سارتر والإنسان المدان بالحرية
فئة : مقالات
سارتر والإنسان المدان بالحرية
«حين تنفجر الحرية يوماً في قلب إنسان، فإن الآلهة لا يملكون إلا العجز تجاه هذا الإنسان».
جان بول سارتر، من مسرحية الذباب، ص71
وجودية سارتر في ميزان الفكر الغربي
ساد التيار الوجودي في فرنسا ومعظم أنحاء أوروبا، في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وقد لفت هذا المذهب الفلسفي نظر الأجيال الصاعدة لِما فيه من فردانية، وإعلاء من قيمة الإنسان بوصفه كائناً حراً ومستقلاً في أفكاره وخياراته عن المنظومات الشمولية وعن جميع الإكراهات الخارجية في الحياة.
ظهرت الوجودية الحديثة في القرن العشرين بعد الحرب العالمية الثانية وما تلاها من انهيارات نفسية وإحباطات أصابت الإنسان، ممّا جعله يفقد إيمانه بالمسلّمات العقلية التي أنتجتها مرحلة الحداثة الأوروبية في عصر التنوير، والتي جعلت العقل مركزاً لفهم العالم ومشكلات الإنسان.
إن الوجودية الملحدة التي بدأت مع هايدغر واستمرت مع سارتر لتغزو العالم هي أحد إفرازات ما بعد الحداثة في تشظيّها وتفككها، وفي ثورتها على سلطة العقل؛ إذ توجهت إلى أعماق الإنسان وعاطفته للكشف عن الوجود ومعناه. وقد كان الحدس والمنهج الظاهراتي هما اللبنتان الأساسيتان اللتان ارتكزت عليهما الوجودية، لتعطي لعالم العبث قيمة يصنعها الإنسان بوصفه مبدعاً للقيم وخالقاً لها.
مع سارتر صارت الوجودية موضة ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، وانتشرت كالنار في الهشيم بين أوساط المثقفين وفي المقاهي الباريسية، وامتدت إلى الفنانين والملصقات الإعلانية، وتبنّاها العديد من منحرفي السلوك والخارجين عن القانون بحجة انتمائهم للوجودية، وهناك من انتحر أو انعزل عن واقعه الاجتماعي والإنساني، ممّا حدا بالبعض أن يوجهوا أسلحة الاتهام إلى الوجودية بوصفها فلسفة انهزامية تشاؤمية، هدفها إشاعة الفوضى والانحلال الخلقي مستغلة غياب القيم العليا والتصورات الحتمية اللتين يستند إليهما الإنسان، الأمر الذي دفع بسارتر إلى أن ينبري للدفاع عنها في محاضرته التي أصبحت كتاباً شهيراً فيما بعد، وكان عنوانه «الوجودية مذهب إنساني».
الوجودية مذهب إنساني
كان هذا عنوان المحاضرة التي ألقاها سارتر في نادي مانتينا في باريس عام 1946؛ إذ أراد أن يخلّص الوجودية من الأوهام والأخطاء التي علقت في أذهان البعض عن ذلك المذهب، وكان قصده أن يوضح أن الكثير من مدّعي الوجودية لا يمثلونها، وتحديداً أولئك الذين يعتبرون الحرية مجرد فوضى مطلقة، وعدم التزام، وتنصل من المواقف والمسؤوليات. فالوجودية فلسفة تجعل الحياة ممكنة عندما يكون الفرد مواجهاً لذاته، حراً يختار لنفسه ما يشاء. ويشير سارتر إلى أن هناك مأخذين من الشيوعية والمسيحية حول تلك الفلسفة؛ إذ يرى الشيوعيون أن الوجودية قائمة على الذاتية الخالصة التي يدركها الإنسان في عزلته ووحدته، ومن ثم لا يستطيع أن يستعيد تضامنه مع الآخرين الذين يوجدون خارج ذاته، ويرى بعض الشيوعيين أن الوجودية هي نتاج الفكر البرجوازي، وفي كثير منها تشبه جوهر الليبرالية أو الاشتراكية الراديكالية، وأنها تناقض نفسها في بعض المفاهيم الملتبسة التي تتحدث عن الحرية والالتزام والمسؤولية.
أمّا من الناحية المسيحية، فيرى المتدينون أن الوجودية تنكر وصايا الله وتلغي كل القيم الجدية في حياة البشر، والتي تعتبر قيم أبدية في الوجود الإنساني ومن ضمنها الأخلاق والشرائع.
إن الوجودية في نظر سارتر هي فلسفة عمل والتزام وأخلاق بالدرجة الأولى، تضع مصير الإنسان بين يديه، وتدفعه للعمل الذي يجعله يستمر في الحياة، والوجودية هي التي تضفي الكرامة على الإنسان ولا تعامله كشيء من الأشياء، أو تعتبره غاية أو وسيلة[1].
فلا واقع خارج العمل في الفلسفة الوجودية، والإنسان ليس إلا مشروع الوجود الذي يتصوره، ويتشكل نمط وجوده من مجموع ما حققه من قرارات وأفعال في حياته. لقد تمت صياغة مصطلح الوجودية لأول مرة على يد الفيلسوف الفرنسي الكاثوليكي غابرييل مارسيل في منتصف الأربعينيات، وبناء عليه تم تصنيف الوجودية لاحقاً إلى صنفين: وجودية مؤمنة، وأخرى ملحدة، وكلا الصنفين يتفقان على أن الوجود يسبق الماهية.
في مبدأ الوجود السابق على الماهية
يرى سارتر أن هناك أشياء عينية تمتلك فكرة الماهية السابقة على وجودها، وهذه الأشياء في الوجود المادي؛ فعندما يقوم نجار مثلاً بصناعة منضدة أو طاولة، فإن هذا النجار تكون لديه فكرة صاغها عن المنضدة، وطبقاً لتجربة أكسبته جزءاً لا يتجزأ من الفكرة المسبقة لديه، وإنه يعرف غايتها المرجوة ولأي شيء ستستخدم، لذلك فمجموعة الصفات الداخلة في تركيب هذه المنضدة من شكل وحجم وارتفاع وصلابة تشكل ماهيتها التي تسبق وجودها، وتمتلك تلك الأشياء وجوداً خاصاً يسميه سارتر بالوجود التكنيكي، وتكون نظرة الإنسان له تكنيكية. إذن فإن الله بوصفه صانعاً أعظم للإنسان، لا بد أن تجري إرادته مع الخلق، وأن يعرف تمام المعرفة ما يخلقه وفقاً للفكرة المسبقة لدى الله[2]. ومن هذا المنطلق، تعلن الوجودية أنه إذا لم يكن الله موجوداً، فإنه على الأقل يوجد هذا الإنسان الذي يوجد أولاً ويتبدى له العالم كما يراه ظاهراً في وعيه، فتتشكل هويته ومعارفه طبقاً لهذا العالم الذي يتماهى معه؛ فالإنسان بدأ من الصفر، ولم يكن شيئاً، والإنسان يوجد أولاً ثم يريد أن يكون. لذلك لا يكون للإنسانية شيء اسمه الطبيعة البشرية العامة؛ لأنه حسب سارتر لا يوجد الرب الذي يمثل وجود هذه الطبيعة ويحققها لكل فرد وفقاً للفكرة المسبقة لديه. إن فلسفات القرن الثامن عشر حتى المادية منها أو الملحدة حاولت أن تقولب الإنسان ضمن غايات وماهيات محددة وفقاً لتلك الطبيعة، أو في نسق فكري يتوجه به الإنسان إلى العالم.
ومن هنا جاء سارتر لتصويب المسار الإنساني في الفلسفة بنفي أي طبيعة إنسانية؛ فكل عصر من العصور كما يرى سارتر يتطور طبقاً لقوانين ديالكتيكية، والبشر يستندون في تكوينهم إلى العصر الذي يتواجدون فيه لا إلى الطبيعة الإنسانية[3]، وهذا سيعيد للأذهان نظرية ماركس بأن الواقع الاجتماعي هو الذي يشكل فكر ووعي الإنسان وليس الذات، وهذه الذات هي التي تشكل هويتها وتصوغ أفكارها من ذلك الواقع المتمظهر أمامها.
يقول سارتر في «الوجودية مذهب إنساني»: «لقد كتب دوستويفسكي مرة: 'إن الله إذا لم يكن موجوداً فكل شيء مباح'. وما كتبه دوستويفسكي هو النقطة التي تنطلق منها الوجودية، والتي نعتقد فيها أن إنكار وجود الله يعني أن كل شيء يصير فعلاً مباحاً»[4].
هنا يجد الإنسان نفسه وحيداً ومهجوراً، يتعذر تفسير أي سلوك له بإرجاعه إلى طبيعة بشرية مسبقة أو حتمية مفترضة، عندها يصبح الإنسان حراً؛ لأن وجوده يسبق ماهيته وقد صار مسؤولاً منذ أن قُذف إلى هذا العالم.
إن وجود الله من عدمه لن يغير من آراء سارتر ولا مواقفه، وهو ينطلق إلى الواقع الإنساني المحض وما يعانيه من بؤس وعذابات في عالمه المحتم أن يعيش فيه، وأن يموت فيه ضمن دورات الكينونة المتعاقبة؛ فالوجودية ليست استعراضاً لعدم وجود الله، ولا تباهياً بالإلحاد، وبالتالي فإن سقوط فكرة الله بالنسبة إلى الوجودية لا يعني أن يصبح المباح فعلاً متحققاً، بوصفه انحلالاً وفوضى. إن الوجودي هو الذي يمنح لنفسه القيمة، وهو الذي يحدد أفعاله بوصفه ذاتاً تتجه إلى الذوات الأخرى وتشترك معها في المصير، وفي ظل عدم وجود قاعدة أخلاقية يستند إليها، فإنه يكون أيضاً مبدعاً للأخلاق دون أن تشغله أي قيم مسبقة أو ماهيات قبلية، تماماً مثلما يحدث مع الفنان عندما يرسم لوحته، فإن القيم الجمالية تظهر بعد الانتهاء من تلك اللوحة أو الأثر الفني. والفرد الذي يبدع أخلاقياته الخاصة عليه أن يسأل نفسه إلى أي مدى تتوافق تلك الأخلاقيات مع الإنسانية من حيث كونها التزاماً حراً ومسؤولية؟[5].
القلق والسقوط والحرية
إن الإنسان مسؤول دائماً عن قراراته وخياراته وعمّا سيكون عليه، وهذه المسؤولية ليست ذاتية، وإنما تشمل جميع الناس؛ فالذاتية حسب تعبير سارتر هي حرية الفرد الواحد من جهة التزامه بذاته الإنسانية الأخرى التي يشترك فيها مع الجميع. والإنسان الذي يكون واقفاً في حرية الخيار، فإنه لن يختار لذاته فقط، وإنما يختار لبقية الناس أيضاً، وهو في سعيه إلى الحرية سوف يكتشف أن حريته تتوقف على حرية الآخرين، وغايته مندمجة بغايات الآخرين، لذا فالصورة التي ستشكل وجودنا ستشكل وجود وحقيقة كل ما يحيط بنا. وبذلك ستكون المسؤولية أكبر؛ لأن الشيء الذي يخص وجودنا سيخص الناس جميعاً، بل والزمن الذي نعيش فيه وهذا هو الموقف الأعمق للوجودية. ولأن الإنسان محكوم بالحرية كما يذكر سارتر، فهو واقع في دوامة الاختيار، وحتى عدم الاختيار هو اختيار أيضاً[6].
فالإنسان يكابد القلق في مشروع وجوده، عندما تقع كينونته أمام مجموعة من الاختيارات التي سيكون مسؤولاً عنها وعن الإنسانية. ويقلق الإنسان من خوفه ألا يكون في المستقبل، يقلق الإنسان هنا، ويصيبه الرعب عندما يتصور عدم وجوده هناك، فالقلق رعب وآلام وجودية، لكنه الشرط الأسمى للحرية.
يرتبط السقوط عند سارتر بسوء النية دائماً من خلال تسويغ وجود وأفعال الإنسان إلى نظام سياسي أو عقيدة أو تقلبات الظروف والحياة، والسقوط هو تنصل من المسؤولية وعدم الاعتراف بالخطأ في اختيار قرارتنا الواعية، فسارتر يرى أن لا شيء يمكنه أن يحد من حرية الإنسان؛ وحرية الإنسان عند سارتر ليست صفة من صفاته، أو مَلكة من مَلكات الروح، وإنما واقع عارض مجبر عليه الإنسان. والحرية اضطرارية يدفعها الوعي دائماً للاختيار؛ لذلك فالسقوط هو هروب من قلق الحرية ويقابله السقوط عند هايدغر الذي يتضمن الوجود المبتذل في هروب الإنسان من قلق الموت.
إن الإنسان هو مشروع وجود غير منته، وهو خلق مستمر للذات تفرضه الحرية عندما يتجاوز الإنسان نفسه خارج ذاته في حركة دائمة إلى المستقبل.
من هنا يتبين لنا أن الوعي قادر على الانفصال من لحظته الراهنة إلى المستقبل، ليقرر المعنى الذي يختاره الإنسان، وهنا تتولد الحرية المطلقة التي ينفصل بها الوعي ويختار الإنسان ماهيته، وبهذا يتوصل سارتر إلى فكرة الحرية الإنسانية بمعناها الشامل التي تضفي على الوجود قيمة ومعنى؛ لأن الوجود بلا قيمة ولا معنى، ولا يمكن أن نستخلص منه أيّ ماهية دون هذا الاختيار الفردي.
إن الحرية هي حرية من أجل ذاتها ولا تخضع لأي قانون أو إرادة عليا والهروب من الحرية حرية أيضاً؛ فالحرية مرتبطة بالوجود الإنساني في هذا العالم، وهي قدر الإنسان، والمعنى الأسمى المنبثق من ليل العدم وضبابه.
الأدب الوجودي
يمكننا القول إن الفلسفة الوجودية هي التي اقتربت من الأدب وليس العكس، وتحديداً التيار الرومانسي الذي آمن بحرية الإنسان المطلقة وبمشاعره الوجدانية المتحررة من قيود العقل والمنطق، لذا نجد أن التيار الرومانسي يهتم بانفعالات النفس، خاصة تلك التي يغلب عليها طابع الحزن والكآبة والتشاؤم. حاولت الرومانسية أن تبحث عن معنى الحياة في اللغة، لكنها أخفقت وتوصلت إلى أن الحياة لا معنى لها، وأن الإنسان مجرد حادث عرضي أمام سيطرة المادة وسطوة القوانين العلمية. لقد كانت الوجودية على تماس مباشر مع الأدب والفن بسبب نظرتها الدرامية والعاطفية إلى الوجود، مما حدا بالبعض أن يصنف الوجودية على أنها حركة أدبية[7]. لكن الوجودية كانت أكثر دقة وواقعية عندما اقتربت من أعماق الإنسان وحاولت أن تفسر أحواله القلقة، وأن تجد حلاً لمعاناته أمام سقوط الحضارة وانهيار القيم، إن الأدب كما يصوغه لنا سارتر فينومينولوجياً، يهتم بالأشياء كما تتبدى للإنسان أول مرة في وعيه ومدركاته الحسية، فأحياناً نعبر عن الأشياء الجامدة في العالم الخارجي ونسبغ عليها ما يعترينا من أحاسيس وإدراكات، فنصف تلك الأشياء كما نصف عذاباتنا العميقة والمؤلمة في عالمنا الداخلي. إن العودة إلى الأنا والتمرد ضد العقل هو من يجعل هذه الذاتية المتطرفة عماداً للأدب الوجودي حيث الحياة العارية للفرد بلا تشويه أو تزويق لحقائقها البدائية ودوافعها الغريزية الأولى[8]. يتكلم سارتر عن الأدب الوجودي الذي يتناول شخصيات تتسم بالانحراف والجبن والجريمة، ويعزو سبب ذلك إلى أن الكاتب الوجودي يضع هذه الشخصية في مسؤولية أمام تلك الصفات، ولا يرجعها إلى ظروف الحياة أو الأسباب الوراثية.
وإن الناس يفزعهم هذا النوع من الأدب الذي يكون فيه الأبطال من الجبناء أو المجرمين أمام مسؤولية تعينها أفعالهم، فالناس تبحث عن الاستقرار في مجتمعاتهم، وهم يفضلون أن نرسم الابطال إما جبناء أو أبطالاً، وأن يكون جبنهم أو بطولتهم مرتبطاً بأسباب وراثية أو نفسية[9].
الوجود والعدم
يعدّ كتاب «الوجود والعدم» أو الكينونة والعدم الذي ألّفه سارتر عام 1943 القاعدة التي تستند إليها الوجودية بصيغتها النهائية، أو كما يطلق عليه البعض «إنجيل الوجودية».
لقد أعاد سارتر إحياء الكوجيتو الديكارتي الشهير: «أنا أفكر إذن أنا موجود».
لذلك كانت نقطة انطلاق سارتر من تلك الذاتية في إدراكها المباشر للشعور وهو يعي ذاته، وكل نظرية تبدأ بالإنسان خارج وعيه لذاته هي نظرية غير حقيقية.
نستطيع أن نرى تأثر سارتر بثلاثة فلاسفة؛ وهم نيتشه في مقولته 'موت الإله وإحلال الإنسان صانع القيم محله، والثاني فرويد في إقصائه للعقل واعتماده على اللاشعور كمحرك لجميع دوافع ورغبات الإنسان، والثالث هو هوسرل في منهجه الظاهراتي؛ وهذا المنهج هو الذي انبثقت منه وجودية هايدغر، والتي سيعيد هيكلتها سارتر في كتابه «الوجود والعدم».
حول ظاهرة الوجود، ووجود الظاهرة يقول سارتر: ..«إن الظهور لا يستند إلى أي وجود مختلف عنه: إن له وجوده الخاص. والموجود الذي نلتقي به هو إذن وجود الظهور. هل الوجود نفسه ظهور؟ يبدو ذلك في أول الأمر. إن الظاهرة هي ما يظهر، والوجود يتجلى للجميع على نحو ما؛ لأننا نستطيع أن نتحدث عنه ونفهمه على نحو ما. والوجود سينكشف لنا بوسيلة لبلوغه مباشرة: الملل، الغثيان...إلخ، وعلم الوجود (الأنطولوجيا) سيكون وصف ظاهرة الوجود كما تتجلى، أي دون وسيط»[10].
ثنائية الوجود والعدم في الشعور
لا ينظر إلى العدم في الفلسفة الوجودية على أنه الافتقار إلى الوجود، بل على أنه مرتبط بالوجود بعلاقة؛ فالشعور يوجد كشعور بواسطة جعل العدم يقوم بينه وبين الموضوع الذي هو شعور به، وبهذا الإعدام يوجد الشعور، فأن يعدم هو أن يغلف بغلاف من عدم[11].
بعبارة أخرى، يمكننا تناول تلك الفكرة بصيغة أكثر تبسيطاً للقارئ؛ فالعدم المقصود ليس العدم المحض أو المجرد، وحتى الوجود ليس الوجود الشامل برمته، فسارتر يسلط الضوء على مفهوم العدم بوصفه ظاهرة وجودية فردية ترتبط بالفكر والأحاسيس الأولية عند الفرد، والعدم يظهر عند وجود الإنسان في هذا العالم، والإنسان هو الوحيد الذي يدرك العدم بوعيه وكينونته، وبناء عليه لا ينفصل العدم عن حياتنا الذاتية، بل هو مرتبط ومرادف لوجودنا، والوجود هو الأصل في الإحساس بالعدم، بانعدام العدم لا يوجد الموجود، والعدم هو وليد الوجود ومتشابك معه في واقعنا اليومي وكينونتنا.
ويشمل العدم الغياب الجزئي والكلي لكل إمكانية ليس لها وجود مادي أو ملموس في الحضور وعلاقة هذا الغياب بوعينا وطريقتنا في الوجود، ومن ضمنها الزمن الفردي عند الإنسان بين الماضي والمستقبل.
الوجود والوعي
يصنف سارتر الوجود إلى ثلاثة أنواع:
الوجود في ذاته: وهو الوجود غير الواعي للأشياء في العالم الموضوعي والمادي، ويكون متسماً بالسكون.
الوجود لذاته: ...وهو وجود في حالة فعل وحركة عن طريق تفاعل الإنسان مع العالم بوعيه الذي يتجه إلى الأشياء ويكشف عنها[12].
الوجود للغير.. وهو الوجود الذاتي المرتبط بوجود ذوات أخرى واعية تتبادل الوعي فيما بينها، فتعرف الذات نفسها من خلال الآخرين، وهنا يصبح اكتشافنا لصميم الذات هو اكتشاف للآخر، فحسب سارتر كل منا يحمل بداخله الأنا والأنا الآخر. فالوجود للغير هو الشعور، ولكن منظوراً إليه من حيث علاقته بالذوات الأخرى... وكل وجود للغير يتضمن نزاعاً وصراعاً مع الوجود للذات، فكل وجود للذات يسعى إلى استرداد وجوده الخاص، بجعل الآخر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة موضوعاً بالنسبة إلى الذات[13].
تكون الأنا في علاقتها مع الذوات الأخرى علاقة بالقوة أو التراضي عن طريق التماثل، والذي يكون من حيث الخصائص الثقافية والاجتماعية والفكرية، أو بعض السمات الفردية، ويكون هذا الشكل إيجابي في علاقة الأنا مع الآخر ويحدث نتيجة لتجاوز الانغلاق الذاتي والانفتاح على الغير عن طريق الصداقة، أوعن طريق الاختلاف الذي يعتبر أن كل غريب عدو له، عندما يكون مختلفاً بتلك الصفات السابقة، وهذا هو الشكل السلبي لعلاقة الأنا مع الآخر ويحدث نتيجة لانغلاق الذات على ذاتها، وعادة ما يتجسد بالنفور أو العداوة.
تجليات العدم في الوعي الإنساني
يقسم سارتر في كتابه الوجود والعدم الوعي إلى نوعين:
الوعي المنعكس أو الارتدادي، وهو يخص الوجود في ذاته عندما يتجه الوعي إلى شيء في العالم الخارجي كغاية، وهذا الوعي لا يشوبه التفكير ولا الانعكاسات الفلسفية، حيث لا يكون في الوعي سوى هذا الشيء المراد تحقيقه أو التوجه إليه، كذهابي إلى المكتبة لشراء كتاب معين، فلا يكون في وعيي سوى هذا الكتاب وكل شيء يخص هذا الكتاب، فالوعي هنا لا يشمل الأنا، وإنما الشيء الذي ينطلق إليه الوعي بشكل كلي.
وهناك النوع الثاني من الوعي؛ وهو الوعي غير المنعكس، وهذا الوعي هو الذي يعي نفسه والأشياء ويجعلنا نكتشف النفس أو الأنا في تفاعلها واشتباكها مع الأشياء. وتلك المنطقة تكون عفوية تأتي إليها الأفكار وتذهب حسب إرادتها ورغبتها، وليس حسب إرادتنا.
إن هذه الأنا يتواجد فيها نوع من الحرية، لكنها ليست حرية ثابتة وإنما مهزوزة، والتأمل بتلك الحرية والإحساس بها سيصيبنا بالقلق، بسبب محاولتنا الدائمة في السيطرة على تلك الأفكار التي تأتينا رغماً عنا، وفي حال فشلنا في السيطرة على تلك الأفكار سنصاب بالأمراض النفسية والعصابية، فكل هذه الأفكار تأتي من هذه المنطقة التي تسمى بالأنا؛ مركز الوعي المنعكس.
يتحدث سارتر عن الإدراكات داخل نطاق تفكيرنا، ويرى أنها لا تحصل بطريقة متزامنة في نفس اللحظة، فالشخص الذي يدرك موضوعاً واحداً سيختفي الآخر من تلقاء نفسه، وإن الوعي باتجاهه نحو الموضوع المقصود سيتخذ شكل الصورة، ويصبح هو الأساس ويظهر للوجود، وما دونه من المواضيع ستكون شبه متلاشية أو معدومة.
فمثلاً لو أردت الذهاب إلى مقهى للبحث عن صديق، فإن الوعي سيتوجه إلى ذلك الموضوع المقصود، فيتبدى أمامك بأنه الوجود بأكمله وما دونه من أشياء ومواضيع ستبدأ بالتلاشي وتسقط في العدم.
إن المقهى بذاته هو وما فيه من زبائن وضوضاء ومقاعد ومرايا وجو مليء بالدخان، كلها ظواهر ممتلئة بالوجود، حتى الصديق الذي يتواجد في مكان آخر فإنه مليء بالوجود أيضاً، لكن ينبغي أن نلاحظ أنه في الإدراك يوجد دائماً تكوين لشكل أو صورة على أساس....
فكل شيء يتوقف على اتجاه انتباهي؛ فحين أدخل هذا المقهى للبحث عن الصديق، يحدث تنظيم تركيبي لكل الأشياء في المقهى كأساس يتوجب فيه على الصديق أن يظهر موجوداً، وكل الأشياء في المقهى تسعى كي تنعزل وتسقط في عدم[14].
بهذه الطريقة يبين لنا سارتر أن الوعي قادر على خلق الوجود والعدم في حياتنا اليومية وضمن نطاق إدراكاتنا وتفكيرنا.
الزمن والعدم
عندما نبحث عن شخص معين ولا نجده، فهو في هذه الحالة عدم في صورة حقيقة؛ عدم وجود الصديق هو حدث وقع أمامي، كذلك بالنسبة إلى الإنسان، فإن ماضيه غير موجود لكنه حقيقي، وبما أن الإنسان هو كائن يهرب إلى المستقبل نتيجة انفصاله عن ماضيه وتاريخه، سيجعل وجوده واقع بين عدمين، الماضي والمستقبل.
إن الإنسان ينفصل دائماً عن نفسه في كل لحظة، ويصبح عدماً في الماضي، لذلك فهو مشروع غير متحقق؛ لأن الحاضر دائماً متلاشٍ، فالحاضر لا يمكن الاستحواذ عليه؛ لأنه في اللحظة التي نحاول فيها الاستيلاء عليه يكون قد ولّى. وبالتالي لا توجد نقطة ارتكاز للتوجه نحو المستقبل، رغم أن الإنسان دائم الهروب والتلاشي في كينونته الزمنية، إلا أن حضوره أبدي في العالم لذلك فالحل عند سارتر أن الوجود هو العمل، وبالعمل وحده يصنع الإنسان نفسه.
إن الغياب هو عدم خلّاق، وهو ثغرة كبيرة في الوجود، لكنه في الوقت نفسه أساس الوجود البشري ومنه يجب على الإنسان أن يخلق معنى في غياب كل الأشياء الثابتة، والتي تنزلق من الإنسان وتسقط في العدم؛ لأن الحياة خاوية ولا معنى لها خارج الوجود الإنساني، والحياة كما يشير سارتر تفقد كل معنى في اللحظة التي يدرك فيها الإنسان مصيره المحتوم بالموت والفناء.
[1] - جان بول سارتر، الوجودية مذهب إنساني، ترجمها عن الفرنسية عبد المنعم الحفني، مطبعة الدار المصرية- القاهرة، ط1، 1964، ص6-44-45 (بتصرف).
[2] - جان بول سارتر، الوجودية مذهب إنساني، ترجمها عن الفرنسية عبد المنعم الحفني، مصدر سابق، ص11-12 (بتصرف).
[3] - المصدر نفسه، ص ص13-14 (بتصرف)
[4] - جان بول سارتر، الوجودية مذهب إنساني، مصدر سابق، ص25
[5] - المصدر نفسه، ص 25-54-63 (بتصرف).
[6] - المصدر نفسه، ص16-26-51-58 (بتصرف).
[7] - سليم الشمري، الوجودية الجديدة عند كولن ولسون، مرجع سابق، ص170- 171 (بتصرف). ينظر أيضاً توماس آرفلين، الوجودية مقدمة قصيرة جداً، ترجمة مروة عبد السلام، مؤسسة هنداوي، 2013، ص27
[8] - آرنستو ساباتو، الكاتب وكوابيسه، مرجع سابق، ص37-38-48 (بتصرف).
[9] - ينظر: جان بول سارتر، الوجودية مذهب إنساني، مصدر سابق، ص42
[10] - جان بول سارتر، الوجود والعدم (بحث في الانطولوجيا الظاهراتية)، ترجمة عبد الرحمن بدوي، منشورات دار الآداب، بيروت، ط1، 1966، ص18 (المعطيات نفسها).
[11] - جان بول سارتر، الوجود والعدم، مصدر سابق، ص 8-9 (المعطيات نفسها). (يُنظر في مفهومي العدم/ويُعدم... تعريفات قبل قراءة الكتاب).
[12] - المصدر نفسه، ص5 (تعريفات قبل قراءة الكتاب)
[13] - المصدر نفسه، الصفحة نفسها. ينظر أيضاً سارتر، الوجودية مذهب إنساني، مصدر سابق، ص ص46-47
[14] - سارتر، الوجود والعدم، مصدر سابق، ص59 ھ. حاول ولسون أن يؤسس وجودية جديدة عن طريق الرجوع إلى الأصل الظاهراتي مرجعاً القيمة الجوهرية للإنسان وما يمتلكه من طاقات باطنية غير مكتشفة تساهم في ثراء الوعي وتوجيه مسار الإنسان نحو حياة ممتلئة بالمعاني والدلالات. اعتمد ولسون على ثقافته الواسعة في العلم والفلسفة والتاريخ في تحليله الوجودي للظواهر وارتباطها بالفرد. كتب ولسون في مجالات متعددة كالرواية والخيال العلمي والتصوف والسحر والجنس. تم تجاهله وتهميشه من قبل الكثير من النقاد والكتاب، واعتبروه كاتباً منافقاً ودجالاً.