذا الحوار في سلسلة الملفات البحثية "صناعة الفتوى"، إشراف وتنسيق، بسام الجمل وأنس الطريقي، قسم الدراسات الدينية، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2016