شرّنا يأتي مما هو أبعد
فئة : قراءات في كتب
صدر بالاشتراك بين مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" ومعهد "غرناطة للبحوث والدراسات العليا" كتاب موسوم بعنوان "شرّنا يأتي مما هو أبعد، التفكير في مذبحة 13 نوفمبر"[1] لآلان باديو، وهو كتاب يمتد على 106 صفحات من القطع المتوسطة، وقد ترجمه من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية محمد هاشمي، ونشر في طبعته الأولى عام 2017؛ الأمر الذي يجعل منه كتاباً راهنياً بامتياز؛ وذلك من جهتين: الأولى أنه يفكر في مذبحة استأثرت باهتمام الرأي العالمي، والثانية أنه لفيلسوف عرف بمواقفه اليسارية في زمن هيمنة الرأسمالية المعولمة.
لذلك نعتبر أن هذا الكتاب، موضوع المقال، هو تفكير يساري في حدث 13 نوفمبر؛ فهو تفكير، لأنه يتعلق بفيلسوف لا يستسلم لبادئ الرأي، وإنما يبذل أقصى جهده الفكري لبلوغ الحقيقة التي يعتبرها مطلبا وجوديا؛ وهو تفكير يساري، لأنه تفكير موجه بمرجعية يسارية تقر بأزمة الرأسمالية، على الرغم من انتصاراتها البادية، ويؤمن بالبديل الاشتراكي؛ وهو الأمر الذي يجعل من موضوع التفكير؛ أي مذبحة 13 نوفمبر، ليس واقعة عارضة، وإن كانت هذه الواقعة جللا، بل حدثا مؤسِّسا، من حيث إنه يؤسِّس لمرحلة فارقة بين ما قبل وما بعد، يترتب عنها اتخاذ موقف فلسفي من الحاضر.
إننا إذاً لسنا أمام كتاب تجاري، الغاية منه الاستهلاك، أو كتاب دعوي يسوق للآراء الجاهزة، بل أمام كتاب فلسفي يفكر في حدث مؤسِّس، بما يعنيه التفكير من تريث ويقظة ودهشة وتعليق للأحكام الجاهزة أو الحكم على الأشياء من دون علم ولا بينة؛ ولما كان الأمر كذلك، فإن في ترجمته إلى اللغة العربية حسنة كبيرة، ولاسيما أنها لغة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، باعتبارهما منطقتين للاستغلال الرأسمالي وتصريف لأزمات الرأسمالية المعولمة. فضلا عن ذلك، فإن أهمية هذه الترجمة تكمن في كون صاحبها محسوب على الفلسفة، بل متخصص في الفلسفة السياسية، كما يشهد على ذلك، كتاباه حول جون رولز: "نظرية العدالة عند جون رولز، نحو تعاقد اجتماعي مغاير"[2]، و"جون راولز والتراث الليبرالي"[3]، ونحن نعلم أنه لا يكفي المعرفة باللغتين العربية والفرنسية لترجمة نص فلسفي، بل لا بد من المعرفة بالفلسفة كذلك[4]، وإن كانت كل ترجمة، في نهاية الأمر، تثير إشكالات[5]، حتى لا نقول خيانات، كما هو الأمر بالنسبة إلى عنوان الكتاب، وهي إشكالات مطلوبة تجعل من النصوص المترجمة مجالا لإعمال التفكير وليس الاكتفاء بالنقل والتقليد، وهو جزء مما سنسعى إلى بيانه في هذا المقال.
فما جدة تفكير آلان باديو في واقعة 13 نوفمبر؟ وبأي معنى يرتقي بالتفكير في هذه الواقعة لتكون في مستوى الحدث المؤسِّس؟ وما راهنية الموقف اليساري من هذا الحدث أمام هيمنة الرأسمالية المعولمة؟ هل يعني هذا أن الرأسمالية تحمل حفار قبرها وما هيمنتها إلا مرحلة مؤقتة تجعل من البديل الاشتراكي يلوح في الأفْق؟ أوليس هذا هو المبرر نفسه الذي جعل المترجم ينتقل بنظره واهتمامه من جون راولز، وهو ليبيرالي مخلص إلى آلان باديو، وهو يساري ما انفك يقوض الشعارات الليبيرالية، ويكشف عن مستورها الذي ينذر بخراب العمران البشري؟ لكن، كيف يمكن التحرر من بنية العالم المعاصر الذي أحكمت الرأسمالية المعولمة قبضتها عليه؟ هل يقدم آلان باديو مداخل للتحرر من البنية السائدة أم أن موقفه لا يعدو حنينا يسارويا عفا عليه الزمن؟
لا شك أن ما نحن مقدمين عليه لا يعدو قراءة من جملة قراءات أخرى ممكنة، ولعل تقديم المترجم للكتاب يعد قراءة من هذه القراءات[6]؛ لذلك لا يسعنا إلا النظر في الأسئلة التي شغلت تفكيرنا في سيرورة قراءتنا، وهي الأسئلة التي قدمنا بها مقالنا. ولعل أول شيء يستدعي التفكير هو عنوان الكتاب؛ فقد عمد الترجمان إلى ترجمة Le mal بالشر، والحال أن مفهوم الشر، في اعتقادنا، لا يتناسب مع المرجعية اليسارية لآلان باديو، لأنه مفهوم ميتافيزيقي متعال عن الشروط التاريخية المحددة بالزمان والمكان، في حين أن التاريخ ركن أساس من أركان الفكر اليساري. فضلا عن أن مفهوم الشر يكتسي دلالة ثابتة لا زيادة فيها ولا نقصان، الأمر الذي يجعل كل القيم تتحدد بدلالته دون أن يطرأ عليه هو أي تغير، في حين أن الفكر اليساري يؤمن بالتغيير من حال إلى حال حسب الشروط الذاتية والموضوعية.
لذلك، فإننا نعتقد أن المفهوم الأنسب لمرجعية آلان باديو هو الألم وليس الشر، وحجتنا في ذلك أن الألم ليس متعاليا عن الشروط التاريخية، بل مشروط بالزمان والمكان، فهو يزيد تارة وينقص تارة أخرى، وذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة والشروط التاريخية، وهو ما يبرره التفاوت الطبقي المشهود، وتؤكده أطروحة الكتاب، حيث يقر آلان باديو أن مصدر الألم مرده إلى الهزيمة التاريخية للاشتراكية، وليس إلى الدين، متمثلا في الإسلام، أو إلى الشرق الأوسط، معقل الفكر المتطرف، أو أفريقيا، موطن الثروات، حيث الاستغلال والاستنزاف والنهب[7]، وكأنّي بآلان باديو يردد ما قالته بطلة المسرحية التراجيدية لراسين، فيدر Phédre، وهي تعترف بحبها المجرم: "إن ألمي يأتي مما هو أبعد"[8].
لكن كيفما كان الحال، فقد يكون للمترجم مبررات أخرى تشفع له ترجمته، مادامت هذه لا تعدو في نهاية الأمر إلا ضربا من ضروب التأويل مشروط بخلفيات قبلية، الأمر الذي يجعل من الترجمة على الحقيقة تطرح إشكالات وإلا كانت ترجمة تولد ميتة ويُحْكَمُ عليها بالنسيان، ولعل وعي المترجم بالخلفيات الفلسفية غير المصرح بها في متن محاضرة آلان باديو كما يبدو ذلك من تقديمه للكتاب هو الذي حَمَلَهٌ على الحديث عن الشر بدل الألم، وعيا منه أن الشر له طابع موضوعي أكثر من الألم، مادام يحيل على سوء توزيع الخيرات، ومن ثمة فهو أبلغ تعبيرعن قسمة ضيزى.
وتجدر الإشارة إلى أن آلان باديو لم يستعجل تقديم أطروحة الكتاب، بل خلص إليها بعد تحليل مستفيض لبنية العالم المعاصر، وهو ما تشهد عليه محاور الكتاب، الذي هو في الواقع نص لمحاضرة ألقاها آلان باديو تعليقا على مذبحة 13 نوفمبر، حيث بدأ بتحليل بنية العالم المعاصر متمثلة في انتصار الرأسمالية المعولمة، وإضعاف سيادة الدول من خلال الممارسات الامبريالية الجديدة، وما لذلك من تأثير على الساكنة، وما ترتب عنه من ذاتيات ارتكاسية وفاشية معاصرة، قبل أن يصل للحديث عن هوية القتلة الذين اقترفوا هذه المذبحة، والتعليق على ردّ فعل الدولة الفرنسية، ليختم محاضرته بسبل الانفكاك من بنية العالم المعاصر.
ولعل أبرز ميسم لبنية العالم المعاصر هو الانتصار الموضوعي والذاتي للرأسمالية المعولة؛ يتمثل الانتصار الموضوعي في تحكّم الرأسمالية المعولمة في العالم والإتيان على الأخضر واليابس من ثرواته، وإضعاف كافة أشكال المقاومة وإرغامها على التراجع، بل حتى إذا ما وجدت، فهي في نظر آلان باديو مقاومة "محلية مبعثرة، وفي الأغلب ذات طابع فئوي ومفتقدة (...) لرؤية شاملة"[9].
كما يتمثل هذا الانتصار الموضوعي في اعتماد الرأسمالية المعولمة على ركيزتين وهما: التمدد والتركز؛ يتجلى التمدد في التوسع في مشارق الأرض ومغاربها، في حين يتجلى التركز في التركيز الهائل لرأس المال. وجدير بالذكر أنها تعتمد في التوسع على كافة الوسائل، المشروعة منها وغير المشروعة، إذ إنها لا تجد حرجا في التوسل بميليشيات للسطو على مناطق معينة، وزرع فتيل الانقسامات الداخلية.
فضلا عن أنها تعتمد على الاندماج بين الأقطاب الرأسمالية، متمثلة في الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات، وهو الأمر الذي يجعل من سيادة الدول في خبر كان، وهي التي لم تعد أمام هيمنة الرأسمالية سوى وكلاء لرأس المال المركز في العالم على حد إقرار كارل ماركس، بل يذهب آلان باديو أبعد من ذلك معتبرا أنه لم يعد هناك "وفاق بين سلم وجود الشركات وبين سلم وجود الدول"[10]، من حيث إن القوة الرأسمالية، في نظر آلان باديو، صارت "تنفذ عبر الدول كما لو أنها مستقلة ومتسيّدة في الوقت ذاته"[11].
أما الانتصار الذاتي للرأسمالية المعولمة، فيتمثل في الانتقال من نظام القطبين: القطب الرأسمالي من جهة والقطب الاشتراكي من جهة ثانية، إلى نظام قطب واحد تمثله الرأسمالية المعولمة وكأنها قضاء وقدر، وهو ما يوحي باجتثاث إمكان التفكير في بديل آخر، متمثلا في البديل الاشتراكي، وهو ما يعني أن أطروحات المقاومة يكاد يكون انهزامها تحصيل حاصل، ولا تعبِّر إلا عن حنين لا يقدم ولا يؤخر في عصر يصفه آلان باديو بعصر "التوافقات الاجتماعية، وتدابير المراقبة نصف الدولاتية لرأس المال"[12].
ترتب عن بنية العالم المعاصر من منظور آلان باديو ثلاثة أضرب من الذاتيات: الذاتية الغربية والذاتية التي ترغب في الغرب وأخيرا الذاتية العدمية. وعلى الرغم من الاختلاف الظاهر بين هذه الذاتيات، إلا أنها تشترك في خاصة واحدة، وهي أنها ذاتيات ارتكاسية وبيان ذلك في ما سيأتي.
تتمثل الذاتية الغربية في الطبقة الوسطى التي تتركز على الخصوص في الدول النامية، والتي تقتسم 14 في المئة المتبقية عن الأوليغارشية المسيطرة على العالم[13]. وتتميز بالاعتداد بالنفس، من حيث إنها تعتبر نفسها الأنموذج الذي ينبغي أن يكون، وأن نمط حياتها هو نمط الحياة الحق، مدعية بذلك الحداثة والتقدم وبر الأمان، وهو الأنموذج الذي تعمل وسائل الإعلام على تسويقه.
أما الذاتية التي ترغب في الغرب، فهي ذاتية تتولد نتيجة لتأثرها بنمط حياة الذات الغربية الذي يتم تسويقه؛ وعليه فإن الرغبة في الغرب مردها إلى التقليد واتباع الأنموذج الأول بحثا عن ترف الحياة المعاصرة وما تثيره من إغراءات[14].
أما الذاتية العدمية، فهي تنزل على طرف نقيض من الذاتية التي ترغب في الغرب؛ ذلك أنها تحاول عَدْمَ كافة تمظهرات الذات الغربية، وهي عدمية تحركها من منظور آلان باديو "الرغبة العنيفة في الانتقام والتدمير (...) ويعبر عنها في صورة ميتولوجيا رجعية (...) ضدا لنمط الحياة الغربية وللرغبة في الغرب".[15]
يتبين إذن، أن الذاتية التي ترغب في الغرب والذاتية العدمية ليستا إلا زوجا متجاذبا؛ فالأولى تمثل نسخة موجبة والثانية تمثل نسخة سالبة، ومرد التجاذب بينهما إلى الغواية التي تمارسها الذات الغربية، من خلال تجنيد مختلف وسائل الإعلام للتسويق لها، حتى صارت تبدو مطلبا وجوديا في ضوء هيمنة الرأسمالية المعولمة.[16]
وقد ترتب عن هذه الذاتيات الارتكاسية ظهور الفاشية المعاصرة، والتي هي بالتعريف ذاتية ارتكاسية، حيث إنها لا تطرح أي إمكان آخر خارج بنية العالم المعاصر التي تتحكم فيها الرأسمالية المعولمة، ما عدا إعلان العداء لكافة تمظهرات الحياة، وذلك بالاحتفاء البطولي بإرادة الموت بدل إرادة الحياة، ولعل الدين في هذا الصدد يشكل أنسب تعبير عن هذه الفاشية.
يستتبع ذلك أن ما بات يعرف بـ "داعش" لا يعدو سوى مظهرا من مظاهر الفاشية المعاصرة الغارقة في دوامة بنية لا تجد عنها مخرجا غير الاشتغال بآلياتها وإعلان العداء لها، من خلال تجنيد الشباب الذين يقعون على هامش فئة المستهلكين والأجراء لاقتراف المذابح والتفجيرات كما حدث في واقعة 13 نوفمبر، وإلباسها لبوس الدين، وما يوحي إليه من دلالات النصر والتمكين والفتح المبين!!
والواقع أن الدين ليس هو أسُّ هذه الفاشية المعاصرة، وإنما أسُّها هو الرأسمالية المعولمة التي تجعل الفاشيين يعتقدون أن ما يقترفونه من مذابح وتفجيرات هو مجرد رد فعل مضاد للغرب، مبررين هذا الانفعال بالدين، والحال أن مرد انفعالهم هذا إلى كون الرأسمالية المعولمة لم تستوعب حشود اللاجئين والمعطلين والمهمشين اللذين يقدرون بالملايير في العالم، حتى صاروا في نظرها في حكم العَدَم[17].
إن مذبحة 13 نوفمبر التي هزت العالم إذاً ليس مردها إلى مؤامرة، بما تفترضه المؤامرة من تنظيم وتخطيط استراتيجي، وإنما مردها إلى فاشية معاصرة تتغذى بالعدمية التي تحتفي بالموت الجماعي، حيث لا مجال للحديث عن مجرمين في مقابل ضحايا، وإنما هناك موت جماعي ينتهي بانتحار الجناة أيضا أو ما يصطلح عليه آلان باديو بـ "الجريمة الجماهيرية"[18].
غير أن هذا الفعل الذي جرى توصيفه في وسائل الإعلام بالبربري والهمجي لا يقل في الواقع عن بربرية وهمجية الرأسمالية المعولمة التي تقتل الناس الأبرياء، أطفالا وأمهات وشيوخ، بالمئات والآلاف، معتمدة على أحدث تيكنولوجيا القتل الجماعي، من أجل البحث عن أسواق لتصريف فائض إنتاجها، ومناطق خصبة لاستغلال ثرواتها الطبيعية والبشرية؛ وبالتالي، فإن كان هناك من فرق بين بربرية الفاشيين المعاصرين وبربرية الرأسمالية المعولة فهو لا يعدو فرق في الدرجة وليس في الجوهر؛ إذ كل ما في الأمر أن البربرية الأولى متخلفة، في حين أن البربرية الثانية متحضرة[19].
مادام الأمر كذلك، فماذا باستطاعة دولة أن تفعل إزاء هذا الوضع المشروط ببنية معولمة؟ هل رد فعل فرنسا عما حدث يمكن أن يغير شيئا من هذا الوضع، وهي التي صارت سيادتها مشروطة بالرأسمال العالمي؟
الواقع أن مهمّة الدولة، كيفما كانت هذه الدولة، أمام هيمنة الرأسمالية الجديدة، هي تطويع الطبقة الوسطى للدفاع عن الذات الغربية وعن البنية الحالية، ولعل الدولة الفرنسية لا تشذ عن هذا الواقع، وإن كان ما يدعو للعجب، من منظور آلان باديو، هو أن اليسار بهذه الدولة وغيرها صار يتفانى في النهوض بمهمة التطويع هذه؛ الأمر الذي يجعل من فرنسا لم تعد المكان الأنسب للتقليد الثوري كما كانت عليه في الثمانينيات وأواخر السبعينيات.[20] لكن ما العمل إزاء هذا الوضع المعقد وما يخلفه في النفس من وعي شقي؟
يبدو أن آلان باديو لا يجد حرجا في إعلان تفاؤله للتحرر من هذا الوضع المعقد، والانفلات منه نحو البديل الاشتراكي المنتظر الذي من شأنه أن يستوعب ملايير البشرية التي همشتها الرأسمالية المعولمة وجعلتها في حكم المُعدمة. وفي هذا الصدد، يقترح تجاوز الوطنية الضيقة التي ساد التّبجّح بها إبان واقعة مذبحة 13 نوفمبر، نحو وطنية معولمة في مستوى العولمة الرأسمالية؛ ذلك أن ما وقع في فرنسا لا يعني فرنسا ولوحدها، وإنما يعني العالم أجمع.
يستلزم هذا الطرح سحب الثقة من الدول التي صارت مستلبة السيادة، ومقاطعة الانتخابات التي لا تغير من واقع البنية السائدة شيئا، والكف عن الانخراط في لعبة الديمقراطية، واتحاد عموم الجماهير الشعبية والمقهورين والمقصيين والمهمشين[21]. وفي هذا السياق، يرى آلان باديو أن مهمة المثقف الثوري هي مواكبة البروليتاريا المترحلة وإرشادها والإنصات لهمومها، وما يوازي ذلك من تثقيف وتوعية، من أجل الاستثمار في ذاتية رابعة، ذاتية نوعية وليست مستلبة، من حيث إنها حاملة لفكر جديد متحرر من البنية السائدة، وهو ما يقتضي إنشاء تحالفات عضوية بين المثقفين الثوريين والشباب وعموم المهمشين، تبدأ من المستوى المحلي وتتمدد في اتجاه المستوى العالمي[22]، من أجل تحقيق المهام الاشتراكية والعيش في عالم يستوعب البشرية جمعاء. لكن هل يمكن تحقيق هذه المهام الجليلة من دون التشبع بالفكر الليبيرالي؟
الواقع أن كارل ماركس نفسه ينوّه بالليبرالية، معتبرا إياها شرطا أساس لتحقيق المهام الاشتراكية. لكن تجدر الإشارة إلى ضرورة التمييز بين الليبيرالية من جهة أنها مضامين فكرية ارتبطت بفلسفة القرن الثامن عشر، بما هي فلسفة للأنوار، والداعية للتحرر من كافة أشكال العبودية والقهر، كيفما كانت مبرراتها، وبين الليبيرالية باعتبارها منهجا للاستعمار والاستغلال والنهب[23]، وإذا كان هذا الضرب تحديدا هو الذي ارتبط بالرأسمالية المعولمة، فإننا في أمس الحاجة للضرب الأول منها؛ ذلك أن البشرية في اعتقادنا خارج التشبع بقيم الحرية والعدالة والديمقراطية[24]، وتجاوز الذهنيات الرجعية التي تستمرئ العبودية وتسلِّم بواقع الأمر، باعتباره قضاء وقدرا، لا يمكن أن تنخرط في الطرح الجذري الذي يدعو إليه آلان باديو.
يتحصل مما سبق، أن آلان باديو ارتقى بحادثة 13 نوفمبر إلى مستوى الحدث بمعناه الفلسفي، ولا يفوتنا في هذا المقام التنويه بالجهد الذي بذله المترجم في معرض تقديمه للكتاب، حيث ينبه إلى الالتباسات التي يثيرها مفهوم الحدث[25]؛ فهو ليس حادثة عارضة حدثت في مكان مخصوص، وفي زمان محدد، بل إنه يحيل على تحول جذري بين ما قبل الحدث وما بعده؛ الأمر الذي يجعله يكتسي طابعا كونيا يرخي بظلاله على العالمِين، وليس طابعا محليا مشروطا بسياق تاريخي محدد ومجال جغرافي ضيق.
إن حدث 13 نوفمبر إذن ينزل منزلة حدث الثورة الفرنسية، وهي حدث بمعناه الفلسفي، لأنها لم تكن وقفا على فرنسا فقط في 1789، ولكن لأنها صارت تسوِّغ للعالمين الحديث عما قبل الثورة وما بعدها، وفق بنية مفاهيمية تعيد النظر في أفكارنا وقناعاتنا، الأمر الذي يجعل الحدث بمعناه الفلسفي يكتسي طابعا موضوعيا يعيد النظر فيما هو خصوصي؛ وهو ما جعل من آلان باديو يفكر في مذبحة 13 نوفمبر من موقع الفيلسوف المتسلح بالحذر واليقظة والتأنّي، والذي يراهن على بلوغ "الحقيقة الموضوعية"[26]، وليس من موقع الصحافي أو المحلل السياسي اللذيْن يستسلمان، طوعا أو قهرا، للحماس الذي يخلفه أي حدث وما يثيره في الأنفس في انفعالات تذكيها الهوية الجماعية وبادئ الرأي.
المصادر
آلان باديو، شرنا يأتي مما هو أبعد، التفكير في مذبحة 13 نوفمبر، ترجمة وتقديم محمد هاشمي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود ومعهد غرناطة للبحوث والدراسات العليا، المغرب_الدار البيضاء، ط 1، 2017
المراجع
بنعبد العالي عبد السلام، التاريخانية والتحديث، قراءة في أعمال عبد الله العروي، دار تبقال للنشر، الدار البيضاء_المغرب، 2010
بنعبد العالي عبد السلام، كتابات في الترجمة، الأعمال، الجزء الرابع، دار توبقال، الدار البيضاء_المغرب، ط 1، 2014
العروي عبد الله، العرب والفكر التاريخاني، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء_المغرب، ط 1، 1983
موهوب محمد، ترجمان الفلسفة، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش_المغرب، ط 1، 2011
هاشمي محمد، نظرية العدالة عند جون رولز، دار توبقال، الدار البيضاء_المغرب، ط 1، 2014
هاشمي محمد، جون راولز والتراث الليبرالي، دار توبقال، الدار البيضاء_المغرب، ط 1، 2015
[1] آلان باديو، شرنا يأتي مما هو أبعد، التفكير في مذبحة 13 نوفمبر، ترجمة وتقديم محمد هاشمي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود ومعهد غرناطة للبحوث والدراسات العليا، المغرب_الدار البيضاء، ط 1، 2017
[2] محمد هاشمي، نظرية العدالة عند جون رولز، دار توبقال، الدار البيضاء_المغرب، ط 1، 2014
[3] محمد هاشمي، جون راولز والتراث الليبرالي، دار توبقال، الدار البيضاء_المغرب، ط 1، 2015
[4] يقول في هذا الصدد ألكسندر كويري: "لا تكفي معرفة اللغة اليونانية لفهم أرسطو وأفلاطون. هذا خطأ شائع لدى الفيلوجيين الكلاسيكيين. فلفهمهما، وإلى جانب امتلاك اللغة، تلزم ضرورةً معرفة الفلسفة". محمد موهوب، ترجمان الفلسفة، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش_المغرب، ط 1، 2011، ص 9
[5] عبد السلام بنعبد العالي، كتابات في الترجمة، الأعمال، الجزء الرابع، دار توبقال، ط 1، 2014، ص 65-225
[6] يمتد تقديم المترجم من الصفحة 15 إلى الصفحة 32، فضلا عن تمهيد للسيد ولد باه يمتد من الصفحة السابعة إلى الصفحة 13، وكلاهما قراءتين ممكنتين للكتاب. آلان باديو، شرنا لا يأتي مما هو أبعد، التفكير في مذبحة 13 نوفمبر، المصدر السابق.
[7] المصدر نفسه، ص 89
[8] المصدر نفسه، ص ص 88-89
[9] المصدر نفسه، ص 47
[10] المصدر نفسه، ص 51
[11] المصدر نفسه والصفحة.
[12] المصدر نفسه، ص 49
[13] استخلص آلان باديو هذه النسبة من الإحصاءات الآتية: "(1%) من الساكنة تستحوذ على (46% ) من الخيرات المتوافرة؛ إنه النصف تقريبا (10% ) من الساكنة تتملك (86%) من الخيرات المتوافرة. (50%) من الساكنة لا تملك شيئا". آلان باديو، المصدر نفسه، 57
[14] المصدر نفسه، ص 71
[15] المصدر نفسه، ص ص 71-72
[16] المصدر نفسه، ص 72
[17] المصدر نفسه، ص 78-88
[18] المصدر نفسه، ص 79
[19] المصدر نفسه، ص 80
[20] المصدر نفسه، ص 83
[21] المصدر نفسه، ص 87
[22] المصدر نفسه، ص ص 90-91
[23] عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخاني، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء_المغرب، ط 1، 1983، ص 187
[24] عبد السلام بنعبد العالي، التاريخانية والتحديث، قراءة في أعمال عبد الله العروي، دار تبقال للنشر، الدار البيضاء_المغرب، 2010، ص 9
[25] آلان باديو، شرنا يأتي مما هو أبعد، مصدر سابق، ص 15-24-25
[26] المصدر نفسه، ص 18