سيكولوجية السُّلطة بحثٌ في الخصائِص النّفسية المشتركة للسّلطة لسالم القمّودي
فئة : قراءات في كتب
تقديم كتاب: سيكولوجية السُّلطة
بحثٌ في الخصائِص النّفسية المشتركة للسّلطة لسالم القمّودي
تُعدّ السّلطة إحدى الرّكائز الأساسية في العمل السّياسي، ودونها لا يمكن أنْ تكون هناك ممارسة سياسية؛ فالتّفكير السّياسي الفلسفي قديماً وحديثاً نظَّر إلى السّلطة والدولة والسياسة في أبعادها المتكاملة، لكنّها قبل أنْ تكُون ممارسةً سياسية فهي خصائص نفسية، وبنية فكرية، وممارسة اجتماعية. من هنا تتجلّى أهمية البحوث التي قاربت موضوع السّلطة من زاوية نفسية واجتماعية، قبل أنْ تقاربها مفصولة عن واقعها النفسي، أيْ من خلال الممارسة السياسية فحسْب. نذكر هنا أعمال ميكيافيلي وغوستاف لوبون وميشال فوكو وغيرهم. هذه الأعمال التي تجمّعت في الكتاب قيد التقديم، والذي من خلاله يسعى الكاتب لبحث الخصائص المشتركة للسلطة، بناء على ما سبقه من بحوث في هذا المجال.
كتاب: "سيكولوجيا السّلطة: بحث في الخصائص النّفسية المشتركة للسّلطة" لسالم القمودي، نُشر في طبعته الأولى سنة 1999، عن مكتبة مدبولي، في 84 صفحة. والكتاب، رغم صغر حجمه، فإنه مهمّ في مقاربته النفسيّة بالتّحليل النّفسيللسّلطة في أبعادها المتجاوزة لما هو سياسي. قسَّم الكاتب كتابه إلى خمسة فصول، يضمّ كلّ فصل نقاطاً تندرج ضمن محوره العام، إضافة إلى تقديم عام يعالج فيه مجموعة من الإشكاليات المرتبطة بالسّلطة.
يبتدئ سالم القمّودي كتابه بمدخل عام، فيؤكِّد في النقطة الأولى على أنّ دراسته للسلطة تندرج ضمن البحوث السيكولوجية. فكما أنّ هناك بحوثاً تدرُس سيكولوجية المراهق والطفل والمرأة والجماهير، فللسّلطة سيكولوجيتها، "فأنْ ندرس سيكولوجية السّلطة يعني أنْ نفهم السلطة التي نخضع لها، أو التي تحاول أنْ تخضعنا لها، وأنْ نعرف ماذا تريد منا، وما يمكن أنْ تحقِّقه لنا، وأنْ نطمئِنَّ إلى خضوعنا لها، أو نرفض هذا الخضوع ونقاومه". (ص9)
فالذي يريد تأكيده الكاتب من مدخله هو أنّ للسلطة وجهين أساسيين: وجه معلن تمثله إيديولوجية الدولة، والثاني خفي تمثله السيكولوجيا.
بعد التأكيد على مظاهر السلطة، ينتقل بنا القمّودي للحديث عن ميكيافيلي والسلطة. فميكيافيلي ـ حسب رأي الكاتب ـ رسم أسوأ صورة لممارسة السلطة في القرن السادس عشر. ففي كتابه الأمير حاول أنْ يُنظِّر للمواصفات التي يجب أنْ يتمثَّلَها الأمير أو الحاكم. فلا يمكن ممارسة الحكم إلا بعد التخلِّي عن كلّ القيم الأخلاقية، وتبنِّي القيم النفعية. فالتاريخ يؤكد أنّما قام به ميكيافيلي كان متأثّراً فيه بالواقع التاريخي الذي عاشته إيطاليا في القرن السادس عشر، لكنّه كان متحيِّزاً للسلطة التي كان جزءاً منها. ولعل أهمّ ما اشتهر به هو ذلك المثل القائل: "الغاية تبرّر الوسيلة"، وهو المبدأ الذي يوحي بأنّ الأخلاق هي أمرٌ ثانوي في السياسة والاجتماع والاقتصاد، ولا مكان لها إلا في أذهان الأخلاقيين. والرياء من المواصفات التي أوصى بها ميكيافيلي الأمير، لكسب عطف الناس والوصول إلى السلطة، وهذه الأخيرة كما أكّد ميكيافيلي لا تقوم على الأخلاق بل على المنفعة.
أمّا غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير فيؤكِّد لنا القمودي أنّ الجزء المقابل للسّلطة هو الجماهير، وقد رسم لنا لوبون صورة قاتمة عنها،فهو يصفها في اندفاعها وحماسها على أنها أبعد ما يكونعن التّفكير العقلاني المنطقي. (ص13) فلوبون نفسه على غرار ما قام به ميكيافيلي، كان متأثّراً بشكل كبير بواقعه، وهو الفوضى التي كانت تعرفها فرنسا آنذاك إبّان الثورة الفرنسية، وما صاحب ذلك من خوف من الجماهير وعدم القدرة على ردْعها.
وعلى الرّغم من هذه القوة التي تكون كامنة في الجماهير، فإنّ مجرد تحوّلهم إلى جمهور يجعلهم يتحرّكون بطريقة تختلف عن تفكير الفرد معزولاً عن روح الجماعة. لهذا "فهو يعتبر الجمهور أدنى من مرتبة الإنسان الفرد فيما يخصّ الناحية العقلية الفكرية، ولكن من وجهة نظر العواطف والأعمال التي تثيرها هذه العواطف، فإنّه يمكن لهذا الجمهور أنْ يسير نحو الأفضل، أو نحو الأسوأ، وكلّ شيء يعتمد على الطريقة التي يتمّ بها تحريضه أو تحريكه بها". (ص14)
خصّص القمّودي الفصل الأوّل من كتابه للأساس النفسي العقلي للسلطة، فأيُّ سلطة تنْتُج عن أساسٍ نفسي عقلي يحدِّد اتجاهها الفكري والسياسي، والأدوات التي تمارس بها هذه السلطة. ولكي تتمكَّن هذه السلطة من بسط نفوذها تحتاج كما يؤكِّد القمودي إلى إيديولوجية تمثِّل البعد المعلن من السّلطة. ويستند الأساس النفسي العقلي بدوره إلى الوعي التاريخي لمفهوم السّلطة، وما يتضمّنه هذا الوعي من تصورات ومفاهيم، وأنظمة سياسية واقتصادية. ومن خلال هذا الوعي ينشأ الفهم السياسي للسلطة، كما ينشأ الفهم السياسي للدين وعلاقته بالسلطة. (ص19)
إنّ هذا الوعي التاريخي بمفهوم السلطة يجعل صاحب القرار "من بيده السلطة"، يؤسِّس ويكيِّف سلطته مع المعتقدات والتصورات الاجتماعية، ويصوغ سلطته بناء على هذه الأفكار، وتحويلها إلى وقائع وعلاقات وأجهزة ومؤسسات تقود المجتمع الذي تحكُمه.
الفصل الثاني يخصّصه القمّودي للحديث عن السّلطة بين الوجه المعلن الذي سمّاه الإيديولوجية، والوجه الخفيّ الذي سمّاه السيكولوجيا. فالوجه المعلن الذي تمثِّله الإيديولوجيا هو ما تتبنّاه السلطة، وتسعى إلى تحقيق مقولاته ومفاهيمه وتصوّراته في الواقع، بوصفه إيديولوجية كلّية عامة للمجتمع الذي تهيمن عليه وتحكمه وتقُوده. ص 27 فحسب الكاتب لا يمكن أنْ تكون سلطة إلاّ مرفوقةً بالوجه المعلن وهو الإيديولوجيا، التي تتحقَّق السلطة من خلالها. إذ أنّ كلّ سلطة تقوم على إيديولوجية ظاهرة تسعى إلى تطبيقها في كلّ مرافق الدولة ومؤسّساتها لضمان استمراريتها.
أمّا الوجه الخفيُّ للسلطة وهو السيكولوجيا، فهذا تُخفيه السلطة عمداً، وتمثّله مجموع الرّغبات والحاجات والدّوافع النفسية. فالجانب السيكولوجي تلجأ إليه السلطة لأنّها تعي جيّداً محدودية قدرة الإيديولوجيا. كما أنّ هذه الأخيرة لا تستطيع أنْ تلبّي كل الحاجات التي تسعى إليها السلطة. غير أنّ هذه السلطة قد تشتطُّ كما يقول القمودي في بعض تطبيقاتها الإيديولوجية، في محاولة منها بسط المزيد من الهيمنة على المجتمع الموجودة فيه.
الفصل الثالث يخصِّصه القمودي لأوجه ممارسة السلطة. فهذه الأخيرة لا يمكن أن تتأسس إلا على شرعية معينة تخول لها صلاحيات وإمكانيات مادية ومعرفية. فالسلطة بهذا التحديد هي شرعية تخول الحق لمن يمتلكها في ممارسات هذه السلطة.
ولممارسة السلطة أوجه عديدة اختزلها الأمريكي جون كينيث جالبيرث في كتابه "تشريح السلطة" في ثلاث كيفيات: يمكن إجمالها في ما يلي:
- الكيفية القسرية: عندما تمارس السّلطة بطريقة قسرية عن طريق العنف والإكراه لكسب الخضوع. وغالباً ما تلجأ هنا السلطة إلى أساليب التعذيب والسجن والحرب، في محاولة منها لترهيب المعارضين لها أو المتربِّصين بها. والعنف هو أوّل مصادر السلطة، إلى درجة أنّ هناك من الفلاسفة من يُسمّي عنف الدولة أو السلطة بالعنف المشروع، وهي الوحيدة التي لها الحقّ في ممارسته.
- الكيفية التعويضية: وهذه مناورة من مناورات السلطة. فكل معارض تسعى السلطة إلى احتوائه وضمان سكوته، وتكون هذه الكيفيّة عندما تعتمد السلطة على المال والمكافآت والهبات والهدايا، وتشجيع اقتصاد الريع والامتيازات.
- الكيفية التلاؤمية: عندما تعتمد السلطة على الحوار وتبادل الرأي، وتسعى إلى التوافق.
في الفصل الرابع يتحدّث القمّودي عن السلطة والإدارة. فالتّحدّي الكبير كما سمّاه الكاتب، هو أنْ تتحوّل السلطة إلى إدارة السلطة، فذلك هو التحدي الذي يواجه كل سلطة، بل يواجه نفسيتها، لأنّ أغلب السلطات تفشل في تحويل نفسها إلى إدارة، وهنا مكمن الخطر. فاستقرار أيّ مجتمع أو دولة رهين بهذا التحول الاستراتيجي. وهنا يمكن الإشارة إلى نوعين من الأنظمة:
أنظمة الاستقرار: وهي الأنظمة التي تتمتّع كل مؤسَّساتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية بالاستقرار السياسي والدستوري.
أنظمة الطّفرة: وهي الأنظمة التي تنتقل أو تتغيّر بشكل كامل أو جزئي من كيف إلى كيف آخر، من فترة إلى أخرى. كما يمكننا أنْ نميّز بين نوعين من السلطة: سلطة الإدارة، وسلطة السلطة. فكلّ سلطة تستطيع أنْ تحدِث التحوّل من سلطة إلى إدارة سلطة تضمن الاستقرار. وكلّ سلطة لا تضمن هذا التحوّل تبقى سلطة متسلّطة، فتنتمي إلى أنظمة التحوّل الفجائية أو أنظمة الطفرة كما يسمّيها الكاتب.
الفصل الخامس خصّصه الكاتب للحديث عن السلطة والجموع، وهو يتحدّث عن الهواجس التي تخشاها السلطة، ويبتدئ بهاجس الأمْن. فالأمن هو الهاجس الأوّل لأيّ سلطة، وهو مصدر القلق الأكبر لها، لهذا تخصّص له الجانب الكبير من اهتمامها، وتوَفّر له أدوات وتجهيزات ووسائل وخطط لاستتبابه. فاللّحظة التي تخشاها أيّ سلطة هي اللحظة التي يتمّ فيها اختراق جدار الأمن في المجتمع بما يهدّد هذه السلطة.
الهاجس الثاني تمثِّله المعارضة، وهي رفض لإرادة سلطة ما. فالمعارضة بهذا المعنى أمرٌ طبيعي. فالمعارضة تخفُت وتشتدُّ بحسب الأحوال النفسية والاجتماعية للأفراد، وبحسب الظروف السياسية والاقتصادية السائدة في المجتمع. وكما تخفُت بالإقناع، فقد تخمُد أيضاً بالقوة والعنف والإكراه والقسر. وهنا تتجلّى خطورة أيّ معارضة بالنسبة لأيّ سلطة سياسية. وقد يتساءل البعض بما أنّ للمعارضة هذا الخطر على حياة المعارض سواء كان فرداً أو جماعة، فلماذا يلجأ الناس للمعارضة؟ وهنا يمكن الإلماح إلى مظهرين أساسيين من مظاهر المعارضات:
-هناك من يعارض من أجل المعارضة نفسها
-هناك معارضة من أجل غاية أو هدف
الهاجس الثالث للسلطة هو الخطر الكامن في الجماهير أو الجموع. فكلّ تجمع أو تجمهُر هو مقلق بالنسبة للسلطة،ترى فيه تهديداً حقيقياً لها، ولآمالها وطموحاتها ووجودها الذاتي، واستمراريتها في الحاضر والمستقبل. فالجماهير حسب الكاتب عندما تُظلم تطغى...وعندما تُسلب حريتها عنوة واغتصاباً تطغى...وعندما تُداس كرامتها دوساً تطغى...وعندما تطغى السلطة فتَسحق الجماهير بطغواها تطغى الجماهير. (ص69)
الهاجس الرابع للسلطة هو غياب الحقيقة، وهي استراتيجية تنتهجها السلطة لتدجين وعي الجماهير، من خلال تزييف وعيها، والتّلاعب بالصورة التي ترسُمها السلطة عن نفسها. فكلَّما استطاعت السلطة التلاعب بالحقيقة، فإنها تضمن الاستقرار لنفسها، وهذا يكون بالحدّمن خطورة الجماهير.
الهاجس الأخير هو أزمة الديمقراطية، فبسبب هذا التزييف في وعي الجماهير يحدث إشكال آخر، وهو المشاركة السياسية، أيْ مشاركة الشعب في الحكم. لأنّ من يمارس الحكم أو الديمقراطية، في حقيقة الأمر لا يعرف شيئاً عن دهاليز السلطة وكواليسها من أسرار وعلاقات وأوامر سرية وتوجيهات. فالسلطة الحقيقية هي التي تمارس هذه الأشياء، وتتحكَّم فيها. أمّا ممارسة السلطة من خلال الديمقراطية فهي ممارسة مقطوعة غير متصلة.
إنّ كتاب "سيكولوجية السلطة بحث في الخصائص المشتركة للسلطة" لسالم القمودي أخرج البحث من جوانبه السياسية إلى جوانبه السيكولوجية الاجتماعية. فالسلطة ليستْ فقط ذلك الجانب في الممارسة السياسية، ولكنّها خصائص مشتركة، فيها المعلن وهو الجانب الإيديولوجي الذي تستمسكُ به الدولة للدّفاع عن مشروعيتها أمام الجماهير، وفيه الجانب الخفيّ الذي لا تظهره السلطة إلا لماماً. وهذا هو خطر السلطة. فهي ليست بناء فوقياً، لكنّهاممارسة نفسية بالأساس، تتجسّد في كلّ تمظهرات المجتمع على حد تعبير ميشال فوكو أيضاً.