سؤال الترجمة الفلسفية في أفق هيرمينوطيقي
فئة : مقالات
سؤال الترجمة الفلسفية في أفق هيرمينوطيقي
*- "قل لي كيف تفكر بالترجمة، أقل لك من أنت" مارتن هايدغر
الترجمة ليست مجرد موضوع من الموضوعات التي تدرسها الفلسفة بوصفها ميدانا يهتم بالسؤال عن معنى الكلام والوجود في ارتباطهما، بل إنها فعالية تدخل في صميم التفكير الفلسفي نفسه. فكل فلسفة تصبو لأن تجعل من نفسها فكرا كونيا، هي بالضرورة في حاجة للترجمة. ولا يوجد نص يخلو من نصوص أجنبية تعبره، اللهم إن كان هذا النص الأول من نوعه الذي كتب، كما أن كل ترجمة تطمح أن تكون تعويضا عن اللغة الفردوسية التي أطاح بها حدث بابل، فهي تنطلق من مبدأ فلسفي محض. ويمكن اعتبارها شكلا من أشكال التفلسف.
كل تفكير لا يكتمل إلا بالترجمة، وكل ترجمة لا تصيب هدفها إلا بالتفكير. هذه هي العلاقة التي جعلت من الترجمة مبحثا فلسفيا أسال مداد ثلة كبيرة من الفلاسفة الذين آمنو بأن مصير الكتابة بيد الترجمة، وأن الترجمة شكل من أشكال الهيرمينوطيقا. ولأن المسؤولية تكليف أكثر مما هي تشريف. أضحى عمل المترجم يقتضي منه تجشم مهمة الترحل بين ثقافتين مختلفتين. والتنازل عن ذاته لصالح الثقافة التي تستضيفه، لكي يتسنى له فهمها بكيفية تخول له نقلها صوب لغة أخرى. نقلا يحافظ على خصوصية النص الأصلي من جهة وخصوصية اللغة التي يترجم إليها من جهة ثانية. ولما كان ذلك شرطا تعجيزيا لا يمكن معه تحقيق جزء منه إلا بالتنازل عن الآخر. كانت الترجمة حدثا تراجيديا يأتي دائما مصحوبا بشعور الألم والخسارة، "وهو ليس فقط ألم المترجم، بل أيضا ألم النص المترجم والمعنى المحروم من حرفه، فالترجمة تخترق حميميتهما"[1].
إن ممارسة الترجمة مشروطة بتقبل الخسارة كجزء من قدرها؛ إذ في كل عملية ترجمية يمكن معاينة نوع من التنازل على حساب اللغة المصدر أو اللغة الهدف حتى تتم عملية الانتقال. يطلق على هذه العملية اسم Entropie. حالة سيكولوجية يجد فيها المترجم نفسه عالق في الوسط. في وضع غير مريح يقول عنه أنطوان بيرمان: "على المستوى النفسي فإن المترجم متعدد الاتجاهات ويريد اقتحام الجانبين، إجبار لغته على التشبع بالغرابة وإجبار اللغة الأخرى على النزوح إلى لغته الأم"[2]. المترجم هنا كالرجل الذي عليه أن يختار بين البقاء مع أمه المريضة أو الذهاب للدفاع عن وطنه. إنها معضلة أخلاقية وجودية تتمثل في تقريب القارئ من الكاتب وتقريب الكاتب من القارئ. أكثر من كونها قضية فكرية، نظرية تطبيقية. فالمسألة هنا لا تتعلق بقابلية الترجمة أو استحالتها فحسب، أو نوع الترجمة الأكثر إخلاصا للنص. وكل تلك الإشكالات التي تأتي من خارج عمل المترجم وتملى عليه، بل هي إشكال يتفجر من صميم عمل المترجم. إنه قرار. أيهما سيختار الولاء له؟ النص الأصلي أم خصوصية لغته؟ هل الترجمة خيانة بطبعها أم إن عمل المترجم حينما يصبح تأويلا إيديولوجيا فيه ولاءات هو الذي يكون خيانة للترجمة؟
*- الأمانة والخيانة بديلا عن قابلية واستحالة الترجمة عند بول ريكور:
"أقترح وجوب الخروج من هذا البديل النظري: قابل للترجمة مقابل غير قابل للترجمة وتعويضه ببديل آخر أكثر عملية ينبثق من الممارسة الترجمية ذاتها وهذا البديل الأمانة مقابل الخيانة".[3] بول ريكور
بالنسبة إلى ريكور كل محاولة للتكهن بقابلية الترجمة أو استحالتها دائما ما تصل إلى نفق مسدود؛ لأن النظريات المتعلقة بالترجمة غالبا ما تميل للتطرف. والبحث عن هياكل خفية تنبعث من جثمان لغة أصلية مفقودة اندثرت أو التهمت من قبل لغات أخرى، أو إن الكيفية التي يفهم بها الكلام والخيالات التي يلتقطها ذهن المتلقي من خلال لغة الثقافة التي ينتمي إليها ليست هي الكيفية نفسها التي قد تصل بها الفكرة لأجنبي عن هذه الثقافة. "فإذا قلت ''خشب ''في اللغة الفرنسية، فإنك ستجمع كل المواد الخشبية إلى جانب فكرة غابة صغيرة، لكن في لغة أخرى، تجد هاتين الدلالتين نفسهما منفصلتين ومجموعتين في نظامين دلاليين مختلفين"[4]. في نفس السياق دائما وفي إطار معارضتها لعولمة اللغة، تقول الفيلسوفة الفرنسية باربارا كاسانBarbara Cassin: "عندما أقول "bonjour" بالفرنسية، لا أقول سلام أو shalom. فعلى عكس العربية والعبرية، لا أتمنى لكم السلام، بل أتمنى لكم يومًا جيّدا. كما أنني لا أتمنى لكم، مثل اليونانيين القدماء، "khaîre" أن تفرح، أن تستمتع. ولا أتمنّى لكم، مثل اللاتينيّين، "salve"، أن تكونوا بخير. أنا ببساطة أفتتح اليوم. لكل لغة رؤيتها الخاصة للعالم."[5] ولعله الأمر الذي يجعل بعض النظريات تذهب للقول إن الترجمة مستحيلة طالما أنها عاجزة عن ترجمة الرؤى في نفس القالب اللفظي.
وهذه الأطروحة التي تجعل الترجمة نظريا مستحيلة نتاج لفرع من فروع الإثنو-لغوية Ethnolinguistique، نتحدث هنا على وجه التحديد عن؛ الورفانية -فرضية سابير وورف Sapira-whorf hypothesis[6] التي تمسكت بالتأكيد أن أفكار وأفعال الأشخاص تقررها اللغة، وأن الكائنات البشرية تعيش تحت رحمة اللغة؛ أي إن الانسان ابن لغته. النتيجة التي يمكن استخلاصها من هذه الأطروحة هو أن اللافهم إمكان حقيقي، وأن الترجمة مستحيلة طالما لا يمكن للمرء أن يفهم إلا وفق توليف لغوي واحد. لعل تذبذب المواقف هذا إزاء الترجمة لا يعكس بالضرورة وجهين متناقضين للعملية الترجمية، بل إننا إذا عدنا في الأصل للمنطلقات التي تتناول موضوع الترجمة، سنجدها تتضارب. فالفريق الذي قد يقول باستحالة، يتناول اللغة من فرع اللسانيات ويدرسها بذاتها وفي ذاتها؛ أي إنه لا ينظر إلى النصوص من حيث هي أفكار، بل يشرحها ويتعامل معها كظاهرة لغوية تحكمها قواعد محددة. في المقابل وحينما يتعلق الأمر بالترجمة كآلية للتواصل وبالنظر إلى اللغة في شموليتها، فتلك مهمة فيلسوف اللغة كمنظر وكمترجم؛ فهو لا يكترث بالجوانب النحوية في النصوص والكلمات، بل بالأفكار التي تعبر عنها. يقول بول ريكور تعبيرا عن هذه الفكرة "مهمة المترجم لا تتوجه من الكلمة إلى الجملة، فإلى النص ثم المجموعة الثقافية ولكن العكس. وبتمثله لقراءات واسعة لروح الثقافة ينزل المترجم من النص إلى الجملة فإلى الكلمة."[7] فالكلمة آخر ما يلتفت إليه المترجم، وبما أن هذا الموضوع ينهل من منطلقات أقرب منها للفلسفة من اللغة، فإشكالنا ليس إشكالا فيلولوجيا، بل هو إشكال أنطولوجي يتعلق بمساءلة فلسفية لفعل الترجمة تأخذ في حسبانها حتمية أن الوضع البشري وضعا مشتركا بين كل البشر. و"لأن البشر يتكلمون لغة مختلفة لهذا وجدت الترجمة[8]"، لتعيد التواصل بين الناس وتضع حدا للقتال الذي عقب حدث بلبلة الألسن. وبتعبير دريدا "تأتي الترجمة في اللحظة الأخيرة، لتمارس عزاء من عاشوا قتالا، اتهامات، شعورا بالقلق والتوتر، لتعلن حداد لزمن ما، بغية التحضير لمرحلة جدية يكون فيها الناس أكثر قابلية للتفاعل"[9]. والمترجم هنا بمثابة المسعف لثقافة على شفة حفرة من الاندثار. لهذا، كان وضعه وضعا يدعو للتوتر والترقب لما سيحدث. فمن شأن كلمة واحدة في غير محلها -أو أنها لا محل لها في اللغة التي سترحل اليها- أن تطيح بنص كامل. نذكر على سبيل توضيح حساسية فعل الترجمة الاختلاف الذي حصل بخصوص ترجمة ديوان "les fleurs du mal" لبودلير في المشهد الفكري العربي. رغم أن القارئ العربي الذي لا يفهم إلا لغته الأصلية لم يحض بفرصة قراءة هذا العمل الذي زعزع سكينة الأدب في أوروبا سنة 1857، وقاد صاحبه لمساءلة قانونية أمام القضاء بتهمة القفز على التابوهات. حدث هذا كله ولم يطأ ديوان بودلير الأراضي العربيةـ إلا بعد مرور قرن من الزمن على يد الشاعر المصري إبراهيم ناجي في شكل مختارات عام 1954بعنوان "أزهار الشر". ويا أسفاه على القارئ العربي الذي عايش أحداثا تاريخية حاسمة اختلت على إثرها موازين العالم، ولم تتسنّ له لحظة رفاه واحدة ليقرأ لبودلير. ووافته المنية محروما من هذه المتعة بفعل غياب مبادرة فعلية للترجمة. ليس الهدف من هذا القول تحويل نصنا لمرثية على حظ الكائن العربي والبشري الملعون ببلبلة لسانه عموما. ولكن للتذكير بين الفينة والأخرىأ بأهمية الترجمة ولو في صدد معارضتها. ما نود قوله إنه في سنة 1981 عرب مصطفى القصيري ديوان بودلير بعنوان مختلف اختلافا جوهريا على مستوى المعنى "زهور الألم".
بالكاد، فالشر في اللغة العربية يرتبط بالمسألة الجينالوجية بوصفه قيمة تتنافى والخير. في حين يشير الألم لشعور غير جيد يحدث نتيجة اختلال وجع فيزيولوجي أو سايكولوجي. لكن في المقابل تعبر كلمة "Mal" في اللغة الفرنسية على المعنيين معا. الشر والألم؛ أي الترجمتين إذن أقرب للنص الأصلي؟ وأيهما قربت مقصد بودلير أكثر؟ سؤالنا هذا لا يرمي إلى إقامة تقييم للعمل الترجمي واختيار أيهما أفضل؛ فتلك مهمة الناقد في مجال الترجمة، لكنه لهدف إبراز كما قلنا سابقا مدى حساسية فعل الترجمة من جهة، وللإشارة من جهة أخرى إلى استبعاد إمكانية حدوث عملية ترجمة متطابقة. فعمل المترجم بالنسبة إلى ريكور يقوم على تكافؤ غير تطابقي، Équivalence sans identité.
أيمكن إذن تفسير الخيانة التي ترافق فعل الترجمة بهذا اللاتطابق؟
الترجمة خيانة
“Trduttore, traditore”
عندما تكون هذه العبارة الإيطالية "المترجم خائن" مستهل قولنا، نبدو كما لو أننا بصدد إصدار حكم قيمة مسبق قد تكون له مبرراته الموضوعية فيما بعد وقد يكون التبرير الوحيد هو أن الخيانة في الترجمة شر لا بد منه. من السهل على الدارس لتاريخ تطور التراديكتولوجيا عموما أن يلاحظ أن ظهور مصطلح الخيانة اقترن بسياقين؛ الأول يفسر بالغاية الإستطيقية من فعل الترجمة، إذ إن المترجم يخون أو بتعبير آخر يتصرف بحرية في الترجمة ليعطي في نهاية الأمر نصا بديعا وجميلا، من شأنه أن يحقق نفس درجة الإمتاع التي يحققها النص الأصلي لقارئه. عرفت هذه المرحلة بالخائنات الجميلات. أما التفسير الثاني للخيانة في الترجمة، فهو كون هذه الأخيرة بمثابة خدمة سيدين؛ لا يمكن الوفاء لأحدهما دون خيانة الآخر.
الخائنات الجميلات les belles infidèles
في حديثنا عن "الخائنات الجميلات" كمرحلة عرفها تاريخ الترجمة -انطلقت إرهاصاتها الأولى منذ القرن 16 ميلادي وانتعشت خلال القرنين 17 و 18 م مع تزايد الحاجة لترجمة الآداب القديمة - قد ننفلت من سؤال الترجمة الفلسفية إلى الحديث عن أنماط تعبيرية أخرى أي؛ الشعر والأدب؛ اذ طرحت ترجمة الشعر والأدب القديمين من جديد سؤال المعنى وعنصر الجمال في النص الإبداعي؛ فالذي يميز الشعر على وجه الخصوص هو جماليته وتجاوزه حدود الممكنات النثرية على مستوى الإمتاع. فكيف سيكون بمقدور الترجمة ألا تفسد هذا الجمال، وفي الآن ذاته ألا تخون أسلوب النص الأصلي؟ لقد كان السماح للمترجم أن يصوغ معنى النص الذي يترجمه في القالب الذي يريده، اللحظة التي تسلل فيها مبدآ الأمانة و الخيانة كوجهين من أوجه الترجمة. ومع التأكيد على أهمية عنصر الإبداع في عملية نقل المعنى حفاظا على خصوصية الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه النص في أصله. انبثق السؤال عن طبيعة عمل المترجم عما إذا كان عملا إبداعيا يستخلص فيه من النص الأصلي نصا بديعا جديدا؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، فيمكن للبعض اعتبار المسألة من وجهة نظر أخلاقية تعبيرا عن قلة تقدير وامتنان للنص الأصلي. تلك هي المسألة. فمتى ما ولّى المترجم وجهه لجهة أدار ظهره لجهة أخرى. يتجاذفه تياران، النص الأصلي المتمسك بالحفاظ على خصوصيته، والقارئ المسكون بهاجس تملك النص كأنه كتب له وبلغته. لذلك، كانت الترجمة خدمة سيدين.
الخيانة ضرورة تقتضيها الترجمة:
“Traduire signifie servir deux maitres à la fois“ Franz Rosenzweig[10]
لا يمكن للمرء خدمة سيدين كما يقول يسوع: «لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ" (مت 6: 24).
كذلك، عندما يأخذ مترجم على عاتقه مهمة ترحيل نص من لغته الأصلية وسياقه الثقافي والتاريخي، ثم انتزاع المعنى من حرفه، فإن الأمر ليس ببساطة خلع النص الجديد لثوبه اللغوي السابق والخروج بحلة لغوية أخرى. يتعلق الأمر أكثر من ذلك، بمحاولة تسوية صراع لغتين مختلفتين؛ أي بخدمة المؤلف واللغة الأجنبية من جهة والقارئ، ثم اللغة التي سيحيك بها نصه الجديد من جهة أخرى، أيهما سيختار الولاء له؟ إذا كان سيعمل على تكييف العمل الأجنبي واللغة التي سينتقل إليها بطريقة كلاسيكية، فإنه سيخون بكل تأكيد الأصل. أما إذا حصل العكس، فإنه سيخون ويخيب أمل قارئه في أن يتملك النص. الأمر لا يتوقف على تحري الأمانة، بل على اختيار أي سيد ستتم خيانته. عموما، لن تكتمل الترجمة ما لم تكن خيانة. ولكي تكون خيانة مشروعة في نطاق الضرورة ليست تلك مهمة المترجم فقط، بل هي مسؤولية مشتركة بين الكاتب والمترجم معا. على المترجم أن يبذل جهدا في سبيل الترحل نحو تربة النص الأصلي والتشبع بثقافته من جهة. من جهة ثانية، على الكاتب أن يمنح لنصه فرصة حيوات أخرى تتجاوز الشرط الزمكاني؛ أي أن يجعل نصه قابلا للترجمة. يقول دريدا في هذا السياق: "لا يعيش النص إلا متى كان قادرا على البقاء، ولا يبقى إلا متى كان يقبل الترجمة يمتنع عليها في الآن نفسه"[11]؛ بمعنى آخر وفي القانون الطبيعي للنصوص البقاء للنص القادر على التكيف مع بيئات أخرى، والذي ينطوي في نفس الوقت على عمق لا يمكن بلوغه. يستطيع معه الحفاظ على خصوصيته وتفرده داخل ثقافات أجنبية.
الترجمة بوصفها شكلا من أشكال الهرمينوطيقا:
"Comprendre c'est traduire"[12]
يقترن فعل الترجمة اقترانا وثيقا بالفهم وإدراك معاني النص الخاضع للترجمة، لكن مع ذلك فثمة مجال للافهم وثمة عمق كما قلنا سابقا في النصوص، لا يمكن بلوغه، يبقى التوصل إلى حيثياته رهينا بالتأويل. في إطار هذه العلاقة بين الترجمة والفهم من جهة، والترجمة والتأويل من جهة ثانية. بالإضافة إلى جدلية الفهم والتأويل في مبحث الهيرمينوطيقا، يصبح سؤال الترجمة سؤالا عن علاقة المترجم بالمقروء بعد أن كان في البداية سؤالا عن علاقة القارئ بالنص المترجم. وفي هذا السياق، أي سياق تحديد جوهر علاقة الترجمة بالفهم يقول إمبرتو ايكو في عبارة شهيرة "أن نترجم معناه قول الشيء نفسه تقريبا بلغة أخرى'' و قد تناسلت عن هذا القول تساؤلات عن كيفية قول الشيء نفسه بلغة أخرى، وهل يمكن أن نصوغ الشيء كما هو بذاته بلغة أخرى مع أن اللغة التي كتب بها هي جزء من ذاته؟ ألا يمكن لهذا التجريد وإن كان ضرورة أن يحول دون الحفاظ على هوية هذا الشيء؟ وهي إشكالات تسائل لحظة نقل النص وتحاول تأمين رحلة وصوله. كأنما المعضلة ترتبط بالقول واللغة فحسب. وكأن الأشياء في ذاتها بحوزتنا وتحت إرادة فاهمتنا. في حين أن هناك سؤالا لا يقل أهمية، وهو: هل يمكننا أن نفهم الشيء نفسه والنص ذاته كما أراد له صاحبه؟ لا يمكن أن نستحم في النهر مرتين، ولا أن نقرأ النص نفسه مرتين وبالطريقة نفسها، بل قد نمضي أبعد من هذا، ونقول لا يمكن للنص كما كتبه صاحبه أن يقرأ ويفهم كما أراد أبدا. فالنص يموت لحظة ولادته وكل ما يعقبه من قراءات وترجمات مجرد محاولات تأبين له. ولا يستنطق الميت إلا تأويلا. ومصير كل مكتوب رهين الطريقة التي سيؤول بها.
"ما أن يصبح الشيء مكتوبا، حتى يصبح تداوله متساويا بين الذين يفهمون الموضوع، وبين الذين لا اهتمام لهم به. فالكتابة لا تميز بين القراء المناسبين وغير المناسبين"[13] فماذا لو كان هذا القارئ مترجما ومسؤولا عن ضمان بقاء النصوص؟ بل أكثر من ذلك هو مسؤول عن وضع استراتيجيات وفرضيات عن الطرائق التي سيؤول به النص الذي أصبح في ذمته. يقول غادامير في هذا الصدد: "هنا يجب على المترجم أن يترجم المعنى ليفهم في السياق الذي يحيى فيه المتكلم، وهذا لا يعني بطبيعة الحال، أنه حر في تحريف معنى ما يقوله الآخر. بالأحرى يجب أن يصان المعنى، ولكن مادام يجب أن يكون مفهوما ضمن عالم لغة جديدة فيجب أن يأسس شرعيته ضمنها بطريقة جديدة. وهكذا كل ترجمة هي في الوقت نفسه تأويل. حتى أننا يمكن أن نقول إن الترجمة هي ذروة التأويل الذي يكونه المترجم للكلمات".[14]
فحينما يتعلق الأمر بتجسير المسافة بين معنى النص وفهم القارئ يحل الجهد التأويلي محل العمل الترجمي، بل إن العملية برمتها تصبح تأويلا، حينما يكون المطلب نزع الغرابة عن اللغة الأجنبية؛ ذلك لأن الغرض أساسا من الترجمة ليس خدمة الألفاظ أو عقد قران بين اللغات بتعبير ولتر بينيامين. صحيح أن الترجمة تكفل ذلك لكنها ليس بهدفها الجوهري. يعبر المفكر عبد السلام بنعبد العالي عن هذه الفكرة في إحدى محاضراته بعبارة هايدغرية الأصل قائلا: "إن كانت عملية الترجمة تلاقي بين لغتين وتجعلهما تدخلان في حوار بينهما، فإن ذلك لا يشكل العنصر الجوهري للترجمة. غالبا ما يحدث أن الكلام نفسه إذا نطق به داخل اللغة الأم يكون في حاجة للتأويل. وبالتالي، فإن هناك بالضرورة ترجمة وذلك حتى داخل اللغة الأم ذاتها "يضيف بنعبد العالي" ما يشكل جوهر الترجمة إذن ليس كونها حركة بين اللغات. وإنما كونها تأويلا"، بل إن ماضي الترجمة كمفهوم يجد جذوره في اللفظ اليوناني "hermeneuin". فاليونان القديمة لم تبدع أي نظرية في الترجمة، ولم تعرف أي عملية ترجمة لسبب أنها لم تكن في حاجة لذلك، وهي التي كانت تعتبر كل ما ليس اغريقيا بربريا "barbares" كمحاكاة صوتية لـ "blablabla". إشارة إلى كون لغة الآخر لغة بدائية تترجم بإشارات فحسب. من ثم، لم تكن هذه الحضارة السامية عن غيرها في حاجة لأن تكون مقروءة من الأجنبي. ولعل ذلك يفسر بنوع من الكبرياء والاكتفاء الذاتي الذي يكون عادة لدى كل حضارة تحرز تقدما. في كتابه "لن تتكلم لغتي" يثير عبد الفتاح كليطو هذه القضية بسؤال "لماذا ترجم العرب أفلاطون وأرسطو، ولم يلتفتوا إلى هوميروس وسفوكليس؟ "كتب الكثير حول هذه المسألة فقيل مثلا إن العرب وقعوا "ضحية الكبرياء". لقد كانوا يعتقدون أن شعرهم بلغ الغاية في الجودة والكمال. فما الداعي والحالة هذه إلى الاهتمام بالآخر؟[15]
لقد كان الدافع للترجمة مرتبطا بالحاجة إذن. ولما كانت الحاجة في السابق لتداول الأفكار وليس لتثاقف اللغات، كان التأويل مطلبا أوليا عن الترجمة. عموما كما يقول دادفيد جاسبر: "لا يمكن فصل النشاط الفلسفي عن العمل الهيرمينوطيقي، فالهيرمينوطيقا ليست خيارا زائدا أو إضافيا على الفلسفة، أو العكس"[16]، كما أن الترجمة هيرمينوطيقا لأنها بكل بساطة عمل إنسان قارئ قبل أن يكون مترجما. فهو يتعامل مع النص ويفهمه، انطلاقا مما يبدو له أنه مقصود؛ لأن القراءة في صميمها ونظرة الإنسان للعالم في شموليتها، لا تتم وفق معاير من شأنها أن تضطلعنا عن الأشياء كما هي، بل يتم ذلك وفق شروط ومحددات وجودنا الذاتية. ثمة عبارة شهيرة للرومنطقيين تقول: "نحن نخلق بنسبة النصف ما ندركه" والمستشف منها أننا لا نعرف ولا نفهم، بل نؤول فحسب. وبتعبير نتشه "لا توجد حقائق، وإنما تأويلات". لما كان المترجم كذلك، كانت قراءة العمل المترجم بمثابة نوع من الميتاهيرمينوطيقا؛ أي تأويل فوق تأويل المترجم. من ثم، جاء تشبيه المترجم بالذي ينقل الماء في راحة كفه. وهذا لا يبرر بأي شكل من الأشكال معارضة الترجمة أو التنقيص من عمل المترجم، طالما أن المعضلة لا تتعلق بالعملية في ذاتها، بل بطبيعة اللغة وامتناع المعنى عن الانفصال عن حرفه.
ختاماً، وإن كان من المستعصي ختم القول بخصوص هذا الصرح الذي لم يكتمل بناؤه بعد. فما يمكن أن نقول على سبيل فتح إشكالات لاحقة لا حل السابقة، هو أن كل عملية ترجمة بدورها تفكير محمول من طرف الفكر. وإن كانت ثمة فلسفة مترجمة أو ترجمة فلسفية؛ ففي المقابل وحينما تلفي الترجمة نفسها موضوعا تتناوله الفلسفة، نصبح بصدد فلسفة للترجمة. يكون بمقتضاها فعل الترجمة حركة في فضاء الفكر. وسعي نحو تحرير الأفكار من الحدود اللغوية والسماح لها بالتصاهر والتلاقح في إطار ثقافة كونية شمولية. يبدعها الإنسان بذاته للإنسان في ذاته بعيدا عن كل تجنيس أو رغبة في احتكار الفكر وتوطينه، سواء كان الذي وصلنا عبر النص المترجم هو ما أراده المؤلف أم إنه جهد تأويلي للمترجم، فهو أفكار لها قيمتها. ومتى ما تحققت متعة القراءة إلى جانب عامل الاستفادة وتحقيق الهدف التنويري من فعل الكتابة الذي يتمثل أساسا في تحفيز إعمال العقل من خلال المقروء. فمتى ما تم ذلك، أضحى سؤال تطابق النص الجديد والأصلي غير ذي أهمية. شريطة أن لا يقول المترجم صاحب النص الأصلي ما لم يقله أو أن يمرر أفكارا معينة في جلد غير جلده؛ أي ألا يصبح العمل الترجمي عملا إيديولوجيا يدس فيه سم الإيديولوجيا في عسل اللغة. فكما للمترجم حق التصرف في النص وتأويله وفق فهمه. للنص كذلك حق البراءة من كل ما قد يلحقه من تعقيبات تأتيه جراء الترجمة من بيئات غير البيئة التي نشأ فيها.
أما فيما يرتبط بالاتهامات التي لا ننفك نطلقها على المترجمين والهيرمينوطيقيين؛ فذلك أمر طبيعي ووارد دائما، حينما يتعلق الأمر بترحيل نص ما أو مفهوم من موطنه الأصلي، سواء كان هذا الموطن لغة، أو معنى أو سياقا. ومن شأن هذا الإشكال كما قلنا سابقا، أن يثير إشكالات مرتبطة بخطورة الترجمة. وكل ما بوسعنا أن نقوله بصددها إن مصير الترجمة يتحدد بنية المترجم ومستوى فهمه. أما عن فاعليتها، فهي رهينة بنوع الثقافة التي ستستضيف النص المترجم.
[1] انطوان بيرمان، الترجمة أو الحرف أو مقام البعد، تر: د. عز الدين الخطابي، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1، ص 63
[2] L’épreuve de l’étranger: Berman (A). P18
نقلا عن: بول ريكور: عن الترجمة، تر: حسين خمري. الدار العربية للعلوم ناشرون، ط 1، 2008، ص 21
[3] بول ريكور: عن الترجمة (مصدر سابق) ص 34
[4] نفس المرجع، ص 35
[5]“ Quand je dis « bonjour » en français, je ne dis pas salam ou shalom. À la différence de l’arabe et de l’hébreu, je ne vous souhaite pas la paix mais juste une bonne journée. Je ne vous souhaite pas non plus, comme les Grecs anciens, khaîre, de vous réjouir, de jouir. Je ne vous souhaite pas comme les Latins, salve, de bien vous porter. J’ouvre simplement la journée. Chaque langue engage ainsi comme une vision du monde”
Article de: BARBARA CASSIN, « Il faut résister à la globalisation des langues », le courrier de l’UNESCO, 30 Mars 2022
[6] اشتهر اللغويان إدوارد سابير وبنجامين لي وورف في القرن 20م بنظريتهما المشتركة في مجال نظريات الاتصال. تنص هذه الفرضية على أن البنية النحوية و اللفظية للغة شخص تؤثر على كيفية إدراكه للعالم. وأن اللغة محدد لأفكار الشخص.
[7] بول ريكور، عن الترجمة (مرجع سابق) ص 60
[8] “C’est parce que les hommes parlent des langues différentes que la traduction existe“
G.Steiner. Après BABEL. Une poétique DU dire et de la traduction, Paris, Albin Michel, 1978. P 58
[9] جاك دريدا، أبراج بابل، تر: صبحي دقوري، ت: إبراهيم محمود، دار الحوار للنشر والتوزيع ط، 1. 10/2015. ص 58
[10] Franz Rosenzweig: l’écriture, le verbe et autres essais. Traduction, notes et préface J.-L, Evard, Paris, PUF, 1998, P, 55
[11] J. Derridia, Survivre –Journal de bord P 147.148
نقلا: عن كاظم جهاد، حصة الغريب. (مرجع سابق)
[12] G. STEINER, Op.cit. P 29
[13] أفلاطون، محاورة فيدروس، تر: والتر هاملتون.
نقلا عن دافيد جاسبر، مقدمة في الهرمينوطيقا، تر: وجيه فانصو، الدار العربية للعلوم. ناشرون. ط 1. 2007، الجزائر ص 25
[14] هانز جورج غادامير، الحقيقة و المنهج. تر: د. حسن ناظم و علي حاكم صالح. مراجعة: د. جورج كتورة. دار أويا للطباعة والنشر والتنمية الثقافية، ط1. مارس 2007، افرنجي، ص 506
[15] عبد الفتاح كيليطو، لن تتكلم لغتي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت. ط 1، 2001. ص 51
[16] دايفيد جاسبر، مصدر سابق. ص 111