شراف شناف: الحداثة ليست عالمًا نلجه
فئة : حوارات
لم يعد من الممكن في الزمن الثقافي أن نضع خطوطًا فاصلةً بين الأدب والفلسفة أو حتى بين باقي العلوم الإنسانية والميادين الاجتماعية، فالمسارات التي يتبعها الفكر أو يخطها في الواقع البشري، تسببت في صنع هذه الحالة من التلاقي العضوي بين مجالات الفكر والفن والنقد والتأويل، من هنا جاء هذا الحوار مع الدكتور شراف لكي نفتش في طبيعة العلائق المنتشرة بين الأدب والفلسفة بصوره مخصوصة، نظرًا لأنّ باحثنا تكون معرفيًّا في المحضن الأدبي ثم بدأ ينخرط مع مرور زمن التفكر أو التدبر حسب العبارة الأنيقة لابن باجه في فضاء الفلسفة بمختلف تضاريسه ومقتضياته المنهجية والتحليلية، مدركًا فيما بعد أنّه انفتح على قارة هائلة من التفكر البشري، ومنه ندب نفسه لكي يكون باحثًا عن الحقيقة التي تسعى المنظومات الفكرية المزيفة إلى سرقتها أو السطو عليها. وعلى هذا الأساس يعد باحثنا تبعًا لمساره ومنجزاته المعرفية ونشاطاته في الفضاء الثقافي عبر سلسلة من الندوات الهادفة، أحد الوجوه الثقافية الجزائرية التي تؤثث البيت الثقافي بأفضل الورود.
وقد تنزلت اشتغالاته المتعددة في الأعمال التالية:
- الإنسان التداولي والمواطنة الافتراضية "مجلة المستقبل العربي"
- تفكيك الأنظمة المعرفية للعقل السيميائي الغربي "مجلة الإحياء المغربية"
- الكتابة النقدية والتأويل السيكولوجي للذات "مجلة الأثر"
- المساءلة المعرفية التوحيدية "مجلة الإحياء المغربية"
- الترجمة الأدبية وسلطة الأنساق الثقافية "مجلة العربية والترجمة"
- سلطة النص / جامعة قسنطينة
- المواطنة والتسامح / جامعة وهران
- المشروع المعرفي لمالك بن نبي / جامعة بجاية
- موسوعة المفكرين العرب المعاصرين / تونس
- العقل النقدي وخطاب الأنساق.
أهلاً وسهلاً بك على منبر مؤمنون بلا حدود
ربوح البشير: ما طبيعة العلاقة التي يمكن أن تقوم بين المسار الفكري للباحث وتمفصلات حياته؟
د. شراف شناف: أشكرك سيدي الفاضل، بداية، على كل المجهودات العلمية والمبادرات الحوارية التواصلية الراقية التي تقومون بها ضمن المشروع الثقافي الموسّع لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود"، وأقول ـ وبالله التوفيق ـ إنّ سؤالك من الأهمية بمكان، كونه يدشّن فضاء الحوار بمناقشة الكوجيتو الأعظم / القضية الإنسانية الكبرى؛ فكرة الحياة / حياة الفكرة .. إنّه سؤال البدايات والتعثّرات والتلعثمات، ومخاضات الهوية الفكرية؛ ما معنى أن تشْرعَ بعزمٍ وبجدّ أو بتردّد وخوف في البحث عن ذاتك المتفرّدة .. وتسعى ـ حثيثًا ـ لرسم خارطة وعْيِك وتعهُّدِ حديقة قلبك وبستان روحك ضمن عالمٍ مُوحشٍ وواقع فقير مُدقعٍ يدفعك باستمرار، وبدون هوادة، لأن تتوقف وتنقطع عن طموحاتك وأحلامك الصبيانية.. إنّه، أيضًا، سؤال التلْمذَات والأسْلبات ـ بمصطلحي غادامير وتودوروف ـ حين تجد نفسك تُستدرج نحو محاريب المفكرين والعباقرة الكبار، وكل الشخصيات "الكاريزمية"، وحين تحاول، عبر فعل المحاكاة الخلاّق، أن تختطّ وتبتكر ملامح أسلوبك.. إنّه سؤال التعرّف والاعتراف، والغايات والأهداف؛ تحسّسٌ عميق لانبثاقات المعنى، وانثيالاته، أو ترسّباته وتكلّساته، أو نُدرته وتلاشياته، إنّها ـ في الأخير ـ تراجيديا (الميتاـ أنتروبوـ كوسموس).
ولذلك، صديقي العزيز "بشير"، لا يمكن في رأيي البسيط أن نجزم بوجود نمط علائقي واحد بين "المعرفي" و"الوجودي"؛ فأحيانًا يطغى المعرفي على الوجودي، وأخرى يطمس الوجودي معالم المعرفي، وفي الغالب الأعمّ يتداخل المكوِّنان تداخلاً معقّدًا يصعب معه فكّ تفاصيلهما وفرْزها، وهو الأمر الذي استشكله بقوة حقل "سوسيولوجيا المعرفة"، وبالضبط "الأطر الاجتماعية للمعرفة"؛ فالأنساق الفكرية للباحث التي تتشكّل عبر مساره البحثي مرتبطة، عميقًا، بتمثّلات / تمثيلات جدّ معقّدة، لها علاقة بالبيئة والمحيط، وطبيعة المجال الثقافي، ومشكلات العيش وتحدّياته. ولقد صاغ "بيار بورديو" مفهومين إجرائيين أساسين يمكن أن نفسّر بهما هذه الظاهرة، وهما: "الهابتوس / أونسق الاستعدادات"، و"إعادة الإنتاج"؛ فالإنسان ـ بشكل عام ـ يتحرك سوسيولوجيًّا وفق النظام الثقافي الاكتسابي المتشكل من عقائد وعادات وتقاليد وأعراف وأذواق وأنماط من الرؤى والأساليب والأحكام، وهو ما يعمل على توجيه نظام المحاكاة، وإعادة إنتاج مجمل الأشياء والظواهر المحيطة به وتحويلها إلى موضوعات وقضايا تمس عالمه هو، ثم تأويلها وفقًا لرؤيته للعالم، دون أن يعني هذا سلطةً مطلقةً للنظام الثقافي؛ إذ إنّه هو نفسه معرّض لتحويرات وتغييرات كثيرة، الزمن كفيل بها.
ربوح البشير: نحن نعلم أنّ فضاء الأدب هو المحضن الذي تشكل فيه الدكتور شراف شناف، فكيف هي علاقته مع التفكر الفلسفي؟
د. شراف شناف: لكَمْ تروق لي عبارة "التفكّر الفلسفي" هذه صديقي "البشير"، إذ يمكن أن أعتبرها معادلاً معرفيًّا لعبارة "ابن باجه" الشهيرة التي اتخذها عنوانًا لكتابه: "تدبير المتوحّد". وهي لا شكّ، صياغة مفهومية راقية جدًّا لنمط الوجود البشري في العالم. فحينما لا نمارس التفكّر الفلسفي، فنحن ضمنيًّا نعدم شرط الوجود الأساس الذي يليق بكرامتنا الآدمية، فالتفكّر الفلسفي ـ بالنسبة إليّ ـ هو "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" ـ حسب عبارة ابن القيم الجوزية ـ إنّه، بدايةً، مقاومة لكلّ أشكال التصنّم والتشيّؤ.
وإذا كان الأدب هو المعادل السيميائي للتفكّر الفلسفي؛ باعتباره يشخصن الرؤى والنماذج الفلسفية في شخصيات متخيلة / رامزة، ويسمح بتمثيل تراجيديا الوعي الفلسفي، فإنّ الفلسفة بدورها هي المعادل الإبستيمولوجي المفهومي للفعل الأدبي.
لطالما تألمت/نا كثيرًا في حياتي/نا الاجتماعية والأكاديمية، نظرًا لما كنت/نا أعايشه / نعايشه من وضعيات "الهشاشة والتسيّب"، و"الغثاثة والتسرّب" و"الزيف والتكلّف" و"الادّعاء والتزلّف"، والتواطؤ المشوب بالريبة والتوجّس، ...ما معنى أن ينشأ المرْء في بيئة لا تشجّع إلا على الإسفاف والإسراف والإهمال والاستخفاف، وتغيب فيها كل معاني الإتقان والإحسان ..؟ ما معنى أن تعيش في مجتمع / في مؤسسة لسان حاله/ها: "لا تبالغ، لا تتفلسف، لا تتأنق، لا تتألق، لا تتميز، ..."؟ إنّ أقصى ما كان يستثيرني في مجتمع ـ هذه طباعه ـ التسيّب في التمييز بين ما هو قبيح وما هو جميل، بين ما هو إيجابي وما هو سلبي، أو ممارسة نوع من الحيادية الزائفة أو التوفيقية اللامسؤولة. ألسنا ـ بعد كل هذا ـ بحاجة ماسّة إلى التفكر الفلسفي كي نستعيد عافية إنسانيتنا التي تآكلت وتهالكت، بوعي أو بغير وعي. إنّ التفكر الفلسفي، بالنسبة إليّ، هو أداة كبرى لاستكمال النقص وإصلاح الفهوم، واستشكال الكمال البشري الموهوم، وإدراك الجليل واستمراء الجميل، إنّه وعي بالتماسف؛ أي قدرة على رؤية الائتلاف في الاختلاف، ورؤية الاختلاف في الائتلاف. إنّه الترياق الأكبر لسمّ الإفساد الزّعاف.. !!
ربوح البشير: أليس التأويل هو ما تبقّى للفلسفة لكي تبقى حاضرة في أفق الإنسان المعاصر؟
د. شراف شناف: ومن قال إنّ الفلسفة مهدّدة بالغياب.. حتى ننتظر التأويل مخلّصًا لها..؟ صحيح، إنّها عزيزة نادرة.. ولكنها حاضرة دائمًا وأبدًا، خاصة في لحظات الانسداد وأزمنة الغسق. ثم إنّ التأويل لم يعد مجرّد أداة أو آلية جزئية لإتمام بناء المعنى، وإنّما أصبح "براديغما" للفهم، واستراتيجية كبرى لمواجهة سيولة العالم المعاصر وكاوسيته (عمائيته وشوّاشيته) وتشظّياته. وكل الحقول المعرفية، اليوم، هي تأويلية بصيغة أو بأخرى، بمستوى أو بآخر، حتى العلوم التي كانت تدّعي اليقينية والتفسيرية الصارمة، والتأويل هو قدر الإنسان الثقافي، وهو موجِّه إراداته.
أما الفلسفة فتبقى خطابًا يتّسم بالقدرة الفائقة على المفهمة والأشكلة والحجاجية والمنظورية، وهو ما يجعل تأويليتها أكثر كثافة وكفاءة واقتدارًا على تجاوز عاهات التأويليات الأخرى ومطبّاتها أوتسيّباتها.
ربوح البشير: ما هي الآفاق المفتوحة أمامنا ـ اليوم ـ في ميدان الفكر العربي المعاصر لكي نعيد تأهيل التواصل الفكري بين الأدب والفلسفة؟
د. شراف شناف: لاشك، فالتواصل بين الأدبي والفلسفي تواصل عريق وثيق؛ فالأدبي هو وجدان الفلسفي وروحه، والفلسفي هو عقل الأدبي ولبّه، وهذه العلاقة تنشط وتفتر عبر الأزمان؛ حسب الذهنيات والأمزجة والأذواق والرؤى والحاجات، فقد تنفتح الآفاق التواصلية بين الإثنين إلى أبعد الحدود فتُخصَّب العقول وتُزهِر القلوب، وقد تتحول الآفاق إلى أنفاق تحجب الرؤى وتُغشي الأبصار، فيهجر المنطقي الجمالي، ويجافي العقلي الوجداني، فيسود الصوري الجاف، وينساب العاطفي الوهمي الجارف، وتتفكك عرى الوعي، وتصاب الرؤية بداء "العضينية".
ويبدو أنّ الأفق الواسع الذي ينفتح، اليوم، أمامنا لتوطيد عُرى التواصل أكثر بين الأدبي والفلسفي هو "الدراسات الثقافية" وهو "حقل معرفي بيْنيّ Interdiciplinaire"، ينطلق من المدونات والنصوص الأدبية ويتوسط بشتى الحقول المعرفية؛ من تاريخ وسيكولوجيا وسوسيولوجيا وأنتروبولوجيا، ... لينتهي باكتشاف الأنظمة المعرفية والفلسفية المؤطرة والموجّهة للأساليب والتشكيلات الخطابية والرؤى والمنظورات، وينتقد كل وضعيات التمركز حول الأصول والأعراق، أواللغات والأذواق، ويكشف عن وضعيات الهامش، وسلطة الأنساق.
ربوح البشير: إذا كانت الرواية العربية قد أسهمت في تأثيث البيت العربي ثقافيّاً، فهل استطاعت أن تواكب الحركية الاجتماعية؟
د. شراف شناف: يمكن أن نسم الفترة العربية المعاصرة بأنّها: "عصر الرواية"، فالرواية اليوم، حقيقة، تصنع الحدث الثقافي وتؤثّث ـ كما قلت ـ البيت العربي أحسن تأثيث، فهناك روائيون/روائيات (مع مراعاة السن التاريخي والإبداعي) يكتبون بعمق وتميز، وتجسّد كتاباتهم الروائية حفريات عميقة في طبقات الذاكرة التاريخية العربية والإسلامية والإنسانية، للكشف عن المنسي والمطمور والمقموع والمهمّش والمقهور والمهدور، ومساءلات جريئة، ليس فقط للطابوهات المعروفة ـ كما يكرّر هذا عادة ـ وإنّما لكل ما يدرج في دائرة البديهي والمُسلّم به والمألوف، ومحاولة التسلّل إلى كل الزوايا والتكايا، لتسليط الضوء عليها، والتعرف على قانونها المكنون. ولم يعد المخيال الروائي مُنهمِمًا فقط بالأحداث والوقائع الاجتماعية الجزئية، بقدر ما صار يتتبع القضايا والأحداث الكبرى ومدى تأثيرها في الوجدان الفردي، والتكتلات الاجتماعية، ومحاولة توصيف (وتأويل) كل مستويات التدمير المبرمج للإنسان عبر العالم ككل، والتخريب الدلالي المؤطر للحياة، وتجفيف كل المنابع المنتجة للقيم الأساسية والضرورية للوجود؛ الخير، الحق، الجمال، فالرواية اليوم تخوض حربًا ضروسًا على جبهات متعدّدة؛ داخلية وخارجية؛ قيمية وفنية؛ على مستوى السياسة العامة لتدبير الشأن البشري، وعلى مستوى التاريخ الثقافي الكوني، لنقرأ ما يكتبه "واسيني الأعرج، إبراهيم الكوني، نبيل سليمان"، وغيرهم كثير.
ربوح البشير: ما هي القضايا التي تراها مناسبة لولوج عالم الحداثة الأدبية؟
د. شراف شناف: مسألة الحداثة الأدبية جدّ معقدّة، تحيط بها المفارقات من كل جانب، كونها لا ترتبط ارتباطًا مباشرًا وميكانيكيًّا بالزمن الكرونولوجي، فما زالت النصوص العتيقة إلى اليوم تكشف عن حسّ حداثي قد لا تتوفّر عليه النصوص المعاصرة، وهذا راجع بالدرجة الأولى، حسب رأيي طبعًا، إلى قدرة الأدب على التحرّر من كل أشكال السُّلط، وهذا بدوره أيضًا يعود إلى الطبيعة الرمزية المكثفة للنصوص الأدبية والتي تجعلها تراوغ وتسخر وتواري وتلمّح أكثر مما تصرّح، وكذلك ارتباط الأدب ـ منذ نشأته ـ بثنائيات راسخة في التجربة الشعورية والوجودية للإنسان؛ كثنائية (الألهنة / الأنسنة)، (المقدس / المدنّس)، (الموت / الخلود)، (الخير / الشرّ)، (الفضيلة / الرّذيلة)، (الحرية / العبودية)، (الجمال / القبح)، ... ثمّ إنّ عالم الحداثة الأدبية ـ بحسب تعبيرك ـ ليس رهين قضايا جزئية مفكوكة المعنى والمبنى، وإنّما هو متتالية معرفية ومصفوفة منهاجية يتحدد على غرارها موقع الإنسان في الوجود ويتعيّن نمط حراكه وأنموذج توجيهه في طوبولوجيا العالم. ولذلك حينما نتناول التاريخ المفهومي للحداثة الأدبية بالدرس والتحليل، سنجدنا أمام اضطرابات مفهومية كبيرة؛ فأي الحداثات نقصد؟ حداثة الأشكال والصيغ أم حداثة المضامين والقيم، حداثة العلم والتقنية، أم حداثة العقل الفلسفي، أم حداثة السياسة والدولة والمجتمع المدني والديمقراطية، أم حداثة المخيال الأدبي والصورة والرمز والقناع الموغلة في الغموض، ... وأي الحداثات أسبق من الأخرى؟ ومن أي مشكاة تنبع كل هذه الحداثات التي ما فتئت تفاجئنا بين الحقبة والأخرى بـ ((ما بعد حداثات)) تَتْرَى، بعد أن تفجّرت مراكزها العقلانية / الإنسانوية / الصلبة، وزجّت بالعالم في واد سيّال دفّاق مهول..
وعلى هذا الأساس، فالحداثة ليست عالمًا نلجه، وإنّما فضاء ندشنه ونؤثّثه وأفق نفتحه باستمرار، ولا يتأتّى لنا هذا إلا عبر امتلاك الأنموذج المعرفي الكلي الذي هو نتاج أسئلتنا الوجودية الكبرى الواضحة والصريحة مع ذواتنا بالدرجة الأولى، ثم مع الآخرين الذين يختلفون عنا ويتقاسمون معنا إنسانيتنا، وهذه الأسئلة متعلّقة ـ رأسًا ـ بهويتنا البشرية الثقافية التاريخية (المعرفية الإدراكية / اللغوية الرمزية / العقدية والإيديولوجية والقيمية / السلوكية التواصلية)؛ من نحن؟ ما الذي نفعله في المكان والزمان؟ كيف سندبر شأننا في الحياة؟ ماذا نأمل؟ إلى أين يتّجه مصيرنا ومآلنا؟ وفعالية الأنموذج ترتبط ـ بشكل كبيرـ بطريقة إجابتنا عن الأسئلة المحورية. ثم إنّ الأنموذج هذا ليس مجرّد ترسيمة جاهزة تطبّق على كل التفاصيل، أو عبارة عن خلطة سحرية تشفي المريض في لحظة خارقة، وإنّما هو تشييد وبناء متدرج ومتدرّع بكل أشكال الفهم والوعي والسعي، إنّه بيداغوجيا صابرة، تجربة روحية رؤيوية تتعالى على كل أصناف العبودية والقهر، والخوارقية والسّحر، والجاهزية والكسل، والركود والفشل.
و لا بد أن نفكّ الارتباط بين روح الحداثة، وبين ما ترسّخ في أذهاننا عن الحداثة؛ إذ هي ما صنعه الآخر (الغربي الأوروبي بالخصوص) وأحسن إنجازه وتعليبه ! وبقي علينا، نحن، أن نكون مخلصين في تقليده .. وهو الأمر الذي جعل أدباءنا، ردحًا من الزمن، يحذوُن حَذوْ "بودلير" و"ملارميه" و"رامبو" و"ريلكه"، وغيرهم من الشعراء، وحذو "ديكنز" و"كافكا" و"كامي" و"غابرييل غارسيا"، و"باولو كويلو" وغيرهم من الروائيين، حتى إذا دخلوا جحر ضبّ دخلوه، واستمرأوا عطورهم الحداثية !! واعتزوا بها، ونابزوا بالألقاب من لم يأخذ بها، وغاب عنهم أنّه لا حداثة مع التقليد؛ مهما كان هذا التقليد، أكان تقليدًا للذات التراثية، أم للآخر المختلف. ولم تتبلور الكتابة الإبداعية الحداثية العربية إلا ببداية التخلّص والتحلّل التدريجي من سلطة الأنموذج القاهرة، وهو ما بدأنا نلمسه مع الرواية المعاصرة بالخصوص. ولا ريب، أنّه لا خروج حقيقي من طور التقليد إلاّ عبر تحقيق الدخول الحقيقي في طور "الأخلاقية" و"الجمالية"؛ أي السعي الدؤوب نحو "الإتقان" و"الإحسان"؛ حيث نقصد بهذا في عالم الأدب: شحذ الأدوات الإبداعية والتحكّم فيها بحِرَفيّة عالية المستوى، لخلق معان وتوليد دلالات وقيم راقية تتّسق وتنسجم مع التكوين والتكريم الربّاني للإنسان.
ربوح البشير: كيف تنظر إلى مستقبل الفكر التأويلي في الفضاء الثقافي العربي؟
د. شراف شناف: ماذا نقصد بعبارة ((الفكر التأويلي)) قبل أن نتحدّث عن المستقبل؟ أليس كل فكر خلاّق هو تأويلي بالضرورة؟ بمعنى أنّ البنية التي تحكمه وتوجّهه ترتبط فيها البدايات والأوليات بالنتائج والمآلات والوعي الذي يحركّه يتملّى حركة التحولات والتقلّبات والتغيّرات، وهذه البنية الفكرية ليست ثابتة كل الثبات، بقدر ما هي مفتوحة ومستعدّة للانفتاح عل كل الاحتمالات، وعلى محاورة (واستيعاب) كل المكوّنات والعناصر التي تغنيها وتطعّمها، وتكون أداة إخصاب وتنمية لكلّ ما هو جليل وجميل وجدير بالحياة، وهكذا، فالفكر التأويلي هو فكر تحريري وتنويري؛ بكل ما للمفهومين من دلالات حضارية عميقة؛ فهو تحرير للعقول والذهنيات والمخيالات والأذواق من كل الأغلال والآصار الدوغمائية التي تكبّلها وتصدّها عن كل ما إنساني وإيجابي ونبيل، وتنوير لكل المساحات الظلامية المعتّمة في ذوات البشر، والتي عشّشت فيها كل أصناف البغض والحسد والحقد الأعمى والتطرّف والتكفير... فالفكر التأويلي المسؤول والموجّه، الحامل للهمّ الإنساني الكوني هو الذي يشيع ثقافة الاختلاف والتنوّع والحوار والتعدّد، ويقضي على ثقافة الصراع والتبدّد، وينمي روح التفاؤل والتضامن والتآزر والتعارف..
فهل يوجد عندنا هذا الوعي التأويلي حتى نتحدّث عن مستقبل له؟ أم أنّ ما يوجد عندنا هو حديث عن تاريخ التأويليات كما تشكّلت عبر الأنساق الحضارية عند الأمم الأخرى؛ هو حديث عن الهرمسيات، والأفلوطينيات، مرورًا بتأويليات الغزالي وابن عربي وابن رشد وموسى بن ميمون، وصولاً إلى شلاير ماخر ودلتاي، وهيدجر، وغدامير وبول ريكور، وغيرهم...فمن دون شك أنّ كل هذا الإرث التأويلي على غاية من الأهمية، ولكن يجب أن نعلم طبيعة الأنظمة المعرفية والبراديغمات التي تشكل في ضوئها وتخلّق فيها، واختلاف الرؤى والمنظورات التي وجّهته. وهو ما يجعلنا، قبل أن نتحدّث عن مستقبل الفكر التأويلي في الفضاء الثقافي العربي، بحاجة إلى أن نتأكد من طبيعة الأرضية الإبستيمولوجية التي ننطلق منها وطبيعة الاستراتيجيات التي نراهن عليها حتى لا نكون كحاطب الليل !! فغابة التأويل مغرية بالمغامرة، ولكن تحتاج إلى خرائط ودلائل وموجّهات يهتدي بها الإنسان حتى لا يضلّ ولا يشقى، وتتنازعه المخاطر والخطوب والأهوال. إنّنا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نبني مستقبلنا على النتائج المعرفية والفتوحات الثقافية للآخرين، صحيح.. يمكن أن نستفيد بشكل جيّد من تجارب الآخرين ومشاريعهم ويمكن أن نستثمر فيها، ولكن يجب أن نحسن ربط النتائج بالمقدّمات، والمنطلقات بالمآلات والمداخل بالمخارج، وهذا أعظم درس يجب أن نحصِّله من الفكر التأويلي. والله أعلى وأعلم.
نشكرك على هذا الحوار الذي قادنا إلى فضاء الحداثة المنشودة.