شيء من التاريخ أشكال الإكراه الكليروسي
فئة : ترجمات
شيء من التاريخ[1]
أشكال الإكراه الكليروسي
بالنظر إلى المبادئ العامّة، التي تتعلّق بالحقّ والعدالة في تنظيم المجتمعات الإنسانيّة، يبدو كلّ تاريخ عيني متميّزاً. ولكن من الممكن قراءته بإبراز ما له دلالة فيه. محاكم التفتيش، مذبحة سان برتيلمي، الإكراه على الردّة، وضع البحث العلمي تحت الوصاية وإدانة التفكير النقدي، اضطهاد المفكّرين الأحرار أو أتباع الأديان الخاضعة، تلك وقائع حدّدت تاريخ فرنسا والعالم. إنّ جرداً شاملاً يبدو مستحيلاً هنا. وليس له من معنى إلّا توفير نوع من البرهان بالخلف على العلمانيّة. ما الذي يمكن الإفلات منه بفضل العَلمانيّة؟ التاريخ يقدّم الإجابة. وكذلك الحاضر من خلال الحروب الناتجة عن التعصّب الديني على خلفيّة المظالم المميزة للعلاقات الدوليّة أو الاقتصاديّة التي تقلل من شأن العلم والتقنية من خلال استعمالها لهما.
يمكن أن تُستذكر الأشكال الأساسيّة لسلطة الإكراه، لا الخاصّة بالأديان، بل بالكليروسيّات (cléricalismes) التي تُلهمها تلك الأديان عندما تقام باسمها هيمنة السلطة الزمنيّة. يمكن أن تُبيّن مثل هذه النتائج تحوّل السلطة الروحيّة للأديان إلى سلطة زمنيّة للهيمنة متعدّدة الأشكال؛ أديان هي، علاوة على ذلك، أولى ضحايا ذلك التحوّل؛ فهي تفسد بُعدها الروحي عندما تكون مُهيمِنة، وعندما تكون خاضعة للهيمنة، فإنّها تتعرّض إلى التمييز الناتج عن وجود معتقد رسمي. ويجب أن نلاحظ أنّه عندما يكون دين ما خاضعاً للهيمنة يكون أتباعه قابلين بالعلمنة. في حين أنّه عندما يكون دين ما مُهيْمِناً من خلال السلطات العموميّة النافذة قليلاً أو كثيراً، فإنّ أتباعه يرفضون العلمانيّة؛ وذلك باسم «الهويّة الثقافيّة» أو التراث القومي أو باسمهما معاً، كما هو الحال في إسبانيا اليوم، حيث بقيت الاتفاقية التي وضعها فرانكو سنة (1953) سارية المفعول بصفة جزئية. ثمّة ما يدعو إلى التفكير في قلب المواقف هذا (...)، لقد قبل البروتستانتيّون الفرنسيّون بقوانين الفصل اللائكيّة التي تمّ تبنّيها بين (1880) و(1905)، وبقي بروتستانتيّو شمال أوروبّا معادين لكلّ فصل من شأنه أن يحرم الكنائس اللوثريّة التابعة للدولة من امتيازاتها. أمّا الكاثوليك، فهم علمانيّون في شمال أوروبّا، ومناهضون للعلمانيّة في جنوبها.
دون أن ننسى أنّ الصراعات العقائديّة ليست، في أغلب الأحيان، إلا استبدالاً للصراعات الاجتماعيّة أو السياسيّة، يجب محاولة فهم ما هو المنطق الذي يجعل الانحرافات المذكورة ممكناً. إنّ التذكير التاريخي، في ما يأتي، يستدعي تفكيراً في المصادر اللاهوتيّة وفي نوع التأويل الذي جعل منها ضماناً للانحراف الإكليروسي (الكهنوتي).
على سبيل المثال، وقع في البداية اضطهاد المسيحيّة، ولمّا صارت دين الإمبراطوريّة بقرار من تِيودوز (Théodose) (عام 380) تولّدت عنها بعد أن تمّت مأسستها سلطات فرضت مباشرة منع الوثنيّة (عام 392). إنّ تحوّل المضطَهَد إلى مضطهِد هو ما سيتأكّد ويتفاقم عندما تصبح المسيحيّة الدين الرسمي لمَلَكيات النظام القديم. لقد تصادمت المذاهب المسيحيّة عندما دفعتها الرغبة في السلطة الزمنيّة إلى التنافس في ما بينها: في فرنسا اضطهد الكاثوليك البروتستانت، واضطُهدوا بصورة أقلّ في ألمانيا وإنجلترا. لقد اتخذ القهر الإكليروسي أشكالاً مختلفة: فرض شعائر رسميّة واضطهاد شعائر أخرى، مراقبة تأويل الإيمان من خلال مفاهيم الأرثوذكسيّة (المذهب الصحيح) والهرطقة، الرقابة الممارسة على الأعمال العلميّة والفنيّة والفلسفيّة، وضع مؤسّسات التعليم والتربية، من بين أخرى، تحت الوصاية. لقد كانت مجازر الحروب الصليبيّة والدينيّة، والتعذيب بواسطة المحارق، التي استعملت خلال فترة محاكم التفتيش، والإعدام بواسطة الحرق، والتشهير بالكتب المشبوهة، والإدانة البابويّة لحقوق الإنسان (لائحة الأضاليل Syllabus التي أصدرها البابا بيوس التاسع Pie IX عام 1864) وحتى الالتحام بين الكنيسة والفاشيّة، كما كان الحال في إسبانيا فرانكو أو كرواتيا النازيّة، علامات بارزة على ضلالات عقائد تحوّلت إلى سلطات للهيمنة.
تُعد جرائم الأصوليّة المتطرّفة في الجزائر وأفغانستان، والصراعات المذهبيّة التي تظهر بصورة دوريّة، كما هو الأمر اليوم في الهند أو أيرلندا الشماليّة، صدى لذلك التاريخ التراجيدي، حيث تمّ تشويه «ديانات الكتاب» الثلاث الكبرى. اندهش كانط، الفيلسوف المسيحي، من الافتراق بين رسالة المسيح المتمثلة في المحبّة، والاضطهاد الذي حصل باسمها: «منذ أن [...] وصلت المسيحيّة إلى الجمهور العريض، فإنّ تاريخها، فيما يتعلّق بالمفعول المفيد الذي يمكن أن ينتظره المرء من دين أخلاقي، لا يمكن أن يمثل بالنسبة إليها مصدراً للنصيحة[...][2]» (*).
تطوّر الإكراه الممارَس على الوعي وعلى أنشطة وأعمال الفكر الإنساني، التي يمكن أن تتضمّن بُعداً تحرّريّاً، وأن تقود إلى طرح الإشكاليّات بخصوص المذاهب المرجعيّة. لقد وضعت دلالة (سيمونطيقا) كاملة خاصّة بالإقصاء تجرّم من لا يعتقد أو من يعتقد بصورة مختلفة. إنّ العبارات هي تقريباً دائماً سلبيّة، كما لو أنّ الاعتقاد النمطي يمثّل مقياس الإنساني: الزنديق، الخائن، الكافر، المرتدّ، الجاحد، الهرطوقي، غير المؤمن، ليسوا معيّنين، بما هم كذلك، إلّا بالنظر إلى أرثوذكسيّة مُثبّتة شرعاً من قِبَل المؤتَمَنين الرسميين على المعنى. أمّا الملحدون، فإنّهم معرّفون سلبيّاً بالحرمان، وليس إيجابيّاً باستحضار قناعاتهم الفلسفيّة التي يمكن هي، أيضاً، أن تؤسّس لإيتيقا ولمَدنيّة تماماً مثل المعتقدات من النوع الديني.
ثمّة مؤسّستان تبادلتا في النظام الزمني تلك الإدانة متعدّدة الأشكال:
1) كان لمحاكم التفتيش (أحدثت عام 1199 من قبل البابا إنّوسنت الثالث Innocent III لمحاربة «الهرطقة» المانويّة (*)، وتمّ تنظيمها كمحكمة كَنسيّة حقيقيّة عام 1229) سلطة فرض العقوبات الجسديّة (تعذيب خلال الاستنطاق، الجلد، السجن، عقوبات متنوّعة، الحرق... إلخ). وكذلك العقوبات الأخلاقيّة (الجحود، الردّة المفروضة، نقد الذات علناً، حمل علامات مخلّة بالشرف... إلخ). استعملت محاكم التفتيش ضدّ المؤمنين الذي يؤوّلون الإيمان بطريقة مختلفة (أي «الهراطقة»)، أو ضدّ أتباع عقيدة أخرى (اليهود والمسلمين في إسبانيا، البروتستانت في إطار الإصلاح المضاد ابتداء من 1542). أدانت تلك المحاكم عدداً كبيراً من المفكّرين. وتنفيذاً لحكمها أُحرق الإيطالي جيوردانو برونو (Giordano Bruno) حيّاً عام (1600). لقد كانت تهمته الدفاع عن أطروحة عدم تناهي الكون، ومن ثَمَّ انعدام مركزه. عام (1632) أُجبِر غاليلي على التصريح بخطأ أفكاره تجنّباً للمصير نفسه، وقد أنكر أطروحة حركة الأرض، وهو جاثٍ على ركبتيه. «ومع ذلك فإنّها تدور...»، ذلك ما قاله على لسان برتولد برشت (Bertolt Brecht). في إطار تناوله موضوع الكتاب الأسود للكليروسيّة (سلطة الإكليروس)عام (1850) قدّر فكتور هوغو (Victor Hugo) عدد ضحايا محاكم التفتيش بالملايين. أمّا ريمون لول (Raymond Lulle)، مفكّر النهضة، فقد قدّم أولى صياغات «نظريّة السيْفَين» اللذين استعملتهما الكنيسة لمعاقبة «غير المؤمنين» أو «الكفار»: السيف الزمني الذي يخترق الأجساد، والسيف الروحي الذي يلعن الأرواح. وقد مثّلت محارق التفتيش تطبيقاً حرفيّاً لنهاية قول المسيح، الذي يدعو إلى جمع نبات الزؤان السيّئ بعد الجني وحرقه.
2) هناك ابتكار آخر أدّت إليه الظلاميّة الكليروسيّة (الكهنوتيّة) هو «دليل الكتب المحرّمة» (Index librorum prohibitorum) الصادر عام (1564) عن مجمع ترانت (le concile de Trente) الذي لم يلغَ إلّا عام (1964). ومن بين الكتّاب الذين حرّمت كتبهم: دانتي (Dante)، أبيلار (Abélard)، ديكارت (Descartes)، كالفن (Calvin)، ديدرو (Diderot)، بايل (Bayle)، بيكون (Bacon)، إرازموس (Erasmus)،غاليلي (Galillée)، لافونتان (La Fontaine)،لامارتين (Lamartine)، كانط (Kant)، مونتانيو (Montaigne)، مالبرانش (Malebranche)، لامونيه (Lammennais)، مونتسكيو (Montesquieu)، باسكال (Pascal)، اسبينوزا (Spinoza)، فولتير (voltaire)، روسو (Rousseau)، هوغو (Hugo)... إلخ. وفيما يخص هوغو يمكن أن نذكّر بالتوبيخ الذي وجهه للحزب الكليروسي بخصوص قانون فالّو (la loi Falloux) عام (1850): «منذ زمن طويل والوعي الإنساني ينتفض ضدّكم ويسألكم: ماذا تريدون منّي؟ منذ زمن طويل وأنتم تحاولون أن تضعوا كمامة على العقل الإنساني. تريدون أن تكونوا سادة التعليم! وليس هناك شاعر أو كاتب أو فيلسوف أو مفكّر تقبلون به! أنتم ترفضون كلّ ما تمّت كتابته، ما تمّ إيجاده، والحلم به، واستنتاجه، وتخيّله، وابتكاره من قبل العباقرة. وترفضون كذلك كنز الحضارة وإرث الأجيال القديم والتراث المشترك بين العقول. لو كان الدماغ الإنساني، هنا أمام عيونكم وفي متناوَلكم، مفتوحاً كصفحة كتاب، لمحوتموه![...]»[3].
النموذج الثيوقراطي
تُماهي الثيوقراطيّة (الحكومة الدينيّة)، وهي حالة قصوى للالتحام بين الديني والسياسي، بين مجالات السلطة الروحيّة والسلطة الزمنيّة. وقد أخذت شكلين مختلفين. يقترن «حكم الله» في الشكل الاستبدادي للإمبراطوريّة، مفهوماً هنا بالمعنى الأصلي لميدان مخصّص لأمر مطلَق (من اللّاتينيّة imperare أي أمَر)، بالتباس مزدوج: الإمبراطور مؤلّه وإمبراطوريته لها خاصيّة المِلْكيّة المباشرة، ولا يمكن للقوانين الأساسيّة أو لقوّة روحيّة متميزة عن السلطة الزمنيّة أن تلطّف من نفوذه. إنّ العبوديّة تامّة، وليس فيها للدين من موضوع آخر إلّا الإمبراطور نفسه، الذي تُعد أعماله، مهما كانت، ذات قداسة أو مقدّسة؛ إنّها صادرة بالفعل عن سلطة زمنيّة تضمن قداستها.
وأمّا الشكل الثيوقراطي لقانون إلهي تكون له قيمة القانون السياسي، فهو أمر آخر: إذا لم توجد سلطة هيمنة مشخَّصَة، فإنّ تنظيم السلوك يَفتَرض استبطاناً للمعايير الدينيّة التي يمكنها أن تترجم أو تتطلّب تكييفاً معمّقاً للوعي. ومن هنا ازدواجيّة هذه الحالة، ففيها تكتمل الأخلاقيّة الواقعيّة أو المدنيّة الفعليّة بحسب نمط إيماني، مع أهميّة خطر الانحراف الطقسي. لقد استعمل سبينوزا، بخصوص هذا الموضوع (في الفصل الخامس من «رسالة في السلطات اللّاهوتيّة والسياسيّة» Traité des autorités théologiques et politiques) مثَال قانون موسى، الذي كان ينظّم جمهوريّة العبرانيين (Hébreux) (1300 قبل الميلاد)؛ حيث كانت التقوى سائدة فيها بصورة مثاليّة كأخلاقيّة وكعدالة فعليّة، وذلك بشرط، وفي مقابل الخضوع التام للقانون الإلهي؛ إذ لا تسمح السياسة الثيوقراطيّة بأيّ فحص أو نقاش. يقوّي التمفصل بين السلطة التنفيذيّة لرؤساء القبائل والسلطة الروحيّة للأحبار، الذين يقولون القانون ويؤوّلونه، الرابطة الاجتماعيّة والسياسيّة. إن التنظيم الطقسي لكلّ الحياة اليوميّة يجعل الناس يرزحون تحت نوع من الغُلّ المصعّد بواسطة الخطاب الديني الذي يتحكم بكلّ مبادرة. ولكنّ ثمن ذلك يبدو باهظاً؛ إنّه يتمثل في غياب حريّة الوعي. ونتيجةُ ذلك هي ذوبان الحقّ في الأخلاق، وذوبان الأخلاق في الإيمان الديني الأكثر تبعيّة.
يُعبّر شكلا الثيوقراطيّة المذكوران عن العلاقة التي يمكن أن توجد بين حالتين قصويين: سلطة زمنيّة متحرّرة من كلّ اقتضاء نقدي بحكم كونها تُنتج هي نفسها شكل التديّن الذي يقوّي نفوذها ويجعه مقدساً، وسلطة روحيّة زمنيّة الحكم بالضمائر. في الحالة الأولى يجعل قيصر من نفسه إلهاً، وفي الحالة الثانية، يتمتّع الله بسلطة مسْتبطَنة في الضمائر نفسها وبشُفَعاء (الأحبار) يعوّضون اللجوء إلى القيصر. الحالة الأولى هي التي تتّجه نحوها كلّ انحرافات الإمبراطوريّات الاستبداديّة. والمثال الأبرز على ذلك هو فريديريك الثاني هوهنستوفن (Frédéric II de Hohenstaufen) الذي سمّى نفسه قيصر-المسيح (César-Christ). لقد رأى مونتسكيو، وهو من أنصار الأنظمة المعتدلة القائمة على مبدأ الفصل بين السلطات، في المَلَكيّة المطلقة التي تُسمّى ملَكيّة الحقّ الإلهي (التي تمّ التنظير لها من قبل بوسيي Bossuet في عهد لويس الرابع عشر Louis XIV)، شكلاً للانحراف الاستبدادي. والحالة الثانية، التي رأينا طابعها المزدوج، هي بمعنى ما نموذج للأصوليّة. تشتمل عبارة «كلّ التوراة، لا شيء غير التوراة»، التي استعملت في البداية للإشارة إلى بعض الجماعات البروتستانتيّة، التي دعت إلى العودة إلى الكتاب المقدّس مرجعاً أساسياً، على قراءة إيمانيّة وليست نقديّة للنصّ المقدّس. وهي تجعل منه معياراً غير قابل للاعتراض (عبارة «إنّه قول الإنجيل»)، ثمّ إنّها تدلّ، عند تطبيقها في الفضاء السياسي والقانوني، على تصوّر يرمي إلى أن يجعل من القانون الديني قانوناً سياسيّاً دون اعتبار لمن لا يتقاسمون العقيدة الأصليّة، والذين يتعرّضون، من ثم، إلى العنف. والمثال على ذلك هو التصوّر الإسلامي للشريعة قانوناً ينبغي أن يُفرَض بالقوّة على كلّ الجسم الاجتماعي. ويبدو أنّ هذا التصوّر لا يتطابق مع الإسلام الحقيقي. ثمّة مثال آخر مستمَدّ من التوراة: تقتيل الكفّار عند عودة موسى الذي أمر قبيلة ليفي (la tribu de Lévi) بقتل أولئك الذين ارتدّوا عن دين يهوه (Yahvé) (العهد القديم، سفر الخروج 5، 32).
الله وقيصر، معاً في الضرّاء
منذ اللحظة التي تكون فيها السلطة الزمنيّة السياسيّة والسلطة الروحيّة الدينيّة غير مختلطتين، فإنّ مسألة العلاقات بينهما لا تطرح وفق النمط الكفاحي إلّا بالنظر إلى نوعين من الادّعاءات: التطلّع الإكليروسي (الكهنوتي) للسلطة الدينيّة لأن تكون سلطةً سياسيّةً، وتطلّع السلطة السياسيّة إلى المراقبة التامّة للدين أوللحياة الروحيّة عموماً. لقد ولّد الالتقاء والتقاطع بين هذين النزوعين وضعيّات افتراضيّة في شكل تسوية وتساهل؛ حيث يتمفصل التنافس والتضامن. ومن هنا يتأتّى جدل التواطؤ والصراع الذي يمكن تمثيله بشكل عينيّ.
وهكذا يمثل تقديس الملك تكريساً دينيّاً للسلطة الزمنيّة المشرعَنَة من قِبل السلطة الروحيّة. وبشكل متزامنٍ يُعترف بهذه الأخيرة على أنّها كذلك. إنّ نابليون الذي نصّب نفسه بنفسه لا يزدري، مع ذلك، الأبّهة الطقسيّة للمكان المقدّس. ولقاء هذه الشرعنة يمنح الملك أو الإمبراطور السلطةَ الدينيّة نفوذاً واسعاً أو محدوداً في الحياة العامّة ولكنّه واقعي. يروي غريغوار (Grégoire)، أسقف تور (évêque de Tours)، في أخباره، الأمر الذي رافق تعميد كلوفيس (Clovis): «احْنِ الرأس في تواضعٍ، يا سيكامبر (Sicambre) احرق ما عَبَدته واعبُد ما حَرقته!». إنّ الأمر مُصرّح به بوضوح: يجب على الملك أن يكون الذراع الزمنيّة للكنيسة، فتكون بذلك مزوّدة بسيف جديد.
يكشف النداء الأخير للبابا يوحنا بولس الثاني (Jean-Paul II) عن رسوخ هذا التصوّر الإكليروسي الذي يضحّي باختيار الفرد الحرّ عندما يرى أنّ تعميد ملك يعني تعميد شعبه: «تذكّري يا فرنسا تعميدك!» في هذه العبارة كما في عبارة: (Cujus regio, ejus religio) (الناس على دين ملوكهم)، السيادة الجماعيّة للشعب ملغاة بصورة جذريّة، وكذلك حقّ كلّ واحد في اختيار مذهبه الروحي. ستكون هذه الصياغة المقبولة، في الوقت نفسه، من البروتستانت ومن الكاثوليك حيثما وجدوا في وضع هيمنة، مصدراً لتمييز المعتقدات المهيمَن عليها واضطهاد مُعتنقيها: الهغنوت (huguenots) في فرنسا «البابويون» (papistes) في إنجلترا، اليهود المؤمنون والملحدون في كلّ مكان تقريباً. سيُثبّت لويس الرابع عشر (Louis XIV) مضمون تلك العبارة في مبدأ: «ملك، إيمان، قانون» (Un roi, une foi, une loi).
لقد تسامح مرسوم نانت (1598) (l'édit de Nantes) مع العبادة البروتستانتيّة دون أن يحاكم الكاثوليكيّة ديناً رسمياً. ولكنّ إلغاءه من قبل الملك-الشمس (Roi-Soleil)، بعد أقلّ من قرن، يثبت هشاشة مكانة الحريّة المرهونة بإرادة الأمير، التي بقيت بسبب ذلك ثانويّة. وفي كلّ الحالات، إنّ تحكّم دين مهيمِن بالسلطة الزمنيّة يؤدّي إلى تعدٍّ على الحريّة يتلازم أحياناً مع التعذيب والإعدامات. يوم سان برتيلمي (saint-Barthélemy) (24) آب/أغسطس (1572) في باريس تمّ ذبح ثلاثة آلاف بروتستانتي بأمر من الملك شارل التاسع (Charles IX). دعا لوثر (Luther) إلى إبادة الفلّاحين الرافضين للتعميد (anabaptistes)، وأمّا كالفن (Calvin) فقد ساهم في إحراق الطبيب سرفت (Servet) في سويسرا (1553). أُجبر يهود إسبانيا عام (1492) على الهجرة أو التخلّي عن دينهم. وقد بلغ اضطهاد البروتستانت في فرنسا منتهاهُ مع قضيّة كالاس (Calas) التي دفعت فولتير (Voltaire) إلى كتابة (رسالة في التسامح) (Lettre sur la tolérance). وأمّا اضطهاد الملحدين، فقد تجسّد في استشهاد الفارس دي لابار (Chevalier de La Barre) الذي عُذّب وقُتل لأنّه نسي أن يحسر عن رأسه عند مرور موكب ديني (1762).
يبقى أن يُفهم، في ما وراء الالتحام القاتل بين الدين والسلطة السياسيّة، الاقتضاء الكامن لاستقلاليتهما المتبادَلة. فمن دون هذه الاستقلاليّة ستكون حالة الحرب والجور بين الطوائف أو التمييز الأعمى أمراً لا بدّ منه في أغلب الأحيان. يقود هذا الفهم إلى الموازاة بين تمييزين متحرّكين: الدولة بوصفها أداة هيمنة (قيصر) تختلف بشكل جذري عن الدولة-الجمهوريّة متصوّرة بوصفها إدارة ذاتيّة خاصّة بشعب سيّد (مَاريان). والدين، بوصفه شهادة روحيّة (الإله-الروح) (Dieu-esprit)، يختلف عن الدين المشوّه في الهيمنة الزمنيّة (الإله-السلطة) (Dieu-pouvoir). ولكنّ تلك الأقطاب الأربعة لا توجد أبداً كما هي في صورة أشكال بسيطة وخالصة. من البديهي أنّ الإله-السلطة وقيصر متوافقان ولكن ليس بحسب نفس نمط التوافق بين الإله-الروح ومَاريان. إنّ قيصر، مؤلّهاً نفسه أو معتبراً نفسه ممثلاً لله، والإله-السلطة معتبَراً نفسه قيصر، يتّحدان في الهيمنة ومن أجلها: أن تكون تلك الهيمنة هيمنةَ سلطة زمنيّة مكفولة بمرجعيّة إلهيّة، أو هيمنة مِلّة مفروضة على الضمائر بواسطة القسر، فإنّها تنتمي في الجملة إلى توظيف متَبادَل. ولكنّ ذلك «التبادل» لا يمكن أن يوجد إذا محا السلطة-الروح نهائيّاً؛ لأنّ الدين إذا فقَد كلّ مصداقيّة روحيّة، فإنّه لا يستطيع أن يؤدي الدور الذي يُراد له أن يؤدّيه من خلال تشويهه الزمني.
وبالفعل يُظهر تاريخ العلاقات بين الدين والسياسة التوتّر بين توجّهين متناقضين، بمعنى ما، ولكنّهما متضامنان في العُدّة اللّاهوتيّة-السياسيّة التقليديّة. تضامن متوتر قطعاً. إنّ الشكل الاستبدادي للثيوقراطيّة (*) (قيصر-الإله الذي يستوعب مباشرة الإله-الروح في الإله-السلطة) يمثل حالة قصوى. يسمح الشكل الكلاسيكي لملِك الحقّ الإلهي بالتمييز بين كيانين بل بفصلهما تراتبيّاً، حتى وإن كانت الدرجة الدنيا (السلطة المَلَكيّة) تستمدّ من ضمانتها الإلهيّة مكانة تفصلها عن رعاياها وتجعلها فوق النقد. إذا كان الملك هو «ممثل الله على الأرض»، كما كتب بوسييه (Bossuet) في «السياسة مشتقة من أقوال الكتاب المقدّس» (Politique tirée des propres paroles de l'ècriture sainte) (1679)، فإنّ طبيعته إنساناً تبقى هي هي، وهو ما يميزه، على الرغم من كلّ شيء، عن قيصر-الإله المعصوم. إنّ الوظيفة التي يُفترَض أن يقوم بها لمصلحة رعاياه هي اقتضاء أخلاقي، في نظر الله الذي يقول عنه إنّه يمثله، أكثر ممّا هي إكراه قانوني وسياسي. ولكنّها يجب أن تتلاءم مع الاهتمام بمصداقيّة إيديولوجيّة من شأنه أن يخفف منطق الهيمنة. لئن كانت المصلحة العامّة مضمونة من حيث المبدأ على قاعدة دستور جمهوري، فهي ليست غائبة نهائيّاً عن منطق الهيمنة التقليديّة. ومن حيث هي تابعة لذلك المنطق، فإنّها تقترن به ضمن أصناف هجينة تكون ممثلَة فيها قليلاً أو كثيراً.
يوجد انهمام آخر من النوع نفسه، يتعلق بسياسة الهيمنة والنفوذ الإكليروسي الذي يشرّعها: في تلك السياسة يتمّ الاعتراف بالخير المشترك وبـــ «الإله-الروح»، ولكنّهما يظلّان تابعين ومخفيّين في المُركّب اللّاهوتي-السياسي للتحالف بين القيصر والإله-السلطة. ترفع الدولة الجمهوريّة بتصميم ذلك الحدّ بأن تتأسّس، بشكل متزامن، ديمقراطيّةً متعلّقةً بسيادة الشعب على ذاته ودولةً علمانيّة. إنّها تخلّص الإله-الروح من الإله-السلطة بتخلّصها هي ذاتها من الإله-السلطة، وتبلغ تمامها في نظامها الخاصّ بالسماح للبُعد الروحي للدين بأن يكتمل في نظامه الخاص. يكتشف كلٌّ من مَريانْ والله، بمعنى ما، أنّهما متّفقان على الانشغال باستقلالهما المتبادَل: في النهاية يتخلّص الإله-الروح من الإله-السلطة الذي يداهن قيصر، وهو مدين بذلك إلى انتصار ماريانْ على قيصر.
مسألة المصادر اللّاهوتيّة
هل يجد الاضطهاد الدينيّ مصادره في النصوص التأسيسيّة لديانات الكتاب الثلاث الكبرى؛ أي التوراة والأناجيل والقرآن؟ إنّه سؤال جدير بالطرح، وهو يستدعي قراءة مؤوِّلة ومهتمّة بالتمييز بين الحرف والروح، وأيضاً برصد ما يحدّد توجيه النصوص في اتجاه هذا المعنى أو ذاك. يقترح منهج اسبينوزا المثالي في (رسالة في السلطات اللّاهوتية والسياسيّة) إخضاع مسألة معنى وأهميّة النصوص للعقل (انظر الفصل المعنون «في تأويل الكتاب»). يتعلق الأمر خاصّة بالجمع بين فهم انسجام المجموع، مبدأ تعقّل المعنى الحقيقي لكلّ مقطع، والإحالة على السياق التاريخي، التي كثيراً ما تنير مقصد كتاب النصّ بتوضيح الوظيفة التي يقوم بها بالنظر إلى وضعيّة معطاة. وهكذا يتمّ تجنّب التوظيفات الإيديولوجيّة أو اللّاهوتيّة-السياسيّة المضلِّلة والمطوَّعَة في أفعال قسريّة أو في مشاريع هيمنة. إذا كان التحليل الموجّه بهذه الطريقة يزيل التباس بعض النصوص، في معنى أنّه يمكن التوسل بها لتبرير مواقف متعارضة، فإنّه ينزع، بالنتيجة نفسها، القوة عن عمليّات الشرعنة التي تنتسب إليها.
موضوع شعب الله المختار
يتعلق مثال القراءة التأملية للكتابات المقدّسة الأوّل، فيما يخصّ موضوع العلاقة بين السياسة والدين، بالعهد القديم، ومبحث الشعب المختار ممفصلاً مع مبحث التحالف. بالنسبة إلى اسبينوزا ليس لمبحث الشعب المختار إلّا قيمة تاريخيّة ومن ثم نسبيّة: وليس له، من ثم، أن يبرّر أيّ عمليّة هيمنة أو استحواذ، ولا أن يبرّر قهر شعب آخر. كما أنّ الاستحواذ الأسطوري على أرض لا يسمح بشرعنة الحكم على شعب آخر بالتهجير. وفي المقابل يحتفظ الأمر القائل «أحبّ قريبك ولا تُعامله كما لا تريد أن يُعاملك» قيمة كونيّة بمجرّد أن يفهم كلّ إنسان أساسه بواسطة العقل الطبيعي وحده، شرط ألّا يكون مضطرباً بسبب الضيق الوجودي والأهواء الحزينة التي تصدر عنه. إذا كان يجب فهم القانون الإلهي، بحسب السجل الأخلاقي المتعلّق بحبّ الآخر وتَبِعاته العمليّة، فإنّ ذلك القانون لا يمكن أن يُنسَبَ إلى شعب بعينه أو إلى مكان محدّد. يؤدّي هذا «الانفصال» إلى قضيّة «الانتخاب الكوني»: «مملكة الرّب» موعودة من حيث المبدأ لكلّ الشعوب، وعمليّاً لكلّ البشر الذين يعملون بحسب قانون الحبّ؛ «لا وجود ليهودي أو إغريقي» (بولس، رسالة إلى الرومان 12، 10).
يبقى أنّه إذا كان ثمّة شعب مضطهد بسبب دينه، حيث لا يستطيع أن يحيا في واقع جغرافي وتاريخي بطريقة آمنة، فعليه ألّا ييأس من رحمة ربّه. في هذا السياق يُطرح موضوع «الأرض الموعودة» التوراتي، المُسمّاة «أرض الرّب» (Yahvé) (إشعيا 14، 2). ولكنّ فكرة منح الحقّ في أرضٍ لتمكين معتقد معيّن من التعبير عن نفسه بحريّة ليس لها معنى إلّا بالنظر الى اضطهاد سابق: إنّها لا تتضمّن تملّكها الحصري من قِبل شعب، ولا الإثبات الحصري للإيمان المقصود، باستثناء التضادّ المباشر مع المَثَل الأعلى الذي يؤسّس للتطلّع الزمني المشروع في اللحظة المعنيّة. يجب التمييز بين سياقين؛ إذا كان للقانون المقصود دور حقوقي-سياسي يجعل منه شرط الوفاق العملي بين البشر، فلا ينبغي أن ينظِّم إلّا الأعمال لا المعتقدات. وإذا كان «القانون» يتعلّق بالانتشار الروحي لملّة معيّنة، فإنّه لا يمكن أن يُفرَض إلّا على الذين يقرّونه. باختصار، إنّ مكانة القانون الحقوقيّة-السياسيّة ومكانته اللّاهوتيّة لا يمكن أن تتطابقا دون ضرر ودون نتائج خطيرة على الحريّة الإنسانيّة. في هذا المستوى بالضبط يجد غموض قضيّة «أرض الرّب» الخطير مكانه، غموض يجب وصله باللعنة الموجهة إلى الكنعانيين المعروفين بنزعتهم الدينيّة التوفيقيّة الذين تقول عنهم التوراة: «ولكنّ الربّ إلهك يَطرد هؤلاء الشعوب من أمامك قليلاً قليلاً [...] وتماثيل آلهتهم تَحرِقون بالنار» (التثنية 7، 17-25). إنّه المصير نفسه المخصّص للعبرانيين الذين اتبعوا ملّة أخرى. الأرض موعودة بشرط الإخلاص الديني، ولمن يعمل «الصالح والحسن في عيني الرّب» (التثنية 6، 18)، ولكنّها يمكن أن تُسترجع في حالة الخيانة (التثنية 28، 21 و63؛ يشوع 23، 13)، وتُعاد بعد العفو الإلهي إذا ما تمّ الالتزام بالقانون (إشعيا 40، 1-2 ـــ إرميا 15، 16؛ 24، 5-6)؛ ويمكن النظر أيضاً في العبارة الدالّة: «فيكونوا لي شعباً وأكون أنا لهم إلهاً» (إرميا 24، 7).
القانون الأخلاقي والقانون المِلّي
يبدو أنّ الدعوة الكونيّة الخاصّة بدين ما لا تتلاءم مع كيفيّة معيّنة لتجذّره الزماني، تلك التي تمثّل العبور اللّازم للرسوّ التاريخي لشعب معيّن؛ وذلك لأنّ المقتضيات الأخلاقيّة التي يُفتَرَض أن تُرقيها تهاجَم بعنف بواسطة مأسسة ذلك الدين. يكون خطر انزلاق القانون الأخلاقي إلى الإكراه الطائفي أو الملّي، وإلى فرض نزعة طقوسيّة كبيراً، بقدر ما يتعلّق الأمر بتأسيس جماعة زمنيّة فعليّة وبضبط الأعمال تبعاً لذلك. يتأتّى الميل إلى تعيير تلك الأعمال بمعيار نزعة إيمانيّة خارجيّة، وليس بمعيار قيمتها الأخلاقيّة من خلط متَعَمّد مزدوج: بين الاقتضاء الأخلاقي والامتثاليّة اللّاهوتيّة من جهة، وبين الاقتضاء الأخلاقي واحترام الحقّ من جهة أخرى. لا يتطلّب سلام الحياة الاجتماعيّة الداخلي، بحسب سبينوزا (Spinoza)، إلّا احترام الحقّ الذي يكون ممكناً بفضل الاستعداد الأخلاقي، ولكنّه لا يتضمّن أيّ محاكمة للنوايا، ولا أيّ امتثاليّة لاهوتيّة: لا إلزام بالشعائر ولا توجيه للتأمّلات المذهبيّة. إنّ فصل الدين عن الإقليم، وعدم الخلط فيه بين اللّاهوتي والسياسي، فصله عن كلّ نزوع طقسي وعن كلّ انحراف نحو أرثوذكسيّة قهريّة، كلّ ذلك من شأنه أن يرفع الالتباس المشار إليه آنفاً، ويرسم القواعد التي على أساسها يمكن أن تُقبَل العلمانيّة لا من المؤمنين بالألوهيّة فحسب، بل أن تكون مطلوبة لكي يُردّ إلى الدين جوهره المميّز. تصبح «الأرض الموعودة» إذن مجرّد استعارة دالّة على أرض البشر كلّها كما يمكن أن يغيّر الإيمان الأخلاقي هيئتها في فرضيّة الألفيّة (millénarisme) (ظهور مملكة الرّب على الأرض)، أو كما تُنسّبها إشكاليّة التناهي الإنساني في التعارض بين «المدينتين» (مدينة الله ومدينة البشر، انظر القدّيس أوغسطين Saint Augustin ). لا يمكن أن تكون الأرض المقدّسة، في واقعها التاريخي، كأرض يهوه (Yahvé)، إلّا بالنظر إلى مكانتها في التوسّط المؤقت في مسار تعميم القانون الأخلاقي، وبشرط القبول بضرورة تجاوزها الذاتي. إنّ التكريس اللّاهوتي-السياسي المستخدَم إيديولوجيّاً يتجاهل هذا الاقتضاء: على المستوى الداخلي باستعمال الأخلاق تعلّة للهيمنة الكليروسيّة، وعلى المستوى الخارجي بإهانة النزعة الكونيّة من خلال تسليط الظلم على «الطيّبين»؛ أي على الشعوب الأخرى.
المملكَتان
يمكن اقتراح مقاربة أخرى للمصدرين اللّاهوتيين انطلاقاً من الأناجيل؛ مقاربة تتعلق بتمييز شهير منسوب إلى يسوع المسيح: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» (متّى 22، 17-21). يمكن التقريب بين هذا القول وقول آخر ليس أقلّ منه شهرة: «مملكتي ليست من هذا العالم» (يوحنا 18، 36-). ليس للدين، بوصفه شأناً روحياً خالصاً، أن يتطابق مع الوجود الزماني من حيث هو منظّم بواسطة السلطة السياسيّة (قيصر). توجد إذن مملكتان: مملكة العالم الأرضي ومملكة الله. ومذّاك يبدو أنّ التمييز بين الديني والسياسي يحول دون هيمنة أحدهما على الآخر، بل يمنع كلّ خلط بين الأجناس: لا يرمي الدين، مفهوماً في نظامه الخاص، إلى منافسة السلطة السياسيّة ولا، بالأحرى، إلى إخضاعها. إنّ الذين ساعدوا يسوع على التمرد تمّ طردهم. هل كانت تلك بداية العلمانية؟ لإجابة بطريقة موجبة يجب ردّ العلمانيّة إلى مجرّد استقلاليّة الدين والسياسة، وهو ما سيكون تعريفاً سطحياً لها.
ماذا يعني بالضبط الأمر «أعطِ ما لقيصر لقيصر»؟ لا تعني طاعة القوانين الخاصّة بجماعة سياسيّة خضوعاً أعمى للسلطة السياسيّة مهما كانت. إنّ المشكل هو معرفة المعايير التي وفقها يمكن أن يحصل التقسيم بين ما يعود بصفة مشروعة إلى قيصر وما يتعلق بالله. يتعلق الأمر بالفصل بين الامتثاليّة السياسيّة والقبول بوجود مجال سياسي ذي ضرورة خاصّة، هي ضرورة تسهيل العيش المشترك بين أناس مختلفين، وخاصّة من حيث المعتقدات. «ليس سلطان إلّا من الله». العبارة لبولس الرسول من (الرسالة إلى أهل رومية)، الإصحاح الثالث عشر. لقد قُرئت المسلّمة البولسيّة، في أغلب الأحيان، بطريقة تقيم بين الزمني والروحي تمفصُلاً من شأنه أن يشوّه التأويل المضاد للامتثاليّة لأقوال يسوع. إذا كانت كلّ سلطة من الله، فهي، في الحال، مشروعة والتمرّد عليها محرّم. إذا كانت الروحانيّة تدمج في احترام الأعمال الإلهيّة احترام السلطات القائمة، فإنّها تكرّس في ذاتها استبطان الخضوع، وتصبح، بهذا الشكل، النتيجة الذاتيّة لشرعنة دينيّة للنظام القائم. لقد ظنّ بوسييه (Bossuet) أنّ عليه استنتاج «سياسة من أقوال الكتاب المقدّس ذاتها» وبواسطتها تبرير المَلكيّة المطلقة القائمة على الحقّ الإلهي، وكذلك إدانة البروتستانت. على العكس من ذلك، رفض روسو (Rousseau) في (العقد الاجتماعي) (الكتاب الأوّل، الفصل الثالث) تقديس نظام سياسي ظالم: «كلّ سلطان من الله، أعترف بذلك: ولكن كلّ مرض يأتي منه أيضاً، فهل يعني ذلك أنّه يمنع استشارة الطبيب؟». حقاً، يبدو أنّ عدداً من اللّاهوتيين ورجال الكنيسة قاموا بقراءة حرفيّة لأقوال بولس معرِّضين الكنيسة إلى أسوأ الارتباطات الزمنيّة. لقد ترك التمييز المسيحوي (christique) بين المملكتين سؤال العلاقة بينهما مفتوحاً، فلا يمكن أن يؤوّل بطريقة واحدة.
الاهتداء المفروض
إنّ مقاربة ثالثة للمصادر اللّاهوتية ضروريّة حول النقطة المهمّة المتعلقة بحريّة الضمير. ويمكن العودة إلى إنجيل القدّيس لوقا؛ حيث نقرأ قول يسوع المسيح: «فقال السيّد للعبد: اخرج إلى الطرق والسياجات وألزمهم بالدخول حتى يمتلئ بيتي» (إنجيل لوقا،14 23). إنّ الأمر بالإكراه على لسان المسيح يتناقض بشكل خاص مع دين الحب. ترِدُ في الترجمة اللّاتينيّة للتوراة عبارة: أكرهوهم على الدخول (compelle intrare). استعاد القديس أوغسطين تلك العبارة الشهيرة بمعنى واحد لا لبس فيه. يتعلّق الأمر بتبرير «اضطهاد الكفار». ذكر الأب جوزيف لوكلير (Joseph Leclerc)، في كتابه (تاريخ التسامح في عصر الإصلاح)[4] (*) رسالتين للقديس أوغسطين بتاريخ (408) للميلاد. في الرسالة عدد (93) الإكراه مبرّر كوسيلة تبررّها الغاية: «على أنّه لا ينبغي أن يُنظَر إلى الإلزام في ذاته، بل إلى نوعيّة ما يُطبّق بشأنه الإلزام لمعرفة ما إذا كان حسناً أم سيّئاً. ولسنا نعني بذلك أنّ بمقدور أيّ امرئ أن يصبح صالحاً رغماً عنه، بل إنّ خوفه من الألم الذي لا يطاق إمّا أن يقوده إلى التحرّر من عناده، وإمّا أن يدفعه إلى القبول بالحقيقة التي كان جاهلاً بها». ثمة رسالة ثانية للقديس أوغسطين تتضمّن المعنى نفسه: «هناك اضطهاد تعسّفي هو ذلك الذي يُلحقه الزنادقة بكنيسة المسيح، واضطهاد عادل هو ذلك الذي تنزله كنائس المسيح بالزنادقة [...] تضطهد الكنيسة بدافع المحبّة، أمّا الزنادقة فبدافع القسوة» (الرسالة 185)[5]. في كتابه (في التسامح: تعليق فلسفي)، يرفض الفيلسوف بيير بايل ذلك التصوّر: «أقول لقرّائي [...] إنّه يجب ألّا يُنظر إلى موضوع الإكراه في حالة الدين، بل إلى ما إذا كان ثمّة إكراه، وأنّه بمجرّد حصول الإكراه فإنّ من يقوم به إنّما يأتي فعلاً وضيعاً يتعارض تماماً مع عظمة كلّ دين وخاصّة مع الإنجيل»[6]. يبدو القرآن، بخصوص مسألة حريّة الضمير نفسها، أكثر وضوحاً، فالآية (256) من سورة البقرة تؤكّد أنّه {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} (*)، ولكنّ إدانة المرتدّين (أولئك الذين تخلّوا عن العقيدة الإسلاميّة) تتعارض مع ذلك المبدأ. وأمّا في ما يتعلق بالحرب المقدّسة، فإنّها ليست مشروعة في القرآن إلّا إذا كانت حرباً دفاعيّة وليست عدوانيّة.
نرى، إذن، أنّه يمكن التوسّل بالنصوص نفسها التي تُسمّى مقدّسة لإبراز معانٍ مختلفة جدّاً، ولئن جعلت تلك النصوص الاضطهاد الديني ممكناً، فإنّها لا تدعو إليه بالضرورة.
[1]- مقتطف من كتاب ما العلمانية؟ ترجمة منوبي غباش، مؤسسة مؤمنون بلاحدود للنشر والتوزيع
[2]- E. Kant, La religion dans les limites de la simples raison, op. cit, p. 172. (*) يمكن أن نقرأ المقطع نفسه معرّباً في صياغة قريبة أخرى: «ولكن منذ أن صارت المسيحيّة جمهوراً عالماً، أو منذ أن دخلت مع ذلك في نطاق الكوني، فإنّ تاريخها، فيما يخصّ التأثير الحسن الذي يمكن للمرء -وهو على حق في ذلك- أن ينتظره من دين خلقي لم يعد يكفي أبداً للتوصية بها». كانط، الدين في حدود العقل البسيط، ترجمة فتحي المسكيني، دار جداول، بيروت، 2012، ص213. (*) الكتريّة (Katharos
[3] - V. Hugo, ècrits politiques, Robert Laffont, coll. «Bouquins», 1985.
[4] - Joseph Leclerc, Histoire de la tolérance au siècle de la réforme, Paris, Aubier, 1955, t. 1, p. 85-86. (*) انظر الترجمة العربيّة لهذا الكتاب: لوكلير، جوزيف، تاريخ التسامح في عصر الإصلاح، ترجمة جورج سليمان، المنظّمة العربيّة للترجمة، بيروت، 2009. (المترجم)
[5] - Ibid.
[6] - P. Bayle, De la tolérance: commentaire philosophique, Presses Pocket, coll. «Agora», 1992, p. 19. (*) سورة البقرة الآية 256: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. (*) الغاليكانيّة: حركة دينيّة دعت إلى استقلال الكنيسة الإداري. (المترجم)