سامية قدري: الكنيسة الأرثوذكسية المصرية ومكانة المرأة


فئة :  حوارات

سامية قدري: الكنيسة الأرثوذكسية المصرية ومكانة المرأة

يوسف هريمة: لو طلبت منكِ التعريف بشخصك الكريم، فكيف تعرّفين نفسك لروّاد موقع "مؤمنون بلا حدود"، باعتبارك صوتاً نسائياً له موقعه الفكري والثقافي في الساحة المصرية والعربية. وكيف تقوّمين دور المرأة في هذا المشهد الثقافي؟

سامية قدري: أنا سامية قدري ونيس، أستاذة علم الاجتماع في كلية البنات، جامعة عين شمس. حصلت على درجة الماجستير من هولندا من معهد العلوم الاجتماعية في لاهاي (ISS) عام 1990م، في برنامج عن المرأة والتنمية، في وقتٍ لم تكن دراسات المرأة في مصر قد تطوّرت، مثل نظيرتها على مستوى العالم، فانفتحت أمامي آفاق كبرى للوقوف على أحدث الدراسات، والأبحاث في مجالات المرأة والتنمية، وعلى طرق ومناهج لم أعتدها حتى خلال عملي في واحدة من المؤسسات الأكاديمية الخاصة بالنساء في مصر.

ولقد مكّنتني هذه الخبرة من الاستفادة من المناخ الفكري السائد في العالم الغربي حول قضايا المرأة. أتذكّر، على سبيل المثال، أنّني سمعت، لأوّل مرة في حياتي الدراسية، عن واحدة من النساء المصريات الناشطات، أو النسويات، بالمفهوم الغربي، وهي نوال السعداوي، حيث درسنا أعمالها مترجمةً إلى اللغة الإنجليزية، في وقتٍ لم يكن مسموحاً لفئة كبيرة من النساء والفتيات في مصر بمتابعة أعمالها؛ لأنّها، من وجهة نظر المجتمع، امرأة تقفز فوق التقاليد المجتمعية والدينية. وحتى عندما عدتُ إلى بلدي مصر، بعد حصولي على الماجستير، نهاية عام 1990م، لم أتمكّن من تقديم أطروحة للدكتوراه حول المرأة والحياة الجنسية؛ لأنّ مثل هذه القضايا كانت، ومازالت، بمثابة "تابو" محرّم على الباحثين الاقتراب منه؛ بل لم تكن موضوعات للنقاش العام، أو النقاش الثقافي.

ولكنّني أذكر أنّه، مع نهاية التسعينيات، ومطلع الألفية، ومع التحوّلات التي شهدتها قضايا المرأة على مستوى العالم، والتي ألقت بظلالها على مجتمعاتنا العربية؛ حدثت طفرةٌ في دراسة قضايا النساء، وفي أوضاعهن، وتغيّرت أدوارهن، إلا أنّ هذه الطفرة حدثت، بصورة واضحة، مع الثورات، التي أُطلِقَ عليها «الربيع العربي»، حيث قامت النساء بأدوار غير مسبوقة في التاريخ المعاصر، ويعني هذا أنّ المرأة المصرية قد سبق لها أن قامت بأدوار مشابهة خلال تاريخ مصر الحديث، لاسيّما خلال الفترات، التي عانت مصر، خلالها، أزمات سياسية، واقتصادية، واجتماعية، منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وبداية الاحتلال الإنجليزي 1882م، وثورة 1919م، مروراً بالدور، الذي قامت به الحركة النسائية المصرية في كسب التأييد لكثير من قضايا النساء حتى منتصف سبعينيات القرن العشرين، التي شهدت ردّة في أدوار المرأة المصرية.

ولكن مع مطلع القرن الحادي والعشرين، استطاعت المرأة المصرية أن تجني ثمار كفاح طويل من أجل تحقيق مطالبها، تعثّرت قليلاً إبّان الحكم الإسلامي –حكم الإخوان المسلمين– إلا أنّها سرعان ما استطاعت أن تقهر وتقضي على مَن أراد الانقضاض على ما حقّقته من مكاسب، فكان 30 حزيران/ يونيه، الذي تجلى فيه، بوضوح، ما يمكن أن تفعله المرأة من أجل الحصول على الحرية والكرامة الإنسانية. لا أتحدّث هنا عن نساء النخبة؛ بل أتحدث عن النساء المصريات من كلّ الخلفيات الاجتماعية والثقافية، فقد استطعنَ، من أماكنهن، تقديم بانوراما رائعة لكفاح المرأة المصرية، أدّت دوراً مهماً وتاريخياً في إزاحة نظامٍ للحكم لو استمرّ لكانت هي الخاسر الأكبر في ظلّ هذا النظام.

ولكي نستكمل الصورة بشيء من الموضوعية، ليس كلّ النساء أَدَّيْنَ هذا الدور الإيجابي، فئة منهنّ تمّ استخدامها استخداماً سلبياً كدروع بشرية، أو في ممارسة العنف السياسي في النزاع السياسي، وفي حالة الاستقطاب الديني التي حدثت قبل وإبّان الثورة.

يوسف هريمة: حينما ننظر إلى المشهد السياسي العربي، اليوم، نذكر ما قالته يوماً حنّة آرندت، في كتابها (في الثورة): إنّ نتائجها قد تكون عكسية، وهذا ما حدث مع المحامي الفرنسي روبسبيير. ما هي نظرتكم إلى ما حدث في بعض الدول العربية من منظور علم الاجتماع السياسي؟ أَنحن أمام ثورة أم انتفاضات شعبية لم تكمل مشروعها لغياب القائد والهدف؟

سامية قدري: قبل أن نتحدّث عن نتائج الثورات العربية، وتقييمها، علينا أن نؤكّد أنّه لا يمكننا، بدايةً، أن نطلق مفهوم ثورة (Revolution) على أيّ أحداث ثورية، أو انتفاضات شعبية، أو أيّ تحول راديكالي، إلا بعد أن تؤتي هذه التحوّلات، أو الانتفاضات، التي يُطلق عليها ثورات، ثمارها، وتحقق النتائج البنائية، أو الأهداف التي أدّت إلى قيامها، فالثورات تؤدّي إلى التغير الاجتماعي (الاقتصادي، السياسي، الثقافي... إلخ) الشامل، وهذا، من المؤكد، لن يحدث عقب قيام هذه الثورات؛ بل يحتاج إلى فترة من الزمن تطول أو تقصر وفقاً لعدد من الظروف والأوضاع الاجتماعية، التي كانت تسود المجتمعات، التي هبّت منها هذه الانتفاضات. ولذلك وجدنا أنّ نتائج ما أُطلِق عليه الثورات العربية، أو الربيع العربي، مختلفة من بلد إلى آخر، فما حدث في تونس غير ما حدث في مصر، ومختلف عمّا حدث في ليبيا، أو سورية، أو العراق، أو اليمن، كما أنّ هذا المدّ الثوري لم يحدث في بلدان أخرى في المنطقة.

إذًاَ، نحن أمام انتفاضات شعبية تسعى إلى الإصلاح الاجتماعي الشامل، ولكنها لم تكتمل، أو هي في طريقها لإحداث هذا الإصلاح، قد تتعثّر بعض الدول، وقد تخطو الأخرى في سبيلها لتحقيق ذلك. ولنأخذ على ذلك مثالاً ما حدث في تونس ومصر -على سبيل المثال- فلقد استطاعت تونس أن تخطو خطوة مهمّة على طريق التحوّل الديمقراطي أكثر من مصر، حتى في وجود تيار ديني، وذلك لما تملكه تونس من ميراث ديمقراطي سابق. أمّا مصر، فلم يكن لديها هذا الميراث، ولذلك قد تستغرق وقتاً أطول في سبيل الإصلاح السياسي والاجتماعي، نظراً إلى ما لمصر من خصوصية سياسية – دينية تميّزها عن غيرها من بلدان المنطقة.

أودّ أن أشير إلى قضية ترتبط بهذه الثورات، وهي أنّ ثمة حراكاً سياسياً مهماً قد حدث في الشرق الأوسط عامة، والمنطقة العربية خاصة، نجم عن ظهور فاعلين جدد في الحياة السياسية، ليس من الشباب الذين ينتمون إلى حركات سياسية واجتماعية، أو الدور الذي قامت به منظّمات المجتمع المدني فحسب؛ بل، أيضاً، فاعلون جدد أطلق عليهم عالم الاجتماع الإيراني آصف بيات* «الزاحفون الجدد» أو اللاحركات الاجتماعية (Non Social Movements)، وهو مفهوم يشير إلى الفئات الاجتماعية من فقراء المدن، الذين تحرّكوا للدفاع عن مصالحهم وأوضاعهم المتدنية، فاستطاعوا أن يغيّروا الحياة والسياسة في الشرق الأوسط، وهم الشباب، والنساء، وفقراء الحضر. لقد استطاعت هذه الفئات أن تتحرّك من خلال ما أَطلق علية بيات "فن الحضور" ( (Art of Presenceفي المجال العام، لتشكّل قوى ضغط أمام السلطات في مجتمعاتها، محدثةً، بذلك، حراكًاً سياسياً، أو تحوّل الحياة اليومية إلى سياسة.

إذًاً، أهداف الثورات واحدة، ولكنّ الثورات الحديثة لم تعد تعتمد على القائد الواضح المعلن، وإنّما على قوى سياسية جديدة تحرّك الأحداث، وتحدث الحراك السياسي داخل مجتمعاتنا؛ بل العالم أجمع.

يوسف هريمة: في بلد، مثل مصر، بأقليّة مسيحية مهمّة، كيف استطاعت الثورة أن تفرز حكماً إسلامياً، ثمّ الإطاحة به في الوقت نفسه؟ ما مآخذ الأقليات المسيحية على فترة الحكومة الإسلامية؟

سامية قدري: تاريخياً، تتمتّع مصر بحالة دينية خاصة قياساً بباقي دول المنطقة، فهي دولة مركزية قويّة قديمة مزجت الحياة الدينية بالسياسة منذ فجر التاريخ، ولكنّها لم تكن دولة دينية بالمعنى الذي ساد في بعض الدول، وإنّما مزجت الدين بالحياة الاجتماعية، وماثلت بين الحاكم والإله، ونسجت ثقافة دينية عاشت بها طوال التاريخ، ولم يستطع أيّ قادم، أو غازٍ أن يغيّرها. هذا الهوى الثقافي (الديني) الخاص جعل لها وضعيّة خاصّة.

أمّا فيما يخصّ الحالة الدينية للمصريين، التي بدأت تتغيّر منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، مع سياسة الانفتاح الاقتصادي، التي انتهجها السادات، والهجرة إلى الخليج، وإطلاق التيار المتأسلم، لكي يبني مشروعه السياسي، فقد حدث تغيير في الحالة الدينية للمصريين، ومالوا، بالتدريج، إلى هذا التيار الإسلامي في صورة جماعات تختلف في توجّهاتها الإسلامية والسياسية، وإن كانت تجمعها فكرة واحدة هي الحكم الديني الإسلامي، أو في "الحاكمية"، حيث اعتبرت هذه الجماعات أنّ "الإسلام هو الحلّ"، واتخذته شعاراً لنضالها من أجل التغيير. وهنا استطاع هذا التيار، بطرق مختلفة، استمالة جزء ليس بالقليل من المصريين، ولاسيما الفقراء، وأبناء الطبقة الوسطى من الشباب، الذين أدّوا دوراً مهماً في أن تفرز الثورة حكماً إسلامياً. ناهيك عن الدور، الذي أدّته حركة الإخوان المسلمين في الحياة المصرية قبيل الثورة، وخلالها، وبعدها، بما تمتلكه من قوى منظّمة، ودعم مادي، ومال سياسي متعدّد المصادر، في وجود هذا الحكم.

وعلى الرغم ممّا حدث من صعود التيار الإسلامي، إلا أنّ السياسة، التي انتهجتها الجماعة الحاكمة الجديدة، سعت إلى إيجاد دولة إسلامية –دولة خلافة– قائمة على التسلّط، والاستبداد، والاستقواء، والإقصاء، ليس إقصاء المسيحيين فحسب؛ بل إقصاء أيّ فصيل يمكن أن يختلف معها، أو يعارضها.

يوسف هريمة: في نقده الخطاب العربي المعاصر، انتقد الجابري الخطاب السياسي بمختلف ألوانه. لماذا فشل مشروع الدولة العربية، سواء كان مشروعاً قومياً أم دينياً أو قطرياً؟ أنحن إزاء أزمة خطاب أم هي بنيات مستحكمة مازالت تماثل بين الحاكم والإله كما يقول الجابري؟

سامية قدري: دعني، بدايةً، أؤكّد ما ذهب إليه الجابري من أنّ مجتمعاتنا بنيات مستحكمة مازالت –ولو بشكل رمزي– تماثل بين الحاكم والإله، هذا بالإضافة إلى أنّ خطابها خطاب فعّال لم يستطع أن يقرأ التحوّلات، التي يشهدها العالم، قراءةً تمكّنه من الأداء السياسي، الذي يتلاءم مع هذه التحوّلات، ولنأخذ، مثالاً على ذلك، الخطاب السياسي المصري، الذي تنطبق عليه مقولة الجابري، نظراً إلى خصوصية العلاقة بين الحاكم والإله في السياق المصري التاريخي، بالإضافة إلى أنّه خطاب لم يستطع أن يعيَ أنّ ثمّة تغيّرات تحدث في الواقع، وأنّ هناك حراكاً سياسياً، سواء كان حراكاً مدعوماً من قوى خارجية أم داخلية، في صورة حركات اجتماعية، قاد فئات عديدة من الشباب، أو حتى من القوى السياسية التقليدية، يمينية كانت أم يسارية، أو لا حركات اجتماعية (Non-Social Movements) لفئات عديدة مهمّشة عانت الفقر، والحرمان، وغياب الحرية، والكرامة، فخرجت لتعلن مطالبها من نظامٍ أبطل عمل كلّ حواسّه إلى أن خرج كلّ هؤلاء في 25 كانون الثاني/ يناير؛ ليسقطوا هذا النظام.

أمّا فيما يتعلق بفشل مشروع الدولة العربية، سواء كان قومياً أم دينياً، أو قطرياً، ففي رأيي أنّ السبب الرئيس غياب الفكر السياسي التنموي الواعي أهميةَ اللحظة التاريخية، التي يعيشها العالم، وخطورتها، نتيجة تضخّم الإحساس بالذات السلطوية الفردية لكلّ حاكم من حكام المنطقة، إلى الدرجة التي لم تجعل هذه المنطقة الشديدة الأهمية، والشديدة الخطورة، قوةً يمكن أن تتحدّى القوى الأخرى الأكثر نمواً، والأكثر تنظيماً.

إنّ كلّ مشروع من مشاريع الدولة العربية فشل؛ لأنّ المصالح الخاصة طغت على المصالح العامة، فسعى كلّ حاكم إلى تحقيق مصالحه الشخصية، وسعى إلى الهيمنة والسيطرة على حساب مشروع عربي قويّ يقف حائطَ صدّ أمام تحوّلات كادت تعصف به؛ بل لقد حدث بالفعل، وها نحن أمام مشهد عبثيّ لم ينجُ منه إلا بعض البلدان، التي آمنت بضرورة التغيير، وملاحقة التغيرات التي تحدث، ومحاولة إحداث إصلاح سياسي بالمفهوم الشامل.

يوسف هريمة: يتّهم الكثيرون المسيحيّين –كما أشار إلى ذلك جورج طرابيشي في كتابه (هرطقات)- بأنّهم أوّل من دعوا إلى علمنة الدولة، ومدنيّتها؛ لأنهم شكّلوا دائماً أقليات داخل هذا الشرق. إلى أيّ حدٍّ يستقيم هذا الفهم؟ ألا تُعَدُّ العلمانية حلاً لمشكلاتنا الثقافية المستعصية؟

سامية قدري: دعني أبدأ، في الإجابة عن هذا التساؤل، من نهايته. في رأيي الشخصي أنّ العلمانية -بمعنى فصل الدين عن الحياة السياسية والاجتماعية- هي الحلّ لكثير من مشكلاتنا، وأنّ إتمام الدين في مختلف جوانب حياتنا، ولو لم يكن في إطار ما يُسمّى الدولة الدينية، هو السبب الرئيس وراء كلّ ما نعانيه من مشكلات. ولكنني، في الحالة المصرية، أعتقد أنّ هذا أمر بالغ الصعوبة، نظراً إلى ما تتّصف به مصر من حالة دينية، أو ثقافية دينية خاصة، تمتزج بكلّ مناحي الحياة تاريخياً. فتلك الحالة، التي زادت حدّتها، وعلا صوتها، منذ سبعينيات القرن العشرين، ومنذ إطلاق (وأنا هنا أؤكّد كلمة إطلاق) التيارات الدينية الإسلامية من قبل نظام السادات لتعمل في المجتمع، واستمرارها إبّان حكم مبارك، لتؤسلم الحياة الاجتماعية المصرية، بما في ذلك أسلمة الحياة الثقافية والعلمية (تحت ما يُسمى أسلمة العلوم)، قد جعلت التحوّل نحو الدولة العلمانية أمراً بالغ الصعوبة، وأنّنا نحتاج إلى عملية إصلاح جذريّ لا نعلم كم من الوقت يحتاج ليحدث.

أمّا فيما يخصّ دور المسيحيين في الشرق في علمنة الدولة فأنا، هنا، سوف أتحدث عن مصر؛ لأن هذا الدور ربّما يكون في الشرق العربي نتيجة لعدد من المتغيّرات أهمّها كون المسيحيين أقليّة عددية مقارنة بمسيحيي مصر، ونظراً إلى طبيعة السياق الثقافي المتأثر، إلى حدّ بعيد، بالثقافة الغربية، ولكن في الحالة المصرية أعتقد أنّ مَن دعا إلى علمنة الدولة ليست الطائفة التي تمثل الأغلبية، وهي الأرثوذكسية؛ لأنّها تمثّل رافدا مهمّاً من روافد الثقافة الدينية المصرية، وإنّما من دعا إلى ذلك الطوائف التي تعبّر عن الثقافة الغربية، وعلى رأسها الطائفة "البروتستانتية" بمختلف ألوانها. وهي، في كلّ الأحوال، تمثل أقلية عددية مقارنة بالأرثوذكسية، ومن ثمّ فإنّ تأثيرها في قضية "علمنة الدولة" -كما أعتقد- تأثير ضعيف.

يوسف هريمة: فعل التغيير الاجتماعي هو نتيجة لفعل تغيير ثقافي واقتصادي. هل يمكن أن نتحدّث عن تغيير اقتصادي، دون القطع مع إهانة المرأة، وتكريس تهميشها؟ وما مساهمة المرأة فيما يحدث من أزمات وأحداث في منطقتنا؟

سامية قدري: بالفعل، لا يمكن أن يحدث أيّ تغيير اجتماعي (بمعناه الشامل) دون تغيير ثقافي؛ أي تغيير بنية الأفكار، والمعتقدات، والعادات السائدة في أيّ شعب من الشعوب؛ لأنّ هذه البنية تسهم سلباً وإيجاباً في إحداث عملية التغيير الاقتصادي، لذلك يؤكّد خبراء التنمية أهميّة البعد الثقافي في إحداث التنمية الاقتصادية، ولهذا السبب فشلت معظم تجارب التنمية الاقتصادية في مجتمعاتنا نتيجة العوامل الثقافية، التي وقفت حائطَ صدٍّ أمام أيّ نموّ اقتصادي حقيقي. ولْنأخذ، مثالاً، قضية تنظيم الأسرة، ودور الثقافة الدينية والشعبية في مناهضة تعليم المرأة، وخروجها للعمل، والكثير من الموضوعات التي تسهم في إحداث النمو الاقتصادي، لكنّ الميراث الثقافي يحول دون ذلك.

وإذا ما انتقلنا إلى المرأة، باعتبارها مكوّناً أساسياً من مكوّنات النمو، أو التغير الاقتصادي، فإنّ التنمية -كما ذكر تقرير التنمية البشرية- التي لا تشارك فيها المرأة تنمية معرضة للخطر"، فإن تكريس تهميشها وإهانتها أدّى، أيضاً، إلى إخفاق عملية التغيير الاقتصادي.

إنّ مساهمة المرأة في التنمية ما زالت قاصرة وضعيفة ليس لعدم قدرة المرأة على الإسهام في ذلك، ولكن بسبب السياسات، التي تنتهجها النظم السياسية من ناحية، وبسبب الموروث الثقافي من ناحية أخرى. فنسبة مشاركة النساء في قوّة العمل ما زالت ضعيفة، على الرغم من مساهمتها الكبرى في الحياة الاقتصادية، وما زالت النساء يعملنَ بأجور منخفضة، أو دون أجر في بعض الأنشطة الاقتصادية، كالعمل الزراعي، أو في المشروعات التي تديرها الأسرة. إنّ نسبة النساء اللاتي يُعِلْنَ أُسَرَهُنَّ في ارتفاع متزايد.

وعلى الرغم من الإهانة والتهميش، اللذين تعرّضت لهما فئات عديدة من النساء في مجتمعنا، شاركت في صناعة الأحداث الأخيرة بشكل غير مسبوق في التاريخ، وذلك ربّما لأنّها أكثر الفئات فقراً، وحرماناً، وتهميشاً، ومعاناةً، فحيث توجد المعاناة تُولد القوة. لقد قدّمت المرأة المصرية، في ثورتي 25 كانون الثاني/ يناير، 30 حزيران/ يونيه، مشهداً عبقرياً أسهم في وضع المصريين على أوّل طريق التغير الاجتماعي، فهنّ - على نحو ما ذهبت إليه الأنثربولوجية النسويّة غيردا ليرنر، في كتابها (نشأة النظام الأبوي) - مَنْ صنعن التاريخ والحضارة، ولكن عندما كُتِبَ التاريخ كُتِبَ بأيدي الرجال، الذين ينسبون صناعة التاريخ إلى أنفسهم.

يوسف هريمة: إذا كان الفقه الإسلامي لا يعطي المرأة حقوقها، ويتعامل معها بدونيّة وانتقاص، فكيف تقوّمين دور الكنيسة الأرثوذكسية؟ هل استطاعت الكنيسة أن تنتفض، إلى حدٍّ كبير، على بعض النصوص، التي يُفهَم منها المهانة والاحتقار، كتحميلها الخطيئة الأصلية، وتشبيهها بالأفعى؟

سامية قدري: على الرغم من أنّ بعض التقاليد الدينية الأرثوذكسية مازالت موجودة؛ لأنها تتعلق بأوامر كتابية من الصعب الانتفاض عليها، كرسامة المرأة قسًّاً أو أسقفًاً، مثلما فعلت بعض الكنائس الغربية، إلاّ أن موقف الكنيسة الأرثوذكسية من المرأة موقف يتّسم بالوضوح، حيث تتعامل الكنيسة، الآن، مع النساء معاملة تكاد تكون مساوية للرجال في مختلف القضايا، ولنضرب مثالأً من المساواة فيما يتعلق بقضايا الأحوال الشخصية، فالرجل، الذي يتّهم، أو ينفصل عن زوجته، بسبب علة الزنا، لا يُمنَح من قِبَل الكنيسة تصريحاً للزواج للمرّة الثانية، في حين تُمنَح المرأة هذا الحقّ؛ لأنها ضحية، والعكس. كما تنصّ قوانين الميراث الخاصة بالأقباط الأرثوذكس على المساواة في الميراث، ولا تحرم من ذلك، إلا عندما تطبق المحاكم المصرية قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين.

أما فيما يتعلق بالصورة النمطية الشائعة لدى الكثيرين، حول تحميل المرأة الخطيئة الأصلية، وتشبيهها بالأفعى، فهي ليست إلاّ قضية في أذهان بعض النسوة الرافضات للتقاليد الدينية، اللاتي يغنّين خارج السرب، على نحو ما ذهب إليه المفكّر العربي فهمي جدعان.

يوسف هريمة: يثيرنا مشهد تهجير المسيحيين، وباقي الأقليات الدينية، من سورية والعراق. أيُخشى على مصر من هذا التحوّل، أم الدولة، في نظركم، أقدر على ضبط العنف في حدوده المشروعة، لاسيما المؤسّسة العسكرية؟

سامية قدري: مصر ليست سورية، ولا العراق، ولا ليبيا، وهذا ليس نوعاً من الشوفينية. ولكن هذه حقيقة تاريخية وجغرافية، مصر ليس فيها أعراق، ولا أقليات دينية، أو عنصرية، وإنما لديها مكوّنان أساسيّان يعيشان معاً في المناطق نفسها دون فواصل، أو موانع جغرافية، تحول بينهما، كما تجمعهما ثقافة واحدة تكوّنت وترسّخت عبر العصور، فهذه الثقافة هي التي ميزت مصر عن غيرها من المناطق.

إنّ ما حدث في مصر من احتقان طائفي، في الوقت الحاضر، نتج عن تضافر مجموعة من المتغيّرات السياسية، والاقتصادية، والثقافية، التي بدأت منذ سبعينيات القرن العشرين، ومنذ إطلاق التيار الديني من قِبَل نظام السادات، والهجرة إلى الخليج، ونقل الثقافة الإسلامية الوهابية البدوية، بالإضافة إلى المتغيّرات العالمية، التي حاولت استثمار هذا المناخ لتحقيق أغراض سياسية في المنطقة، وجاءت فترة حكم مبارك؛ لكي تؤكّد، أو تستمر في، هذا الاحتقان، الذي وصل إلى ذروته، خلال عام من حكم الإخوان المسلمين، ونشاط الجبهة السلفية في المجتمع. تحت تأثير هذا المناخ الثقافي، وقعت بعض الأحداث الطائفية، بدءاً من أحداث السبعينيات، وما تلاها، وصولاً إلى بعض صور التهجير التي حدثت، فإنّ ذلك يعدّ حوادث فردية متفرقة، وفي أماكن لم يطَلْها القانون، أو لم تَطَلْها يدُ الدولة، ومن ثَمَّ هي مجرّد أحداث عابرة لا يمكن أن تتكرّر، أو تتحوّل إلى مشهد سورية، والعراق، وأنّ الدولة قادرة على ضبط العنف في حدوده المشروعة.

يوسف هريمة: باعتبارك متابعة للشأن الديني الأرثوذكسي، هل يمكن أن تسهم الكنيسة الأرثوذكسية، بما يُعرف عنها من انغلاق، في تغيير مشهد مصري بغالبية مسلمة؟ ما الرسالة التي تحملها هذه الكنيسة إلى كلّ إنسان عربي مهما اختلف دينه، أو عرقه، أو لغته؟

سامية قدري: كما سبق أن ذكرت، إنّ هناك تصوّراً نمطيّاً حول انغلاق الكنيسة الأرثوذكسية. من الأفضل أن نذهب إلى أنّ الكنيسة الأرثوذكسية لها تقاليد صارمة تسعى إلى البقاء عليها –لاسيّما فيما يتعلق بالجانب العقدي والطقوسي- أمّا فيما يتعلق بالجانب التواصلي مع قضايا المجتمع ومستجدّاته، فأنا لا أعتقد أنّ هناك انغلاقاً، وأعتقد أنّ ما حدث، في الآونة الأخيرة، ولاسيّما في المشهد السياسي، أدّت الكنيسة خلاله دوراً مهماً في تغيير المشهد، وفي تغيير وجهة نظر المجتمع إليها، وإلى أدوارها، وثقافتها. وأسوق مثالاً على ذلك أنّ الثقافة المسيحية لم يكن لها، حتى وقت قريب، أيّ صوت في وسائل الإعلام، أو المنتديات، أو المجال العام، ولكن بعد الانتفاضات، والثورة الأخيرة، والدور الذي أدّاه المسيحيون فيها، تغيّر الوضع تماماً، واستطاعت الكنيسة أن تفرض حضورها الاجتماعي والثقافي على المجتمع، وعلى العالم أجمع، والكنيسة هي رسالة سلام ومحبّة وإخاء لكلّ البشر، كما علّمنا السيد المسيح: "جئت لتكون لكم الحياة، ويكون لكم أفضل".

يوسف هريمة: شكرا لك - أستاذة سامية - على هذا الحوار الممتع.


* لمزيد من المعلومات حول دراسة آصف بيات، انظر:

آصف بيات، الحياة سياسة: كيف يغير فقراء الشرق الأوسط، ترجمة أحمد زايد، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2014م.