شكري المبخوت: الوجع والبهجة وترياق الخيال (الجزء الثّالث)
فئة : حوارات
د. نادر الحمامي: نستأنف حوارنا مع الأستاذ شكري المبخوت في الجزء الثّالث منه، وكنّا قد وصلنا في الجزء الثّاني إلى الحديث عن أعماله النّقديّة والأكاديميّة، ومن جملتها نذكر ثلاثة كتب مهمّة في ما يتعلّق بالسّيرة الذّاتية؛ الكتاب الأوّل قديم نسبيّا ويتعلّق بكتاب "الأيّام" لطه حسين (1889-1973) وعنوانه ''سيرة الغائب سيرة الآتي''، والثاني هو ''الزّعيم وظلاله'' وهو حول السّيرة الذاتية في تونس، والثّالث هو ''أحفاد سارق النّار''، وهو في السّيرة الذّاتية الفكريّة. لن أسأل عن دواعي الاهتمام بهذا الصّنف من البحث حول السّير الذاتية، فذلك سؤال كلاسيكي، ولكن هل أن ارتباط هذا المجال بالفرد، كان من أجل الفرد نفسه، أم هو مدخل لفكر المجتمع وما يحمله من آمال، فلا يعدو أن يكون الفرد من هذه الزّاوية سوى ممثّل لمجتمع برمّته؟
د. شكري المبخوت: هذا سؤال مركّب، ولكنّ السّؤال عن دواعي التّأليف في السّيرة الذّاتيّة هو أيضاً مهمّ حتى وإن كانت صيغة السّؤال كلاسيكيّة. فلقد ركّزت الأعمال المنشورة التي قمت بها في النّقد الأدبي، كثيراً على السّيرة الذّاتية لسبب بسيط جدّا، وهو أنّها جنس أدبيّ حديث، اعتُبرَ فرعاً من الرّواية، التي هي بطبيعتها جنس حديث. لذلك، فالسّيرة الذّاتية أحدث من الرّواية. وفي نشأتها باعتبارها جنساً أدبيّاً صاحبها تحوّل في النّظرة إلى الفرد سواءً في الثّقافة الغربيّة، حيث منبتُها أو في ثقافتنا العربيّة. مع العلم أن هناك سيرا ذاتيّة قديمة مثل ما كتب ابن خلدون، ولكن هذا في تقديري، لا يدخل في إطار السّيرة الذّاتية كما نتعارف عليها بمعناها العميق اليوم. وهي تحوّل كبير في النّظر إلى الفرد، وقبول أن لا يكون الفرد متطابقاً مع الفضائل ومع منظومة القيم السّائدة، بل إنّ هذه الفردانيّة أو الفرديّة هي التي تسمح للكائن بأن يخرج عن السّبل المسطورة وعن المعهود والمعروف اجتماعيّاً. فكلّ فرد أصبح يصنع حياته، ويتّخذ مساره الشّخصي فيها، وإذا روى سيرته فليس مجبراً على التّظاهر فيها بالفضيلة، بل إنّ مجال السّيرة الذّاتية يسمح بالحديث عن المخازي والتردّدات والنّقائص؛ ذلك هو المبدأ العام في السير الذّاتية عموماً، وحين نخصّص ذلك في السّيرة الذّاتية العربيّة، سنجد أن أهمّ نص هو سيرة طه حسين من خلال كتاب "الأيام"، خاصّة في جزئه الأوّل، ويمكن أن نقول بأنّه "ضربة مْعلّم"؛ بمعنى أنّه كتب كتاباً عجيباً في معنيين، المعنى الأوّل أنّه جاء سيرة ذاتيّة مكتملة ظاهريّاً، ولكنّه رواها بضمير الغائب كما لو كان يتحدّث عن شخص آخر؛ أي مثلما تُكتب السّير الغيريّة لا السّير الذّاتيّة، وهذا ما جعل نصّه لا يخلو من مراوغة. أمّا الأمر الثّاني، والأهم في رأيي، هو أنّ طه حسين كأنّه وضع للسّيرة الذّاتيّة العربيّة ملامحها، فطيلة الكتاب نجد جوانب شخصيّة وذاتيّة مثل البيئة والعائلة والمؤدّب والعادات... ولكنّه في الحقيقة، قد وضعها على نمط السّير الفكريّة دون أن تكون فكريّةً، بمعنى أنّ هذا الإنسان الذي يكون من لا شيء يُحمل على الثّمامة، يصبح بطلاً معرفيّاً يؤمن بالعقل وبالتّنوير وبالحداثة وبالتّجديد وينقد نقدًا لاذعاً جميع البنى الاجتماعيّة والثّقافية القديمة.
د. نادر الحمامي: وقد كان بمفرده، لأنّ كل ما كان يحيط به مثّل عائقا بالنّسبة إليه.
د. شكري المبخوت: نعم، لقد عدت إلى هذه الفكرة في ''أحفاد سارق النّار'' من خلال سير ذاتيّة فكريّة حقيقيّة تتحدّث عن الحياة الفكريّة وتطوّرها لدى الأشخاص، فكان التّماثل كبيراً. وهذا يطرح علينا السّؤال هل تحقّقت الحرّية الفكريّة في مجتمعاتنا، حيث يمكن للذّات أن تقول ما لها وما عليها بصراحة؟ يمكن أن نبحث في ذلك من خلال أمثلة من السّير الذاتية، من مثل ما كتب محمد شكري (1935-2003) وغيره. لذلك، فالإنتاج في السّيرة الذاتية يمكن أن يكون مقياسا لتطّور العقليّات في المجتمع.
د. نادر الحمامي: كتاباتك النّقديّة في السّيرة الذّاتية تأتي من باب تكريس قيمة الفرد، باعتباره حرّاً ومسؤولاً، ما يمكن أن يجعله بمرتبة البطل في مجتمعه رغم المعوقات. فهل تعتبر أن السّيرة الذّاتية يمكن أن تكون باباً شارعاً لتركيز قيمة الفرد في مجتمعات لم تُولِ الفرد قيمته الحقيقيّة؟
د. شكري المبخوت: نعم، ولكنّ تساؤلي كان من موقع الأكاديمي، فهذه بحوث أكاديميّة، وقد كان حول هذه النّصوص وما تخفيه من أسئلة. ففي القسم الأوّل من ''الزّعيم وظلاله'' أردت أن أتتبّع متى بدأت الذّات تعبّر عن نفسها في كتابات التّونسيّين. وليس من باب الصّدفة، حين ننظر في مطابقات التّاريخ الثّقافي التّونسي، أن يكون الشّابي قد افتتح أجناساً من الكتابات، مثل الرّسائل والمذكِّرات، وأن يكون الطّاهر الحدّاد قد كتب تلك الخواطر في فترة أزمته، والخاطرة من الكتابة الذّاتيّة، وأن يكون ذلك الجيل الذي يضمّ علي الدوعاجي (1909-1940) الذي أحدث ثورة لغويّة في كيفيّة البناء السّردي والحكائي. إذن ثمّة فكرة عزيزة على نفسي تتطلّب جهداً أكبر لصياغتها، وهي أن نقطة الارتكاز في التّاريخ الثّقافي التّونسي هي فترة الثّلاثينيات من القرن الماضي، فالأفكار الكبرى والأساسيّة وجدت في تلك الفترة. وقد ظهر التعّبير الأدبي والأيديولوجي والسّياسي عنها في الوقت نفسه، فقد تزامنت تلك الأفكار مع التّعبير السّياسي مع نشأة الحزب الدّستوري الجديد، رغم أن تكوينه كان على أيدي زيتونيين منشقّين وصادقيّين. فرّبما تعود قوة بورقيبة إلى أنّه فهم هذا التّحوّل التّاريخي، وعبّر في حكمه، بجرأته التي كانت تصل أحيانا إلى العنجهيّة، عن أحلام ذلك الجيل، وفتح تونس على المستقبل بكل ما يتضمّنه من إيجابيّات ومن مخاوف ومن صراعات وتردّدات. لذلك اهتممت بسيرته، في حين لم يقرأ كثيرون خطاباته في معهد الصّحافة وعلوم الإخبار سنة 1973، على أنّها من السّيرة الذّاتية، فقد لاحظت فيها بوضوح أنّه كان يروي أسطورته الشّخصية. صحيح أنه كان يفعل ذلك في معظم خطاباته الأخرى، ولكنّه في تلك الخطابات تحديداً كانت صلته بالسّيرة الذاتية أوضح، وكان يقول: ''لا يمكن لكم أن تفهموا تاريخ الحركة الوطنيّة دون أن تفهموا حياتي''، وهذا أمر مهمّ، وأعتقد أنّ قوة بورقيبة تكمن في أنّه آمن بأنّه أسطورة، وكتب هذه الأسطورة، ويعسر أن تجد للأسف في تونس من يستطيع أن يصنع كذبة جميلة عن نفسه وعن بلاده، فيصدّقها ويدفع قطاعات واسعة إلى تصديقه. ونحن نعرف أنّ التّاريخ ليس مجرّد وقائع، وإنّما هو أيضاً هذه الأكاذيب الوطنيّة التي نبنيها. وأعتقد أنّ مأزق تونس لا يعود إلى أنّنا نفتقد بورقيبة في حدّ ذاته، فبورقيبة لن يعود، وتصّوراته ورؤيته، في جوانب كثيرة منها، لم تعد صالحة في عصرنا، ولا نريده أن يعود، فهو قد ذهب إلى رحمة الله، وترك بعض السّمات التي منها الجرأة والكاريزما والأسطورة التي صنعها عن شخصه، وهي أسطورة لذيذة وجميلة، ينبغي أن نعترف بذلك، ولكنّها لن تعود. لكن ما ينقص تونس هو أن توجد شخصيّات لا شخصيّة واحدة، لها هذه القدرة على صناعة الأمل من خلال القصص أو السرد. ولا أدري في الحقيقة، إن كان ذلك ممكن التحقّق في سياقنا الحالي أو القريب.
د. نادر الحمامي: لقد تحدّثتَ عن فترة الثّلاثينيات واعتبرتها تأسيسيّةً لما سيأتي لاحقاً في تونس، وتلك الفترة متميزة فعلاً، لا في السّياق التّونسي فحسب، بل في المشرق أيضاً حيث كانت هناك حركة فكريّة كبيرة جدّاً وأعلام كبار منذ بداية القرن العشرين، تُرجمت في كثير من السّير الذّاتيّة والشّخصيات، إلاّ أنّها توقفت شيئا ما لاحقاً. فهل أن المجتمع هو الذي بقي قاصراً عن استيعاب مثل هذه الحركات الفكريّة، أم أن سياسات الدّول التي نشأت كانت وراء توقّفها، أم هو بروز تيّارات أخرى مختلفة، خاصة في مصر مع نشأة الحركة الإسلامية بقيادة حسن البنا سنة 1928، هو الذي أوقف كل ذلك الزّخم الفكري التقدّمي الذي ظهر في كثير من الأقطار العربية في بداية القرن العشرين؟
د. شكري المبخوت: هذا سؤال صعب وأنا لست مؤرّخا للفكر، ولكن اسمح لي أن أخالفك، ففي ما أعتقد أن الأجيال التي جاءت بعد تلك الفترة؛ أي الخمسينيات والستّينيات والثّمانينيات هي أفضل من الأجيال السّابقة من حيث الكتابات وجودة الأفكار والانفتاح والمنهجيّة العلميّة، وأنا لا أنظر إلى التّاريخ الثقافي والفكري العربي نظرة سلبيّة، بل أعتقد أنّه ليس تاريخاً انحداريّاً، وإنما هو تاريخ تطوّري، وليس ذلك قضيّة موقف ولكن ما نراه فعليّا، فانظر إلى ما يُنشر من كتب من حولنا فأغلبها أعمال جيّدة يستحيل أن تجد ما يقارب جودتها بين العشرينيات والستّينيات من القرن الماضي، ولكن الفرق ربّما يكمن في أن الأجيال السّابقة كانت تحلم أحلاماً كبيرةً، وأنّنا مررنا بفترة الدّول الوطنيّة مع موجات عروبيّة وموجات ماركسيّة كانت في إطار صراعات على السّلطة، فتلك الأجيال السّابقة كانت تبحث عن حلم وتصوغ معنى، وفيما بعد وجدنا تيّارات سياسيّة ليس لها هذا العمق، ولنأخذ مثلاً اليسار في تونس، فقد انطلق من كتابات تنظيريّة، رغم أن له حضورا في المجال الفنّي والثّقافي عموماً، ولكن أنا أتحدث عن جانب التّفكير في المعضلات الفكريّة والسّياسيّة...
د. نادر الحمامي: هذا ما قصدته بالمفاهيم الكبرى التي ينبغي التّفكير فيها عميقاً، مثل الحرّية والدّيمقراطية والمساواة، فما نلاحظه ليس سوى دعوات إلى الحرّية وانتشاء بها وتغنّيا. أمّا الكتب التّنظيرية لهذه القيم، فلا نجدها فعليّا في العالم العربي لدى الأجيال السّابقة.
د. شكري المبخوت: هذا لأنّ المسألة ليست أن نكتب كتباً، بل المسألة هي صياغة جوّ ثقافيّ عامّ وبناء حلم جماعيّ. أعتقد أنّني لا أعرف دراسة في هذا المجال حاولت أن تبيّن هذه الحركة المتوهّجة في الفكر العربي، ولا ننسى أن كتابات مفكرين، مثل جعيّط أو عبد الله العروي، وخاصة في كتاباتهما الأولى منذ بداية السّبعينيات، من المستحيل أن نجد مثيلا لها سواء في فترة الثّلاثينيات أو قبل ذلك. إلاّ أن السّمة المهمّة التي لا يجب أن نغفلها أن الصّراع ضدّ التعليم التّقليدي قد استهلك وقتاً طويلاً ضائعاً، خذ لك مثال الزيتونة في تونس، فبغضّ النّظر عن الموقف الأيديولوجي المساند أو المعارض لقرار بورقيبة بإنهاء التّعليم الزّيتوني، فإنّ الزّيتونة كانت عاجزة على أن تنتج خطابا علميّاً حديثاً، أو حتى خطاباً دينيّاً قادراً على التّفاعل مع قضايا العصر، ينبغي أن نعترف بذلك، وهو لا يحمل أيّ استنقاص لجامعة الزّيتونة بحكم أن دورها الأساسي هو التبرير الأيديولوجي للملَكيّة في تونس، وهناك منظومة مصالح فرديّة وجماعيّة تجعل المحافظة مفروضة عليها فرضاً، فالحركات الوطنيّة والاستقلال والحركات العروبيّة وغيرها، قد خلقت كلّها ديناميكيّة، وساهمت بأشكال مختلفة في تفكيك المنظومة القديمة، وفي خلق أشياء سيّئة جديدة. لذلك، فعلينا أن ننظر إلى الأشياء بجوانبها الإيجابيّة والسّلبيّة. فكلّ ما يتعلّق بطغيان الأيديولوجيا الكليانية مصادره واضحة، فبعد فترة من اللّيبرالية وجدنا هذه الأفكار لدى الأحزاب الشّيوعية ولدى الأحزاب القوميّة ببعثيّيها وناصريّيها، وهي تضرب كل مكتسبات اللّيبرالية والدّيمقراطية. قد يبدو من السّهل اليوم أن نحاكم كل هذا، ولكن علينا أن ننظر في هذه التّموّجات الفكريّة والسّياسية وغيرها.
د. نادر الحمامي: هذا الاستقراء أو المراجعة تنبني لديك على أساس منهجيّ، وهو أن التّاريخ يقوم على شكل تموّجات وليس لا قطائع ولا خطّياً، وأن كل ما يبدو لنا من صراعات إيديولوجيّة قد يكون مفيداً، بشرط أن يكون ضمن إطار فكريّ قابل للتطوّر، وليس مجرّد سيطرة إيديولوجية محنّطة على إيديولوجية أخرى محنّطة. ولذا، فأنت ترى ضرورة بناء مراجعات في إطار هذه الحركيّة التّاريخيّة، وربّما هذا هو لبّ فكر الحداثة؛ أي النّظر في حركيّة الأفكار وتطوّرها أكثر من مجرّد البحث عن بناء أنموذج للاتّباع.
د. شكري المبخوت: من يستطيع اليوم أن يبني نموذجاً للاتباع؟ لم يعد ذلك ممكناً، لأنّ الأفكار الكبرى في عصرنا تتقلّص، وربّما هذا التقلّص مردّه إلى ما سمّي بزوال السّرديات الكُبرى، قد يكون هذا، ولكن أنا أؤمن بالجانب الذي رفضه ليوتار (Jean-François Lyotard) (1924-1998) وهو يبحث عن لغة العلم وشروط ما بعد الحداثة، وهو جانب الخيال، ذاك الذي لا يؤمن به الكثيرون حتى من قالوا به. وأهمّ ما يجسده في عصرنا، بالنسبة إليّ، هو هذه الحكايات الفرديّة. ولذلك، أعتقد أنّنا سنفهم واقعنا وذواتنا وأنفسنا ورغباتنا وأحلامنا، ونسجل أوجاعنا ومآسينا وتمزقاتنا بفضل السّرد. يبقى السّرد هو الإطار الأقدر على الكشف عن معنى في هذه الفوضى وهذا الرّكام، ثم إنّ الحكايات الوطنيّة الكبرى قد انتهت، خذ لك مثلاً تونس، فالثّورة لم تستطع أن تصنع سرديّة ولو صغيرةً، رغم تلك البداية الممكنة للحكاية التّونسية الجميلة التي أسميناها الثورة مع البوعزيزي، وكانت بداية حكاية، وقد حرق البوعزيزي نفسه احتجاجاً أو غضباً أو كرماً روحيّاً وجسديّاً، قل ما شئتَ، فعلى الذين يصوغون الحكاية أن يجدوا العناصر الدّرامية المناسبة، لكن لم تمض سنة حتى بدأ الهجوم على البوعزيزي في شعارات بذيئة في سيدي بوزيد نفسها، ولقد كُتب في هذا الكثير ولا فائدة من استعادته، لأنّ بعضه فاحشٌ. لكأنّ خنق الأسطورة وهي في المهد من سمات هذه الحداثة الجديدة التي لا تؤمن بالخيال. وفي رأيي إن مرحلة التّفكير والتّأمّل هذه ينبغي أن تتكثّف، وعلاوة على الكتب النّظرية الضّروريّة دائماً، علينا أن نكثّف حكاية أوجاعنا باعتبارنا أفراداً لكي نفهم أنفسنا باعتبارنا مجموعةً.
د. نادر الحمامي: سأفتح مجالا كبيراً لو قلت إنّني أعرف أن كلمة أوجاع هذه التي قلتها مهمّة جدّاً، وأذكر أنّك تحدّثتَ عنها في مناسبات سابقة، هذه الأوجاع التي قلت إنّها عصيّة على ما يقال في التّحليل النّفسي، وإنّها لا يمكن إلاّ أن تُسرد بطريقة الخيال الرّوائي أو القصصي، وهذا ما يعطي الخيال الأدبيّ والفنيّ عموماً قيمته، وقد تحدّثتَ عن ذلك الخيال الذي انبثق سنة 2011 ولكن سرعان ما خفت بعد ذلك. فالخيال هو القادح على التّقدّم والتّطوّر، وأذكر في ذلك كلمة لتشومسكي (Noam Chomsky) (1928) يتنبّأ فيها بسقوط القوّة الأمريكيّة، لأنّه يرى أن الأمريكيّين توقّفوا عن الحلم، والحلم مرتبط بالخيال، لذلك فلن نستطيع فهم أوجاعنا إلا عن طريق هذا الخيال.
د. شكري المبخوت: طبعاً، هناك هذه الأوجاع ولكن هناك أيضا مصادر الاستمتاع، لأنّني لا أحب النظرة الكارثية كما لا أحب النظرة الأحادية، والنظرة الكارثية وليدة النظرة الأحادية. فنحن في تونس أوجاعنا متعدّدة ومتنوّعة إلى حدّ أنّا لا يمكن أن نصنفها، لأنّها مرتبطة بما نسمّيه نحن في تونس ''الجواجي'' (أعماق الرّوح) ولا أجد عبارة فصيحة تترجمها في اللغة العربية، ولا بدّ لنا أن نلج تلك الأعماق الذّاتيّة، لنغرف منها ونكشف عمّا فيها. وفي الآن نفسه يوجد أسلوب مختلف لدى الشّباب في التّفكير والمتعة والتّعامل مع الجسد وفي النّظر إلى الحياة، وعلينا أن نستكشف ذلك لديه دون منطق الإدانة والتّحقير. فنحن أمام جيل جديد يختلف عن جيلنا، وعلينا أن نرى هذا الشوق إلى الحرّية لدى ما يعتمل في المجتمع من تيّارات عميقة قد تكون خفيّة، ولكن هذه الحكاية التي بدأنا بها لقاءنا حول سردية تونس الجميلة، ينبغي أن تكون سرديّة متنوّعة كالفسيفساء التّونسيّة، وأن تسير على خطّين؛ خط الوجع وخط البهجة. ولعلّ ذلك سرّ من أسرار هذا البلد الذي يجد نفسه أحياناً أقرب إلى "دولتشي فيتا" الإيطالية (La dolce vita) في بعض أوهامنا عن أنفسنا، وأحياناً أخرى نجده في بعض السّياقات أقرب إلى التزمّت والنّظرة المناهضة للحياة. ولعلّ هذا الجدل جزء من الخصوصيّة التّونسيّة. لذلك، فأمامنا ورشة كبيرة للغوص في أعماق التّونسي من خلال حياته اليوميّة، ودعك من النّظريات والنّماذج والمفاهيم الجامعة على أهمّيتها، فثمّة حياة تنبض يوميّاً ولا تستطيع تلك النّظريات والمفاهيم القبض عليها، ولا يستطيع ذلك إلا السّرد.
د. نادر الحمامي: نعم، نحن أمام هذه الورشة المفتوحة بين البهجة والأوجاع، وعلينا ألاّ نسقط لا في أوهام الدولتشي فيتا ولا في العدميّة المقابلة، التي لم تصفها. وأن نكون إزاء ورشة للخيال من أجل إعادة التّفكير في سرديّات أخرى ممكنة، بالإضافة إلى ما نحن بصدد البحث فيه من مفاهيم صارمة وفلسفات وأفكار. هذه الورشة تبقى مفتوحةً معك أستاذ شكري، وفي انتظار أن نفتح ورشات أخرى للعمل والتّفكير، لا يسعني إلاّ أن أشكرك جزيل الشّكر على ما تفضّلت به، وآمل أن يتواصل العمل والبحث والتّفكير معك دوماً.
د. شكري المبخوت: شكراً لكم.