سهام الدبابي الميساوي: أهمية ومنهج دراسة الحياة اليومية
فئة : حوارات
الجزء الأول: دراسة اليومي: أهميّة المبحث وأسباب التغييب.
لا تقل الحياة اليومية أهمية مقارنة بما يعرف بالأحداث الكبرى لدراسة حضارة ما أو فكر ما، فالاهتمام بالأنساق اليومية وبالحياة اليومية وبالثقافة المادية جانب مهم جدًّا يشمل دراسة حياة الناس إضافة إلى ما يمكن دراسته في أي حضارة وأي تاريخ وأي تراث من أخبار الملوك والأمم وغيرها مما تعارفنا عليه في دراسة التاريخ؛ ومنه التاريخ العربي الإسلامي هذا ما ألحت عليه ضيفتنا في هذا الحوار الأستاذة سهام الدبابي الميساوي التي كتبت في موضوع الأنساق اليومية والاحتفالية والطقوسية باعتبارها مكونًا مهمًّا من مكونات الحضارة العربية الإسلامية. وفي هذا السياق يتنزل بحثها المعد لنيل أطروحة دكتوراه الدولة حول الطعام والشراب في التراث العربي، إضافة إلى بحوث أخرى أشرفت على تنظيمها من ضمنها ما نشرته جامعة منوبة حول خطاب الطعام سنة 2014. نشكرها أولاً على قبولها هذا الحوار ثم نحاول أن نتساءل معها عن أهمية دراسة هذه الأنساق اليومية المغيبة في البحث اليوم في المجال العربي والإسلامي بصورة عامة، وهل ما لاحظنا من تغييب لهذه الدراسات صحيح أو إنّه يحتاج إلى نوع من التنسيب؟
د. نادر الحمامي: مرحبًا بك أستاذة سهام.
دة. سهام الميساوي: مرحبًا
د. نادر الحمامي: إذن هل صحيح أنّ هذه الثقافة المادية والبحث في الأنساق اليومية والطقوسية مغيب في الدراسات اليوم وتحتاج إلى دراسة أعمق؟
دة. سهام الميساوي: في الواقع، وقبل أن أبين ما دُرس من هذه الأنساق وما لم يدرس، لا بد من تحديد المقصود بالحياة اليومية واليومي، لأنّنا قد نخلط بين الحياة اليومية والاجتماعية والحال أنّهما مختلفتان، فالحياة اليومية تتكون من الأنشطة الرتيبة والمتكررة التي تكون على درجة كبرى من التكرار حتى أنّ الفاعل يشعر بوطأة هذا الزمن الرتيب، ولكن على الرغم من الشعور بهذا الزمن الرتيب، الذي يمكن أن يكون تراجيديًّا، فإنّ هذه الرتابة تشعره بالأمان. الحياة اليومية إذن تتكون من الأنشطة اليومية الرتيبة وما يعيشه الإنسان في كل يوم، وتتكون، كذلك، من التفاعلات اليومية التي تكون في أفضية عادية ومألوفة كالطريق والبيت ومقر العمل والحقل والميناء... ودراسة الحياة اليومية، إلى جانب ذلك، هي دراسة للأشياء التي تؤثث الحياة اليومية، وهي أشياء مادية ولكنها أيضًا أشياء تُتمثل وتستعمل لتدل على حالة ما وعلى وضع ما، وهي تلفت انتباهنا إلى الأحاسيس اليومية كالألم والفرح والغبطة والطرب والتعب والانفعالات وكل ما يتعلق باليومي، ويعجبني هنا وصف ميشال دي سارتو (Michel de Certeau) (1925-1986) لها عندما يقول إنّ الحياة اليومية هي دراسة فنون الفعل، وفيرناند بروديل (Ferdinand Braudel) (1902-1985) عندما يعرّف الحياة اليومية فيرى أنّ تاريخ الحياة اليومية هو تاريخ مجرى الحياة الطبيعي والرتيب، ولذلك التفت إلى السكن وإلى الغذاء، ودرس غيره العائلة والطفولة والإحساس أمام الموت والمرض.
د. نادر الحمامي: أرجو المعذرة على المقاطعة، ولكنّنا سنعود إلى مسألة تغييب دراسة اليومي كما كنتِ بصدد تعريفه. ذكرتِ علمين وهما ميشال دي سارتو وبروديل بمعنى أنّك، حتى بنوع من الاستباق، في إطار منهج له علاقة بمفهوم كبير فيما بعد الحوليات في فرنسا في أواخر العشرينات وبداية الثلاثينات أقصد الأمد الطويل وعلاقته بمسألة القطائع، خاصة أنّك ذكرت مسألة الرتابة، إلى غير ذلك، فهل تنزّلين بحوثك في هذا المنهج الكبير؟
دة. سهام الميساوي: مدرسة الحوليات هي مدرسة هامة جدًّا، ولكن إلى جانب ذلك المدرسة الألمانية التاريخية التي كان لها رد فعل ضد التاريخ الرسمي، بلفت النظر إلى تاريخ الطبقات الشغيلة وإلى تاريخ النساء مثلاً، ولكن لو عدت إلى مدرسة الحوليات فهذه المدرسة قرّبت بين التاريخ وبين الأنثروبولوجيا فكانت الأنثروبولوجيا التاريخيّة أساسًا للدراسة التاريخية ومنهجًا، فعلاً تأثرتُ بمدرسة الحوليات عندما قرأت ما كتبه هارمادينكر (Hermadinquer) ودوبي (Duby) وبروديل (Braudel) وفوفال (Vovelle) ولوسيان فافر (Lucien Febvre) وأرياس (Ariès)، فإنّني تأثرت بذلك لأنّهم لفتوا انتباهي إلى قيمة الأشياء التي نعتبرها تافهة، ولكنها هي في صميم التاريخ، ولفتوا انتباهي إلى دراسة المؤسسات، ولكن لا كما كنا ندرسها نحن، أي دراسة الخلافة والحجابة والوزارة والقضاء، ولكن دراسة العائلة ودراسة ما يحدث في السوق وفي الميناء وحياة الفلاحين في الحقول. ومن هنا فدراسة الحياة اليومية هي دراسة الفلاح في حقله، والصياد يصطاد سمكه ويشقى، لذلك هي حياة التعب وحياة الشقاء، ولكنها أيضًا حياة الإناسة وحياة الألفة العجيبة التي تبنى في الواقع، وهي الواقع المعيش. فدراسة الحياة اليومية هي دراسة الواقع المعيش، ودراسة طرائق العيش: كيف آكل؟ وكيف ألبس؟ ولماذا ألبس؟ وكيف أنام؟ وكيف أستيقظ؟ وكيف أستحم؟ وكيف أمشي في الطريق؟ وكيف أؤثث بيتي؟ وكيف أحب وكيف أحزن؟ وكيف أشعر بالألم؟ وكيف أمرض وكيف أتداوى؟ وكيف أنتج وكيف أبدع؟ وما هي أبعاد ذلك كله؟ فالحياة اليومية تتكون من أنساق كنسق الطعام ونسق اللباس ونسق السكن، ومن هنا فكرنا في الأنساق تفكيرًا بنيويًّا، معنى هذا أنّها أنساق دالة، وقد بينت في أطروحتي، عندما درست الطعام والشراب في الثقافة العربية والإسلامية والغذاء نسقًا يوميًّا ماديًّا، أنّ الغذاء نسق دال، لأنّ كلود لفي ستراوس (Claude Lévi-Strauss) (1908- 2009)علمني أنّ الغذاء كاللغة هو نسق دال ورامز، كذلك اللباس، وتبينا ذلك من خلال دراسة وإن كانت سيميائية هي في نسق الموضة (le système de la mode)، وقد درسنا ذلك من خلال تفكيره في الأسطورة ومن خلال تفكيره في الطقوس أي أنّ الطقوس هي نسق رمزي. والحقيقة أنّ دراسة الحياة اليومية تفتح المجال لدراسة أنشطة فيها العقلاني وفيها التجريبي والسحري والمتخيل والرمزي والميثي، فالإنسان في ثقافة ما عندما يأكل فهو يفكر في أكله ولكنه، كذلك، يلتهم رموزًا.
د. نادر الحمامي: ما تقولينه الآن يحيل على عدة حقول متقاطعة؛ منها ما هو منهجي ومنها ما هو فكري وحضاري ثقافي عام، أقول هذا لأنّه في نظرك لا يمكن دراسة التراث العربي الإسلامي دون أنثروبولوجيا ودون سوسيولوجيا، هذا منهجيًّا، ثم أنّ مقاربة التراث العربي الإسلامي ربما بهذه المنهجيات وبالانتباه إلى هذا اليومي وهذه الثقافة المادية سيجعله منخرطًا في الحضارات ويمكن أن يدرس هذا التراث العربي الإسلامي كما تدرس بقية الحضارات الأخرى.
دة. سهام الميساوي: قد أعود إلى هذه المسألة، ولكن لعلّي نسيت شيئًا سألتني عنه وهو تغييب دراسة اليومي، ففي الواقع فإنّ كثيراً من زملائي في الجامعة التونسية وخاصة في جامعة 9 أفريل (كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس) أشرفوا على دراسات في الحياة اليومية، ولفتوا الانتباه إليها، وتوجد أعمال وأطروحات ورسائل جامعية في ذلك، ولا ننسى أنّه في جامعة الرباط توجد دراسات للمجاعات الكبرى والفقر والحرب ودراسات للتغذية وغير ذلك... ولكنها دراسات قليلة مقارنة بدراسة الديني والسياسي ودراسة مسائل أخرى اجتماعية كدراسة المرأة، ولكنها تكون منعدمة في أقسام العربية إلا بعض ما يوجد في جامعة منوبة، وفي الواقع حاولنا مع أساتذتنا ومع زملائنا منذ التسعينات، عندما أصبحت الحضارة تُدرّس مثلما يدرس الأدب وتدرّس اللغة، وكان ذلك بإشراف الأستاذ عبد المجيد الشرفي، حاولنا دائمًا أن ندرس الحياة اليومية والمادية لأنّنا كنا ومازلنا نؤمن أنّ الحضارة لا تتكون، فقط، من الفكري ولكنها تتكون أيضًا من المادي.
د. نادر الحمامي: هذا الغياب هل ترينه نتيجة اختيار ذاتي أم هو موجّه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من الدراسات الكلاسيكية الغربية، أساسًا، والتي بقيت في إطار الفكري والسياسي والديني، ربما، لإعطاء صورة ما عن هذه الحضارة؟
دة. سهام الميساوي: سادت في السنوات الأخيرة وحتى منذ التسعينات، الدراسات الإسلامية ودراسات الظاهرة الدينية، بشكل عام، والدراسات السياسية، ونحن نتفهم ذلك لأنّنا بحاجة إلى إعادة التفكير في التراث الديني والسياسي، ولكن هل وُجهنا إلى ذلك أم لا؟
نحن في حاجة إلى ذلك، ولكن كأنّنا بقينا في بوتقة أردناها لأنفسنا وأرادها الغرب لنا. وبمعنى آخر فكأنّ ثقافتنا هي ثقافة فقه وتشريع، وعندما نتحدث عن التراث العربي الإسلامي فكأنّنا نتحدث عن الديني والسياسي والحركات الإرهابية وعن العلاقة بين الديني والسياسي، ونحن نُغيّب أو نكاد دراسة الفنون ودراسة العمارة ودراسة التقنيات والمهارات ودراسة العلوم... كأنّنا بترنا جزءًا كبيرًا منا على الرغم من محاولاتنا نحن في قسم العربية، ولكن أنا نظرت وقمت بعملية إحصائية في إطار لجنة انتداب وكانت أمامي أكثر من ستين أطروحة أنظر في أمرها ولفت انتباهي أنّ 90% من الأعمال كانت في الإسلاميات وهي أطروحات مفيدة، ولكن 10% المتبقية كانت 8% منها أطروحات في الفكر العربي الحديث والتيارات الفكرية والسياسية ومشاغل المفكرين العرب و2% أو أقل ربما في موضوعات أخرى كالتمثيلات واللهو والجندريات، وأنا أعتبر ذلك قليلاً لأنّنا في قسم العربية قادرون على دراسة نصوص ومقاربة نصوص تتحدث عن مظاهر شتى من الثقافة العربية والإسلامية لا تقل قيمة عن الموضوعات الكبرى.
د. نادر الحمامي: ألا يعود هذا الاهتمام بالفكري والسياسي والديني في جانب منه إلى وضع هذه المجتمعات العربية والإسلامية التي يطغى عليها هذا الجانب ولم تتحرّر من هذه الشواغل التي تجاوزها الغرب شيئًا ما؟
دة. سهام الميساوي: نعم هي شواغلها، ولكن الغرب أيضًا لم يتجاوزها لأنّ الغرب يدرس هذه الظواهر، نحن ندرسها ولكن فيما يتعلق بي أنا، مدرّسة وباحثة، فأنا أفصل ما بين المشاغل الراهنة التي تهمني باعتباري منخرطة في الشأن الاجتماعي العام وبين البحث العلمي الأكاديمي، الذي يمكن أن يختار بعضهم أن يكون في علاقة مع الشأن العام ويتلون حسب الموضة كذلك وحسب المطلوب في العالم العربي وفي الغرب. ولكن أنا يعجبني شخصيًّا البحث الأكاديمي الذي يتناول موضوعات معينة وأن يبقى الباحث فيما يعرف يدقق ويمحص ويقوم بأركيولوجيا في أمور اختار منذ البدء أن يدرسها وأن يعدل إلى أشياء يُطلب منه أن يدرسها ويمكن ألا يتسلح بأدواتها، وقد لامني الكثير من أصدقائي على ابتعادي عن الساحة العامة وعن المشاغل الوطنية والمشاغل العربية والإسلامية، ولكن جوابي كان بأنّي لست مختصة في ذلك فما أنا مختصة فيه هو أن أدرس الحياة اليومية والأنساق الاحتفالية وأنكب على نصوص قديمة أقاربها بمناهج حديثة، وعليّ أن أنكب خاصة على تكوين طلبتي تكوينًا أسبوعيًّا ونصف شهري أو حسب الحاجة أو حتى تكوينًا شهريًّا في المناهج الحديثة التي هم في حاجة إليها فأنا أرى دوري في القسم، ففي القسم يوجد عطاء، وأرى دوري وراء مكتبي، وأرى دوري أن أقرأ كل يوم ما هو جديد في ميداني حتى أوصل ذلك إلى طلبتي.
د. نادر الحمامي: قد يكون عدم المعرفة لدى الباحثين بهذه المدارس المنهجية الحديثة بدوره عائقًا أمام عدم الاهتمام بذلك، إضافة إلى مسألة عدم اهتمام النخب الجامعية بهذه المسألة.
دة. سهام الميساوي: في الواقع عدم الاهتمام له أسباب عدّة يمكن أن نحصر بعضها؛ ومن بينها أنّ الناس أو الأكاديميين مازالوا يعتبرون أنّ هنالك موضوعات تستحق الدرس وأنّ هنالك موضوعات ثانوية حقيرة دنيئة تافهة لا تستحق الدرس، أي أنّه يوجد تصنيف يكرس نوعًا من النخبوية في النّظر إلى الحضارة وتوجد أسباب أخرى من بينها صعوبة البحث.
د. نادر الحمامي: ولكن صعوبة هذه المباحث على الرغم من أهميتها وارتباطها بهذه المناهج الحديثة التي تنظرين أنت من خلالها إلى هذه الأنساق اليومية والاحتفالية والطقوسية كما بيّنت من خلال التمييز بين اليومي والاجتماعي، ربما تكون مسألة المنهج مسألة أساسية يمكن أن نخصص لها قسمًا من هذا الحوار معك.
الجزء الثاني: مسألة اليومي وقضيّة المنهج
د. نادر الحمامي: أشرنا في المحور الأول من حوارنا مع الأستاذة سهام الدبابيالميساوي إلى بعض ملامح المناهج التي تقارب بها مسألة اليومي، ولكن في الحقيقة أريد أن أعمّق معها الحديث حول مسألة المنهج، لأنّها مسألة صعبة أوّلاً، ثم نظرًا إلى هذا التعدد المتعلق باليومي من طقوس واحتفالات وحياة يومية ومظاهر لباس وطعام وشراب، فإنّ المسألة المنهجية تبدو في حاجة إلى تعميق النظر. فهل يمكن للأستاذة أن تحدثنا عن مسألة مناهج مقاربة اليومي كما قامت بها هي أو كما هي مطروحة في المدارس الغربية التي ركّزت كثيرًا على هذه المسائل.
دة. سهام الميساوي: هنا أريد أن أنطلق لأجيب عن هذا السؤال من الصعوبة الثانية؛ لأنّنا كنا تحدثنا عن صعوبة دراسة الحياة اليومية والحياة الاحتفالية، فالصعوبة أوّلاً تتعلق بالنصوص، وهي موجودة بكثرة ولكن المعلومات عن الحياة اليومية وعن اللعب وعن الاحتفالي هي معلومات مشتّتة ومبعثرة جدًّا، يشقى الباحث كما يشقى الطالب حديث العهد بالبحث العلمي في جمعها، فالعمل على مصادر التراث هو عمل مضن للغاية لأنّك قد تقرأ العديد من المجلدات في التاريخ ولا تظفر إلا بنزر قليل من المعلومات عن الغذاء، وتقرأ العديد من المجلّدات في الفتوى ولا تعثر إلا على نزر قليل من المعلومات عن الغذاء وتقرأ كتب التراجم والمناقب ولا تحصل على كثير من المعلومات... فالعمل منهك فعلاً.
د. نادر الحمامي: هذا يعود إلى كتابات المصنفين نظرًا إلى تركيز اهتمامهم على المركز؟
دة. سهام الميساوي: نعم فهم اهتموا بذلك، وقد نجد نصوصًا مفردة في الموضوع الذي نشتغل عليه، فقد نجد نصوصًا مفردة في الطعام كثيرة ككتب الطبيخ وكتب الأغذية ورسائل في الشارب والمشروب ورسالة في الحلوى، ولكنها قليلة إذا قسناها بالمعلومات المبعثرة في غيرها من النصوص، لأنّ من يشتغل على الحياة اليومية أو حتى على الحياة الاحتفالية، وهي شيء آخر غير اليومي، فهو يحتاج إلى استغلال وثائق عديدة ومختلفة ومتنوعة تضنيه أوّلاً.
د. نادر الحمامي: إذن المستند المنهجي الأول هو الاطلاع الشامل على التراث العربي؟
دة. سهام الميساوي: فعلاً، وهذه صعوبة أنهكتني شخصيًّا في أطروحتي، وكذلك أنهكتني أخيرًا في كتاب انتهيت منه بالأمس وهو حول مائدة إفريقية، والصعوبة الثانية (وهنا أصل إلى مسألة المنهج) هي أنّنا أمام خيارين: إما أن نجمع، ولم لا؟ فأنا لست ضد الجمع والترتيب والتبويب لأنّنا في حاجة إلى معرفة جوانب كثيرة من الحضارة، وهي خطوة أساسية ولست ضد الجمع والتبويب والترتيب لأنّ في ذلك تفكيرًا. الخيار الثاني الذي هو صعب هو كيف أقارب هذه النصوص التي مواضيعها السكن والطعام واللباس والطقوس، وهنا نحن مجبرون على العلم بالأنثروبولوجيا والسيسيولوجيا وأحيانًا حتى بعلم نفس الأعماق، كيف يمكننا أن نقرأ نصًّا يتحدث عن طقس من الطقوس دون أن نكون على علم بالتنظير في التقسيم والتنظير في الطقوس، فحتى ينجز فريق أشرف عليه عملاً جماعيًّا في دراسة آداب السّلوك والطقوس قمنا بتكوين نظري دام سنتين وكنت أسبوعيًّا أقدم كتبًا نظرية في الطقوس وقد احتجنا إلى معرفة ما كتبه إميل دوركايم (1858 -1917) ومرسيل موس (1872-1950) وهيبار (Hubert) (1872-1927) فمهمّ أن نعرف تصنيف دوركايم للطقوس وأن نعرف دراسة هيبار للهبة وللقربان وللسحر وكان علينا كذلك أن نقرأ هوغار (Hocart) لأنّه بين أنّ الطقس هو أصل الحضارة، وإن كان قد نُقد، ثم كان علينا معرفة فان غيناب (Van Gennep) لأنّه هو الذي أنتج مفهوم طقوس العبور، والاطلاع على ما كتبته نيكول بالمونت (Nicole Belmont) التي عمقت دراسته، وكان لا بد أن نميز بين تصنيفات الطقوس فكازونوف (Cazeneuve) لم يصنف الطقوس كما صنفها دوركايم على الرغم من أنّه كان قد تأثر به، وكان علينا أن نطلع على الطقوس الدنيوية لأنّ هناك من لفت انتباهنا إلى أنّ الظاهرة الطقسية ليست ظاهرة دينية، ثم كان لابد أن ننظر إلى مقاربة تورنر (Turner) (1861-1932) وهي مقاربة مقارنية ومتأثرة بالفينومينولوجيا، وكان علينا أن نقرأ ما كتبه كلود لفي ستراوس وأن نطلع على الطريقة البنيوية التي درس بها الطقس وقد اعتبره نسقًا، والنقد الذي وجهه إلى غيره ممن درسوا الطقوس، كما كان لا بد أن نطلع على كتب عالم فذ ولكنه على درجة من الصعوبة بمكان وهو إرفين غوفمان (Erving Goffman) (1922-1982) لأنّه لفت الانتباه إلى أنّ الحياة اليومية التي ندرسها هذه الحياة البسيطة ''التافهة'' هي حياة مطقسنة، وأنّنا دومًا في حالة مسرحة وفي حالة مواجهة نُمسرح فيها حياتنا ونتصرف وفق قواعد ووفق معايير ووفق طقوس، فالتحية مثلاً خاضعة لطقوس هي طقوس التحية، ثم في الأخير كان لزامًا علينا أن نطلع كذلك على ما كتبته بيكار (Picard) حول ما سمّي طقوس حسن السلوك (les rituels de savoir vivre) أو ما نصطلح عليه نحن في الثقافة بـ ''آداب السلوك''.
د. نادر الحمامي: هنالك قضايا كبرى يتم الحديث عنها اليوم باعتبارها عودة إلى الديني، فمثلاً قرأت أنّ عودة الديني تأتي في أشكال المعيش اليومي وقد عوضت الطقوس الدينية القديمة، عكس النظريات القائلة بأنّ الديني ينطلق من الطقس اليومي، وهنالك قول آخر يرى بأنّ اليومي واللعب واللهو وحتى الاهتمام بحديقة... هو نوع من عودة الديني لأنّه يقوم على مسائل طقسية أيضًا. ما رأيك؟
دة. سهام الميساوي: أشكال التدين تظهر في طقوس وهي تظهر في الحياة اليومية، ونحن نلفت الانتباه إلى أهمية الطقوس الدينية، كيف يكون الدين في مفهومه العام عنصرًا من العناصر المحددة للسلوك اليومي والموجهة للسلوك اليومي والموجودة في السلوك اليومي، على الرغم من أنّنا قد لا ننتبه في كثير من الأحيان إلى ذلك، فالديني موجود في طريقة أكلنا وطريقة استحمامنا وطريقة نومنا... وفي الواقع فإنّ هذه المناهج التي أحاول توظيفها مع طلبتي في هذا المشروع هي التي تسمح لنا أن ندرس ما نصطلح عليه بآداب السلوك في الثقافة الإسلامية دراسة جديدة، أوّلاً بأن نقول إنّ آداب السلوك في الثقافة الإسلامية في كثير منها هي طقوس؛ فآداب التحية مطقسنة، وآداب النكاح مطقسنة، وآداب الدعوة والضيافة مطقسنة، وآداب العالم والمتعلم مطقسنة، وآداب القاضي مطقسنة، وآداب المفتي والمستفتي مطقسنة، وآداب الملوك مطقسنة... فالمناهج على صعوبتها وعلى أنّها تتطلب وقتًا طويلاً للقراءة والاستيعاب والكتابة فإنّها لا تطبق بحذافيرها، ونحن يجب أن نكون على علم بما كتبه موسكوفيتشي (Serge Moscovici) وجودلي (Jodelet) وأبريك (Abric) ولابلاتين (Laplatine) وحتى ما كتبه سعدي الحلو في التمثيلات الغذائية حتى نستطيع أن نفهم التمثلات الموجودة في نصوصنا وفي تراثنا، وحتى نستطيع أن نفكر في: كيف تبنى هذه التمثلات؟ وحتى نتجاوز دراسة التمثلات الدينية والتمثلات الأسطورية ودراسة تمثلات الرجال، إلى دراسة تمثلات الصحة والمرض ودراسة تمثلات السوي والمرضي، ودراسة تمثلات الجسد والطريقة التي يبنى بها الجسد في مجتمعنا، ودراسة تمثلات الطفولة، ودراسة تمثلات الحياة المهنية والحرفية وتمثلات الثقافة والأشياء التي تؤثث عالم اليوم، وكيف توجه هذه التمثلات السلوك؟ وما هي وظائف هذه التمثلات التنظيمية والمعيارية والخيالية والرمزية والإبداعية والعرفانية؟ أي كيف تساهم في بناء الواقع والهوية؟
د. نادر الحمامي: وأنت تسألين كل هذه الأسئلة كنت بصدد التفكير في الدراسات التي اطلعت على بعض منها في الغرب حول هذه التمثلات؛ ومن ضمنها التمثلات الاجتماعية، وقد ذكرت الأعلام الكبار الذين درسوا تلك التمثلات، بداية من موسكوفيتشي في علم النفس ثم جودلي ثم أبريك وموليني (Molliner) وغيرهم إلى حد أنّهم وصولوا في الاهتمام باليومي إلى كتابة كتب كاملة حول التمثلات الاجتماعية للطريق السيارة وللكرسي وللإبرة... لذلك أنا أتساءل لماذا هذه الفوارق الكبيرة إضافة إلى صعوبة المناهج من جهة وصعوبة الإلمام بالتراث من جهة أخرى وهذه صعوبة كبرى، لماذا هذا الاهتمام لدى الغربيين بكل ما هو يومي في حياتهم والذي يمثل تمثلات اجتماعية مهمة ومازلنا نحن اليوم لا نشعر بأهمية هذه المجالات؟
دة. سهام الميساوي: في الواقع ذكّرتني بدراسة تعتني بالبناء الاجتماعي للواقع (la construction sociale de la réalité) وهي دراسة بيتر بيرجير (Peter Berger) وتوماس لوكمان (Thomas Luckmann)، وقد بينا فيها أنّ الحياة اليومية تعاش كل يوم، كما بيّن ذلك جافو (Claude Javeau) في (La société au jour le jour) ولكنها كذلك تُتمثل وتتخيل وترمز، وهذا هو المفيد، وهنا أنا لست من دعاة تطبيق المناهج الغربية بحذافيرها على نصوص التراث حتى لا نتعسف عليها، ولكننا لا نستطيع أن نقارب هذه النصوص وأن نبرزها وأن نظهرها وأن نظهر قيمتها دون ثقافة أنثروبولوجية وسوسيولوجية، أعطيك مثالاً؛ هل يمكن لي أن أدرّس نصًّا للجاحظ يوجد في آخر كتاب البخلاء في علم العرب بأطراف الطعام، وهل يمكننا أن نشرح جيدًا ولائم العرب الشهيرة كالعقيقة والخُرسة والعذيرة والوليمة والوكيرة والنقيعة، هل يمكن أن نفهم ماهي هذه الولائم دون أن نكون، على الأقل، اطلعنا على ما ألّفه دوركايم (الأشكال الأولية للحياة الدينية)؛ فقد علّمنا في هذا الكتاب قيمة المائدة القربانية باعتبارها جامعة ومجددة للروابط الاجتماعية ومساهمة في بناء النمط الاجتماعي والنسق الاجتماعي، هل يمكننا أن نفهم هذه الولائم القربانية ونفككها دون وعي بما كتب موس (Mauss) وهيبار في القربان وجيرار (Gérard) في ''المقدس والعنف''، ما هو القربان، ما هي هذه الظاهرة الإنسانية؟ وهل يمكننا أن ندرس العقيقة وما فيها من رموز الشعر ورموز الدم ورموز الشاة التي تُعَق على الصبي ورمز الزعفران الذي عوض في الإسلام الدم، ورمز هذه الشاة التي تقطع وتطبخ... كيف نفهم هذه العقيقة أو الوليمة دون المعرفة بتاريخ الأفكار الدينية ودون المعرفة بتاريخ الثقافة العربية وتاريخ الشرق أو دون المعرفة بالثقافة الكونية ودون المعرفة بعلم نفس الأعماق ودون المعرفة بعلم الرموز (La symbologie) بصفة عامة. نحن الذين نتعامل مع هذه النصوص لا نستطيع أن نشرحها شرحًا عميقًا، وأن نبين هذه الظواهر الثقافية التي كانت موجودة ولا تزال موجودة إلى اليوم دون التشبع بهذه المناهج الحديثة.
د. نادر الحمامي: ما تقولينه مهم جدًّا لأنّه يحرك في ذهني أمرين؛ الأمر الأول على علاقة بالمواضيع والمناهج في الوقت نفسه، كأنّك بهذه المقاربات التي تقاربين بها اليومي تلحّين على أنّ هذه الحضارة العربية الإسلامية في بعدها اليومي الذي تدرسينه لا تقل أهمية عن غيرها من الحضارات أوّلاً ولكن وفي الآن نفسه لها خصوصية ولها شيء من الهوية الخاصة التي يجب الانتباه إليها، أظن أنّ هذين الأمرين على غاية كبرى من الأهمية في ما تدرسين.
دة. سهام الميساوي: صحيح، هذه الولائم التي ذكرتها منذ حين هي ولائم كونية، فولائم العبور موجودة في كل الثقافات، ووليمة الوكيرة موجودة في ثقافات عديدة، والنقيعة كذلك، ولكن العرب الذين درست في هذا النص كانت لهم خصوصياتهم، فالعقيقة أو طقوس الولادة هي موجودة في كل الشعوب، وأنا قد ألفت في ذلك مقالة وبصدد توسيعها إلى كتاب، فكل الثقافات تحتفل بالولادة، ولكن طرق الاحتفال تتشابه في آن وتختلف، ودراسة الحياة اليومية والأنساق الاحتفالية تسمح بالمقارنة ولكنها تسمح كذلك بمعرفة خصوصية هذه الحضارة العربية، فالغذاء واللباس كلها عناصر بانية للهوية، فهوية الشعوب لا تتلخص في لغتها ودينها، فالهوية العربية الإسلامية ليست في كونها حضارة تتكلم العربية ودينها الإسلام، ولكن كذلك هي حضارة لها أنساقها الثقافية ولها طرقها في التعبير وفي التدين وفي معالجة الصحة ولها تمثلاتها، ونحن مطالبون بأن نبحث في ذلك حتى نرفع غبارًا عنها وحتى نصحح أخطاء قيلت في الدراسات الاستشراقية ومن بين تلك الأخطاء ما قرأته وأنا أنجز أطروحتي بأنّ العرب أمة جائعة تأكل ما هبّ ودب ولا تشبع إلا من التمر واللبن، ولكن المتعمق في دراسة جزيرة العرب قبل الإسلام وما وصلنا عنها يبيّن أن العرب كانت لهم الأخباز ومن بينها "الأستوكة" و"الترموثة" وغيرها، وبأنّهم كانوا قومًا لاحمين ولابنين وتامرين، وكانوا يفتخرون بأكل الخبز، وكانت لهم أخبازهم، وكانوا يفتخرون بأكل الثريد الذي كان يهشمه هاشم، وهم يفتخرون بكونهم أصحاب الثريد والحريرة والهريسة، ونحن نجد عندهم بسائس ونجد عندهم جشائش ونجد عندهم وديكة ونجد عندهم عصائد منها اللهيدة... ونحن هنا نصحح ذلك، وهذا ما فعلتُ في أطروحتي في القسم المتعلق بالطّعام العربي، وهذا ضروري، ونحن ننبه هنا إلى أنّ هذه الصورة التي بنيت حول العرب كانت موجودة في النصوص الشعوبية.
د. نادر الحمامي: هذا التصحيح الذي تحدثت عنه التقطت منه عبارة رفع الغبار أو نفض الغبار عن تراث ربما أهمل طويلاً ويجب العودة إليه، لذلك فأنا سأخصص معك المحور الثالث من حوارنا لمسألة نفض الغبار عن تراث ما زال مغمورًا تحت وطأة ما يسمى المركز: مركز الدين ومركز السياسة ومركز أخبار الملوك والرجال، وكذلك ما الذي يجب علينا أن ندرسه في هذا التراث؟
الجزء الثالث: نفض الغبار عن تراث مغمور
د. نادر الحمامي: ما يمكن ملاحظته ونحن نشرع في هذا الجزء الثالث من الحوار مع الأستاذة سهام الدبابي الميساوي، التي نجدد لها شكرنا طبعًا، أنّ الدراسات الغربية التي اهتمت شديد الاهتمام بتراث الغرب وباليومي وبالاحتفالي الذي يحدد ملامح هويته، نجد أنّها قد اهتمت بتراثنا أيضًا أكثر مما اهتممنا به نحن في كثير من الأحيان، ولعله من واجبنا اليوم النظر في هذا التراث وإحياء الكثير مما هو مغمور فيه للاهتمام بمظاهر اليومي في التراث العربي والإسلامي لا من الغربيين هذه المرة بل من العرب أنفسهم لأنّ عليهم هم أن يكتشفوا جانبًا مهمًّا من تراثهم بقي في العتمة نظرًا إلى ضرورة الاهتمام بذلك، فجزء كبير من هذا التراث مازال اليوم في حكم المجهول وينبغي الكشف عنه.
دة. سهام الميساوي: صحيح، أولاً لابد أن أنوّه بما يقوم به الكثير من المؤرخين من الجامعة التونسية بصفة عامة، الذين يدرسون التراث ويدرّسونه ويعقدون ندوات، ويكتبون فيه المقالات والكتب، ولنا في جامعة منوبة في كلية الآداب مخبر يهتم بذلك. لكن التقصير أراه شخصيًّا فينا نحن أساتذة الحضارة العربية والإسلامية، فنحن قادرون على التحقيق، وقد لاحظت أنّ نصوصًا كثيرة لا تزال مخطوطة، فقد كنت أتصفح في المدة الأخيرة بالمكتبة الوطنية بعض المخطوطات ووجدت نصوصًا طبّية هامة غير محققة، ووجدت نصوصًا طبية تونسية مفيدة للغاية غير محققة، واستغربت وجود نصوص في طبخ العصير والممارسات الخرافية والسحرية وفي الدخان وفي الباءة وفي الزواج وفي الأعياد والمواسم، وهي نصوص مفيدة ولكنها غير محققة، وكذلك نصوص أدبية وفقهية غير محققة، وهذا يحز في نفسي أن نلتفت عن التحقيق وعن دراسة ما نحقق، كذلك يؤسفني أن نجد تراثًا عربيًّا ثريًّا للغاية في العلوم ولكنّه غير مدروس بما فيه الكفاية، بل إنّني أجد الدراسات الغربية أكثر من الدراسات العربية فيه، فالتراث العلمي والتراث الطبي غير معروف، فطلبتنا لا يعرفون الطب الإسلامي، لا يعرفون "قانون" ابن سينا و"تقويم" ابن بطلان و"كلّيات" ابن رشد وكتاب "الأغذية والأدوية" لإسحاق بن سليمان وكتاب "الماليخوليا" لإسحاق بن عمران، ومؤلفات ابن الجزار وابن الزهر، وفي المشرق ما كتبه المجوسي وابن جزل وابن النفيس، وهي كتب مفيدة لا لأنّها تحتوي ثقافة عالمة فحسب، ولكنّها مفيدة لأنّها تحتوي كذلك تجارب الناس، فما يوجد في الطب صحيح هو عالم يوجد فيه من التنظير ما فيه، ويوجد فيه من التأثر بالطب اليوناني ما فيه ولكن يوجد فيه التجريبي، بل ويوجد فيه حتى السحري، كذلك يحز في نفسي ألاّ يعرف الطلبة ولا يشتغلون بكتب الفلاحة والنبات وهي كثيرة وهي كتب لا يهمنا فيها فقط الجانب العلمي؛ فخُذ مثلاً ''كتاب الفلاحة النبطية'' لابن وحشية، أو ''كتاب الفلاحة'' لأبي زكريا بن العوام، فإنّك ستجد إلى جانب طرق زرع الحبوب والأشجار وتلقيحها وتلقيمها وجنيها وقطافها، إلى غير ذلك مما هو تقني وما يجب أن نعرفه، فإنّك ستجد مع ذلك أدعيةً وطقوسًا فلاحية وتمثلات للأفلاك والأبراج والثمار والحبوب ووصفات طبيخ، أي أنّنا في كتب الفلاحة نجد تجارب الناس التي يجب أن نعرفها، ولو أخذنا كتب الأدب في التراث ودارس الحضارة يستغل كتب الأدب العربي القديم، فعندنا نصوص في الأغذية وفي الطبيخ والأواني والمصايد والمطارد والنبات والحيوان والمسكن والجنان والسلاح وتقنيات الجسد، كالاستحمام والتزين والتطبّب واللباس... نجد نصوصًا تشدنا في العلاقات الاجتماعية والتفاعل، فأنا أتذكر تلك النصوص الموجودة في ''عيون الأخبار'' لابن قتيبة أو النصوص الموجودة في ''العقد الفريد لابن عبد ربه'' وغير ذلك من وصف للتحابب والتوادد والتهاني والتعازي والصداقة واتخاذ الإخوان والجوار والاستنجاح والمداراة والتباغض والحقد والتفاعل الاجتماعي الذي هو أس الحياة الاجتماعية والحياة اليومية.
د. نادر الحمامي: أكاد أجزم أنّ من يستمع إليك وأنت تتحدثين عن هذه الأعلام وعناوين الكتب في الفلاحة والطب لم يسمع بها قط، وأنا متأكد أنّ الأغلبية الساحقة لا تعرف هذه الكتب، ولكن لماذا لا يهتمون بها على الرغم من أنّنا نجد أنفسنا باعتبارنا عربًا ومسلمين ربما أقدر من غيرنا على دراسة هذا الجانب المهم من الحضارة عوض أن نترك لغيرنا مجال دراسته، لأنّ لنا القدرة على أن نفهم من الداخل هذه الحضارة بمجالاتها اليومية والتفاعلية، أظن أنّ هناك تقصيرًا كبيرًا.
دة. سهام الميساوي: لغيرنا أن يدرسها ولم لا، والغرب يدرسها، فالمستشرقون هم من حقق كل النصوص الجيدة التي نستعملها، والعراقيون والمغاربة والتونسيون والمصريون حققوا الكثير من الكتب، ولكن الغرب يدرس أكثر منا ثقافتنا المادية وثقافتنا اليومية والأشكال الاحتفالية لأنّهم يدرسون ذلك في ثقافتهم هم ولا يهملونها، فتجربتي مع الغرب عميقة ومع الأسف ليست كذلك مع العالم العربي لأنّه لا يهتم بما أدرُس، لذلك فأنا أحاضر في العالم الغربي أكثر لأنّه شغوف بمعرفة تقويم ابن بطلان الذي تُرجم، ومعرفة ما يوجد في كتاب الأغذية لإسحاق بن سليمان الذي تُرجم، وهو شغوف بما يوجد في كتاب الطبيخ للوراق لأنّهم يدرسون ذلك ويريدون أن يعرفوا تاريخ الكتب كذلك، ولكن نحن أقدر منهم لأنّنا نملك ناصية اللغة ونحن أقدر على دراسة التراث، لأنّني مثلاً قرأت أشياء في أطروحة تؤرخ لكتب الطبيخ الغربية، وهذا المؤرخ بيّن أن أقدم كتب الطبيخ هي إسلامية ولكنه لم يقل فيها قولاً جيدًا لأنّه لا يعرفها، وقرأت منذ شهرين أطروحة مهمة جدًّا لمارلين نيكو (Marilyn Nicoud) المختصة في الطب الغربي الوسيط، والأطروحة هي في علم التغذية الغربي في العصر الوسيط، وأطروحتها هي في تاريخ الكتاب، فهي تؤرخ لكتب التغذية، كذلك يؤرّخ برونو لوريو (Bruno Laurioux) لكتب الطبيخ، وهي تشير إلى أهمية كتب التغذية لدى العرب، ولكنها لا تعرفها ولم يكتب فيها أحد شيئًا، فنحن حينما نكتب في ذلك فإنّنا نفيد أنفسنا أولاً، ولكن إن نحن نقلنا ذلك إلى اللغات الأخرى أو كتبنا ذلك في اللغة الفرنسية أو اللغة الإنجليزية، فإنّ ذلك يساهم في نشر ثقافتنا. أتذكّر يومًا كنت أحاضر فيه في مدرسة الدراسات العليا في باريس عن طبيخ الخاصة من العباسيين والأستاذ الذي دعاني إلى هذه المحاضرة قال لي لم أكن أتصور أنّ فن الطباخة (la gastronomie) كان موجودًا في القرن الثاني والثالث والرابع. فنحن عندما نكتب ونحاضر في ذلك، وعندما نشرف على أعمال يقوم بها طلبتنا في ذلك، إنّما نساهم في إبراز تراثنا.
د. نادر الحمامي: إذن هذا الإبراز يكون أولاً بالخطوة الأولى حول ما أسميناه اصطلاحًا بـنفض الغبار عمّا لم يحقَق بعد، والاطلاع عما حقق بعد التعمق في دراسته، وهي خطوة مضنية في الحقيقة ولكنها ضرورية وأساسية للكشف أولاً وحتى أعود بالحوار إلى مهمة هذا التجميع والتأريخ وهذا ليس شيئًا سلبيًّا بل بالعكس هي خطوة ضرورية، ولكن الخطوة الثانية وهي بعد هذا التحقيق والتجميع ما الذي يجب أن ندرسه في هذا الجانب التراثي المهم؟
دة. سهام الميساوي: يجب أن ندرس كل ما لم ندرسه، هذا ما يجب أن نفعله، فيجب أن نقوم بأيام دراسية وندوات ونتحدث فيها عما درسنا وفيما بحثنا وكيف درسنا ذلك حتى ننقد أنفسنا أولاً، فهل أنّ استعمالنا للمناهج كان سليمًا؟ وما هي المناهج التي يمكن أن نستعملها؟ وهل يمكننا كذلك أن نعدل عنها؟ أي لا بد أن نفكر فيما قمنا به حتى نستطيع أن نتقدم وأن نعرف الأشياء القابعة في الظلام ونخرجها إلى النور. وفيما يتعلق باختصاصي الذي هو الأنساق اليومية والظواهر الاحتفالية، أعتقد أنّني سأواصل إن سمحت لي الظروف في إنجاز ما يدور في خاطري بعد كل هذا الاطلاع على نصوص التراث والتشبع بالمناهج الذي أخذ مني زمنًا طويلاً، وأعتقد أنّه لا يوجد شيء لا يستحق الدرس ولا توجد أشياء صالحة للدرس وأشياء غير صالحة للدرس، وألفت انتباه الطلبة الذين يعزفون عن الأمور المضنية، مرارًا أردت الإشراف على عمل في الطب وبدأت معي طالبة في مستوى معين إلا أنّها فضلت البحث في الظاهرة الدينية والمتخيل والرموز، فهناك مواضيع تستهوي الطلبة ولا نستطيع أن نجبرهم على دراسة الطب العربي أو الإسلامي، فهو مجال صعب يتطلّب المعرفة بالفلسفة، وكان يوجد البيقراطيون ولكن كان يوجد الأطباء الفلاسفة، ولا نستطيع أن نفهم الأطباء الفلاسفة إلا بمعرفة الفلسفة، ولا نستطيع أن نتعمق في الطب الإسلامي حتى نعرف ما جاء به الأطباء إن نحن لم نطلع على الطب اليوناني حتى نستطيع أن نقارن.
د. نادر الحمامي: وحتى الباحثون بالنسبة إلى المثال الذي أخذته عن العزوف عن دراسة الطب لأنّ هناك رغبة في دراسة المتخيل والديني إلى غير ذلك ولكن لا نستطيع عزل هذا عن ذاك، فأنا قرأت فصلاً في أطروحتك حول الطب وفيها جانب يتعلق بالسحر والطقوس والرموز، فيمكن دراسة الرمز والسحر والطقوس من غير النصوص الدينية وهذا ما يجب أيضًا أن نفهمه فالرموز والمتخيل لا ترتبط فقط بالنصوص الدينية فهناك نصوص أخرى تنتمي إلى مجالات غير العلوم الدينية يجب أن نبحث فيها عن تلك المسائل.
دة. سهام الميساوي: ربما لم نتحدث في الاحتفالية، فأنا أرى أنّ الاحتفالية واللعبية أمر مفيد من جهة الحياة اليومية، لأنّ اللعب والاحتفال والعيد يقطع رتابة الحياة اليومية، وهو يُعدّ في اليومي ويجدد اليومي، فربما من المفيد دراسة الاحتفالي في علاقته باليومي، وأن نتساءل ما هي العلاقة القائمة بين اليومي والاحتفالي؟ وهل من علاقة توجد بينهما لأنّ الاحتفالي يجدد اليومي؟ كما بينت ذلك في مقال "العمرة الرجبية" المنشور في حوليات الجامعة التونسية، كذلك أعتقد أنّ من أهم ما يجب أن يدرس وأن نوجه إليه الطلبة والباحثين هو التمثلات، أن نبحث في تمثل الأشياء البسيطة مثل النبات والحيوان والمعدن والمرأة والرجل والشيخ وتمثل الآخر، كيف نتمثل الجنون وكيف نتمثل المجنون وفتح أفق البحث نحو ذلك. أعجبني ميشال دي سارتو في الجزء الأول من كتاب (L'invention du quotidien) عندما درس السكن وكيف تبنى المدينة وكيف نمشي فيها، وكيف نسكن وكيف ننظم هذا الفضاء وما هي التمثلات والرموز والمعتقدات المحيطة بطريقة السكنى هذه وبطريقة تنظيم الفضاء؟ وكيف نتمثله ونتخيله ونعبر عنه؟ وما هي الرموز المتعلقة به؟ هذا مثال فقط ولكن أتمنى لو سنحت لي الفرصة ولمن يريد ممن حولي من التونسيين وغير التونسيين المواصلة في تعميق البحث في الغذاء لأنّ التراث ضخم ولا أستطيع بمفردي البحث فيه، ثم إنّني عندما أرى ما يفعله الأوروبيون في مركز دراسة تاريخ الغذاء والمجتمعات الغذائية، ما يصدرونه في السنة من بحوث فردية وجماعية لكثرتها لا يستطيع المرء أن يقرأها كلها، فإنّني أقول لماذا لا نكتب نحن في هذه الأمور، ولكن قد نحتاج إلى هياكل بحث ربما هي التي تعين على إنجاز مشاريع هي منى وأحسن المنى.
د. نادر الحمامي: الحوار معك أستاذة سهام ممتع جدًّا، وبالإضافة إلى الإفادة العلمية والمعرفية التي حصلت لنا معك، فإنّ الإفادة الثانية والمهمة أنّ الحوار مثّل مفاتيح لمشاريع للبحث في اليومي بكافة تجلياته. وقد ألححت في النهاية على أنّه لا يمكن أن يكون مجهودًا فرديًّا وإنّما بتضافر الجهود وبأيام دراسية وبحوث كثيرة تتعلق بكافة تمظهرات الحياة اليومية وأشكالها التي تمثل جزءًا من الهوية أولاً، ولكنها انخراط في الكونية من جهة أخرى، ولعل الكثير مما قلته من فتح لهذه المشاريع قد أشرت إليه في أطروحتك التي تمثل أطروحة أساسية وتأسيسية في الجامعة التونسية في مجال البحث في التراث اليومي في الحضارة العربية الإسلامية، وأقصد أطروحة دكتوراه الدولة الطعام والشراب في التراث العربي التي أنجزتِها ونشرت في الجامعة التونسية وكانت بإشراف الأستاذ عبد المجيد الشرفي. ويمثل هذا الحوار وهذه الأطروحة دعوةً للباحثين إلى الاهتمام بجزء نراه مازال مغيّبًا في البحوث الجامعية والأكاديمية، وما ينجز من بحوث اهتمت بما اعتبر في الثقافة العربية والإسلامية مركزًا في حين أنّ هناك جزءًا آخر ينبغي الاهتمام به، لذلك فإنّ كل الشكر والامتنان للأستاذة سهام الميساوي الدبابي على قبولها هذا الحوار أوّلاً، وعلى ما فتحته من آفاق أمام الباحثين للنظر في مجالات تستحق البحث والنظر وإعادة الدراسة، وشكرًا لها مجددًا.