"شرق وغرب" ريني غينون/ عبد الواحد يحيى (-1951م)
فئة : قراءات في كتب
"شرق وغرب" ريني غينون/ عبد الواحد يحيى (-1951م)
فكرة الكتاب
الكتاب "شرق وغرب" للمؤلف الفرنسي ريني غينون الذي غير اسمه إلى عبد الواحد يحيى، ترجمه عبد الباقي مفتاح، وصدر عن عالم الكتب الحديث، الأردن، الطبعة الأولى، 2016م.
يضم الكتاب بابين؛ الأول بعنوان أوهام غربية، والثاني بعنوان إمكانية التقارب.
الثقافة العالمية في مجملها وبشكل عام يمكن النظر إليها من زاوية الشرق والغرب؛ فكل من الصين والهند ودول آسيا وإفريقيا والعالم الإسلامي محسوبة على الشرق، بينما الدول الأوروبية وروسيا وأمريكا محسوبة على الغرب، هذا التقسيم يأخذ مصداقية من جهة نظرة كل من الشرق والغرب إلى الآخر والعالم، فكل من الشرق والغرب يستمد تصوره عن الطرف الآخر من خلال خلفيته الثقافية، عندما تدرس تاريخ الشرق، فأنت تلامس التنوع والتعدد الديني والثقافي، وعندما تدرس الغرب وتاريخه، فأنت تلامس النزعة إلى اختزال المتعدد في النموذج الواحد الذي لا يقبل الآخر، قد يبدو هذا الأمر في الأول للبعض مجازفة، ولكن المثقفين الغربيين هم من يقرون بذلك؛ فالغرب أحادي في كل شيء.
ونستحضر بهذا الخصوص كتاب” الشرق والغرب” لأحمد أمين، وهو كتاب عمل على بيان أوجه الفرق بين العالمين؛ وكتاب الإسلام بين "الشرق والغرب" لعلي عزت بكوفيتش، وهو كتاب بين ما يمتاز به الإسلام من قيم بين ثقافة الشرق وثقافة الغرب، وكتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد، وهو الكتاب الذي فند تصورات المركزية الغربية عن الشرق، وفي مقابل مصطلح الاستشراق كتب حسن حنفي عن الاستغراب، يعني "العلم بالغرب". وفكرة الاستغراب في هدفها الأساسي هي محاولة القيام بأبحاث حول الغرب نيابة عن الغربيين، وهو الأمر الذي فعله الغرب بالشرق من خلال الاستشراق.
كتاب "شرق وغرب" لريني غينون/ عبد الواحد يحيى، كتاب ينتقد الغرب ويعرض مشاكله في نظرته للوجود والإنسان، في مقابل الشرق الذي يتميز في نظر المؤلف بكثير من الإيجابيات التي يشوه الغرب صورتها، وهذا لا يعني كون المؤلف يرفض كل ما يقول به الغرب، أو إنه يعترض على طبيعة الحياة الغربية بالكامل، فهو يدعو إلى ضرورة إصلاح الغرب؛ وهذا الإصلاح يحدث عندما يتمكن الغرب من تجاوز عقدته مع تراثه وتقاليده، حينها يتقارب مع الشرق. ينتصر المؤلف للشرق في مؤاخذته على الحضارة الغربية، بأنها غارقة فيما هو كمي ومادي على حساب كل ما هو روحي، وهو أمر جعل الغرب لا يعرف الشرق كما يجب؛ لأن النزعة الكمية والمادية حجبت عنه الجانب المعنوي في الشرق.
إن ما شكل "نقد رينون والذي نجد خلاصته في كتاب (شرق وغرب) كان رد فعله السلبي الحاد على الفلسفة الأوروبية من لايبنيتس وكانط إلى شوبنهاور وعلى الأوضاع السياسية التي خلفتها الحرب العالمية الأولى والثورة البلشفية، بيد أنه إذا تجاوزنا أساليب غينون التعبيرية الغربية وغير التقليدية لنقرأه بلغة القرن الواحد والعشرون، لرأينا أن نقده يرصد أفضل ما توصلت إليه النظرية الاجتماعية والنظرية النقدية والنقد الثقافي، وإن كان ذلك لم يتضمن قبول شرعية النظام الذي تؤكد عليه النظريات"[1]
أوهام غربية
مصطلح أوهام مصطلح صادم، فعندما نصف الفرد أو الجماعة بصفة الوهم، فهذا يعني أن تفكير الجماعة غير قادر على التمييز بين ما هو حقيقي يدركه العقل، وبين ما هو مرتبط بالخيال والتصورات الذهنية المفارقة للواقع، فالوهم إذن هو فهم وتفسير القضايا والاشياء والذات والآخر تبعا لتصورات وحمولات ثقافية عشوائية، لا تراهن على فهم الأشياء والذات والآخر، كما هي عليه دون زيادة أو نقصان، فهناك فرق بين من يتخيل مكانا ما وبين من زاره ومكث فيه وعايش الصعوبات والمخاطر التي أحاطت به، فالمؤلف ريني غينون عندما وصف الغرب بالوهم، فهو يمضي إلى نقد وتفكيك الخلفيات المعرفية والذهنية والمنطلقات الفكرية لدى الغرب في تصوره ونظرته للمخالف؛ أي الشرق.
ففي مسار التاريخ في نظر رينون "تظهر الحضارة الغربية الحديثة كشدود، فهي الوحيدة من بين الحضارات المعروفة بمقدار يزيد أو ينقص، التي تطورت في اتجاه مادي بحث وهذا التطور الشاد الذي تطابقت بداياته مع ما أتفق على تسميته بعصر النهضة صاحبه ما كان حتمي الوقوع، وهو ارتداد الميدان العرفاني [...] وقد بلغ هذا الارتداد حدا جعل الغربيين اليوم لا يعرفون ما يمكن أن يكون العرفان الخالص بل لا يخطر في بالهم حتى إمكانية وجوده، ومن هنا نجم ازدراؤهم للحضارات الشرقية [...] فالعقل المفكر لديهم ليس سوى وسيلة للتأثير على المادة وإخضاعها لغايات نفعية عملية"[2] إغراق الغرب إذن في المذهب المادي وفي كل ما له صلة بالوضعية العلمية، جعلته يسقط في مدارات الوهم والادعاء بأنه يعرف كل شيء نتيجة التوسل بالمنهج المادي، ووجه الوهم هنا أن الغرب غفل بكون المادة ما هي إلا امتداد لعوالم تتجاوزها، ولا يمكن معرفة تلك العوالم الروحية والمعنوية التي من وراء المادة، من خلال المنهج الذي يرتهن في الفهم والتحليل على المادة فقط. فالإنسان لا يمكن بوجه من الوجوه اختزاله في الجانب المادي والبيولوجي؛ لأنه مركب مما هو مادي وما هو معنوي وروحي، وكذلك هي الطبيعة ومختلف الكائنات.
أوهام الغرب إذن، يترتب عنها خلل، يعود إلى المنهجية المعرفية التي يسلكها الغرب في فهم العالم، فهي منهجية منقوصة، ولا يمكن أن تترتب عنها تصورات متكاملة، لأنها تنظر بعين المادة بمعزل عن عين العرفان والمعنوي والروحي بشكل عام، وبالتالي فالمؤلف يدعو إلى تجاوز هذا الخلل في التعاطي مع المعرفة؛ لأن الغرب سار يسوق نموذجه بكونه هو عين الحقيقية، وفي هذا تجني على الشرق ومعارفه فـ "الأمر الأشد غرابة هو دعوى جعل هذه الحضارة الشاذة، النموذج نفسه الذي ينبغي أن تحذوه كل الحضارات الأخرى، وأن ينظر إليها على أنها هي الحضارة بامتياز، بل حتى باعتبارها الوحيدة التي تستحق هذا الاسم"[3]
التقارب والتفاهم
هناك مفكرون كبار تعود الأصول الفكرية والمرجعية للبعض منهم، إما إلى الشرق وإما إلى الغرب، هؤلاء يمكن وصفهم بكونهم سفراء بين الشرق والغرب، فمهمتهم مهمة صعبة؛ لأنهم يمثلون عقليتين تمثيلا مزدوجا، لا بالمعنى السلبي ولكن بالمعنى الإيجابي. فالازدواجية الثقافية، بمعنى، أن الإبحار في ثقافة ومعرفة كل من الشرق والغرب، تقتضي الفكر المركب، الذي يحضر فيه ما هو كوني وإنساني، توسلا في القراءة والفهم والتحليل بالمنهج النقدي مزدوج بتعبير المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي، فالمثقف المزدوج يسعى إلى تعزيز جسور التواصل والتفاهم بين كل من الشرق والغرب.
يقر محمد أركون، وهو من بين المثقفين ذوي الثقافة المزدوجة بأن «العلمنة حذفت كل المسائل المتعلقة بتاريخ الأديان والأنثروبولوجيا الدينية من ساحة الفضاء التعليمي العام»، وهو ما يقصد به إعطاء وإيلاء الجانب المادي فوقية على الجانب الروحي، التي يراها الشرق بأنها عملية ناقصة في التحضر والبعد الروحي، وبالتالي هي ريبة ورفض لمشروعيتها وجدار مانع من الالتقاء.[4] الغرب في تشكله الحديث إذن عمل على نفي وإقصاء كل ما هو روحي وغيبي ومعنوي، وهذا بعد لا يمكن للشرق أن يتخلى عنه. الشرق لا يرفض المادي ولا يقصيه، بل ينظر إليه بعين الروحي والمعنوي، فالغرب من خلال هذه المعادلة يبدو أنه يعاني من النقص من جهة ما هو روحي ومعنوي، هذه القضية المنهجية التي تلقي بظلالها على تصور العالم والإنسان والوجود، في حاجة إلى تفاهم بين كل من الشرق والغرب، فهل الغرب مستعد ليأخذ بالروحي إلى جانب المادي؟ أم إن الشرق سيتخلى عن الروحي والمعنوي ويقتصر على المادي؟
موضوع التقارب والتفاهم في نظر "ريني غينون" يرتهن على أن تبنى الحضارة على مبادئ ومواقف أخلاقية تستمد قوتها ووجودها من قيمة الإنسان، وعندما نتحدث عن الإنسان فنحن لا نستغني عن تاريخه وتراثه وثقافته الضاربة في القدم، فكيف يتم التكلم والتفاهم مع إنسان ينكر كل ماضيه، التنكر إلى الماضي في حد ذاته تنكر للإنسان الذي له مبادئ، يقول: "إذا أردنا التكلم على التفاهم [والمبادئ] مع معاصرينا، لا ينبغي أن نأمل من طرفهم فهما دون صعوبة؛ لأن غالبيتهم يجهلون تماما حقيقتها، بل لا يتصورون إمكانية وجودها، وهم أيضا بالتأكيد يتكلمون عن المبادئ بل يكثرون الثرثرة حولها، لكنهم دائما يطبقون هذه الكلمة على ما يمكن أن يتلاءم معها وعلى هذا النحو في عصرنا تسمى كلمة مبادئ، بقوانين علمية تتميز بعمومية أوسع بقليل من غيرها وهي بكل دقة عكس المبادئ؛ لأنها خلاصات أو نتائج استقرائية"[5] فسارت كلمة مبادئ تطلق على (مبادئ القوميات) وعلى (المبادئ الثورية) فالقول بمبادئ القوميات أحدث فوضى كبيرة في كل مكان، بصراع القوميات تبعا لوهم المبادئ، فباسم مبدأ القوميات تم تبرير الحرب العالمية الأولى والثانية، وبنفس المبدأ تشكلت النازية والصهيونية، وهو الأمر نفسه مع المبادئ الثورية التي بررت مختلف أنواع العنف تحت مسمى مبدأ العنف الثوري، فباسم العنف الثوري تم تبرير قتل فئات واسعة من الناس.
يرجع رينون مشكلة الغرب المرتبطة بغياب المبادئ لديه، بالتخلي على تراثه، وهذا الوضع جعله في حالة لا مبدأ؛ لأن المبدأ بالضرورة له من وجهة نظر رينون، أن يرتبط بتراث عريق "فغياب الارتباط بتراث أصيل يبدو لنا كالجذر نفسه للانحراف الغربي الراهن"[6] السؤال هنا أي تراث هذا الذي يعاتب رينون الغرب على القطيعة معه هل هو تراث القرون الوسطى الذي يصفه الغرب بالزمن المظلم ولا كلمة تعلو فيه عن كلمة رجال الدين والكنيسة دون علم؟ أم هو تراث فلسفة الانوار؟ رينون يتجاوز سقف هذه الأسئلة، فهو يرى بكون الغرب لا يملك تراثا أصيلا، ويدعي أن تراثه يكمن في الحضارة اليونانية، وتراث اليونان بلغه من خلال وساطة الشرق بفضل المسلمين. يجزم رينون القول إن الحضارة الغربية تعاني من فقدان المبادئ، وهي معاناة تشمل كل الميادين، "وبشذوذ مهول هي وحدها من بين كل الحضارات الفاقدة للمبادئ، أو ليس لها من المبادئ إلا ما كان سالبا".[7]
"إن الميتافيزيقا هي المبادئ ذات الطابع الكلي، التي تستند عليها بالضرورة كل الأشياء بكيفية مباشرة أو غير مباشرة، وبغياب الميتافيزيقا، فإن كل ما يبقى من معرفة، في أي مستوى مهما كان، سيكون حقا فاقدا للمبدأ، ولئن اكتسب بهذا قسطا من الاستقلالية -لا بالحق ولكن بحكم الواقع- فإنه من حيث المضمون والعمق سيفقد أكثر بكثير مما اكتسبه، وهذا الذي جعل العلم الغربي لا يتجاوز السطح، إن جاز القول، وبتشتته في الكثرة اللا محدودة من المعلومات الجزئية، وبتيهانه في التفصيل المتعلق بالواقع الذي لا حصر له، فهو لا يعلم شيئا من الطبيعة الحقيقية للأشياء، ويعلن أنه يتعذر إدراكها يبرر عجزه في هذا الصدد، فاهتمامه منصب على ما هو عملي-في عالم المادة- أزيد منه بكثير على ما هو تأملي"[8]
من زاوية نقد واقع الحضارة الغربية، يؤكد قول رينون طبيعة التفاوت الحاصل اليوم ما بين دول الشمال ودول الجنوب، فهناك حديث وموجة نضالية حول حقوق الانسان طبعا تبعا لتصورات الغرب، فمجمل هذه الحقوق حاضرة ومسخرة من أجل عالم الشمال. أما في دول الجنوب، فالغرب يستعملها كورقة ضغط في حق هذا النظام، أو هذه الدولة أو تلك، كما يتم اختزال موضوع حقوق الإنسان في دول الجنوب في كل ما هو يتعارض مع ثقافة الجنوب. لا مراعاة لموضوع حقوق الإنسان من لدن الغرب في الحروب التي من ورائها في دول الجنوب.
في الأخير الأمل كل الأمل أن يستفيد الشرق من الغرب، ويستفيد الغرب من الشرق في أفق بناء عالم جديد يراعي التوازن بين الجسد والروح.
[1] وائل حلاق. قصور الاستشراق: منهج في نقد العلم الحداثي. ترجمة: عمرو عثمان، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، البنان. 2019م ص.229-230
[2] ريني غينون/ عبد الواحد يحيى "شرق وغرب" ترجمة عبد الباقي مفتاح، عالم الكتب الحديث، الأردن، الطبعة الأولى، 2016م ص.55
[3] ص.56
[4] فواز المطلق، سوء التفاهم في «الاسلام أوروبا الغرب» القدس العربي 18 يونيو 2019. https: //www.alquds.co.uk
[5] "شرق وغرب" ريني غينون/ عبد الواحد يحيا ترجمة عبد الباقي مفتاح، عالم الكتب الحديث، الأردن، الطبعة الأولى، 2016م ص.188
[6] نفسه
[7] نفسه، ص.156
[8] ص.81