سبايا الخلافة وتأويل القرآن

فئة :  مقالات

سبايا الخلافة وتأويل القرآن

سبايا الخلافة وتأويل القرآن

سبايا «الخلافة» فيلم استقصائي عُرض على شاشة «بي بي سي» البريطانية. والفيلم كارثي بكل المقاييس؛ لأنه لا يقدم فقط حقائق مدعومة بالأدلة والبراهين على وحشية وقسوة الدواعش، بل يعد وثيقة إدانة على عدم تبني خطاب مراجعاتي لمحصلة الفكر الإسلامي، والنسق، والظروف التاريخية الموضوعية المؤسسة لهذا الفكر.

يسرد الفيلم وقائع حية عن قسوة وبشاعة ودموية الدواعش مع الأزيديات، وممارسة شتى أنواع التعذيب والقهر والإذلال والاغتصاب المتكرر لهن، وتداولهن بين رجال التنظيم كسبايا بعد قتل رجالهن في مجازر جماعية، سِيقت بعدها تلك الغنائم البشرية إلى معسكرات الاغتصاب الجماعي بحجة السبي.

بعرض هذه الوقائع على فقهائنا التقليديين ممثلي المؤسسات الدينية الرسمية في العالم الإسلامي، لا شك؛ سيدينون تلك الأفعال بخطابات إنشائية، بوصفها لا تعبر عن صحيح الدين الإسلامي ولا سماحته ولا وسطيته. هؤلاء المشايخ ذاتهم، هم من يُدّرِسون عشرات الكتب الفقهية التي تكرس حرفيا لما فعلة التنظيم. لعبة مخاتلة متجذرة في البنية الابستمولوجية الخاصة بتيار الوسطية الإسلامية، الذي يتولى بالدعاوى القانونية ملاحقة أي صوت مغاير ومفند لوقائع السير، والمرويات، والنقليات التي تعطي مبرراً، وذريعة للمجازر، وشتى أنماط التطرف؛ فكتب الفقه الإسلامي كلها تتحدث عن جملة أحكام خاصة بالرق والسبي والاستعباد والقتل، والوطء وتبادل السبايا والتسليع الجنسي للنساء.

**بنو قريظة نموذجا

مروية القتل الجماعي، والتطهير العرقي ليهود بني قريظة تعد نموذجاً مثالياً كمتكئ تاريخي يعتمد عليه الفقهاء الأوائل، والنقلة الأواخر في استنباط أحكام الحرب والجهاد والسبي، وهي حادثة على أهميتها لم ترد عنها أي إشارة في القرآن الكريم لا تلميحا ولا تصريحا، رغم تحدث النص القرآني بشكل تدويني وتقريري عما يقع في مجتمع المدينة، ما يدفع للشك، إلى إنكار حدوثها من الأساس.

**حروب الردة

في ما عرف بحروب الردة، قتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة وأخذ زوجته كسبية، ونزا عليها دون أدنى مراعاة لمشاعر المرأة المكلومة في مقتل زوجها، فضلا عن سبي نساء وأطفال القبيلة، ما تسبب في إحداث انشقاق في معسكر خالد نفسه. خالد بن الوليد الذي تأسطر لاحقا في أبجديات فقه العنف، كمثال يحتذى به على يد الفقهاء والمؤرخين الأوائل، وتحول من: إن الله ورسوله بريء من سيف خالد إلى/ خالد سيف الله المسلول.

يقول ابن حجر العسقلاني في كتابه «الإصابة في معرفة الصحابة» في معرض شرعنة ما فعله خالد؛ (هذا غاية ما يمكن أن يقال في شأن قتل خالد بن الوليد ومالك بن نويرة، إنه إما أن يكون أصاب فقتله لمنعه الزكاة وإنكاره وجوبها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أو إنه أخطأ فتسرع في قتله، وقد كان الأوجب أن يتحرى ويتثبت، وعلى كلا الحالين ليس في ذلك مطعن في خالد رضي الله عنه). ويقول ابن تيمية في كتابه «منهاج السنة» (مالك بن نويرة لا يعرف أنه كان معصوم الدم، ولم يثبت ذلك عندنا، ثم يقال: غاية ما يقال في قصة مالك بن نويرة: إنه كان معصوم الدم، وإن خالداً قتله بتأويل، وهذا لا يبيح قتل خالد). من الغريب أن ابن تيمية الذي يتحرج من التأويل في العقائد والآراء الفقهية يتباسط في الدم، ويؤسس للقتل بتأويل.

ابن تيمية الذي يرخص في مواضع كثيرة في مصنفاته لعمليات الحرق والذبح والإغراق، يقول في مجموع فتاواه عن جواز التنكيل وتعذيب الأسرى (فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي التَّمْثِيلِ الشَّائِعِ دُعَاءٌ لَهُمْ إلَى الإِيمَانِ، أَوْ زَجْرٌ لَهُمْ عَنْ الْعُدْوَانِ، فَإِنَّهُ هُنَا مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ، وَالْجِهَادِ الْمَشْرُوعِ).

**المعادلة الصعبة

من جملة تلك المرويات، والنصوص سالفة الذكر، المجذرة والمفرخة لتيارات الإرهاب والتعصب، والمتسترة، والمرفوضة بفخ الاعتدال والوسطية، يصبح خيار التأويل ضرورة وفريضة غائبة. ليس فقط للنصوص الفقهية، أو التراثية التي وقعت في مخاتلة التفسير، فأضحت جبلا ضبابيا يحجب الرؤية عن المستقبل، بل للنص الأصلي المؤسس «القرآن الكريم» ذاته، الذي تبدأ عملية التأويل بفرضية تراثية قديمة تعتبر القرآن الكريم هو معنى كلام الله، وليس عين كلام الله، وهي فرضية قتلت بحثا من جانب علماء الكلام قديما، وقتلت حرفيا على يد الفقهاء والمفسرين، الذين شغبوا عليها بوصفها هرطقة دينية يبدع ويفسق قائلها. عبر مظلومية حنبلية لا تزال آثارها تردد حتى الآن «محنة خلق القرآن» هذا الشغب حال دون استكمال السياق العقلاني في تاريخ الفكر الإسلامي؛ المتناغم مع دعوة القرآن لإعمال التأويل.

تكفل هؤلاء الفقهاء والشراح والمفسرون بإغلاق مسام الجسد التأويلي ومنع ترشحه، وتعاملوا مع النصوص المؤسسة كنصوص سحرية لا يجوز الاقتراب منها إلا بالتفسير اللغوي، كقيمة معرفية متعالية، لا يمكن إلا أن تكون هوامش على متن النص، وليس التأويل الذي هو «صرف اللفظ عن معناه». بفتح الدلالة لمعنى كلام الله، سيصبح النص القرآني وبصورته الخام الشفاهية الأولى، والمدونة لاحقا؛ هو المعنى البشري للفيض الإلهي، الذي كان لا بد أن يمر عبر مساقات اجتماعية اشتبكت مع واقع الحال والأحداث المتغيرة، خلال ما يزيد عن عقدين من الزمن.

في هذا السياق، ستفهم عمليات الحذف والإضافة من متن النص، التي أنكر البعض حدوثها في ما هي ثابتة حقيقة «الناسخ والمنسوخ»، وهي عملية طبيعية لنص شفاهي يقرر ويشرع ويحكي ويفض منازعات بشكل تدويني شبه يومي. وستفهم أيضا الفروقات البلاغية بين الشق المكي، والشق المدني، نظرا لارتباط النص بالبنية المجتمعية التي دخل معها في عملية اشتباك غير مهادنة في المجتمع الوثني المكي، فيما كان أكثر مرونة مع مجتمع المدينة المتخفف نسبيا من الوثنية، والمتعدد الأعراق القبلية «الأوس والخزرج» والدينية «طوائف اليهود»، وهو ارتباط سياقي واضح النفس في السور والآيات. وعليه، يمكن اعتبار القرآن الكريم النص التأسيسي الأول «معنى كلام الله الخام» نصا لا يجوز تبديل لفظه ولا تغييره لارتباطه بطقوس شعائرية، وسياق شفهي تعبدي وحفظي، لا يزال قائماً حتى الآن، وسيظل. لكن يجوز تأويله (إنتاج معان متجددة ودائمة) بأسس معرفية حديثة وبدلالات تتوافق مع الراهن التاريخي، وهي عملية إزاحة مفصلية هائلة ودائمة، يستعان فيها بعلوم اللسانيات من أجل فهم المسارات اللغوية المتولدة من النص. وبالاستعانة بمناهج التحقيب التاريخي الأنثروبولوجي لفهم سياق حدوث الآيات، وليس أسباب النزول «ولادة النص الأصلي ذاته، وهو ما يقتضي الخروج من إطار مرويات السيرة التي وضعها المحدثون والقصاص والوعاظ في القرون الأولى التي تحتاج بدورها أن توضع على محك البحث العلمي الموضوعي بعيدا عن العاطفة والحساسية الدينية الزائفة؛ في محاولة للفهم وإزاحة الانسدادات».