سعيد بنسعيد العلوي: مسارات تشكّل الدولة بين الغرب والإسلام
فئة : حوارات
يوسف هريمة: عندما نتحدث عن الدولة بصفتها مفهوماً نستحضر الأبعاد الفلسفية التي نشأ فيها هذا المصطلح. فمنذ أن نادى أفلاطون بأنّ العدالة ليست هي حكم الأقوى (كما نقل عنه هارولد.ج.لاسكي في كتابه "الدولة: نظرياً وعملياً") أخذ الناس يصدرون حكمهم على الدولة بناءً على حكمة الأهداف السامية التي تعمل الدولة على حمايتها. هل من الممكن أن تحدّثنا، ولو باختصار، عن مسارات الدولة الغربية؟ ثم كيف انتقل هذا المفهوم إلى الساحة الإسلامية؟
ـ سعيد بنسعيد العلوي: من الكلمات المأثورة عن هيجل قوله: "الدولة تعني تمثّل العقل في التاريخ". التاريخ عند هيجل صيرورة متصلة، بمعنى أنّها مسيرة طويلة معقّدة يجلّيها صراع الأضداد: صراع المادة والفكر، صراع السادة والمسودين، صراع العقل واللاعقل. غير أنّ ما يعنينا - في مقام حديثنا هذا - هو تجليات العقل في التاريخ أو حضوره في التاريخ بكيفيات مختلفة متبدلة دوماً. وإحدى الكيفيات الواضحة والعظمى التي يتجلى بها العقل في الوجود الإنساني هي "الدولة". بيد أنّ تجلي العقل في الدولة يتخذ بدوره أصنافاً مختلفة من الوعي ومن الحضور، وذلك ما يبسط فيه هيجل وجهة نظره كاملة في كتابه الأشهر "دروس في فلسفة التاريخ"، إذ يتحدّث عن نشأة الحضارات (والدول الكبرى) حسب الترتيب الذي يراه الفيلسوف الألماني الأحقّ بالأخذ بعين الاعتبار (الصين، الهند، فارس، الإغريق، الرومان..). يمكن في العبارة الهيجلية أنْ نتحدّث عن تدرّج أو تطور في حضور العقل (وفي تحققه في الوجود الاجتماعي للبشر) منذ الصفة الأولى لذلك الحضور عند الصينيين إلى أن بلغ درجة عالية من القوة والانسجام عند اليونان، بفضل "العبقرية اليونانية"، كما يقرر الفيلسوف الألماني الكبير بوجود تلك المعجزة.
ما حدث في التاريخ (أخذاً بالرؤية الهيجيلية، وهي التي تهيمن على الفكر الفلسفي السياسي الغربي المعاصر) هو سيرورة الانتقال من المجتمعات القبلية إلى المجتمعات "الدولتية". ولعلّي أجد من المفيد، في هذا المقام، أن أنوّه بما فصّل القول فيه مفكر أمريكي هيجلي المنزع هو فرنسيس فوكويوما في كتابه الصادر قبل سنوات قليلة، والمنقول إلى اللغة الفرنسية في السنة الماضية تحت عنوان "بداية التاريخ". وأوّد التنبيه على وجه الإيجاز الشديد إلى المقارنات التي يعقدها بين المجتمعات القبلية والأخرى التي تنعت بـ"الدولتية"، وهي مقارنات يحضر فيها، جنباً إلى جنب، كل من هيجل وماكس فيبر، ممّا لا يتسّع المجال بطبيعة الأمر للخوض فيه. غير أنّنا نقول (مع فوكوياما) بصدد المقارنة بين النوعين المذكورين من المجتمعات إنّ المجتمعات الدولتية تتمايز عن القبلية بمركزية السلطة (ممثلة في ملك أو رئيس جمهورية أو وزير أول) وهذه أولاً. وهذه السّلطة المركزية تستمدّ قوّتها من احتكار وسائل القهر الشرعية (العنف المشروع)، هذه ثانياً. وثالثاً نجد أنّ سلطة الدولة تقوم على وجود حدود تميِّزها وتفصِلها عن غيرها، فليست شرعيتها وقوتها تستمدان من القرابة، كما هو الحال في المجتمعات القبلية. ورابعاً فإنّ المجتمعات الدولتية أكثر هرميّة وأشدّ تراتبيّة من المجتمعات القبلية، وهذه السمات الأربع ليست حصرية وإنما تمثل أكثر سمات المجتمع الدولتي قوة وأهمية معاً.
قد يلزم القول، سعياً لاستكمال عناصر جواب مختصر عن الشق الأول من سؤالك، إنّ الدولة في الغرب الأوروبي قد عرفت مساراً تميزه مراحل أربع أساسية: المرحلة الأولى أو اللحظة الأولى من لحظات تجلي أو تحقق العقل في التاريخ (في مستوى الوجود السياسي) هي اللحظة اليونانية: تلك التي تنعت في المعتاد بحوث النقلة النوعية من "الميثوس" إلى "اللوغوس". إنها لحظة ظهور الفكر الفلسفي المنظم أو المعقلن، لحظة الانتقال من الأسطورة إلى العقل. تلك اللحظة قد شهدت، من جهة أخرى، ميلاد "المدينة - الدولة" وميلاد الديمقراطية على النحو الذي ظهرت به في أثينا. هذه اللحظة هي لحظة التأسيس الحاسمة التي سيظل الفكر السياسي الغربي يعود إليها باستمرار مستلهماً ومقتبساً: سيظل أفلاطون وأرسطو (كلٌّ لسبب) المنبعين اللذين يستقي منهما كل فلاسفة الفكر السياسي، ومثلما كانت الفلسفة اليونانية فاعلة في الفكر الفلسفي الغربي، مع اختلاف المذاهب الفلسفية الغربية، فكذلك ستظل "الجمهورية"، و"السياسيات" و"نظام الأثينيين" حاضراً وفاعلاً في الفكر السياسي الغربي.
المرحلة الثانية (أو اللحظة الثانية من لحظات تجلي أو تحقق العقل في التاريخ البشري، منظوراً إليه من جهة الفكر الغربي) هي المرحلة الرومانية. والإيحاء الأكبر للدولة الرومانية هو "القانون" وتجلياته في الأحكام التنظيمية، ولا مغالاة في القول إنّ الدولة (في المفهوم الغربي) تجد عمقها التشريعي في الدولة الرومانية في شقيها: الأول الوثني والثاني المسيحي.
المرحلة الثالثة (أو اللحظة الثالثة، تلك التي كان العقل فيها مشدوداً إلى الدين المسيحي كما أوّله آباء الكنيسة) هي المرحلة الثيوقراطية، وهي الصورة التي نجد إجادة في وصفها (وفي انتقادها نقداً جوهرياً كذلك) عند الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا خاصة في كتابه "رسالة في السياسة واللاهوت". إنها مرحلة امتزاج الدين بالدولة امتزاجاً تاماً، وتلك سمة الثيوقراطية أو الدولة الدينية. دولة العصر الوسيط المسيحي، الدولة التي ظلت تبسُط سلطانها على الوجود السياسي في الغرب الأوروبي إلى القرن السابع عشر حتى أخذت تتهاوى تباعاً في بريطانيا مع الحرب الأهلية، ثم بظهور المجتمع التجاري القوي في هولندا وظهور دولة التعاقد الاجتماعي في صيغتها الأولى، لتعرف الدولة الثيوقراطية نهاية وجودها مع قيام الثورة الفرنسية.
المرحلة الرابعة (أو لحظة انبثاق الحداثة في تجلياتها المختلفة معرفياً، واجتماعياً، وسياسياً) هي مرحلة الدولة الحديثة: دولة القانون والفصل بين السلطات الثلاث، دولة التعاقد الاجتماعي، دولة الحكم المدني. مسمّيات ثلاثة قد تختلف التسمية فيها باختلاف الزاوية التي ننظر منها، بيد أنها تفيد المعنى نفسه. إنها الدولة على النحو الذي تتحدد به في الفكر الفلسفي السياسي الحديث وفي الفقه الدستوري المعاصر.
أمّا عن الشق الثاني من سؤالك (كيف انتقل هذا المفهوم إلى الساحة الإسلامية؟) فنحن ننبه إلى أنّ مفهوم الدولة، نظاماً من العلاقات ومجموعة من المؤسّسات تخضع لسلطة عليا مركزية، ربما يكون قد ظهر للمرة الأولى عند الفارابي وخاصة في كتابيه "آراء أهل المدينة الفاضلة" و"السياسة المدنية" (المعروف بمبادئ الموجودات). والملاحظ أنّ أبا نصر يعدد أصناف الحكومات التي يذكرها أفلاطون في "الجمهورية"، وهو يضفي عليها صفات أخلاقية (مدينة النذالة، مدينة الكرامة..) لتكون أفضل المدن أو المدينة الفاضلة هي تلك التي تقوم على أساس دعوة دينية مبتعداً عن النظرة التي يأخذ بها أفلاطون وكذلك تلميذه من بعده. لا حضور عند الفارابي لمعاني المواطن والاقتراع كما تتحددان عند الإغريق، وإنما هي قراءة إسلامية انتقائية. أنواع المدن (الضالة، الفاسدة...) التي يعرض لها الفارابي ستظهر بكيفية مغايرة في نصوص نصائح الملوك (كما هو الشأن عند الماوردي مثلاً في نصيحة الملوك، وتسهيل النظر وغيرهما)، ستظهر وقد اكتست طابعاً وعظياً لم يجد فقهاء الإسلام حرجاً في مزجه بكتب النصائح الفارسية (عهد أردشير مثلاً) ما دامت الغاية قد كانت وعظية تسعى لاستخلاص الدرس والعبرة من سير الملوك وأخبار الدول القديمة ولم تكن بهدف التقنين والتشريع. أقصد بذلك أنّ الحاجة إلى التشريع - خارجاً عن المحيط الإسلامي - لم تكن موجودة، وأنّ الموجهات كانت مغايرة، وذلك ما سعيت إلى توضيحه في دراساتي عن الفكر السياسي في الإسلام وفي الفكر السياسي السنّي خاصة مما لا يتسع المجال للخوض فيه. الحق أنّ الدولة في الفهم الغربي للكلمة (اليوناني ثم الروماني فالمسيحي الثيوقراطي ظل غائباً في الفكر السياسي في الإسلام). وفي الأحوال التي نجد فيها ذكراً للدولة، في الفكر العربي الإسلامي في الفترات التي نشير إليها، فإنّ ذلك يكاد يكون من قبيل الاشتراك في اللفظ. أمّا الدلالة فأخرى، مخالفة لما نعرفه في الفكر الفلسفي الغربي بدءاً من اليونان. وأما الشأن في العصر الإسلامي الحديث فآخر: ذلك أنّ هنالك التقاء بالدولة في المعنى الحديث.
يوسف هريمة: إذا انتقلنا إلى الساحة الإسلامية وجدنا عبارات مختلفة كلها تنتمي إلى الحقل السياسي الديني مثل: الدولة الإسلامية، الخلافة الإسلامية، الإسلام السياسي ... هل فكرة الدولة الإسلامية ونظامها تنتمي إلى اليوتوبيا (الطوبى) الإسلامية - إذا صح التعبير - خاصة وأنكم في إحدى المقالات التي نشرتها جريدة الشرق الأوسط اللندنية تقولون إنّ الدولة والإسلام السياسي معادلة لا يستقيم طرفاها في الذهن كما يقول مناطقة الإسلام؟
سعيد بنسعيد العلوي: عندما نتحدث عن الدولة اليوم فنحن، بكيفية ضمنية، نحيل على الدولة في معناها الحديث، تلك التي يحددها علم السياسة ويقننها الفقه الدستوري المعاصر. إنها الدولة كما ألمحنا إلى بعض سماتها في ثنايا الإجابة عن السؤال المتقدم. والدولة بهذا المعنى أبعد ما تكون عن الصورة التي يرسمها للدولة خطاب الإسلام السياسي في مختلف تلويناته. فأولاً تجدر الإشارة إلى أنّ "الدولة الإسلامية" أو "دولة الإسلام" أو "دولة الخلافة" (وكل هذه مسميات متعددة لمعنى واحد) دولة لم تتحقق يوماً في التاريخ العيني للإسلام فهي، كما يتحدث عنها، دولة اليوتوبيا صدقاً لا كذباً. اليوتوبيا (الطوبى) تعني الوجود في لا مكان، والصورة التي يراد رسمها لتلك الدولة كانت كذلك، ومتى تأملنا مضامين خطاب الإسلام السياسي عن الدولة الإسلامية فنحن نجد أنفسنا أمام صورة قد ركّبت عناصرها من أعصر مختلفة، ومن أجواء متغايرة، فيها بعض من دولة الخلفاء الراشدين (كما تمثل في المخيال العربي لا كما كانت في الواقع الفعلي)، وبعض من دولة الأمويين في أوج عزها، وبعض ثالث من الدولة العباسية في عنفوان قوتها، وثانياً نجد أنّ الدولة الحديثة تفيد التمايز بين الدين وبين السياسة. فالسياسي في الفكر الفلسفي والسياسي الحديثين، مغاير للديني مثلما هو مغاير للأخلاقي. ومن مقتضيات الحداثة، في الدولة الحديثة، القول بالمواطنة والشعب، واعتبار السيادة ترجع إلى هذا الأخير. ومن مقتضيات الحداثة القول بالتعدد والاختلاف والصراع من أجل البرامج السياسية بعيداً عن الدين وعن الأخلاق، دون أن يعني هذا القول رفضاً للدين ولا صراعاً معه، وإنما هو حرص على إبعاد الدين عن الصراع السياسي الضروري للوجود الاجتماعي للبشر. كما أنّ قولي هذا لا يعني في شيء تجريد العمل السياسي من الشروط الأخلاقية، بل إنّ السياسة في المعنى السليم للكلمة لا تستقيم مع غياب الأخلاق أو فسادها.
منطق "الدولة الإسلامية" أو "دولة الخلافة" (وما في هذا المعنى) ومنطق الدولة الحديثة (دولة القانون، المؤسسات، الاستقلال عن الدين في مستوى الممارسة السياسية، السيادة للشعب، المواطنة وما تستوجب من روابط وما يستتبع ذلك من الحريات العامة ومن إقرار لحقوق الإنسان...) منطقان لا يجتمعان. بل إنّ حضور أحد المنطقين يقصي الآخر ويلغيه.
يوسف هريمة: يتمسك أنصار الدولة الإسلامية بمفهوم الخلافة باعتبارها نيابة عن النبوّة (وعن الله في الوقت نفسه) وهذا مبثوث في كلّ الكتابات التي تطرقت للموضوع من قريب أو من بعيد. هل لديكم تصور حول ماهيّة الانحراف الذي حصل في فهم طبيعة هذا الموضوع؟ وكيف تقوّمون المنظور الذي يعدّ مدخل عدالة الصحابة كليّة، وكذلك المدخل النقدي التراثي، خاصة الجزء المتعلق بالرواية السياسية، والتفسير التجزيئي وهي أهم مداخل تقويم هذه الاختلالات المعرفية؟
سعيد بنسعيد العلوي: إذا رجعنا إلى أمّهات الفقه السياسي السنّي (كما هو الشأن في أكثرها شهرة وتداولاً وهو كتاب "الأحكام السلطانية" للماوردي) فنحن نجد أنّ نعت النيابة عن النبوّة يتصل بالخلافة أو الإمامة العظمى. يقول الماوردي في مستهل حديثه عن الإمامة: "الإمامة موضوعة لخلافة النبوّة في حراسة الدين وسياسة الدنيا.."، فلا ذكر للألوهية وإنما تنزيه لها في الكتاب برمّته، هذه أولاً. أمّا ثانياً فإنه لا صلة البتّة بين خطاب السياسة في كتب الفقه السياسي في الإسلام وبين خطاب الإسلام السياسي جملة وتفصيلاً، فكل شيء يفرق بين الخطابين. خطاب الماوردي في "الأحكام السلطانية" خطاب يتوخّى التشريع للأحكام التي تتصل بإدارة الشؤون العامة كما نقول في لغتنا اليوم الوزارة (بقسميها: وزارة التفويض، أو ما يقابل اليوم رئاسة الحكومة أو مؤسسة الوزارة الأولى، ووزارة التنفيذ - وهذا مفرد ينوب عن الجمع كما يقول النحاة العرب - إذ الواقع أنها وزارات عدة)، المظالم، القضاء، الشرطة، الجيش... كما يتوخّى التشريع لإدارة شؤون المدينة الإسلامية (الحسبة وما يتصل بها). أمّا خطاب الإسلام السياسي فلا يعرض البتة للمقتضيات التشريعية، بل إنه لا يستدعيها، وذلك لسبب بسيط ومفهوم معاً هو أنه ليس في حاجة إليها، بل إنّ التشريع لا يعنيه جملة وتفصيلاً، وإنما هي جملة مبادئ عامة يتمّ التلويح بها في صورة شعارات. البناء لا يعني دولة الإسلام السياسي، ذلك أنه منشغل كليّة بالهدم والتقويض، هدم وتقويض الدولة الحديثة. لا يستعير الإسلام السياسي من الفقه السياسي في الإسلام سوى مفهوم واحد بعد أن يفرّغه من معناه الأصلي ويبتعد به عن الهدف الذي وضع من أجله أولاً، وبعد أن ينقله من محيطه الأصلي الذي كان التشريع من أجله إلى محيط آخر بعيد ومغاير مغايرة تامة. المفهوم الذي نشير إليه هو مفهوم الحسبة. وإذا كانت الحسبة مبدأ إسلامياً بنص صريح من القرآن الكريم، وكان الشارع قد أوكل أمرها إلى جهة مخصوصة بها، فإنّ التشريع لأحكام الحسبة كان محصوراً في إدارة شؤون المدينة في الأمور التي تتصل برعاية المساجد والأوقاف والحرص على جودة الخدمات وسلامة الحرف من الآفات، والفصل في بعض النزاعات التي تترتب عن الجوار أو عن الدكاكين في الأسواق وفي المرافق العمومية، فضلاً عن رعاية الآداب العامة وحفظ حقوق الذميين وما إلى ذلك. الحسبة (ولنرجع ثانية إلى الماوردي في كتابه السالف ذكره) "أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر متى ظهر فعله". والحسبة مؤسّسة (نيابة عن الإمامة العظمى في مستوى معلوم، هو مستوى تدبير بعض الشؤون داخل المدينة) لها شروط وأحكام، وجهة معلومة تقوم بها. في خطاب الإسلام السياسي يصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين يلزم كل أحد من ملة الإسلام، وحيث إنّ الدولة في الوجود السياسي المعاصر دولة تحيد عن المعروف كليّة وتقع في المنكر جملة وتفصيلاً أو إنها في كلمة جامعة "دولة الجاهلية" فإنّ محاربتها والدعوة إلى الإطاحة بها بكل سبيل (بما في ذلك سبيل العنف والعمل المسلح وما يستتبعه من أفعال بطبيعة الحال) يغدو المقدمة الضرورية والعمل الواجب تمهيداً لقيام "دولة الخلافة". هنا نجد أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يغدو نوعاً من الإيديولوجية التي تحمل مضامين جديدة مغايرة مغايرةً تامة للمعنى الأول أو الأصلي الذي كان لها. وإذن تحت غطاء "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" يغدو كلّ شيء ممكناً.
"الدولة الإسلامية" أو "دولة الخلافة" (كما يحددها الإسلام السياسي جملة) دولة تجد تفسيرها في التاريخ العربي الإسلامي المعاصر لا في الماضي، في جوف الصراع على السلطة بكل الآليات والموجهات لذلك الصراع. لذلك كانت دولة لها قراءتها الاختزالية الخاصة بها لتاريخ الإسلام، ونظرها الخاص بها للنتاج النظري في الإسلام، نظر الغالب عليه الانصراف عن ذلك النتاج وتجاهله.
يوسف هريمة: سبق أن أشرتم في إحدى كتاباتكم إلى أنّ الدولة في الإسلام هي دولة مدنية. أنتم في هذا تتقاطعون مع مجموعة من المفكرين مثل جورج طرابيشي ومحمد سعيد العشماوي. هل نفهم من كلامكم هذا أنّ شعار "الإسلام هو الحل" الذي رفعته تيارات الإسلام السياسي شعار براغماتي يهدف للاستقطاب والتعبئة فقط؟ كما نود معرفة مدى تطابق وجهة نظركم مع الداعين لعلمنة الدولة وفصلها عن توظيف الجانب الديني في المجال السياسي.
سعيد بنسعيد العلوي: أود التنبيه إلى أنّ "الدولة المدنية" تعبير عربي معاصر، أو تعبير شاع في الكتابة العربية المعاصرة للتعبير عن الدولة في المعنى الحديث (أقول مرّة أخرى تلك الدولة التي أشرنا في ثنايا حديثنا السابق إلى بعض سماتها). هذه الدولة، نشأةً وتاريخاً وتطوراً، ترتبط بالتاريخ الغربي وبالمسار الذي سلكه كلّ من الفكر والسياسة في الغرب الأوروبي أساساً. وفي هذا المعنى يكون من قبيل القول المرسل أن نقول إنّ الدولة في الإسلام دولة مدنية (في معنى الدولة الحديثة). ما قلته، وما أزال أكرره، هو أنّ الإسلام لا يتعارض في جوهره مع الدولة في التصور الحديث لها. مع الدولة الحديثة من حيث هي صورة للفصل الضروري بين الدين وبين السياسة في مستوى الممارسة الفعلية ومقتضيات العمل السياسي وليس في مستوى التصور الكلي. أقصد بهذا القول التمييز بين المبادئ الكليّة (أو العالم الترانسندطالي كما يتحدث عنه الفيلسوف الألماني إيمانويل كنط) وبين عالم الوجود المحايث (أو المحسوس). هذا المعنى وجدته حاضراً وواضحاً في فكر محمد عبده، وهو ما يصرّح به في كتابه "الإسلام والنصرانية" عندما يتحدث عن السمة المدنية للخليفة في الإسلام. إنه ذاته هو ما ذهب إليه تلميذ الشيخ المصري، علي عبد الرازق، في "الإسلام وأصول الحكم" وجرّ عليه من المشاكل ما نعلم. بل أقول لك إنّ هذا المعنى هو ما ذهب إليه علال الفاسي في كتابه: "مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها"، إذ يقيم تفرقة واضحة بين ما ينعته بـ"السيادة في معناها الأصلي" (وهي ما نقصده بدورنا بالكليّات أو بالعالم الترانسندنطالي أو المفارق)، وبين "السيادة في معناها العملي".
فأمّا الأولى عنده فهي تكون لله في الوجود الإسلامي، وأمّا الثانية فهي في الوجود العيني للمسلمين في عالمنا اليوم، فهي تكون للشعب. وبعبارة أخرى، في استنتاج منطقي، نقول إنّ في الإمكان الحديث عن دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية. في حدود هذا التمييز يغدو الفصل بين الدين والسياسة فصلاً منطقياً مقبولاً معاً: إنّه فصل يخدم مصلحة كلٍ من الدين والسياسة. لا يغدو للدولة نعت آخر غير أن نقول عنها إنّها الدولة الحديثة في قول، أو إنها دولة الحق في قول آخر. وفي هذا المعنى فإنّ السياسة تكون فعلاً بشرياً محضاً، لا دخل للدين فيه ولا مكان لأن يحشر الدين لخدمة أغراض بشرية دنيوية محضة.
أما "علمنة الدولة" وكذلك "العلمانية" فإني أرى أنّ النعت قد غدا في الكتابة العربية المعاصرة نعتاً "سيء السمعة"، بسبب ما أحاط بلفظ العلمانية من معانٍ هي أشد ما تكون بعداً عنها. لقد اكتسب اللفظ حمولة سلبية، بل ربما حمولة قدحية تحمل من الإساءة وتثير من الإحن أكثر ما تسعى إلى توضيح المعاني وإنارة الطريق. لذا أجدني أميل إلى الاستعاضة عن "العلمانية" بلفظ اللاييكية، مع الوعي بأننا مطالبون جميعاً بالعمل على رفع الحرج ودفع الغموض وسوء الفهم اللذين يحيطان بالعلمانية، وقد تمّ إدراكها في دلالتها الحق التي لا تكون في موقع مخاصمة الدين ولا مهاجمته والدعوة إلى إبطاله.
يوسف هريمة: يتمسك الرافضون لعلمنة الدولة في البلدان الإسلامية بأنها نتاج غربي، وكذلك بالمقارنة بين الدولة الغربية التي كانت تحكمها الكنيسة وهرميتها المعروفة، وبين الدولة الإسلامية التي لا وجود لرجال الدين فيها. من وجهة نظركم: هل يمكن أن ننقل التجربة الغربية في رفضها لاحتكار الكنيسة المجال السياسي والديني؟ ونودّ معرفة مدى تطابق وجهة نظركم مع الداعين لعلمنة مسار الدولة والحيلولة بينها وبين توظيف الجانب الديني في المجال السياسي.
سعيد بنسعيد العلوي: من المتعذر، بل ربما كان من المستحيل أن ننقل ما عاشته أمّة من الأمم في طور معلوم من أطوار تطورها إلى أمّة أخرى، بيد أنه في إمكان الشعوب والأمم أن تستفيد من تجارب بعضها بعضاً، خاصّة ما نتج عنها من تجارب فيها مكسب تاريخي كبير، أو كان سبباً في حدوث نقلة نوعية في حياة الشعب الذي عاش تلك التجربة. أنت تشير إلى الدولة في بلدان الغرب الأوروبي وإلى المكانة التي كانت للكنيسة في تلك البلدان في فترة تاريخية معلومة هي فترة العصور الوسطى، وتشير تحديداً إلى الهيمنة التي كانت لرجال الكنيسة في تلك الفترة. ما هو جدير بالانتباه أولاً، هو أنّ كلاً من النظامين السياسي والديني في أوروبا الغربية كان مخالفاً لما كان عليه الشأن في كلٍ من دول الشرق الأقصى (الصين والهند خاصة، مثلما كان مغايراً لما كان عليه في دول العالم الإسلامي، فضلاً عن كونه كان مخالفاً لما كان عليه الشمال الأوروبي من جانب وفي بلدان أوروبا الوسطى من جانب آخر(هنغاريا وروسيا خاصة). ذلك ما تفيد به على نحو جيد المقارنات الدقيقة التي قام بها فوكوياما في كتابه الذي أشرت إليه أعلاه (بداية التاريخ). لا نفيد من تحليلات فوكوياما أنّ البنيات كانت إلى حد كبير غير متشابهة كليّة في المجموعات الأوروبية المشار إليها، بل إنها في الصلة بين الكنيسة وبين الدولة من جهة، وفي التركيبة الاجتماعية- السياسية من جهة أخرى، كانت تعرف تبايناً انعكس على تكون الدولة الحديثة في كل من البلدان الأوربية (هي في فرنسا مثلاً، غيرها في هنغاريا وروسيا، وهي في البلدان التي سيغدو كل منها دولة مستقلة من الدول الاسكندينافية حالياً غير ذلك تماماً). أمّا الشأن في البلدان الإسلامية (والعربية خاصة) فلا أحسب أننا في حاجة إلى القول إنّ ما يصدق عليه حقاً نعت الدولة الثيوقراطية كان شيئاً غير معروف وغير قابل للتصور. نعم يصدق في التاريخ العربي الإسلامي (وخاصة في المرحلة التي نتواضع على نعتها بعهود الانحطاط) الحديث عن دولة الاستبداد، بيد أنّ نعت "الدولة الدينية" (على غرار الدولة الثيوقراطية في دول أوروبا) يظل غير ذي معنى، بل إنّي أعدّه من قبيل المزايدات اللفظية التي تتجاوز النطاق المعرفي. يكفي في التدليل أن نقول إنّه لم يظهر في التاريخ الإسلامي سلطان أو حاكم ادّعى أنه ينوب عن السلطة الإلهية أو إنّ العرش الذي يجلس عليه هو عرش الإله ذاته (وهذان ركنان من أركان العقيدة الثيوقراطية)، وإنما كان منتهى الادعاء أن يقول الحاكم إنّ سلطته تستمد شرعيتها من شرعية الخلافة، من حيث إنها نيابة عن الرسول، وأنّه يحكم بموجب الإجماع، ونصوص الشرع. لست بهذا أسعى لتزيين وجه دولة الاستبداد في تاريخ الإسلام، فقد ارتكبت من الفضائح والموبقات من قبل الحكام أحياناً ما لا يكون في المكنة تبريره وبالأحرى قبوله. أسوق هذه الأقوال من باب التدقيق المعرفي، ومن باب التنبيه إلى الاختلاف الذي سلكه مسار التاريخ بين هذه الجهة وتلك من جهات المعمورة، غير أنّي لا أنفي إمكان استخلاص القوانين العامة القابلة للملاحظة والضرورية للفهم وإكساب التاريخ البشري المعنى. كما أنني لا أريد أن يُفهم من قولي هذا الارتكان إلى نوع من "الخصوصية القصوى" التي تكسب طابع الفرادة المطلقة على كلّ شعب وعلى كل تجربة تاريخية، وتحول دون استخلاص مبادئ عامة أو كليّات تمكن من الفهم وتنفع عند التحليل العلمي. أحسب أنّ أحد الشروط الضرورية للمعرفة العلمية الصائبة تقوم في المزاوجة (حين النظر العلمي) بين المبادئ والكليّات التي يخضع لها التاريخ البشري في سيرورته وبين المعطيات الجهوية أو المحلية (ثقافياً، وجغرافياً، وإثنياً).
عرفت أوروبا الغربية في تاريخها الحديث تجربة الإصلاح الديني. والإصلاح الديني يعتبر، من وجهة النظر التي نأخذ بها، من أسباب النهضة الأوروبية التي كانت بدورها التمهيد التاريخي الطبيعي لولوج أزمنة الحداثة. أتساءل (قياساً على ما يرد في سؤالك): هل من الضروري مرور العالم العربي بتجربة الإصلاح الديني على غرار ما تمّ في أوروبا الغربية خاصة؟ الجواب بالإيجاب متى أخذنا العمق الروحي لتجربة الإصلاح الديني، غير أنّه يكون بالسلب متى انتبهنا أنّ البنية العقدية، بل والبنية الدينية في كلٍ من المسيحية والإسلام ليست واحدة، مثلما أنّ النظامين الدينيين (الإسلامي والمسيحي) متغايران. نعم، صدق حقاً ما يقال إنّه لا كنيسة في الإسلام، (بمعنى أنه لا وجود لسلطة دينية عليا جامعة، إذ إنّ نفي سلطة مماثلة هو فعلاً من جوهر الإسلام، بل إنّه جوهر الإسلام وعلامته المميزة). من غير الممكن مثلاً أن نعقد نوعاً من المقارنة بين المذهبين السني والشيعي من جهة أولى، وبين الكاثوليكية والبروتستانتية من جهة أخرى. الأنسب، بالنسبة للإسلام أن يكون الحديث بالأحرى عن التجديد الديني شرطاً ضرورياً ومقدمة لتحقيق نقلة تاريخية في العالم الإسلامي، وفي العالم العربي الإسلامي خاصة. التجديد الديني (أو التجديد في الدين) أمر ممكن، بل مطلوب من جهة النظر الشرعي، والتجديد الديني رتبة تعلو على رتبة الاجتهاد كما نعلم، ولذلك فإنّ له شروطاً ثقيلة من جهة أولى، ولا يكون ممكناً في كل زمان (حتى لو شاء أهله ذلك) وهذا من جهة أخرى. إنه أمر يتوافق مع البنية الدينية في الإسلام أولاً، وثانياً نرى أنّ التاريخ العربي الإسلامي قد كشف لنا أنّ الدعوة إلى التجديد في الدين كانت ترتبط بمراحل لها سمات معلومة، قد يكفي أن نذكر مستشهدين على ما نقول إنّ حركة التجديد التي حملها الفكر العربي الإسلامي في عصر النهضة - ممثلة في رموزها الكبرى في العالم الإسلامي - كانت حركة تجديد ديني (أحمد خان، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، الثعالبي، ابن باديس، الطاهر بن عاشور، علال الفاسي...).
إنّ علينا من حيث المبدأ، ومن جهة منطق التطور التاريخي، أن نستفيد من تجربة الإصلاح الديني في الغرب الإسلامي، غير أنه ليس لنا أن نحاول استعادتها في تجاهل تام للإسلام ديناً وتاريخاً. وأخيراً فهنالك ما ينعته عبد الله العروي بالاختزال التاريخي بالنسبة للوجود العربي المعاصر، إذ يوضح أنّه في الإمكان استخلاص مراحل التجربة الليبرالية الأوروبية دون أن نكون في حاجة إلى المرور بكل المراحل التاريخية التي مرّت بها.
أمّا بالنسبة للشق الأخير من سؤالك (لماذا نقلنا كلّ مفاهيم الدولة من ديمقراطية ومؤسسات، ورفضنا العلمانية؟)، فإني أسألك بدوري: هل يصح القول فعلاً إننا قد نقلنا كلّ مفاهيم الدولة من ديمقراطية؟ إذا نظرنا إلى الدولة في العالم العربي من حيث بنيتها الظاهرة (من حيث وجود هياكل إدارية، شرطة، جمارك...) فإننا نجد أنّ معايير الدولة الحديثة تنطبق عليها، الحق أنّ من العسير تصور نمط آخر للدولة غير الدولة الحديثة (ظاهرياً كما قلت)، فهي كذلك حتى في البلاد التي تجعل من نقد الغرب والفكر الغربي غذاء روحياً لها. لكن متى ساءلنا الدولة في العالم العربي من حيث منطق الدولة الحديثة روحاً ومعنى فنحن، في الأغلب الأعم، لا نجد شيئاً من أسباب الحداثة الحق. إذن فإني أجد من التساهل في القول أن نقرر إنّنا قد "نقلنا" مفاهيم الدولة الحديثة كما تقول.
الحداثة معركة طويلة وعسيرة، والقول ذاته يصدق في حق الديمقراطية، الحق ركن من أركان الدولة الحديثة على الحقيقة (كما يقول البلاغيون العرب). وصفوة القول في الإجابة عن الشطر الأخير من سؤالك هو أنّ التمثل الحق للديمقراطية، والأخذ بالأسباب العميقة للحداثة باعتبارها نقلة نوعية في الحياة الفكرية والسياسية الغربية، وباعتبار ولوج عالم الحداثة أملاً نصبو إليه في عالمنا العربي، إنّ ذلك التمثل لا بد أن يكون حاملاً في جوفه للعلمانية الإيجابية: تلك التي قد يكون من شأنها أن تحفظ على أهل الإسلام دينهم صافياً خالصاً من شوائب الكراهية والغلو والضرب بقيم الدين وتعاليمه السمحة عُرض الحائط.
يوسف هريمة: المنطقة العربية والإسلامية تعيش على صفيح ساخن، فالكلّ مهدّد وجودياً على المستوى الديني والطائفي والعرقي والاقتصادي... ما دلالات المشاريع الحالية التي تأخذ صفة الديني؟ وكيف نطمئن الناس من مخاوف تشكيل "الدولة الإسلامية" التي تستعمل العنف في حدوده القصوى ترهيباً وتخويفاً؟ ألا ترون أنّ في اختزال النظام السياسي في جانب ما سُمّي بـ"الحدود الشرعية" قصوراً في الرؤية والمنهج؟
سعيد بنسعيد العلوي: أجد أنّ في حديثي أعلاه عن الانحراف الذي حدث في التاريخ الإسلامي في معنى "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" من جهة دلالته الأصلية وارتباطه بتنظيم المدينة الإسلامية ونظم العيش فيها أولاً، ومن حيث الجهة التي يوكل إليها القيام بعمل الحسبة (التي هي الدلالة الحق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكذلك ترجمته في الواقع الفعلي، واقع الممارسة الاجتماعية في المدينة الإسلامية) أجد أنّ في حديثي ذاك عناصر في الإجابة عن سؤالك. "الدولة الإسلامية" تصور لا يمتُّ إلى الفكر السياسي في الإسلام بصلة (إذ كان فكراً تشريعياً فقهياً، همّهُ التراتيب العملية لشروط العيش سياسياً واجتماعياً)، في حين أنّ فكر "الدولة الإسلامية" فكر تكفيري إقصائي لا يعنيه التشريع العملي لأحكام الوجود السياسي، ولا ينشغل بأمر الوجود العيني لأهل الإسلام في العالم. كما أنّ هذا الفكر الأخير، من حيث بنيته وما يستهدفه، يجعله خارج مجرى التاريخ البشري جملة وتفصيلاً. ليس من الحقّ في شيء أن ننسبه إلى الماضي، إلى زمان معلوم في تاريخ الإسلام، إلا أن يكون الأمر متعلقاً بأزمنة ضيقة محدودة من عصور الانحطاط. وإذا كان كذلك فلست أرى له نسبة إلا أن يكون ذلك إلى الفكر الإرهابي، وإذا كان كذلك فليس من المغالاة في شيء أن نقول عنه إنّه يحمل بذرة فنائه في ذاته.
يوسف هريمة: ركّزتم على أهمية العقد الاجتماعي في بناء الدولة الحديثة. في رأيكم: هل هذه المصطلحات السياسية الشرعية تنتمي إلى هذا الحقل (الشورى، البيعة، أهل الحل والعقد...)؟
سعيد بنسعيد العلوي: بل إنها بنية وتاريخاً ونشأة وتطوراً تنتمي إلى الحقل الدلالي السياسي الإسلامي، ولا صلة لها بنظرية العقد الاجتماعي كما ظهرت في الفكر السياسي الغربي في القرنين السابع عشر والثامن عشر. يقتضي العقد الاجتماعي وجود عناصر عدّة أهمها: الحرية، والعقل، والفرد، والمواطن، والسيادة للشعب. وتحت كلٍّ من الألفاظ المذكورة معانٍ تتصل بالفكر السياسي الغربي الحديث، وتتصل بالصراع السياسي الاجتماعي الذي خاضته الطبقة البورجوازية ضدّ كلٍ من الكنيسة ورجالها من جهة، وضدّ الطبقة الأرستقراطية من جهة أخرى. ينتمي المفكرون الذين نظروا لفكرة التعاقد الاجتماعي إلى دول غربية اختلفت فيها نظم العيش ودواعي التعاقد وكيفياته. هكذا نجد أنّ باروخ سبينوزا ينتمي إلى هولندا، وبلاد الأراضي المنخفضة في القرن السابع عشر كانت على حال من الرخاء لم يكن لها مثيل في غيرها من بلاد أوروبا، كانت في هولندا زمان سبينوزا فئة واسعة من كبار التجار، والتجارة استوجبت وجود الصحافة الحرّة وهذه اقتضت سيادة حرية الرأي والتعبير، ولذلك نجد أنّ كل المفكرين الذين ضاق بهم الحال في بلدانهم قد وجدوا في الأراضي المنخفضة ملاذاً ومناخاً من حرية التعبير مكّنهم من إذاعة أفكارهم الليبرالية. كان ذلك هو الشأن بالنسبة إلى جون لوك، وهو كما نعلم من فلاسفة التعاقد الاجتماعي، كتب ما كتب من رسائل في التسامح وفي الحكم المدني ونشره في هولندا، في وقت كانت فيه بريطانيا ترزح تحت حرب أهلية طويلة اختفى فيها مناخ الحرية. والشأن كان قبل ذلك ومثله بالنسبة لديكارت الذي نجا بجلده من سلطان التفتيش وسطوة رجال الإكليروس في فرنسا. وفي عبارة جامعة نقول: إنّ التعاقد الاجتماعي على النحو الذي يتحدث به روسو وهوبز وسبينوزا وجون لوك يجد دلالته الكاملة في التاريخ السياسي العيني لأوروبا الغربية في القرنين السابع عشر والثامن عشر. فبالقدر الذي نستحضر فيه ذلك التاريخ يبدو لنا خطاب التعاقد عند من ذكرنا من الفلاسفة أقلّ تجريداً. بيد أنّ هذا القول لا ينتقص في شيء من طبيعة ومغزى التعاقد الاجتماعي، من حيث هو تعبير عن الإرادة الحرّة لمواطنين أحرار يحتكمون إلى العقل ويرون فيه سبيلاً إلى الحقيقة، مثلما هم يلتقون عند رفض الدولة الثيوقراطية وعند الإيمان بالإنسان قدرة وحرية.
راج في الفكر العربي المعاصر (في الخمسينات والستينات من القرن الماضي خاصة) خطاب تمجيدي للتراث العربي الإسلامي، قوامه القول بالأسبقية المعرفية للعرب في مجالات الفكر المختلفة. هكذا انتشرت آراء تقضي بأسبقية الغزالي لكنط تارة، وبأبوية ابن خلدون لكل العلوم الاجتماعية التي ستأخذ في الظهور ابتداء من القرن التاسع عشر، وما كان من حيث منطق تطور المعارف أن تظهر قبل أن تمهّد لها علوم ومعارف عديدة. غير أنّه منطق التفاخر ودغدغة الذات الذي يجد تفسيره في علم النفس. في ظلّ سيادة هذه النزعة التمجيدية ظهرت قراءة في فكرة أهل الحلّ والعقد وفي البيعة تبعاً لشروط معلومة...جراثيم نظرية العقد الاجتماعي كما ألمحنا إليها. والحق أنّه لا شيء من ذلك بطبيعة الأمر.
ربما كان الأقرب إلى الصواب أن نقول إنّ قراءة مستنيرة للتراث العربي الإسلامي السياسي تحملنا على القول إنّ المصطلحات الشرعية (كما أسميتها) هي، وإن كانت تنتمي إلى الحقل الدلالي للفكر السياسي الليبرالي، فإنها لا تتنافى مع هذا الأخير من حيث دلالته البعيدة.
يوسف هريمة: شكرا الأستاذ الكريم على هذا الحوار المفيد.