شكري المبخوت: الجزء الأوّل: جدل الأمميّة والخصوصية
فئة : حوارات
الأستاذ الدكتور شكري المبخوت، أستاذ اللغة والأدب العربي بالجامعة التونسيّة وصاحب إسهامات علميّة كثيرة في مجال الدراسات اللغوية والنقد الأدبي والإنتاج الإبداعي والترجمة. من بين أعماله الأكاديمية في مجال اللغة أطروحته لنيل شهادة دكتوراه الدولة: ''عمل النفي وخصائصه الدلالية في العربية'' و"إنشاء النفي" (2006)، و"الاستدلال البلاغي" (2006)، ونظريّة الأعمال اللغويّة" (2008)، ومن أهمّ ترجماته: "الشعرية لتزيفتان تودوروف" (1987). ومن ضمن إسهاماته في النقد الأدبي ثلاثيّته في دراسة السيرة "سيرة الغائب، سيرة الآتي: السيرة الذاتية في كتاب “الأيام” لطه حسين" (1992)، و"الزعيم وظلاله، السيرة الذاتية في تونس" (2016)، و"أحفاد سارق النار، في السيرة الذاتية الفكرية" (2016)، وهذه الثلاثية أهلته لنيل جائزة الملك فيصل لسنة 2018. أمّا إصدارته الإبداعيّة، فتمثّلت في روايتي "الطلياني" التي نال بها جائزة البوكر لسنة 2015، و"باغندا" (2016)، إضافة إلى المجموعة القصصية "السيّدة الرئيسة" (2015). تقلّد منصب عمادة كليّة الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة، ورئاسة جامعة منوبة، وأسس "المنشورات الجامعية بمنوبة"، ويدير "حوليات الجامعة التونسيّة"، وأسّس مجلّة "أكاديميا".
د. نادر الحمامي: نرحب في هذا الحوار المتجدّد من الحوارات التي نجريها مع الأساتذة والباحثين، بالأستاذ شكري المبخوت أستاذ اللّغة بالجامعة التّونسية، ونشكره جزيل الشكر على قبوله الدّعوة لإجراء هذا الحوار، وقد انطلق الأستاذ المبخوت من هذا التخصّص الأكاديمي فبحث فيه وألّف وترجم ودرّس، ولم يمنعه ذلك من أن ينفتح على مجالات أخرى من الكتابة الأدبيّة والنّقديّة والإبداع السّردي، بالإضافة إلى ما تقلّده من مسؤوليات مهمّة، وإشرافه على الكثير من البحوث الأكاديمية، وتشجيعه للنّشر في الأطر الجامعيّة... إلى غير ذلك من المساهمات التي يطول ذكرها والجوائز العالمية العديدة التي نالها، وآخرها جائزة الملك فيصل العالميّة في النّقد. لذلك، يمكن أن أعتبر من خلال ما قرأته لك، أستاذ شكري، وهو قليل بالنّسبة إلى ما كتبتَ، أن تجربتك تنفتح على الحقل الفكري والإبداعي أساساً، وأنّك تقابل ''عمل النّفي ودلالته في العربيّة'' الذي بحثت فيه من خلال أطروحة الدّكتوراه، بنقيض النّفي على الصّعيد الإبداعي، أو ما يمكن أن نسمّيه بـ ''عمل البناء''، إذا ما تمثّلنا غايتك حول بناء سرديّة ما، انطلاقاً ممّا سبق أن عبّرت عنه في أحد حواراتك بقولك، إنّ ما ينقصنا اليوم في تونس وفي هذه المجتمعات التي شهدت تحوّلات سياسيّة واقتصادية بحكم الظرف السّياسي المتقلّب، هو كتابة "سرديّة تونس الجميلة". فهل أعمالك الإبداعية محاولة لكتابة تلك السّرديّة التي تحدّثت عنها، خاصّة أنّك تعتبر الرّواية الجنس الإبداعي الأكثر قدرة على استيعاب ما يعتمل من حراك سياسي واجتماعي في تونس؟
د. شكري المبخوت: صحيح، وهو مدخل مهمّ لأنّني من جيل تربّى على سرديّات أخرى أوسع، تعرف أن أكثر التّيارات الفكريّة كانت تتحدّث عن سرديّة عربيّة وإسلاميّة وأمميّة، وهذه المكوّنات بالنسبة إليّ وإلى أبناء جيلي كانت مكوّنات لا تعترف بما كان يسمّيه الخطاب السّياسي السّائد المتأثّر ببورقيبة "القومية التونسيّة" و"الأمّة التّونسيّة"، وما زلنا إلى اليوم نعاني من هذا الإشكال. وربّما كانت مواقف أبناء جيلي المتأثّرة بالاتّجاهات الأمميّة اليساريّة أو العروبيّة الإسلاميّة نتاج ردة فعل تجاه ذلك الخطاب السّياسي المتكلّس الذي لا يتحدّث إلاّ عن "أمّة تونسية" و"قوميّة تونسيّة"، نراها تُختصر وتجرّد شيئاً فشيئاً في شخص الزّعيم الذي صنع منّا شعباً وأمّةً. لذلك كانت شخصيّة بورقيبة المُبهرة، في الوقت نفسه، منفّرة لنا، لأنّه كان يختصر الذّكاء والألمعيّةَ والبلاد وكل شيء، في تلك الشخصيّة. وكانت له ظلالٌ، فقد ترك الجميع في ظلّه. وبعد ذلك جاء بن علي، وأبقى على النّزعة الفرديّة ذاتها، ولكن بدون كاريزما بورقيبة أو شرعيّته التّاريخيّة؛ فقد كان نسخة رديئة في الحقيقة. وبعد الثّورة عدنا إلى سؤال الخصوصيّة التّونسية في تلك الظّرفيّة المتقلّبة التي سمعنا فيها عن خلافة سادسة، وذلك لا يخلو من دلالة، حتى وإن كان سبق لسان، فهو يعبّر في تقديري عمّا كنت أتحدّث عنه من نزعات فوق وطنيّة ومناهضة للدّولة الوطنيّة من حيث تشعر أو لا تشعر. لقد كانت عودتنا إلى ذلك السّؤال، عودة إلى قضيّة كبرى في تونس، هي قضيّة الهويّة؛ فسؤال "من نحن؟" يقول حوله كثيرون، إنّه سؤال ثقافي لا يهم الشّعب، وهذا غير صحيح، فهو سؤال ثقافي وجوهري، لأنّ الإجابة عنه تحدّد الانعكاسات الأخرى؛ فأن نقول إنّنا أمّة تونسيّة فهذا لم نقله نحن، بل إنّ فكرة "الأمّة التّونسيّة" نجدها لدى الطّاهر الحدّاد (1899-1935) قبل بورقيبة...
د. نادر الحمامي: وأنت تعتبر أن الطّاهر الحدّاد هو أكبر مفكّر تقريبا في الفترة الحديثة في تونس.
د. شكري المبخوت: نعم، وليس في تونس فقط، بل في العالم العربي، ويمكن أن أقدّم فكرة بسيطة في هذا. المهم أنّنا حين عدنا إلى مسألة الخُصوصية التّونسيّة، أو ما سمّي أحياناً استثناءً تونسيّاً، كان ذلك في خضمّ الصّراع من أجل تونس؛ فالثّورة رفعت الغطاء عن مرجل يغلي، حيث شهدنا عودة النّزعات البربريّة ونزعات الأقلّيات المختلفة؛ علاوة على عودة فكرة الخلافة السّادسة مع التوجّه الإسلامي. وكان الظّرف الإقليميّ آنذاك، والتّركيبة الأيديولوجية الأولى، يسمحان بظهور هذا الصّراع. لذلك كان سؤال السّردية التّونسيّة على معنى أن نكتب قصّتنا، لأنّني أعتبر في جانب ما، لا أخفيه، أنّ الأبعاد العروبيّة أو الإسلاميّة أو الأمميّة أو الإنسانيّة أو الكونيّة... كلّها موجودة فينا، وعلينا ألاّ نجعلها في تعارض مطلق مع هذه الحكاية أو القصّة التّونسية، فهي بعض من المادّة التي تكوّنها.
د. نادر الحمامي: إذن، ينبغي الإيمان بالقيم الكونيّة، لكن مع وجوب تنزيلها ضمن خصوصيّات معيّنة، بما يستتبع ذلك من استحضار للصّراع الدّائم بين ما هو كونيّ وما هو خصوصيّ. ولعلّنا نلمس هذه الفكرة في رواية ''الطّلياني''، انطلاقا من ملامح الشّخصيّتين الأساسيّتين عبد النّاصر وزينة، وقد كانت زينة مثال الشّخصيّة المتمرّدة، وصورة عن المثقّف الذي يسعى إلى خلخلة البنى الاجتماعيّة، ويبحث عن طوباويات أخرى مغايرة. فهل نفهم من ذلك أنّك تضمّن الحكاية نقداً لمبدأ تبنّي القيم الكونيّة دون اعتبار الخصوصيّة الثقافية والاجتماعية؟
د. شكري المبخوت: هذه معضلة أيضاً، فالتوجّه الكونيّ العالميّ إنّما هو توجّه نحو مزيد من التّنميط، وأعتقد أنّنا لا يجب أن نضع الخصوصيّات الثقافيّة في تعارض حاد مع المبادئ والقيم الكونية، خصوصاً في ما يتّصل بالمنظومة الحقوقيّة، ونحن نعرف أنّ الحضارة الغربيّة هي المهيمنة على العالم اليوم، سواء شئنا ذلك أم أبينا، فثمّة تراجع للرّسالة الكبرى للإسلام في الكون، وأقصد الرّسالة في بعدها الإنساني وليس في تفاصيلها؛ ويبدو أن تقدّم الرسالة الكونية كان متوازيا مع تراجع الرّسالة الإسلامية أو ما يمكن أن نعبّر عنه بالمشروع الإنساني الإسلامي، ما طرح تناقضات عديدة، وجب علينا إيجاد حلول لها. فلا يمكن مثلاً، أن نبرّر انعدام المساواة بين المرأة والرّجل بحيل فقهيّة، أو بالتّمسّك بأنماط تفكير تاريخيّة ومتحجّرة. هذا في رأيي، مسار ستبلغه جميع البلدان الإسلاميّة بنوع من الحتميّة التّاريخية، وتاريخ الأفكار يؤكّد هذا وليس أنا. فلا يمكنك أن تكون ليبراليّا في الاقتصاد مندمجاً في سياق العولمة بصيغها الوحشيّة أحياناً، وفي الآن نفسه، تبقى هكذا معزولاً ثقافياً في ركنك، مطمئنّا إلى مسلّماتك. صحيح أنّنا في وضعية تبدو كارثيةً، لكنّ ذلك ليس حتميّة قدريّة، فلا يجب أن ننظر إلى النصف الفارغ من الكأس فحسب، بل علينا أن ننظر أيضاً إلى النّصف المملوء منه، فهناك تحوّلات عميقة في مجال النّمو الدّيمغرافي والتّعليم والصحّة والتّكنولوجيا بما تحمله وراءها من إمكانيّات... هذا كلّه لا يمكن أن يُبقي واقعنا وواقع العالم العربي والإسلامي والعالم الثالث عموماً، على ما كان عليه، فهذا مستحيل. ولكن ثمّة جهد نظريّ ينبغي أن يُبذل حتى نستطيع أن نروي واقعنا بتمّزقاته، لا أن نروي أوهامنا فحسب.
وأعود بك إلى زينة وعبد النّاصر؛ فهما في سلوكيهما وفي مساريهما اللذين يلتقيان ويتباعدان، محاولة لرسم تمزّقات هذا الإنسان وتردّداته، وعلينا أن نحفر عميقاً في مثل هذه الحالات الفرديّة حتّى نفهم أن الحديث عن الفضائل، مطلقاً، لم يعد نافعاً، ولا يعني ذلك أن نتخلّى عن الفضائل، ولكن أن ننظر إلى الإنسان في حركيّته في الزمان والمكان؛ أي في تاريخيّته. وسيكون ذلك بمثابة المرايا التي يصنعها الكتّاب والسّاردون والروائيّون، وأنا أرى فيها وجوهنا. فليس من باب الصّدفة أن الشّباب العربي اليوم، بتوجّهاته المختلفة، يقبل على مطالعة الرّواية والكتابات الفلسفية، ولعلّ مأتى ذلك أن السّرد يقدّم له صورة عن واقعه أمام ضعف السوسيولوجيا العربيّة، فالرّواية تضطلع بهذه المهمّة إلى جانب مهمّة المرافقة النّفسيّة بنوع من التّطهير؛ لأن هذا الشّباب الذي يعيش التردّدات والتّمزقات والمخازي والآثام الفرديّة، يجد أن الرّواية تطهّره، ففي الوقت الذي يعتقد فيه أنّه وحده من يُذنب، تأتي الرّواية لتقول له إنّ لك أشباهاً ونظائر في هذا. كما تأتي الفلسفة لتجيبه عن تساؤلاته حول معنى هذا الوجود الكارثي الذي يشعر به، وتقدّم له المعنى الكامن وراء ذلك، فتتيح له أن يفكّر وأن تكون له أدوات ليفهم ذاته الفرديّة وذاته الجماعيّة.
د. نادر الحمامي: أنت تتحدث الآن وأنا أفكر في هاتين الشخصيتين، باعتبارهما أنموذجين فرديّين، يعبّران عن سيرة جيل بداية الثّمانينيات، تلك الفترة التي شهدت مخاضاً ناجما عن نهاية السّبعينيات بكل تحوّلاتها السّياسية الكبرى التي أثرت في المجتمعات العربيّة، وأنا أتحدّث هنا أساساً عمّا سمّي بالثورة الإيرانية، التي كان لها تأثير في تحوّل الإسلام الّسياسي من مرحلة مهادنة السلطة إلى مرحلة الإسلام السّياسي الاحتجاجي، بناءً على ما قدّمته الثّورة الإيرانية من أنموذج نجاح في الوصول إلى الحكم. ونحن نجد أصداء هذه الأيديولوجيات التي كانت تتصارع في مرحلة الثمانينيات في الجيل الذي تحدثت عنه في الطّلياني. فهل يمكن المقايسة بين ذلك الجيل وهذا الجيل الذي يعيش التحوّل الرّاهن منذ نهاية 2010، خاصّة أنّ فترة ثلاثين سنة التي تفصل بين الجيلين لا تعدّ فاصلاً كبيراً في التّاريخ، ولكنّها شهدت تحوّلات كبرى قد لا يكون لها مثال في فترات الثّورات التّكنولوجيّة والعلميّة السّابقة؟
د. شكري المبخوت: الثّابت في هذه المقارنة أنّ التّاريخ ليس خطّيّاً، ولكنّه أيضاً لا يقوم على قطائع. ولنأخذ الفترة اللاّحقة عن ذلك؛ أي أواسط الثّمانينيات وبداية التّسعينيات فقد كانت فترة تحوّلات كبرى، ودعك من الثورة الإيرانية التي سرعان ما غاصت في حرب قاتلة مع العراق، فالتّأثير الأكبر في نظري هو سقوط جدار برلين، وهو تحوّلٌ لو ندري عظيمٌ، لأنّه زعزع الأيديولوجيات وفكّك أنظمة شمولية كثيرة، بل لقد بلبل عدّة أفكار كانت تبدو أقرب إلى المسلّمات، كذلك التّحوّلات في الصّين باعتبارها قوّة عظمى، ثمّ الثّورات في أوروبا الشّرقية؛ فما عشناه بين 2010 و2011 كان صدى لما وقع في تلك الفترة، خصوصاً في أوروبّا الشّرقية، وأدّى إلى تفكيك الاتّحاد السّوفياتي وتشيكوسلوفاكيا؛ والأرجح أن هناك دورات للتّحوّلات، سمّها ثوريّة أو غير ثوريّة؛ فالتّسميات مختلفة، لكنّها دورات تاريخيّة. وقد يتساءل البعض حول بقاء الثّورة الفرنسيّة متواصلة لأكثر من مئة عام، فهذا طبيعي لأنّ الثّورات ليس فيها قوانين مضبوطة تحدّد مسارها، وأنا شخصيّا لا أرى فصلاً بين ما حصل في تونس، أو ما حصل في العديد من دول العالم العربي، من ثورات أو ثورات مجهضة، أو محاولات تغيير المسارات السّياسية والاجتماعيّة الموجودة، وبين ما وقع في أوروبّا الشّرقية، فرغم بعد المسافة لا يجب أن ننسى أنّنا في عالم واحد. لذلك، أعتقد أن المقياس الذي نحتاج إليه لفهم ما وقع يكمن في سؤال الحرّية؛ أي هل يضيف ما حدث إلى الحرّية الإنسانيّة أم لا؟ وهل ييسّر تطوير حياة الناس أم لا؟ هذا هو السؤال المحوري، لأنّ المهمّ من الثّورات ليس أن يتغيّر نظام سياسيّ، بل أن تتغيّر حياة النّاس. وفي تقديري، أن ما حدث قد دفع باتجاه حرّية أوسع عبر شبكات التّواصل والمواقع التي تتشكّل فيها قوى جديدة ورأيا عاما مختلفا، رغم أنّ إمكانيّات الاختراق لهذه الحرّية كثيرة أيضاً. فالمعركة على المواقع الإلكترونيّة تبدو افتراضيّة ظاهريّاً، ولكنّ انعكاساتها الواقعيّة كبيرة جدّا؛ وفي تقديري أنّها من الأدوات العظيمة أمام مزيد من الحرّية، ولكن أيضاً، مزيد من التّلاعب بالعقول، لأنّ الحرّية ليست أحاديّة الاستعمال. لذلك فما نلاحظه، سواء في عالمنا العربي الإسلامي أو في غيره، هو تعاظم اللّيبراليّة الوحشيّة، من خلال هيمنة أكبر لهيئات امبرياليّة، بالمعنى الحرفي البسيط الأوّلي؛ خذ لك مثلاً صندوق النّقد الدّولي، فهو أداة لقهر الدّول والشّعوب، وفرض إملاءات عليها، وصياغة الاقتصاد العالمي بطريقة ليست في صالحها. وأنت ترى أن بلداناً كثيرةً كانت تحقّق نموّا اقتصاديّا عاديّاً بنقطتين أحياناً، فأصبحت بعيدة عن تحقيق ذلك بعد تطبيق إملاءات صندوق النّقد الدّولي؛ فكأنّ هذا الصّندوق إذا دخل قرية أفسدها. وعلى الإنسانيّة أن تتساءل أمام هذه المفارقة التي توفّر كثيراً من الحرّية والتّطوّر في العقليّات، وكثيراً من التطوّر في حاجيّات النّاس المادّية والنّفسيّة، وفي الوقت نفسه مزيداً من التّفقير ومن مركزة رأس المال لدى أقلّية، مع عودة إلى صيغ من الهيمنة الاقتصاديّة. إنّ هذا كلّه يدعو فعلاً إلى كثير من الحيرة. وأعود ههنا إلى ما يحدث في تونس في إطار هذه المقارنة بين فترة الثّمانينيات والفترة الحاليّة، فلا ننسى أنّ الإملاءات الأولى الواضحة من صندوق النّقد الدّولي بدأت منذ سنة 1985، وانظر الآن ما تعيشه الحكومات المتعاقبة من شدّ وجذب، في ما يتعلّق مثلاً بإملاءات صندوق النّقد الدّولي في اتّجاه تخفيض الدّعم عن المواد الاستهلاكيّة الأساسيّة، وفي اتّجاه خصخصة المؤسّسات العموميّة... فهذه الوضعيّة هي المفارقة الكبرى التي تزعجني شخصيّا، وهي تتطلّب منّا مزيداً من التّأمّل.
د. نادر الحمامي: إذن نحن في سياق مفارقة بين المطالبة بالحرّية، وهي من مقوّمات اللّيبرالية، ورفض اللّيبرالية المتوحّشة التي تزيد من تفقير الشّعوب وإخضاعها للإملاءات الاقتصاديّة. ولكن في إطار هذا النّوع من المراجعة الذي نجد صداه في رواية الطّلياني، ألا تلاحظ أن الخطاب الذي يعارض اللّيبرالية في المستوى الاقتصادي، ويساندها في المستوى الفكري والثّقافي والاجتماعي، وأقصد هنا الخطاب اليساري تحديداً، ربّما لم ينجح في إنتاج خطاب مقنع، حتى نصل إلى نوع من الحرّية والمساواة في مستوى القيم الكونيّة ومستوى الحداثة، مع أقلّ ما يمكن من الهيمنة الاقتصاديّة اللّيبرالية؟
د. شكري المبخوت: لا أعتقد أن الأمر يُنظر إليه من خلال هذه النّخبة القليلة جدّاً التي تسمّى اليسار، فقضيّة الحرّية إما أن تكون قضيّة مشتركةً ومطلباً مشتركاً يشمل الجميع من يسار وعروبيّين وليبراليّين وإسلاميّين، وإلاّ فإنّه مشروع فاشل. وفي تقديري أنّ الجانب المهمّ في اليسار هو هذه القدرة على إيجاد سلطة مضادّة ونشر أفكار جديدة. وعلينا أن نتساءل؛ هل يقوم اليسار بدوره في تحقيق التّوازن من خلال السّلطة المضادّة، وهل ينشر أو يبتدع أفكاراً جديدة أم لا؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يطرح. والجانب الآخر المركزي هو جانب يتّصل بالبعد الاقتصادي؛ فقضيّة العولمة هي قضية اقتصاديّة أساساً، ودعنا من محاولة تعميقها في التّاريخ والإمبراطوريات الكُبرى، فهي قضيّة اقتصاديّة في مستوى يتجاوز تونس، كما يتجاوز كل بلد على حدة، فميزانيات بعض المؤسّسات الاقتصاديّة العالميّة تفوق ميزانيّة القارّة الإفريقيّة مجتمعةً، فما معنى الحديث حينئذ عن يسار أو يمين. لذلك علينا ألاّ نخلط المستويات، فصحيح أنّ للثّقافة دورا، وهو دور مهمّ وفاعل في سياق تطوير العقليّات، كما أنّ للحرّيات دورا، ولكنّ الدّول نفسها أصبحت موضع شكّ، في ظل ظهور شركات عالميّة أقوى من الدّول.
د. نادر الحمامي: ربّما يطرح هذا السّياق مسألة نهاية الدّولة بشكلها القديم. ولعلّ هذا يتطلّب إعادة نظر في السّرديّات الكبرى، مثل الحرّية والمساواة والدّيمقراطية والحداثة... وغيرها من المفاهيم التي بنى عليها الفكر الحداثي والإنساني، منذ سنوات طويلة، قيمه الكبرى. وربّما علينا اليوم تحيين النّظر إليها على غير الأسس الأيديولوجية التي توصف بأنّها محنّطة أو نمطيّة. لذلك، فالمراجعات لهذه السّرديّات الكُبرى هي ما يمكن أن نبني عليه الجزء الثّاني من حوارنا مع الأستاذ شكري المبخوت الذي نجدّد له شكرنا.